الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ممن قام في إنكار ذلك والتشنيع عليه القاضي ناصر الدين ابن الفاقوسي كبير الموقعين، فلما رأى ذلك منه غضب عليه وعزله وقرر عوضه صدر الدين أحمد بن القاضي جمال الدين القيسري المعروف بابن العجمي، فلما مات الكلستاني عاد الفاقوسي إلى وظيفته.
همام الدين همام الرومي الحنفي وقد ولي قضاء الإسكندرية وكان فاضلاً خيراً، وشمس الدين بن منهال وإمام الصالحية شمس الدين الغزاوي وضياء الدين الأخنائي، وشمس الدين المصري قيم الأحباس، وأخو القزويني نقيب الحنفي، ومحمد الكبير خادم الشيخ صالح وعبد القادر الحنبلي الذي شنق نفسه بسبب قضية اتفقت له مع السالمي فأخرج المناوي وظيفته بالزاوية وقد قرأت ذلك بخط الزبيري.
سنة اثنتين وثمانمائة
في ثاني المحرم صرف بدر الدين العيني عن الحسبة واستقر جمال الدين محمد بن عمر الطنبذي الشهير بابن عرب فباشرها إلى نصف ربيع الآخر، ثم صرف وأعيد العيني ثم ناب في القضاء في أواخر ربيع الآخر عن الملطي.
وفيه بدأ تنم نائب الشام بإظهار العصيان وكان كاتب الأمراء، فأطاعه نائب صفد ونائب طرابلس كما تقدم وتأخر عنه نائب حلب، وأطلق جماعة من الأمراء المحبوسين وتقوى بهم.
وفيه وقع بين العشير وهم عربان الشام اختلاف، فقتل منهم في المعركة نحو عشرة آلاف نفس على ما قيل.
وفي الحادي والعشرين من المحرم وصل الحاج وأميرهم شيخ المحمودي الذي ولي السلطنة بعد وكانت السنة شديدة المشقة للحر وموت الجمال وكثر الفقراء في الركب، فتحيل عليهم المذكور بأن نادى بينبع: من كان فقيراً فليحضر خيمة أمير الركب ليأخذ عشرة دراهم وقميصاً فلما حضروا أعطاهم ورسم عليه من جهة صاحب ينبع وألزمه بإقامتهم عنده إلى أن يجهزهم في المراكب؛
ووقع في الركب الشامي من الموت فجأة أمر عجيب حتى كان الرجل يمشي بعد ما أكل وشرب واستراح فيرتعد، ويقع ميتاً، فمات منه خلق كثير.
وفي المحرم استقر ابن السائح الرملي في خطابة القدس، بذل فيها ثمانين ألفاً فصرف ابن غانم النابلسي.
وفي ليلة السابع عشر من المحرم زلزلت دمشق لكنها كانت لطيفة.
وفي الثامن من صفر قبض الأمير تنم على أحمد بن خاص ترك شاد الدواوين بالقاهرة، وكان الملك الظاهر جهزه لتحصيل الأموال المتعلقة بالسلطنة في البلاد الشامية، فتسلمه علاء الدين الطبلاوي واستصفى جميع ما معه من مال وغنم وغير ذلك، ثم بسط يده في الظلم والمصادرة ورمي السكر وغيره على التجار وذوي الأموال حتى الفقهاء والأيتام، فكثر الدعاء على الأمير تنم بهذا السبب وأبغضته عوام الناس والأمراء وخواصهم.
وفي الثاني عشر من صفر حلف الأمير تنم الأمراء وكان أطلق جلبان وآقبغا اللكاش وغيرهما من المحبوسين وأرسل إلى نائب طرابلس بأن يجهز مركباً إلى دمياط لإحضار من بها محبوساً من الأمراء وفي صفر قبض على بدر الدين الطوخي وألزم بمائة ألف درهم ثمن لحم تأخر عنده في أيام وزارته للأمير أيتمش فتسلمه شد الدواوين وعصره فباع وافترض إل
ى أن حصل الأكثر وضمنه المهتار عبد الرحمن بالباقي فأطلق فهرب فوزن عبد الرحمن عنه المتأخر.
وفي نصف صفر صرف الشيخ نور الدين البكري عن الحسبة وأعيد محمد الشاذلي.
وفي الثامن والعشرين منه خسفت الشمس، وصلي بدمشق صلاة الكسوف بعد العصر وخطب.
