الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد شاكر
(*)
شوال سنة 1282 - 11 جمادى الأولى سنة 1358
مارس سنة 1866 - 29 يونيه 1939
فقدت مصرُ وفقد العالم الإسلامي كله عالمًا من كبار العلماء، ومجاهدًا من أعلام المجاهدين وقف حياته على خدمة الوطن، وخدمة الإسلام، وخدمة الشرق في سبيل الله.
وقد رغب إليَّ صديقي الأستاذ فؤاد صرُّوف - محرر المقتطف - أن أترجم له ترجمة موجزة فأحببتُ ثقةً مني أن سيغلبُ الجانبُ العلميُّ فيَّ عاطفة البنوة، وقد مرنتُ نفسي على فنون الحديث والتاريخ ونقد الرجال، وزعمتُ أني مستطيعٌ أن أكتب عنهُ تاريخًا صحيحًا، لا غلوّ فيه ولا إسراف، وإني إن كتبت مدحًا أو ثناءً فإنما هو حقُّ التاريخ عليَّ.
السيد محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، من آل أبي علياء، وهم أسرة معروفة من أشراف الصعيد، بمدينة جرجا.
ولد بها في منتصف شوَّال سنة 1282 (مارس سنة 1866) وحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ التعليم، ثم رحل إلى القاهرة، إلى
(*) مجلة المقتطف، أغسطس 1939 م.
الأزهر الشريف، فتلقى العلم فيه عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وفي 15 رجب سنة 1307 (4 مارس سنة 1890) عين أمينًا للفتوى، مع أستاذه العظيم، الشيخ العباسيّ المهديّ، مفتي الديار المصرية إذ ذاك. ثم أصهر إلي جدّي لأمي، العلامة الكبير، إمام العربية غير مدافع، الشيخ هارون بن عبد الرازق (المولود بقرية بنجا من قرى مركز طهطا في يوم الخميس 25 جمادى الأولى سنة 1249 والمتوفى بالقاهرة في يوم السبت 26 جمادى الأولى سنة 1336 رضي الله عنه.
ثم ولي منصب "نائب محكمة مديرية القليوبية" وصدر الأمر العالي بذلك في 7 شعبان سنة 1311 (13 فبراير سنة 1894) ومكث فيه أكثر من ست سنين.
وكان في عمله القضائي يفكر في إصلاح المحاكم الشرعية، بل لعله - فيما نعلم - أول من فكر في ذلك، فقد أخبرني رضي الله عنه أنهُ حين كان أمينًا للفتوى جاءت امرأة شابة حكم على زوجها بالسجن مدة طويلة، وهي تخشى الفتنة، وتريد عرض أمرها على المفتي ليرى لها رأيًا في الطلاق من زوجها، حتى تتزوج رجلًا آخر، تعصم به نفسها، فصرفها الوالد رحمه الله معتذرًا آسفًا متألمًا إذ كانت الأحكام مقيدة بمذهب أبي حنيفة، والعلماء المقلدون يأبون التفكير في مخالفة مذهبه، بل يكادون يرون في الخروج عن المذهب أكبر المنكرات. وليس في مذهب أبي حنيفة ما يجيز للقاضي أن يطلق على
الزوج المعسر أو المحبوس أو نحو ذلك. ثم عرض الوالد أمرها على شيخه المفتي، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل المعضلة، فأبى الشيخ كل الإباء، واستنكر هذا الرأي أشد استنكار، وكان بين الأستاذ وتلميذه جدال حادٌّ في هذا الشأن، ولكنهُ لم يؤثر في ما كان بينهما من مودة وعطف، وما زال مقتنعًا برأيه، واثقًا بصحتهِ وفائدتهِ للناس.
