الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثياب والوشى، فيقسمها بين الناس. وقال الربيع: كان الشافعى راكبًا على حمار، فمر على سوق الحدادين، فسقط سوطه من يده، فوثب إنسان فمسحه بكفه وناوله إياه، فقال لغلامه: ادفع إليه الدنانير التى معك، فما أدرى كانت سبعة أو تسعة.
قال: وكنا يومًا مع الشافعى، فانقطع شسع نعله، فأصلحه له رجل، فقال: يا ربيع، أمعك من نفقتنا شىء؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: سبعة دنانير، قال: ادفعها إليه. وقال أبو سعد: كان الشافعى من أجود الناس وأسخاهم كفًا، كان يشترى الجارية الصناع التى تطبخ وتعمل الحلواء، ويقول لنا: تشهوا ما أحببتم، فقد اشتريت جارية تحسن أن تعمل ما تريدون، فيقول بعض أصحابنا: اعملى اليوم كذا وكذا، وكنا نحن نأمرها. وقال الربيع: كان الشافعى إذا سأله إنسان شيئًا يحمر وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه، رحمه الله ورضى عنه.
فصل فى شهادة أئمة الإسلام المتقدمين فمن بعدهم للشافعى بالتقدم فى العلم
واعترافهم له به، وحسن ثنائهم عليه، وجميل دعائهم له ووصفهم له بالصفات الجميلة والخلال الحميدة
وهذا الباب ربما يتسع جدًا، لكنا نرمز إلى أحرف منه تنبيهًا بها على ما سواها، وأسانيدها كلها موجودة مشهورة، لكن نحذفها اختصارًا. قال له شيخه مالك بن أنس، رضى الله عنه: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية. وقال الشافعى: لما رحلت إلى مالك فسمع كلامى، نظر إلىَّ ساعة، وكانت لمالك فراسة، فقال: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال: يا محمد، اتق الله واجتنب المعاصى، فإنه سيكون لك شأن، فقلت: نعم وكرامة، فقال: إذا كان غدًا تجىء ويجىء من يقرأ لك الموطأ، فقلت: إنى أقرأه ظاهرًا، فغدوت إليه وابتدأت، فكلما تهيبت مالكًا وأردت أن أقطع أعجبته قراءتى وأغرانى بقول: زد يا فتى، حتى قرأته عليه فى أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة إلى أن توفى مالك، رضى الله عنه، ثم ذكر
خروجه إلى اليمن. وفى رواية: فقرأته عليه، وربما قال لى فى شىء قد مرَّ: أعد حديث كذا، فأعيده حفظًا، وكأنه أعجبه، فقال: أنت يجب أن تكون قاضيًا. وفى هذه الرواية: أتيته وأنا ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال شيخه سفيان بن عيينة، وقد قرىء عليه حديث فى الرقائق، فغشى على الشافعى، فقيل: قد مات الشافعى، فقال سفيان: إن كان قد مات فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال أحمد بن محمد ابن بنت الشافعى: سمعت أبى وعمى يقولان: كان ابن عيينة إذا جاءه شىء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعى، وقال: سلوا هذا. وقال على بن المدينى: كان الشافعى لما عرفته عند ابن عيينة، وكان ابن عيينة يعظمه ويجله، وفسر الشافعى عند ابن عيينة حديثًا أشكل على سفيان، فقال له سفيان: جزاك الله خيرًا، ما يجيئنا منك إلا ما تحب.
وقال الحميدى صاحب سفيان: كان سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وعبد الحميد بن عبد العزيز شيوخ مكة يصفون الشافعى ويعرفونه من صغره، مقدمًا عندهم بالذكاء والعقل والصيانة، ويقولون: لم نعرف له صبوة. وقال الحميدى: سمعت مسلم بن خالد يقول للشافعى: قد والله آن لك أن تفتى، والشافعى ابن خمس عشرة سنة.
وقال يحيى بن سعيد القطان إمام المحدثين فى زمانه: أنا أدعو الله للشافعى فى صلاتى من أربع سنين. وقال القطان حين عرض عليه كتاب الرسالة للشافعى: ما رأيت أعقل أو أفقه منه.
وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدى، المقدم فى عصره فى علمى الحديث والفقه حين جاءته رسالة الشافعى، وكان طلب من الشافعى أن يصنف كتاب الرسالة، فأثنى عليه ثناء جميلاً، وأعجب بالرسالة إعجابًا كثيرًا، وقال: ما أصلى صلاة إلا أدعو للشافعى. وبعث أبو يوسف القاضى إلى الشافعى حين خرج من عند هارون الرشيد يقرئه السلام ويقول: صَنِّف الكتب، فإنك أولى من يُصَنِّف فى هذا الزمان.
وقال أبو حسان الرازى: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحدًا من أهل العلم تعظيمه للشافعى، رحمه الله. وقال أيوب بن سويد الرملى، وهو أحد شيوخ
الشافعى، ومات قبل الشافعى بإحدى عشرة سنة: ما ظننت أنى أعيش حتى أرى مثل الشافعى. وقال البويطى: قال يحيى بن حسان: ما رأيت مثل الشافعى، وكان شديد المحبة للشافعى، قدم مصر، وقال: إنما جئت لأسلم على الشافعى.
وقال محمد بن على المدينى: قال لى أبى: لا تترك حرفًا للشافعى إلا أكتبه. وقال يحيى ابن معين، وقد سُئل عمن يكتب كتب الشافعى؟ فقال: عن الربيع. وقال قتيبة بن سعيد: مات الثورى ومات الورع، ومات الشافعى وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع. وقال قتيبة: لو وصلتنى كتب الشافعى لكتبتها، ما رأت عيناى أكيس منها. وقال مصعب بن عبد الله الزبيرى: ما رأيت أعلم بأيام الناس من الشافعى.
وقال أحمد بن حنبل، رحمه الله: إذا جاءت المسألة ليس فيها أثر، فافت فيها بقول الشافعى. وقال أحمد أيضًا: ما تكلم فى العلم أقل خطأ ولا أشد أخذًا بسنة النبى صلى الله عليه وسلم من الشافعى. وقال أحمد بن حنبل وقد سُئل عن الشافعى: لقد منَّ الله به علينا، لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم، حتى قدم علينا الشافعى، فلما سمعنا كلامه علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالى، فما رأينا منه إلا كل خير، رحمة الله عليه.
وقال الزعفرانى: ما ذهبت إلى الشافعى قط مجلسًا إلا وجدت أحمد بن حنبل فيه. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ركب الشافعى حماره، فسار أبى يمشى إلى جانبه وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين، فبعث إليه أبى فى ذلك، فبعث إليه أبى: إنك لو كنت فى الجانب الآخر من الحمار لكان خيرًا لك.
وقال الفضيل بن زياد: قال أحمد بن حنبل: هذا الذى ترون كله أو عامته من الشافعى، ما بت مدة أربعين سنة، أو قال: ثلاثين سنة، إلا وأدعو الله للشافعى وأستغفر له. وفى رواية غير الفضيل: إنى لأدعو للشافعى فى صلاتى من أربعين سنة أقول: اللهم اغفر لى ولوالدى ولمحمد بن إدريس الشافعى، فما كان فيهم أتبع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وفى رواية: ما أعلم أحدًا أعظم منة على الإسلام فى زمن الشافعى من الشافعى.
وقال أحمد: ما أحد مس بيده محبرة وقلمًا إلا وللشافعى فى عنقه منة. وقال محفوظ ابن أبى توبة: كنا بمكة وأحمد بن حنبل جالس عند الشافعى، فحدث ابن عيينة، فقال: هذا يفوت وذاك لا يفوت، وجلس عند الشافعى.
وقال أحمد لإسحاق بن راهوية: تعالى حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله. وقال أحمد: كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعى. وقال أحمد لمحمد بن مسلم بن دارة حين قدم من مصر: كتبت كتب الشافعى؟ قال: لا، قال: فرطت.