وفي العشر الأخير من صفر انحل سعر الحبوب وكان ارتفع بسبب نقص النيل قبل عادته، وفيه توجه آقبغا اللكاش ومعه جماعة إلى غزة من جهة نائب الشام فملكها في ربيع الأول وتوجه جلبان ومعه جماعة إلى حلب ليحاربوا نائبها ثم تبعهم الأمير تنم بمن تأخر معه فلما دخل إلى حمص تسلمها وتسلم القلعة ولم يشوش على النائب بل قرر غيره في النيابة، ثم وصل إلى حماة فحاصرها فاتصل به وصول أيتمش ومن معه فرجع عنها إلى دمشق ووصل إليه نائب طرابلس فبلغه بعد أن خرج من طرابلس أن أهلها وثبوا على نائبه وقتلوه وقفلوا أبواب البلد الجدد فرجع عليهم ودخلها عنوة وقتل من أهلها مقتلة عظيمة حتى قيل إن أقل من قتل منهم ألف نفس منهم: مفتي البلد وقاضياها ومحدثها وهرب أكثر أهلها، ومن تأخر إما قتل وإما صودر،
وممن هرب إلى الديار المصرية قاضي طرابلس الشافعي مسعود ونفقيب الأشراف بدر الدين ابن جمال الدين البلدي وأخبرا أن يونس الرماح نائب طرابلس أراد إحراق البلد فاشتريت منه بثلاثمائة وخمسين ألف درهم حبيت ممن بقي بها من أهلها وكان أسم نائب النائب المقتول قجقار، والسبب في قتله وصول مركب من جهة مصر وفيها أميران أحدهما قرر نائباً والآخر حاجباً فدخلوا في الليل إلى المينا وظنوا أنهم فرنج فخرج أهل البلد مستعدين للقتال فوجدوهم مسلمين فانحلت عزائمهم، ولما علم قجقار أنهم مخالفون لما هو عليه قاتلهم فقتل منهم جماعة، ثم ثار العوام فنهبوا بيت نائب الغيبة فهرب إلى جهة حمص وكسر العوام أبواب القلعة وغلب الذين جاءوا من مصر وولوا وعزلوا وأخذوا ثقل الأمراء الغائبين، فلما بلغ النائب أرسل ناساً في الصلح فتهيأوا لقتالهم، ثم قدم نائب الغيبة قجقار ومعه صرق وجماعة فدام القتال أياماً إلى أن جاء النائب، ولما هرب القاضي الشافعي استقر في القضاء صلاح الدين ابن العفيف وكان يلبس بالجندية ثم باشر في الديوانية وافتقر جداً فتوجه إلى قاضي طرابلس يستمنحه، فولي مكانه وقبض نائب الشام على بتخاص قبل توجهه إلى حلب، فلما رجع أطلقه بعد شهر.
وفي سادس ربيع الأول ظهر الاختلاف بين الأمراء الخاصكية والأمراء الظاهرية القدم، وذلك أن أيتمش الأتابك كان معه أكابر الأمراء وعندهم التثبت في الأمور وترك العجلة وكراهة الظلم وغير ذلك وكان الأمراء الجدد بخلاف ذلك فلم يتوافقوا، ودبت
عقارب التشاحن بينهم إلى أن دبر الأمراء الجدد الأمر فكادوا أيتمش ومن معه بأن علموا السلطان أن يدعي أنه بلغ فطلب الخليفة في هذا اليوم وقال له بحضرة أيتمش: إني قد بلغت وأريد أن ترشدني فأحضر القضاة وأهل الفتوى وادعى ابن غراب على أيتمش وشهد جماعة من الأمراء وأعذر أيتمش فحكموا برشده وخلع على الجماعة، فتحول أيتمش حينئذ من الاصطبل الكبير إلى بيته وافترق العسكر فرقتين إحداهما جراكسة وهم الأمراء الجدد ومن معهم، والأخرى ترك وروم وبعض جراكسة مع الأتابك، وأظهر يشبك الخازندار رأس الأمراء الجدد أنه ضعيف وعزم على مسك أيتمش إذا أعاده، فبلغ ذلك أيتمش فحذر منه وألبس مماليكه ومن أطاعه وملكوا الأشرفية التي على باب القلعة وقف أيتمش بالقرب من منزله وقف تغري بردى برأس الرميلة من جهة الشيخونية وفارس من جهة مدرسة حسن، فلما بلغ ذلك يشبك ركب فيمن أطاعه ودقت الكوسات تحت القلعة ووقف بيبرس قريب السلطان عند حدرة البقر وطلع إلى القلعة سودون طاز وسودون المارداني ويلبغا