حتى كانت سنة 1899 وقد مكث في المحاكم الشرعية نحو خمس سنوات، وظهر على كثير من عيوبها، وما يرهق الناس من أحكامها، سواء أكان ذلك في التشريع المعمول به، وهو التقيد بمذهب أبي حنيفة، أستغفر الله، بل التقيد بما قال علماء من متأخري اتباعهِ، والتمسك بألفاظهم الحرفية، أم كان في سوء اختيار عمالها، من قضاة وغيرهم، أم كان في إجراءاتها المعقدة المطولة، أم كان في نظمها وحقارة أمكنتها، أم كان في إعراض الحكومات المصرية عن العمل على إصلاحها اتباعًا لسياسة مرسومة في القضاء عليها تقليدًا للإفرنج، ولمن أشربوا آراءهم وعقائدهم، رأى الوالد كل هذا وأكثر منهُ، فوضع تقريرًا نفيسًا قدمهُ لأستاذه الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية - رحمة الله عليه - نقد فيه هذه المحاكم وقضاتها وعمالها وكل حالاتها، وأبان عن أوجه النقصِ والخطأ في اللائحة التي كان معمولًا بها في ذلك الوقت، واقترح طرق الإصلاح تفصيلًا، ومنها اقتباس بعض الأحكام من مذهب
مالك، في التطليق للإعسار، وللضرر، وللغيبة الطويلة، وغير ذلك، وكان ذلك التقرير فاتحة العمل الصحيح في سبيل إصلاح المحاكم الشرعية، والرقي بها إلى مقامها السامي في الإسلام وهذا التقرير لا تزال صورته الأصلية عندنا بخط الوالد، وقد قدمته إلى دار الكتب المصرية فصورتهُ بالتصوير الشمسي، ليكون بها أثرًا علميًّا تاريخيًّا، لمن شاء أن يرجع إليه.
قدَّم الوالد هذا التقرير في أوائل سنة 1899، وفي صيف تلك السنة طاف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على كثير من محاكم الوجه البحري، واطلع على سَيْر الأعمال فيها، ليصف لها الدواء والعلاج بحكمته، ثم وضع هو أيضًا تقريره المشهور في إصلاح المحاكم في نوفمبر سنة 1899، وهو التقرير الذي طبع بمطبعة المنار في شوال سنة 1317 (سنة 1900)، فاتفق رأي الأستاذ الإمام ورأي تلميذه، في كثير من أنواع النقد وطرق الإصلاح.
ولكن يظهر أن الأستاذ الإمام لم يجد الفرصة مواتية لاقتراح أحكام تخالف مذهب الإمام أبي حنيفة، وخاصة في التطليق من القاضي، فترك الكلام في ذلك، وأشار في الكلام في المرافعات إشارة عامة، ودعا إلى الأخذ بشيء من أحكام المذاهب الثلاثة الأخرى (ص 38).
وأظن أن الأستاذ الإمام رأى أن يمكّن للوالد في بعض البلدان حتى ينفذ آراءه في الإصلاح، ولذلك زكَّاه لمنصب قاضي قضاة
السودان، وأخذ وليّ الأمر بتزكية الإمام، فصدر الأمر العالي بإسناد هذا المنصب إليه في يوم 10 ذي القعدة سنة 1317 (11 مارس سنة 1900) وكان ذلك يعقب انتهاء الثورة المهدية، وعودة السودان إلى حظيرة مصر مُلْكًا واحدًا ودولةً واحدةً، وإن فرقت بينهما في المظاهر مقتضيات السياسة.
وكانت بلاد السودان حينئذ كما تكون البلاد بعد الثورات الماحقة، هدمت النظم والقوانين والحكومة، فكأنها كانت بلادًا بكرًا، ينشأ فيها كل شيء من ذلك إنشاءً جديدًا، وكان ذلك أيسر له في وضع النظم للمحاكم هناك على النحو الذي يريد، وتنفيذ آرائه كلها أو أكثرها في الإصلاح والتجديد، على مثال لم يسبق إليه، واقتبس في التشريع من المذاهب الإسلامية ما كانت الحاجة إليه ماسة مما تنصره أدلة الشريعة وفقهها الصحيح، وأشد ذلك ظهورًا للمتصلين بالقضاء الشرعي الحكم بالتطليق للغيبة والإعسار والحبس والضرار ونحوها، مما اقتبس في مصر بالقانون رقم 25 لسنة 1920 ووضع كثيرًا من القواعد الدقيقة الإجراءات مما اقتبس بعضه في مصر في اللائحة التي صدرت سنة 1910، فسبق السودان مصر في بعض نواحي الإصلاح بعشر سنين، وفي بعضها بعشرين سنة.