وقال أحمد: لما قدم علينا الشافعى من صنعاء، سرنا على المحجة البيضاء. وقال: كانت أقفيتنا لأصحاب أبى حنيفة حتى رأينا الشافعى، فكان أفقه الناس فى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال: لا يستغنى، أو لا يشبع صاحب الحديث من كتب الشافعى. وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معانى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينها لهم.
وقال إسحاق بن راهوية: الشافعى إمام العلماء، وما يتكلم أحد بالرأى إلا والشافعى أقل خطأ منه. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت أحدًا أعقل ولا أورع ولا أفصح ولا أنبل رأيًا من الشافعى. وقال الربيع: جاءنى أبو عبيد، فأخذ كتب الشافعى، يعنى ليكتبها. وقال يحيى بن أكثم: ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعى. وقال عبد الله بن عبد الحكم: ما رأيت مثل الشافعى، وما رأيت رجلاً أحسن استنباطًا منه.
وقال أبو ثور: كنت أنا وإسحاق بن راهوية وحسين الكرابيسى وجماعة من العراقيين ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعى، قال: ولا أرى هو مثل نفسه. وقال الزعفرانى راوى كتب الشافعى القديمة: ما رأيت مثال الشافعى أفضل ولا أكرم ولا أتقى ولا أعلم منه، وما رأيته لحن قط، وكان يقرأ عليه من كل شعر فيعرفه، وما حمل أحد محبرة إلا وللشافعى عليه منة، ما كان الشافعى إلا بحرًا.
وقال الكرابيسى: ما فهمنا استنباط أكثر السنن إلا بتعليم الشافعى إيانا. وقال الكرابيسى أيضًا: ما كنا ندرى ما الكتاب والسنة والإجماع حتى سمعنا الشافعى، وما رأيت مثل الشافعى ولا رأى الشافعى مثل نفسه، وما رأيت أفصح منه ولا أعرف. وقال الكرابيسى أيضًا: ما رأيت مجلسًا قط أنبل من مجلس الشافعى، كان يحضره أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الشعر، وكان يأتيه كبار أهل اللغة والشعر، فكل يتكلم منه.
وقال أبو بكر الحميدى
المكى: قال لى أحمد بن حنبل ونحن بمكة: الزم الشافعى، فلزمته حتى خرجت معه إلى مصر. وقال الحميدى: كنا نريد أن نرد على أهل الرأى فلا نحسن، حتى جاءنا الشافعى ففتح لنا. وقال الحميدى: سيد علماء زمانه الشافعى. وكان الحميدى إذا جرى عنده ذكر الشافعى يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعى. وقال الحميدى: كان الشافعى ربما يلقى علىَّ وعلى ابنه المسألة فيقول: أيكما أصاب فله دينار.
وقال هارون بن سعيد الأبلى أحد شيوخ مسلم فى صحيحه: ما رأيت مثل الشافعى. وقيل لأحمد بن صالح: جالست الشافعى؟ فقال: سبحان الله، كنت أقصر فى مجالسته. وقال على بن معبد المصرى: ما عرفنا الحديث حتى جاءنا الشافعى. وقال المزنى: قدم الشافعى مصر وبها عبد الملك بن هشام النحوى صاحب المغازى، وكان علامة أهل عصره فى العربية والشعر، فذهب إلى الشافعى، ثم قال: ما ظننت أن الله خلق مثل الشافعى، ثم اتخذ قول الشافعى حجة فى اللغة.
وقال الربيع: قال البويطى: ما عرفنا قدر الشافعى حتى رأيت أهل العراق يذكرونه ويصفونه بوصف ما نحسن نصفه، فقد كان حذاق العراق بالفقه والنظر وكل صنف من أهل الحديث وأهل العربية والنظار يقولون أنهم لم يروا مثل الشافعى. قال الربيع: وكان البويطى يقول: قد رأيت الناس، والله ما رأيت أحدًا يشبه الشافعى ولا يقاربه فى صنف من العلم، والله إن الشافعى كان عندى أورع من كل مَن رأيته يُنسب إلى الورع.