الناصري وإينال باي وابن قجماس وغيرهم من الأمراء الجدد وقد حصنوا القلعة، ووقع القتال بين الطائفتين من ليلة عاشر ربيع الأول فلم يلبث أيتمش أن انهزم هو ومن كان معه وثبتت الهزيمة على الباقين، فتوجهوا من يومهم وأخذوا خيولاً خواص من سرياقوس للسلطان وتوجهوا إلى بلبيس فباتوا بها وأفسد المماليك السلطانية بعد هرب أيتمش، وتبعهم الزعر والعوام فنهبوا مدرسة أيتمش ووكالته ورموا النار في الربع جانباً، ونهبوا جامع آقسنقر المجاور لبيته ونهبوا تربة خوند زهرا بنت الناصر وسرى النهب في بيوت الأمراء الهاربين حتى كادوا أن ينهبوا الدهيشة التي عمرت في أيام أيتمش للمارستان وكسر الزعر حبسي القضاة وأخرجوا من كان فيهما واستمر مع أيتمش في الهزيمة تغري بردى وأرغون شاه وفارس ويعقوب شاه ودونهم من الطبلخانات شادي خجا وآقبغا المحمودي وغيرهما ودونهم من العشراوات، وكثر النهب من الزعر وأوباش الترك في بيوت الناس بعلة الهاربين ونهبوا بعض زرائب الفلاحين بصنافير ونهبوا جمال جماعة.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول صرف أحمد بن الزين من ولاية القاهرة واستقر قرابغا مفرق فمات ثاني يوم فاستقر بلبان الجركسي ثم صرف في يومه
وأعيد ابن الزين، ثم كثر النهب داخل القاهرة فنزلت جماعة من الأمراء وحابوهم، فعمد ابن الزين إلى جماعة من المحبوسين في خزانة شمائل فقطع أيدي بعض وضرب جماعة بالمقارع وأشهرهم ونادى عليهم جزاء من ينهب بيوت الناس، فسكن الحال قليلاً ثم فتحت أبواب القاهرة ونزعوا السلاح، واستمر هرب أيتمش ومن معه إلى الشام بدار النيابة، وتوجه فارس الحاجب إلى الشام تقدمة لهم يخبر نائب الشام بأخبارهم، فرجع نائب الشام إلى دمشق ثم وصل أيتمش ومن معه في خامس ربيع الآخر فتلقاهم النائب وبالغ في إكرامهم، وبلغ ذلك نائب حماة ونائب حلب فراسلا أيتمش بالطاعة وعرض النائب على أيتمش الحكم وبذل الطاعة، فامتنع وقال: كلنا لك تحت الطاعة، ثم وصل دمرداش نائب حماة في نصف ربيع الآخر إلى دمشق فبالغ تنم في إكرامه فأقام خمسة أيام ثم رجع إلى حماة فتجهز ورجع إليهم، وبرز نائب حلب إلى جهة الشام فخالف الحاجب وركب عليه في جماعة فكسره النائب وقبض عليه وتوجه بالعسكر إلى دمشق فوصل في نصف جمادى الآخرة، وكان الأمراء بمصر قد ظنوا أن نائب حلب معهم فأرسلوا إليه مدداً من المال صحبة قاصد في مركب فألقتها الريح بمكة، فبلغهم مخامرة النائب فراسلوا نائب الشام فأرسل إليهم من تسلم المال منهم وقبض بعد هرب أيتمش على جمع كثير ممن كان ينسب إلى هواه فحبسوا بالقلعة وبالإسكندرية وغيرهما، وأطلق سودون قريب السلطان من الإسكندرية وأحضر تمراز ونوروز من دمياط واستقر بيبرس قريب السلطان أتابكاً وسودون طاز أمير آخور
ونوروز رأس نوبة وسودون دويدار وتمراز أمير مجلس، ثم اتفق رأيهم على غزو الشام وخالفهم في ذلك بعض المماليك.
وفي تاسع عشر ربيع الأول قبض على سعد الدين بن غراب ناظر الخاص وأخيه الوزير وابن قطينة وعلاء الدين شاد الدواوين وقطلوبك الاستادار وكان ابن غراب زوج ابنته، واستقر بدر الدين ابن الطوخي في الوزارة وشرف الدين ابن الدماميني في نظر الجيش والخاص ثم صرفا بعد سبعة أيام وأعيد ابن غراب وأخوه إلى وظائفهما وتسلما الطوخي وابن الدماميني، ثم استقر ابن الدماميني في قضاء الإسكندرية واستقر أخوه محتسباً، ثم أفرج عن قطلوبك وابن قطينة وشاد الدواوين على مال.