ولولا أن السياسة العامة للدولة المصرية في التشريع والقضاء وضعها ناس لا يعرفون الشريعة الإسلامية ودقائقها، وغرَّهم ما رأوا من ضعف القضاء الشرعي بضعف رجاله في ذلك العهد، واحتكر
تنفيذها ناس جهلوا دينهم فأعرض عنهُ بعضهم وعاداه بعضهم، لولا هذا لسار في القضاء الشرعي سيرة تمكّن لهُ في البلاد أن يكون القضاء العامَّ في الشؤون كلها، من مدنية وجنائية وشخصية، ليكون الحكم في بلاد الإسلام بشريعة الإسلام، كما هو الواجب على كل مسلم أن يعمل لهُ، طاعة لله ورسوله، ولا تزال آثاره في السودان قائمة، يسترشد بها العلماء والقضاة والحكام، ولا يزال أهل السودان - وهم أهلنا وإخواننا - يحفظون لهُ أجمل الذكرى، ويعرفون لهُ مواقفه الحازمة في خدمة البلاد ونصر الإسلام، ويحفظون لهُ أنهُ لم يشغلهُ القضاءُ، ولم يلهه المنصب السامي عن تعليم الناس شؤون دينهم، بالدروس العلمية والخطب والمواعظ، وقرأ لهم صحيح البخاري كله، وهو أصح مصدر للسنَّة النبوية.
* * *
ثم في 26 أبريل سنة 1904 صدر الأمر العالي بتعيينه شيخًا لعلماء إسكندرية، فبعث فيها نهضة علمية كانت فاتحة خير، بزغ نورها في أرجاء المملكة المصرية، وقصدها الطلاب من أطراف البلاد، وبث فيهم من روحه الوثابة، فأحياهم حياة أخرى غير ما كانوا يعرفون في المعاهد الدينية، وضع أسس النظم في التعليم، وأحسن اختيار الكتب والمقررات في الدراسة، من العلوم الدينية والعربية وما إليها، ومن العلوم الأخرى التي يحتاج إليها طالب العلم في ثقافته العامة، مما يسميه الناس "العلوم الحديثة" وأكثرها كان
معروفًا في الأزهر يتدارسه أهله، إنما كانت اختيارية لا اختبار فيها، فجعلها إجبارية، واختار لعونه في عمله نوابغ العلماء من الأزهر، والرعيل الأول منهم أربعة: الشيخ عبد الله دراز، والشيخ عبد المجيد الشاذلي، والشيخ عبد الهادي مخلوف رحمهم الله والشيخ إبراهيم الجبالي شيخ معهد طنطا الآن متعنا الله بحياته. وكانت هذه "العلوم الحديثة" يعلمها للطلاب علماءُ الأزهر أنفسهم.
وسنَّ حينذاك سُنَّةً حسنة، أن يحتفل في آخر كل عام دراسي احتفالًا رسميَّا بالناجحين من الطلاب، تُعطى لهم المكافآت من الكتب العلمية النفيسة، ويحضره سموّ الخديوي أو نائب عنهُ ويحضره الوزراء والكبراء والعلماء والطلاب، في مسجد أبي العباس، ويخطب فيه شيخ العلماء خطبة تناسب المقام، وهي خطب مشهورة معروفة، ومن أشهرها الخطبة التي ألقاها في الاحتفال يوم السبت 22 رجب سنة 1325 (31 أغسطس سنة 1907) والتي ردَّ فيها على اللورد كرومر بكلمات تعرض فيها للإسلام، وكان من شهود هذا الحفل (أصحاب العطوفة حسين فخري باشا القائم برئاسة مجلس النظار، وناظر الأشغال العمومية، وأحمد مظلوم باشا ناظر المالية، وأصحاب السعادة والعزة محافظ الإسكندرية، ورئيس الديوان العربي الخديوي، ووكيل ديوان عموم الأوقاف) إلى آخر من ذكروا في وصف الاحتفال في (التقرير الرابع عن أعمال مشيخة علماء إسكندرية سنة 1324 دراسية المرفوع للحضرة الفخيمة الخديوية) فقام بالواجب
عليه من الذبّ عن الإسلام، في هذا المقام الخطير، خير قيام.