قال الربيع: ومن كثرة ما كنت أرى البويطى يأسف على الشافعى وما فاته قلت له: يا أبا يعقوب، قد كان الشافعى لك محبًا يقدمك على أصحابه، وكنت أراك شديد الهيبة له، فما منعك أن تسأله عن كل ما كنت تريد؟ فقال لى: قد رأيت الشافعى ولينه وتواضعه، والله ما كلمته فى شىء قط إلا وأنا كالمقشعر من هيبته، وقد رأيت ابن هرمز وكل مَن كان فى زمن الشافعى كيف كانوا يهابونه، وقد رأيت هيبة السلاطين له. وقال محمد بن عبد الحكم: ما رأيت مثل الشافعى ولا رأى مثله.
وقال محمد: ليس فلان عندنا بفقيه؛ لأنه يجمع أقوال الناس ويختار بعضها، قيل: فمن الفقيه؟ قال: الذى يستنبط أصلاً من كتاب أو سنة لم يسبق إليه، ثم يشعب فى ذلك الأصل مائة شعب، قيل: فمن يقوى على هذا؟ قال: محمد بن
إدريس. وقال على الرازى: حج بشر المريسى، فلما قدم قيل له: من لقيت بمكة؟ قال: رأيت رجلاً إن كان منكم فلم تغلبوا، وإن كان عليكم فتأهبوا وخذوا حذركم، وهو محمد بن إدريس الشافعى.
وقال المريسى: مع الشافعى نصف عقل أهل الدنيا. وقال: ما رأيت أعقل من الشافعى. وقال: ما رأيت أمهر من الشافعى. وقال: رأيت بمكة فتى لئن بقى ليكونن رجل الدنيا. وقال المزنى: لو كنا نفهم عن الشافعى كل ما قاله لأتيناكم بصنوف العلم، وأى علم كان يذهب على الشافعى، ولكن لم نكن نفهم فقصرنا وعاجله الموت.
وقال الربيع: لو رأيتم الشافعى لقلتم: ما هذه كتبه، كان والله لسانه أكبر من كتبه. وقال حرملة: كان أبى قد رتب لى كاتبًا، وقال للكاتب: اكتب كل ما تكلم به الشافعى. وقال داود بن على الظاهرى: كان الشافعى، رضى الله عنه، سراجًا لحملة الآثار ونقلة الأخبار، ومن تعلق بشىء من بيانه صار محجاجًا.
قال داود: ومن فضائل الشافعى حفظه لكتاب ربه، وجمعه للسنن وآثار الصحابة، ومعرفته بأقسام الخطاب، وتقديمه ذلك على الرأى، وكشفه عن المخالفين، وما أبطله من زيوفهم، وقذف به على باطلهم فدمغه، ثم ما بين من الحق الذى سهل له بتوفيق خالقه معرفته، حتى استطال به من لم يكن يميز، وألفوا الكتب وناظروا المخالفين، ثم ما من الله تعالى به عليه من منطقه الذى لا يدانى فيه، وما وقاه من شح نفسه، فأولئك هم المفلحون، وسماحته، وجوده، وجميل سيرته، وورعه، ونسبه.
ثم ساق الكلام إلى أن قال: وما علمت أحدًا كان فى عصره أمن على الإسلام منه؛ لما نشر من الحق، وقمع من الباطل، وأظهر من الحجج، وعلم من الخير، رحمة الله ورضوانه عليه، وشكر الله له جميع ذلك، وجمع بيننا وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والصالحين من عباده وبينه فى جنته مع جميع الأحبة، إنه لطيف خبير. وقال داود: كنت عند أبى ثور، فدخل رجل، فقال: يا أبا ثور، ما ترى هذه المصيبة النازلة بالناس؟ قال: ما هى؟ قال: يقولون: الثورى أفقه من الشافعى، فقال: سبحان الله العظيم، أوقالوها؟ قال: نعم، قال: نحن نقول: الشافعى أفقه من إبراهيم النخعى وذويه، وجاءنا هذا بالثورى.
وقال إبراهيم الحربى: قدم الشافعى بغداد وفى الجامع الغربى عشرون حلقة لأصحاب الرأى، فلما كان فى الجمعة لم يثبت منها