وفي آخر ربيع الآخر استقر الشيخ أبينا التركماني في مشيخة سرياقوس عوضاً عن أصلم بن نظام الدين الأصبهاني واستقر الشيخ شرف الدين بن التباني في مشيخة القوصونية عوضاً عن أبينا؟ وفي ليلة الخميس العاشر من جمادى الأولى حصل بمكة مطر عظيم انصب كأفواه القرب، ثم هجم السيل فامتلأ المسجد حتى بلغ إلى القناديل وامتلأت ودخل الكعبة من شق الباب وكان في جهة الصفا مقدار قامة وبسطة، فهدم من الرواق الذي يلي دار العجلة عدة أساطين وخربت منازل كثيرة ومات في السيل جماعة.
وفي هذا الشهر تجهز تنم ومن معه للسفر إلى جهة الديار المصرية فبلغ ذلك أهل مصر فحصنوا القاهرة بالدروب، وتوجه عسكر الشام في العشر الأوسط من جمادى الآخرة، إلى غزة.
وفي ثامن جمادى الآخرة استقر نور الدين الحكري في قضاء الحنابلة وصرف موفق الدين ابن نصر الله.
وفيها أرسل الأمراء من مصر المهتار عبد الرحمن إلى الكرك نائباً بها وأمر بالقبض على سودون الظريف من غير أن يعلم فأظهر أنه حضر بسبب أمر اخترعه، فلما وصل إليها استشعر النائب بذلك فركب عليه، فهرب فكبس منزله فوجد فيه التقليد، فوقعت فتنة كبيرة قتل فيها قاضي الكرك وموسى ابن القاضي علاء الدين وجماعة من أكابر البلد.
وفي صفر وقع الوباء بالباردة والسعال ومات منه جماعة واستمر إلى نصف السنة.
وفي الرابع رجب خرج الملك الناصر فرج ومن معه من عساكر مصر إلى جهة الشام لمحاربة المخالفين فسار السلطان في ثامن الشهر المذكور، واتفق خروج نائب الشام من دمشق بعد من تقدمه من العساكر في تاسع رجب وسار من قبة يلبغا في الحادي عشر منه فوصل إلى غزة في ثامن عشره فالتقى جاليش السلطان بجاليش
نائب الشام، وخرج آقبغا اللكاش وخامر دمرداش المحمدي نائب حلب ودخل في طاعة السلطان، وكذلك النبغا العثماني نائب صفد وغيرهما لتمام ثمانية عشر أميراً وجمع جم من المماليك فتمت الكسرة على الباقين وكان ذلك قبل تل العجول، فلما وصلت المنهزمة إلى نائب الشام تغيظ عليهم وأراد مسك بعض أكابرهم فهربوا منه إلى السلطان منهم بتخاص والمنقار وفرج ابن منجك، ودخل العسكر المصري إلى غزة منتصراً وكانوا في قلة من العليق فوجدوا بها ما يفوق الوصف فاطمأنوا وطابت أنفسهم واستمرت هزيمة المنهزمة من الشاميين إلى الرملة، فوجدوا نائب الشام قد نزل بها فأخبروه بما اتفق لهم فعنفهم، فاعتذروا بأن سبب ذلك مخامرة من خامر من الأمراء فعذرهم، ثم لم يلبث أن وافاه قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي رسولاً من السلطان في الصلح يعرض عليه نيابة الشام على ما كان عليه في الأيام الظاهرية وما ينبغي من زيادة على ذلك أو الوصول إلى باب السلطان ويكون أكبر الأمراء بمصر، فأظهر الإجابة ووعظه القاضي وخوفه وحذره من التعرض لفساد الأحوال والشقاق، فانتظره بالجواب أياماً وصرفه بجميل وبالغ في إكرامه، وكان ذلك في يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، فرجع القاضي يوم الخميس فوصل يوم الجمعة وأخبر العسكر بما اتفق، ثم وصل كتاب نائب الشام يقول: أنا مستمر على طاعة السلطان وما أريد إلا أن أكون نائب الشام لكن يشترط أن يعود أيتمش على ما كان عليه بالقاهرة وأن يسلم السلطان لي يشبك وجركس المصارع وسودون طاز ونحوهم من المماليك الذين على رأيه وأن يعاد جميع الأمراء الذين مات عنهم الملك الظاهر على ما كانوا عليه فلما تحقق السلطان ذلك أرسل الجواب بالاستعداد للقتال، فركب نائب الشام من