وكان مما قال في هذه الخطبة كلمته المحفوظة السائرة: (ويقولون: "إن هذا الدين يجيز الرق، ويتضمن سننًا وشرائع في علاقات النساء بالرجال تناقض آراء أهل هذا العصر". نعم إن الدين الإسلامي أباح الاسترقاق، كما أباحته كل الشرائع السماوية من قبل، ولكنهُ سوى بين الأرقاء وبين الآباء والأمهات في الوصية بالإحسان، والرفق والحنان، أليس يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]. أباح الدين الإسلامي استرقاق الأفراد، ولكنه بحمد الله لم يبح استرقاق الشعوب، ولا مصادرة الأمم في مقومات حياتها القومية والاجتماعية أما علاقات النساء بالرجال فليس وراء الشريعة الإسلامية غاية في عدل ولا في مرحمة، ولا في محافظة على الأعراض المصونة، يتطلع إليها أصحاب النفوس الأبية). والمناهج التي رسمها للمعاهد الدينية هي الأسس الثابتة للتعليم الصحيح، الذي يؤتي الثمرة المرجوة منهُ، ولا يزال أكثرها قائمًا إلى الآن، وهي مفصلة في التقارير التي كان يرفعها لولي الأمر في آخر كل عام.
وكانت غايته من التعليم الديني أن يخرج رجالًا كاملين، يعرفون دينهم ويخشون ربهم، يقولون قولة الحق، لا يخافون في الله لومة
لائم، يتصلون بأمتهم أوثق الصلات، فيشعرون بما تشعر، ويحسون ما تحس، في شؤونها الدينية والدنيوية، يهيؤهم علمهم وتربيتهم وثقافتهم لقيادة الأمة إلى طرق المجد، وإلى سبل الإصلاح في الأحوال كلها، اجتماعية كانت أو سياسية. وقد أشار إلى هذا المعنى في مقدمة التقرير الذي رفعه عن أعمال المشيخة سنة 1322 قال:
"ومما يجب أن يتنبه له عقلاء الإسلام وعظماء الأمة، أن التعليم الديني قد كاد يكون منحصرًا في طبقات الفقراء، وبعض الطبقات الوسطى من الأمة الإسلامية، دون الطبقات العليا منها، وذلك خطر غير قليل على الجامعة الإسلامية، بمرور الدهور والأعوام، إذا قدر أن ينتهي الأمر بانحصار التعليم الديني في تلك الطبقات، فتكون الرئاسة الدينية منحصرة فيهم لا يتولاها سواهم من الطبقات الأخرى، وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية في أيدي أولئك الأقوام ومن خصائصهم، وبعبارة أصرح: تكون الفضائل والمزايا الدينية مجردة عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن المزايا الدينية. وبين أيدينا من نتائج هذا التفريق في القوى الفعالة وهذا التدلي في التربية الدينية ما يصلح عبرة لكرام القوم، وخاصة المسلمين وعقلاء الأمة. فلينظر العقلاء وسادات الإسلام إلى موقفهم هذا، فلعلهم إذا فكروا فيه كثيرًا يترجح عندهم أن يتربى أبناؤهم تربية دينية إسلامية محضة، تحت كفالة خيرة العلماء العاملين المرشدين، حتى إذا تخرجوا على هذا المبدأ القويم كانوا أقدر على خدمة دينهم وأمتهم، الخدمة التي
ترجى من أمثالهم، مع الترفع عن الدناءة وعن السقوط في مهاوي الخسران، وإذا شاء عظماء الأمة أن يتربى أبناؤهم هذه التربية فإنهم يساعدون على ترقية التعليم الديني، ويجعلون له المكانة العليا في أفئدة الناس أجمع، وما ذلك على الله بعزيز. نسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق".
وقد بدأ بنفسه في تنفيذ ما دعا الناس إليه، ليكون مثالًا يقتدى به، فأخرجنا - أنا وأخي السيد علي - من المدارس المدنية إلى المعاهد الدينية، وكنت في السنة الرابعة بكلية غردون بالخرطوم، فاستأنفت الدراسة في السنة الأولى بالقسم الأوَّلي من معهد الإسكندرية.
وكان أكثر ما يحرص عليه في طالب العلم أن يكون قويّ الخلُق عزيز النفس مستقل الرأي، تمهيدًا لما كان يرجو، من إخراج رجال يزجّ بهم في معترك الحياة، ويبعث منهم في أعمال الدولة من إدارة وغيرها، وقد كان متفاهمًا على هذا مع ولاة الأمور، كما سمعت منهُ مرارًا، في سبيل الإصلاح العامّ، حتى تُبَثَّ الروح الإسلامية في نظم الدولة، وتقاوم تغلغل النفوذ الأجنبي، الذي كاد يخرج بالدولة وبالأمة عن دينها وعن مقومات حياتها، كان يرجو أن يعيد للإسلام مجده لو تحقق ما كان يرجو.
