الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سماع كتب الشافعى، رحمه الله ورضى عنه.
فصل فى تلخيص جملة من أحوال الشافعى
اعلم أنه، رضى الله عنه، كان من أنواع المحاسن بالمحل الأعلى، والمقام الأسنى؛ لما جمعه الله الكريم له من الخيرات، ووفقه له من جميل الصفات، وسهله عليه من أنواع المكرمات، فمن ذلك شرف النسب الطاهر، والعنصر الباهر، واجتماعه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى النسب، وذلك غاية الشرف ونهاية الحسب. ومن ذلك شرف المولد والمنشأ، فإنه ولد بالأرض المقدسة، ونشأ بمكة. ومن ذلك أنه جاء بعد أن مهدت الكتب وصنفت وقررت الأحكام ونقحت، فنظر فى مذاهب المتقدمين، وأخذ من الأئمة المبرزين، وناظر الحذاق المتقنين، فبحث مذاهبهم وسبرها وتحققها وخبرها، فلخص منها طريقة جامعة للكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولم يقتصر على ذلك كما وقع لغيره، وتفرغ للاختيار والتكميل والتنقيح مع كمال قوته وعلو همته وبراعته فى جميع أنواع الفنون، واضطلاعه منها أشد اضطلاع، وهو المبرز فى الاستنباط من الكتاب والسنة، البارع فى معرفة الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، والخاص والعام، وغيرها من تقاسيم الخطاب، فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب؛ لأنه أول مَن صَنَّف أصول الفقه بلا اختلاف ولا ارتياب، وهو الذى لا يساوى، بل لا يدانى فى معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد بعضها إلى بعض، وهو الإمام الحجة فى لغة العرب ونحوهم، فقد اشتغل فى العربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، ومع أنه عربى اللسان والدار والعصر، وبها يعرف الكتاب والسنة.
قال عبد الملك بن هشام صاحب المغازى: إمام أهل مصر فى عصره فى اللغة والنحو الشافعى، حجة فى اللغة، وكان إذا شك فى شىء
من اللغة بعث إلى الشافعى فسأله عنه. وقال أبو عبيد: كان الشافعى ممن تؤخذ عنه اللغة. وقال أيوب بن سويد: خذوا عن الشافعى اللغة. وقال أبو عثمان المازنى: الشافعى عندنا حجة فى النحو.
وقال الأصمعى: صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له: محمد ابن إدريس. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعى يقول: أروى لثلاثمائة شاعر مجنون. وقال الزبير بن بكار: أخذت شعر هذيل ووقائعها وأيامها من عمى مصعب، وقال: أخذتها من الشافعى حفظًا. وأقاوئل العلماء فى هذا كثير.
وهو الذى قلد المنن الجسيمة أهل الآثار، وحملة الحديث، ونقلة الأخبار بتوقيفه إياهم على معانى السنن وتبيينه وقذفه بالحق على باطل مخالفى السنن وتمويههم، فنعشهم بعد أن كانوا خاملين، وظهرت كلمته على جميع المخالفين، ودمغهم بواضحات البراهين، حتى ظلت أعناقهم لها خاضعين.
قال محمد بن الحسن، رحمه الله: إن تكلم أصحاب الحديث يومًا فبلسان الشافعى، يعنى لما وضع من كتبه. وقال الحسن بن محمد الزعفرانى: كان أصحاب الحديث رقودًا فأيقظهم الشافعى فتيقظوا. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعى فى رقبته منة. فهذا قول إمام أصحاب الحديث وأهله، ومن لا يختلف الناس فى ورعه وفضله.
ومن ذلك أن الشافعى، رحمه الله، مكنه الله تعالى من أنواع العلوم، حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون، واعترف بتبريزه، وأذعن الموافقون والمخالفون فى المحافل الكثيرة المشهورة المشتملة على أئمة عصره فى البلدان، وهذه المناظرات موجودة فى كتبه وكتب العلماء معروفة عند المتقدمين والمتأخرين. وفى كتاب الأم للشافعى، رحمه الله، من هذه المناظرات جُمل من العجائب والنفائس الجليلات، والقواعد المستفادات، وكم من مناظرة واقعة فيه يقطع كل من وقف عليها وأنصف وصدق أنه لم يُسبق إليها، ومن ذلك أنه تصدر فى عصر الأئمة المبرزين للإفتاء والتدريس والتصنيف، وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجى إمام أهل مكة ومفتيها، وقال له: افت يا أبا
عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتى، وكان للشافعى إذ ذاك خمس عشرة سنة. وأقاويل أهل عصره فى هذا كثيرة مشهورة.
وأخذ عن الشافعى، رحمه الله، العلم فى سن الحداثة مع توفر العلماء فى ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة لعظم جلالته وعلو مرتبته، وهذا كله مشهور فى كتب مناقبه وغيرها، ومن ذلك شدة اجتهاده فى نصرة الحديث، واتباع السنة، وجمعه فى مذهبه بين أطراف الأدلة، مع الإتقان والتحقيق والغوص التام على المعانى والتدقيق، حتى لُقِّب حين قدم العراق بناصر الحديث، وغلب فى عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعى مذهبه لقب أصحاب الحديث فى القديم والحديث.