الرملة إلى جهة غزة وركب السلطان من غزة إلى جهة الرملة، فالتقى العسكران بأم حسن من بريد واحد على غزة فلم يلبث العسكر الشامي أن انهزم، ومن أعظم أسباب ذلك مخامرة من خامر من الأجناد، فأمسك نائب الشام وأكثر الأمراء وهرب أيتمش وتغري بردى ويعقوب شاه وأرغون شاه وطيفور إلى الشام، فلما حصلوا بها وانضم إليهم عدد كثير ممن انهزم أولاً وثانياً وأرادوا التحصن بالقلعة وافى كتاب من نائب الشام إلى نائب غيبته بأن لا يمكنهم من ذلك، وكان السلطان لما أمسك نائب الشام في الوقعة أمره بكتابة هذا الكتاب بتدبير يشبك وطائفته، فوصل الكتاب إلى نائب الغيبة فقبض على الأمراء المذورين وقيدهم، وكان ذلك في سادس عشر رجب ونودي في البلد بالأمان والاطمئنان وأن السلطان انتصر وهو واصل إليكم، ثم توجه السلطان من الرملة بعد أن حصل بها قليل أذى لبعض أهلها بسبب ودائع كانت عندهم، وحصل للمصريين من أثقال المنهزمة ما لا يحيط به الوصف واستغنى الكثير منهم خصوصاً الأتباع والغلمان وأول من دخل دمشق من العسكر ناظر الخاص ابن غراب، دخلها في سلخ رجب ثم دخل جكم وهو رأس نوبة في أول يوم من شعبان فنقل الأمراء المقيدين إلى القلعة وأنصف الناس من المماليك ومنعهم من التعرض والنهب ومن النزول داخل البلد
ودخل في هذا اليوم سودون قريب السلطان نائباً على الشام ونادى بالأمان ثم وصل تنم ومن معه في القيود في ليلة ثاني شعبان فحبسوا بالقلعة أيضاً، ثم وصل في ضحى النهار السلطان ومن معه فأمسك ابن الطبلاوي وصودر من كان من جهة تنم وهرب صلاح الدين تنكز.
وفي خامس شعبان خلع على سودون المذكور بنيابة الشام وعلى دمرداش بنيابة حلب وعلى دقماق بنيابة حماة وعلى الطنبغا العثماني بنيابة صفد وعلى شيخ المحمودي بنيابة طرابلس وهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقب بالمؤيد، واستقر شرف الدين مسعود في قضاء الشام عوضاً عن ابن الاخناي وكان قد استقر وكتب توقيعه في جمادى الأولى لما هرب من طرابلس إلى مصر فلم يقدر أنه يباشر ذلك بل سعى الأخناي إلى أن أعيد إلى وظيفته في يوم الخميس خامس شعبان وأعيد مسعود إلى قضاء طرابلس، واستقر تقي الدين عبد الله ابن الكفري في قضاء الحنفية عوضاً عن بدر الدين المقدسي وشمس الدين النابلسي في قضاء الحنابلة عوضاً عن شمس الدين ابن مفلح وعلاء الدين بن إبراهيم بن عدنان نقيب الأشراف في كتابة السر عوضاً عن ناصر الدين ابن أبي الطيب واستقر يشبك دويداراً كبيراً.
وفي ليلة رابع شعبان ذبح أيتمش وأتباعه ومنهم آقبغا اللكاش وجلبان الكمشبغاوي وأرغون شاه ويعقوب شاه وفارس وطيفور وأحمد ابن يلبغا وبيغوت، وأرسلت رأس أيتمش وفارس خاصة إلى القاهرة
فعلقا بباب زويلة في تاسع عشر شعبان أو في العشرين منه ثلاثة أيام ثم سلما لأهلهما ثم قتل تنم نائب الشام ويونس الرماح نائب طرابلس بعد ذلك في رابع رمضان خنقا بالقلعة وتسلمهما أهلهما ودفنوهما واستمر بالحبس تغري بردى وآقبغا الجمالي ثم أفرج عنهما في آخر السنة، ووصل قاصد نعير يبذل الطاعة وأرسل القدر الذي جرت عادته بإرساله، ووصلت قصاد نواب البلاد كلها بالطاعة في سادس عشرين شعبان.
وفي صبيحة الرابع من رمضان رجع السلطان من دمشق، فلما وصل إلى غزة قتل علاء الدين الطبلاوي في ثاني عشر شهر رمضان ووصل السلطان إلى القاهرة في السادس والعشرين منه وفي جمادى الآخرة وسط شعبان ابن شيخ الخانقاه البكتمرية بسبب أنه خدع امرأة فخنقها في تربة وأخذ سلبها وكانت له قيمة فظهر أمره بعد أن أخذ أبوه وحبس بالخزانة، فلما قبض على شعبان ضرب فاعترف فقتل بعد أن سمر ثم وسط.
وفي هذه الأشهر غلت الأسعار في الأشياء المجلوبة من بلاد الشام فبلغ سعر اللوز القلب خمس مثقال وثمن الفستق خمسي مثقال.
