الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لديه، والكون بين يديه، والأخذ عنه والاقتباس منه، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه.
وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلًا، رأينا إثباته ههنا (كذا)(1) هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع إلى معرفة الوجه فيه، وبهذا الفصل يتصور (كذا) لك كل (2) صورة وقوع ذلك منهم وكيفية اتفاقه لهم، حتى كأنه شاهده معهم.
وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه - رحمة الله عليه - "قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمَّد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي رضي الله عنه في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه".
* * *
سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة
" تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف، وهو ما جاء عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إما في القرآن، وإما من فعله أو قوله، الذي لا ينطق عن الهوى فيه؛ لما
(1) ربما سقط من الأصل كلمة هي (لإزالة) أو ما في معناها وأن (هذا) محرَّف عن هذه.
(2)
لعل كلمة (كل) زائدة من النُّسَّاخ.
رأيت وشاهدت من اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف، فبحثت عن السبب الموجب للاختلاف، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن، فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن.
ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور النساء على عدد ذكره مَيلًا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ذلك العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]. فترك قوله، وقال: كل أحد أعلم منك حتى النساء.
وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. علمًا منه رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يزد في مهور النساء، فإنه لم يمنع مما سواه والآية أعم، وكذلك أمر رضي الله عنه برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكَّره علي قول الله - تعالى -:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. مع قوله - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233]. فرجع عن الأمر برجمها، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن؛ إذ جفا عليه حتى ذكره الحُر بن قيس بقول الله عز وجل:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. فأمسك عمر. وقال رضي الله عنه يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا، حتى قُرئت
عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]. فرجع عن ذلك، وقد كان علم الآية، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه، فهذا وجه عمدته (1)(كذا) الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد.
وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلًا من خصوص أو نسخ أو معنًى ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا بالمدينة حوله عليه السلام مجتمعين، وكانوا ذوي معايش، يطلبونها، وفي ضَنْك من القوت؛ فمن متحرف في الأسواق، ومن قائم على نخله، ويحضره عليه السلام في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله، وقد نص على ذلك أبو هريرة رضي الله عنه فقال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني.
وقد قال عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق في الأسواق في حديث استئذان أبي موسى. فكان عليه السلام يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه، فلما مات عليه السلام وولي أبو بكر رضي الله عنه كان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها نص، سأل من بحضرته من الصحابة فيها، فإن وجد عندهم نصًّا رجع إليه، وإلا
(1) ربما كان الأصل (فهذا وجه ما عمدته الخلاف) إلخ.
اجتهد في الحكم فيها، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم رضي الله عنهم رجوع إلى نص عامّ، أو إلى أصل إباحة متقدمة، أو إلى نوع من هذا يرجع إلى أصله.
ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده، أو يخترع حُكمًا لا أصل له، حاشَ لهم من ذلك، فلما ولي عمر رضي الله عنه فُتحت الأمصار وتفرّق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِمَ به، وإلا اجتهدوا في ذاك، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد آخر - وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني.
كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن مجلسه عليه السلام في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر وحضور الذي غاب، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه، وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين. وكان حكم المسح على الخفين عند علي وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون، وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب عن أبي موسى،
وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ، وغاب عن عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يعلمه ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم، ومثل هذا كثير. فمضى الصحابة رضي الله عنهم على هذا.
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم، لا تقليدًا، ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس، واتَّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار؛ كأبي حنيفة وسُفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة، وعثمان البَتِّي وسوَّار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجرَوْا على تلك الطريقة، من أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله عليهم - فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين، ومأجور فيما خفي عليه ولم يبلغه أجرًا واحدًا، قال الله - تعالى -:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما بضرب من الترجيحات، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من الترجيحات أيضًا، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين: أحلَّتهما آية وحرَّمتهما آية. وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله - تعالى -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وقال: لا أعلم شِركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربُّها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى، ومثل هذا كثير.
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها كذا، ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا، إما من نسيان، وإما أنها لم تبلغهم، وإما لتأويلٍ ما، وإما لأخذ بخبرٍ ضعيفٍ، لم يَعلم الآخذ، به ضعف رواته وعلمه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو بظاهر آية.
وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح له حكم بدليل ما ويغيب كذا غيره، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق،
وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيد إلى من لم يكن عنده، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه، وقيام الحُجة بها عليه، فلم يبق إلَّا العِناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها، وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر، وقد رحل علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام، وكتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا كثير.
قال أبو عبد الله: فقد بيَّن - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث، والسبب الموجب للاختلاف، وشفينا النفس مما اعترض فيها، ورفعنا الإشكال عنها، والله عز وجل المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه.
وبهذا البيان كشف به هذا الإِمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم، صحَّ للأئمة المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين - وجوب طلب التصحيح
للنصوص الواردة في شرائع الدين، لتقوم الحُجة بما صح منها على المختلفين، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه، وانتهت استطاعته إليه، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد، والرحلة إلى البلاد، في جمع هذا النوع من الإسناد، بعد التَّتبُّع والانتقاد، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري رضي الله عنهما فحازا قَصَب السَّبْق فيه في وقتهما، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح، وعلم الله عز وجل صِدق نيتهما فيه ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا وغربًا، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما، والاقتداء في شروط الصحيح بهما، وتلك عادة الله فيمن أحبه، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء في الخبر الصادق عن المبعوث الحق صلى الله عليه وسلم فهنيئًا لهما، ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما، والواجب علينا وعلى من فهم الإِسلام، وعرف قدْر ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام، أن يخلِص الدعاء (1) لهما، ولسائر الأئمة الناقلين إليهما وإلينا قواعد هذا الدين، وشواهد أحكام المسلمين. ونحن نبتهل إلى الله - تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم، وأن يبوئ الكل منهم في
(1) في نسخة الأصل (للدعاء). "مجلة المنار، المجلد التاسع عشر، الجزء الخامس، ص 266، ذو الحجة 1334/ أكتوبر 1916".
أعلى درجات الكرامات، من غُرُفات الجنات، وأن يوفقنا أجمعين للاقتداء بهم، والسلوك في سبيلهم، والدعاء إليه وإلى رسوله، والانقياد لمحكمات تنزيله، والتفقه في دينه، والإخلاص في عبادته، والانقطاع إليه، وصِدْق التوكل عليه، حتى يتوفانا مسلِمين مسلمين، غير مبدِّلين ولا مغيَّرين، وأن يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين.
تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمَّد نبيه وآله وصحبه وسلامه. وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
* * *