وقد روينا عن إمام الأئمة أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكان من حفظ الحديث ومعرفة السنة بالغاية العالية، أنه سُئل: هل سنة صحيحة لم يودعها الشافعى كتبه؟ قال: لا، ومع هذا فاحتاط الشافعى، رحمه الله، لكون الإحاطة ممتنعة على البشر، فقال: ما هو ثابت عنه من أوجه من وصيته بالعمل بالحديث الصحيح وترك قوله المخالف للنص الثابت الصريح، وقد امتثل أصحابنا، رحمهم الله، وصيته، وعملوا بها فى مسائل كثيرة مشهورة، كمسألة التثويب فى أذان الصبح، واشتراط التحلل فى الحج بعذر المرض ونحوه، وغير ذلك مما هو معروف، ولكن لهذا شرط قل من يتصف به فى هذه الأزمان، وقد أوضحته فى مقدمة شرح المهذب.
ومن ذلك تمسكه بالأحاديث الصحيحة، وإعراضه عن الأخبار الواهية والضعيفة، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء اعتنى فى الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف كاعتنائه ولا قريبًا منه، فرضى الله عنه، وهذا واضح جلى فى كتبه، وإن كان أكثر أصحابنا لم يسلكوا طريقته فى هذا. ومن ذلك أخذه، رحمه الله، بالاحتياط فى مسائل العبادات وغيرها مما هو معروف. ومن ذلك شدة اجتهاده فى العبادة وسلوط طرائق الورع والسخاء والزهادة، وهذا من خلقه وسيرته مشهور معروف، ولا يتمارى فيه إلا جاهل أو ظالم عسوف، فكان رضى الله عنه، بالمحل الأعلى من متانة الدين، وهذا مقطوع بمعرفته عند الموافقين والمخالفين:
وليس يصح فى الأذهان شىء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما سخاؤه، وشجاعته، وكمال عقله، وبراعته، فإنه مما اشترك الخواص والعوام فى معرفته، فلا أستدل عليه لشهرته، وكل هذا مشهور فى كتب المناقب مروى من طرق. ومن ذلك ما جاء فى الحديث المشهور:"إن عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا"(1) ، وحمله العلماء المتقدمون والمتأخرون على الشافعى، رحمه الله، واستدلوا له بأنه لم ينقل عن الصحابة، رضى الله عنهم، إلا مسائل معدودة إذ كانت فتاويهم مقصورة على الوقائع، بل كانوا ينهون عن السؤال عما لم يقع، وكانت همتهم مصروفة إلى جهاد الكفار لإعلاء كلمة الإسلام، وإلى مجاهدة النفوس والعبادة، فلم يتفرغوا للتصنيف، وكذلك التابعون لم يصنفوا، وأما من جاء بعدهم وصنف الكتب، فلم يكن فيهم قرشى يتصف بهذه الصفة قبل الشافعى ولا بعده إلا هو.
وقد قال الساجى، رحمه الله، فى أول كتابه المشهور فى اختلاف العلماء: إنما بدأت بالشافعى قبل جميع الفقهاء وقدمته عليهم، وإن كان فيهم أقدم منه؛ اتباعًا للسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قدموا قريشًا وتعلموا من قريش"(2)
) . وقال الإمام أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدى الإستراباذى صاحب الربيع بن سليمان المرادى: فى هذا الحديث علامة بينة، إذا تأمله الناظر المميز علم أن المراد به رجل من علماء هذه الأمة من قريش، ظهر علمه وانتشر فى البلاد، وكتب كما يكتب المصاحف، ودرسه المشايخ والشبان فى مجالسهم، وأجروا أقاويله فى مجالس الحكام، والأمراء، والقراء، وأهل الآثار، وغيرهم. قال: وهذه صفة لا نعلمها فى أحد غير الشافعى. قال: فهو عالم قريش الأفضل الذى دون العلم، وشرح الأصول والفروع، ومهد القواعد. قال البيهقى بعد روايته كلام أبى نعيم: وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل فى تأويل الخبر.
ومن ذلك مصنفات الشافعى، رحمه الله، فى الأصول والفروع التى لم يسبق إليها كثرة وحسنًا، وهى كثيرة مشهورة، كالأم فى نحو خمسة عشر مجلدًا، وهو مشهور، وجامعى المزنى الكبير والصغير، ومختصريه، ومختصر الربيع، والبويطى، وكتاب
(1) أخرجه ابن عساكر (58/379) .
(2)
أخرجه الشافعى (1/278) . حديث عبد الله بن السائب: أخرجه أيضًا: ابن أبى عاصم (2/637، رقم 1519) . قال المناوى (4/512) : فيه أبو معشر قالوا ضعيف.
حديث أنس: أخرجه أبو نعيم (9/64) .
أخرجه البيهقى (3/121، رقم 5080) . وأخرجه أيضا: عبد الرزاق عن معمر فى الجامع (11/54، رقم 19893) ، وابن أبى شيبة (6/402، رقم 32386) .