وفي رابع عشر رجب أمسك شرف الدين ابن الدماميني وحبس بالقلعة بسببأنه افتعل عليه أنه كان سبب مخامرة يلبغا المجنون وكانت تلك من مكايد ابن غراب.
وفيها كائنة عمر الدمياطي، قبض عليه يلبغا السالمي وضربه مقترح؟ وطوف به على حمار مقلوب وسجن بالخزانة أياماً ثم أطلق بسبب أنه كان بالشيخونية، فلما ورد كتاب السلطان بما وقع له من النصر بغزة حلف بالطلاق الثلاث أن ذلك لا صحة له، ففعل ذلك به.
وفي شعبان جرس بدمشق شخص كان ينجم لنائب الشام ويعده أنه يتسلطن، ونقل عن الباعوني وابن أبي دمين نحو ذلك وكذلك ناصر الدين أبن أبي الطيب كاتب السر قولاً وفعلاً وسلم لناظر الخاص، فصادره على مال، وسعى صدر الدين الآدمي في الوظيفة بمال كثير، فكاد أمره أن يتم ثم عدل عنه إلى علاد الدين نقيب الأشراف وأطلق ابن أبي الطيب بعد مدة، ثم أعيد إلى الترسيم وأخرج يوم الخميس ثالث روضان من دمشق على حمار موكلاً به.
وفي رجب بعد خروج العساكر ثار يلبغا المجنون الأستادارا بالوجه البحري فأطلق الأمراء الذين كانوا محبوسين بدمياط وكان السلطان أمر بنقلهم إلى الإسكندرية فالتقاهم يلبغا بالعطف فأطلقهم وقبض على الأمير الذي كان موكلاً بهم وهو سودون الماموري ثم وصل في تلك الحالة إلى ديروط سودون السدمري ومعه كمشبغا الحضري وأياس الكمشبغاوي وآخران معه فأطلقهم سودون أيضاً، وعمد يلبغا إلى خيل الطواحين بديروط فأخذها وتوجه هو ومن معه إلى دمنهور فقبض على نائبها والتف عليه جمع من المفسدين فنادى في إقليم البحيرة. بحط الخراج عنهم واحتاط على ما للسلطان هناك من خراج وغيره، فلما بلغ ذلك نائب
الغيبة بيبرس قريب السلطان جرد إليهم بأمر السلطان جماعة منهم آقباي حاجب الحجاب وتمام أربعمائة من مماليك السلطان، فلما خشي يلبغا أن يدركوه فر إلى الغربية ثم إلى المحلة فنهب بيت الوالي ثم توجه إلى الشرقية ثم إلى العباسة، وخشي الأمير بيبرس على خيل السلطان وخيول الناس فأمر بطلوعها من الربيع بالجيزة وسدت غالب أبواب القاهرة خشية من هجوم يلبغا، ثم بلغ بيبرس النائب في الغيبة أن يلبغا توجه إلى جهة قطيا، فأرسل إليه أماناً صحبة مؤمن البريدي، فلما قرأه أمر بتقييد البريدي ثم توجه إلى جهة القاهرة، فبرز لملتقاه الأمراء الذي بالقاهرة فالتقوا بالمطرية، فحمل عليهم فتكاثروا عليه وكاد أن يؤخذ فاتفق أنه خرق القلب وتوجه نحو الجبل الأحمر وتمت الهزيمة على أصحابه واتبعوهم فأمسك بعضهم وفر بعضهم واستمر يلبغا وراء القلعة ساعة ينتظر أصحابه فلم يتبعم منهم إلا عشرون نفساً، فعلم أنه لا طاقة له في الحرب فاستمر هارباً وتبعه بعض العسكر إلى تربة الحبش فلم يلحق به.
وفي ربيع الآخر درس الباعوني في وظائف ابن سري الدين بحكم عدم أهليته.
وفي هذه السنة زاد احتراق بحر النيل إلى أن صار الحوض من بولاق إلى أنبابة واشتد الحر والعطش وتزاحم الناس على السقايين وصار أكثر الناس يستقي لنفسه على الحمير بالجرار ولم يكن لهم بذلك عهد.
وفي أول شوال قبض على الطنبغا والي العرب وكان نائب الوجه القبلي لكونه من جهة يلبغا المجنون، وفيه أفرج عن ناصر الدين ابن أبي الطيب كاتب سر الشام.
وفي ثالث عشر شوال جردت الأمراء إلى الصعيد بسبب يلبغا المجنون وكان مملوكه وصل منه بكتاب يسأل في أن يكون نائب الوجه القبلي ويتدرك جميع الأمور فلم يجب إلى سؤاله ثم ورد كتاب والي الأشمونين يخبر فيه بأن محمد بن عمر حارب يلبغا المجنون وكسره واستمر في هزيمته إلى أن اقتحم فرسه البحر فغرق فطلعوا به ميتاً وقد أكل السمك وجهه ثم أشيع أنه لما انهزم من المعركة لم يعرف له خبر.
وفي رابع عشر شوال استقر شمس الدين البجاسي في الحسبة عوضاً عن جمال الدين بن عرب وكان جمال الدين استقر في غيبة السلطان في عاشر شعبان عوضاً عن تقي الدين المقريزي.
وفي يوم الجمعة رابع عشري شوال وقع بالقاهرة ضجة عظيمة وقت صلاة الجمعة بسبب مملوكين تضاربا فشهرا السيوف، فشاع بين الناس أن الأمراء اختلفوا وركبوا فهرب الناس من الجوامع ومنهم من خفف الصلاة جداً وراح لهم في الزحمة عدة عمائم وغيرها وخطفوا الخبز من الحوانيت والأفران، فبادر بن الزين الوالي وأمسك جماعة من المفسدين فشهرهم بالضرب ونادى عليهم: هذا جزاء من يسكر ويكثر الفضول وسكنت الفتنة ثم نودي بالأمان، وقيل إن أصل ذلك رجلاً ربط حماره إلى دكة بجوار جامع شيخون فجذب الحمار الدكة فنفرت خيول الأمراء الذي يصلون في الجامع وأقبل ناس من جهة الرميلة فرأوا شدة الحركة فظنوا أنها وقعة فرجعوا هاربين فتركبت الإشاعة من ثم إلى أن طارت في جميع البلد ثم خمدت.
وفي هذا الشهر دبت العداوة بين يشبك الدويدار وبين سودون طاز أمير آخور.
وفي شوال استقر ناصر الدين بن السفاح في نظر الأحباس ونظر الجوالي وتوقيع الدست بعناية الدويدار وكان قد صودر بالشام، وفي آخره وقع بالحرف الشريف المكي حريق عظيم أتى على نحو ثلث الحرم ولولا العمود الذي سقط من السيل الآتي في أول السنة لاحترق جميعه واحترق من العد مائة وثلاثون عموداً صارت كلساً.
وفي شوال بلغ أهل بغداد عزم تمرلنك إلى التوجه إليهم ففر أحمد سلطانها واستنجد بقرا يوسف وأخذه ورجع إلى بغداد وتحالفاعلى القتال وأعطاه مالاً كثيراً وأقام عنده إلى آخر السنة، ثم توجه هو وقرا يوسف إلى بلاد الروم قاصدين لأبي يزيد بن عثمان وكان أبو يزيد المذكور قد حاصر في هذه السنة ملطية بعد أن ملك سيواس وولى بها ولده محمداً جالبي ورتب في خدمته الطواشي ياقوت ثم غلب على ملطية ثم رجع إلى برصا، فوصل اللنك إلى قراباغ في شهر ربيع الأول وقصد بلاد الكرج فغلب على تفليس ثم قصد بغداد، فبلغه توجه أحمد ابن أويس إلى جهة الشام فقصد بلاد قرا يوسف فعاث فيها
وأفسد، وبلغ قرايلك حال النك وذلك بعد أن غلب على صاحب سيواس كما تقدم وغلبه عليها سليمان ولد أبي يزيد ملك الروم فسار إلى اللنك فخدمه ودله على مقاصده وعرفه الطرقات واستقر من أعوانه فدخل اللنك سيواس عنوة فأفسد فيها عسكره على العادة وخربوا فرد آخر السنة وقد كثر أتباعه من المفسدين فنازل بهنسا في السنة المقبلة وفي ثامن ذي الحجة أوفى النيل وكسر الخليج الأمير يشبك وكان السلطان أراد أن يباشر ذلك بنفسه ثم خشي وقوع فتنة فتراجع وفي السابع والعشرين من ذي الحجة استقر موفق الدين نصر الله في قضاء الحنابلة عوضاً عن بدر الدين الحكري بحكم عزله.
وفي هذه السنة كان ابتداء حركة تمرلنك إلى البلاد الشامية، وأصل ذلك أن أحمد بن أويس صاحب بغداد ساءت سيرته وقتل جماعة من الأمراء وعسف على الباقين، فوثب عليه الباقون فأخرجوه منها وكاتبوا نائب تمرلنك بشيراز ليتسلمها فتسلمها، وهرب أحمد إلى يوسف التركماني بالموصل فسار معه إلى بغداد، فالتقى به أهل بغداد فكسروه، واستمر هو وقرا يوسف منهزمين إلى قرب حلب فكاتبا نائب حلب، وقيل بل غلب على بغداد وجلس على تخت الملك ثم سار صحبة قرايوسف أو بعده زائراً له فوصلا جميعاً إلى أطراف حلب فكاتبا نائب حلب وسألاه أن يطالع السلطان بأمرهما، فكاتب أحمد بن أويس يستأذن في زيارته بمصر، فأجيب بتفويض الأمر إلى حسن رأيه، فخشي دمرداش نائب حلب أن يقصد هو وقرا
يوسف حلب، فسار دمرداش نائب حلب ومعه طائفة قليلة منهم نائب حماة ليكبس أحمد بن أويس بزعمه، فكانت الغلبة لأحمد فانكسر دمرداش وقتل من عسكره جماعة ورجع منهزماً، وأسر نائب حماة ثم فدى نفسه بمائة ألف درهم، ثم جمع نعير والنائب ببهنسا والتقوا مع أحمد بن أويس فكسروه واستلبوا منه سيفاً يقال له سيف الخلافة وصحفاً وأثاثاُ كثيراً، فوصلت الأخبار بذلك إلى القاهرة، فسكن الحال بعد أن كان السلطان أمر بتجريد العساكر لما بلغته هزيمة دمرداش نائب حلب وأرسل بريداً إلى الشام بالتجهيز إلى جهة حلب فراجع النائب في ذلك حتى سكن الحال.
وفي خامس عشر من ذي الحجة أعم نوروز بعض مماليكه أن جماعة منهم اتفقوا على قتله في الليل فحذر منهم فلم يخرج في تلك الليلة من قصره، فلما طال عليهم السهر ولم يخرج في الوقت الذي جرت عادته بالخروج فيه أتوا إلى باب القصر ونادوا زمام الدار وقالوا له: أعلم الأمير أن العسكر ركب، فبلغ ذلك نوروز فأمره أن لا يجيبهم وتحقق ما أخبروه به عنهم، فلما أصبح افتقد منهم جماعة هربوا فقبض على آخرين فقررهم فأقروا على بعضهم، فغرق بعضاً ونفى بعضاً.
وفي آخر ذي القعدة وصل كتاب نائب الرحبة يخبر فيه أنه صادف ناساً عند خان لاجين يقطعون الطريق، فقبض منهم جماعة وسأل نجدة ليسلمهم لهم إلى دمشق، فقام النائب في ذلك وقعد وانزعج الناس لذلك فظنوه أمراً عظيماً وصاروا في هرج ومرج وأشاعوا أن تمرلنك قصد البلاد، وكنت يومئذ بصالحية دمشق؛
ثم انجلت القصة آخر النهار عن هذه القضية؛ وكان ذلك تفاؤلاً جرى على الألسنة بذكر تمرلنك، فإن الأيام لم تمض قليلاً حتى طرق البلاد، فلا قوة إلا بالله.
وفي ثالث شعبان نزل شهاب الدين الحسباني لولده تاج الدين عن درس الإقبالية وعمره يومئذ خمس عشرة سنة وحضره قضاة مصر والشام إلا حنبلي مصر وحفظ الخطبة جيداً وأداها أداءً حسناً وشرع في تفسير سورة الكهف وأعجبهم وأثنوا عليه.
وفي هذه السنة أثبت هلال شعبان ليلة السبت بحلب مع اتفاق أهل العلم بالنجوم أنه لا يمكن رؤيته فلما كان ليلة الأحد شهد اثنان برؤية هلال رمضان وهو أيضاً لا يمكن، وأصبحوا ليلة الإثنين فلم يروا شيئاً فأفطروا يوم الثلاثاء وهو سلخ رمضان في الحقيقة فأفطروا يوماً من آخر رمضان بمقتضى ذلك.
وفي شوال ضرب صدر الدين الأدمي في محاكمة بينه وبين بعض الناس بسبب إجازة لوقف الخاتونية فخرج ليحلف ثم اختلف كلامه وفهم منه الحاجب الاختلاف فغضب منه فكلمه بكلام غليظ ثم أمر بضربه فضرب على مقعدته بضعة عشر عصى وكان قد سعى في كتابة السر وكاد أمره أن يتم وجهزت خلعته ثم بطل ذلك فسعى في النيابة عن القاضي الحنفي فاستنابه فعن قريب وقع له ما وقع.
وفيها سعى القاضي بدر الدين ابن أبي البقاء في قضاء الشام وكتب توقيعه بذلك بشرط أن يستقر تدريس الشافعي لولده فلم يجب إلى ذلك فسعى في إبطال توليته لقضاء الشام واستقر فيها أخوه علاء الدين.