وفي أواخر سنة 1324 ندب للقيام بأعباء منصب مشيخة الجامع الأزهر نيابة عن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشربيني بالإضافة إلى عمله في مشيخة الإسكندرية، أربعة أشهرٍ، من رمضان إلى ذي الحجة.
وفي 9 ربيع الثاني سنة 1327 (29 إبريل سنة 1909) صدرت الإرادة السَّنية بتعيينه وكيلًا لمشيخة الأزهر، فسار فيه سيرته في الإصلاح، ومهّد لذلك برحلة واسعة إلى الصعيد، صدر بها إليه أمرٌ عالٍ، زار فيها مدن الصعيد وكثيرًا من قُراه، يستطلع أحوال الدراسة الدينية في مساجده، تمهيدًا لإنشاء معاهد علمية فيه، تكون فروعًا من الأزهر، كما تحقق أخيرًا بإنشاء معهد أسيوط وقنا. ثم صدر قانون النظام في الأزهر سنة 1911 وأنشئت فيه (هيئة كبار العلماء) فكان في الفوج الأول منها إلى أن مات. وعهد إليه بتطبيق هذا القانون، فأنشأ القسم الأوَّلي، وعُين شيخًا له مع عمله في وكالة الأزهر، وكانت في القانون بعض نظم لا يرضاها، وضعت على الرغم من معارضته، فكان يبذل جهده في التخفيف من أخطاء القانون، وله في ذلك مواقف معروفة مشهورة، لا يسع المقام تفصيلها.
وفي سنة 1913 أنشئت الجمعية التشريعية، وكان في السابعة والأربعين من عمره، وليس بمستطيع أن يطلب الإحالة إلى المعاش قانونًا وهو في تلك السن، وكان من قانون الجمعية أن الموظف إذا انتخب أو عين عضوًا فيها خُيّر بينها وبين عمله الحكومي، فإن اختارها أحيل إلى المعاش، وكان له الحق في العودة إلى منصبه، فرأى الفرصة سانحة لطرح أغلال المناصب الحكومية، والتفلت من إسارها، وما يحاك حوله فيها، في الأزهر وخارج الأزهر، فرغب إلى أخيه وصديقه وصفيّه المغفور له (محمد سعيد باشا)، وكان ناظر
النظار إذ ذاك، أن يكون عضوًا معينًا في الجمعية، فأجاب طلبه؛ وبذلك ترك المناصب الرسمية، وأبى أن يعود إلى شيء منها، ولم يخضع بعد ذلك لشيء من مغرياتها، بل فضَّل أن يعيش حرَّ الرأي والعمل والقلب والقلم.
وعاش في حريته كما عاش في مناصبه، للناس لا لنفسه، ما قصده طالب حاجة إلَّا بذل له من نفسه وماله وجاهه، يعمل الخير للخير، ولوجه الله.
وكانت له في كبريات الصحف، وفي المقطم خاصةً، أثناء الحرب العظمى، جولات صادقة ومقالات نيرة، لا يزال صداها يدوي في آذان كثير ممن عُنُوا بالشؤون السياسية في ذلك الوقت: إذ كان مرمى كتاباتِه كلها إلى الدفاع عن بيضة الإسلام، وردِّ كيد المهاجمين، من المعتدين والخائنين، خشية أن يكون ما كان، من تقطع أوصال الأمة الإسلامية، وتفرقها أممًا متباينة، ببدعة القوميات التي اخترعتها أوربة، لتفرّق بها كلمة المسلمين، وتضربَ بعضَهم ببعضٍ، ولتفتنهم عن المبدأ السياسيّ والاجتماعيّ السليم الذي شرعهُ الله لهم، وأمرهم باتباعهِ والعضّ عليه بالنواجذ:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة الأنبياء آية 92، وسورة المؤمنون آية 52].
ثم قامت الثورة المصرية في سنة 1919، فضرب فيها بسهمٍ وافرٍ، وتبعهُ أهل الأزهر قاطبة، فكان هو الروحَ الوثابةَ فيهم، وكان هو القائدَ، وكان هو الزعيم.
وكتب في الشؤون السياسية المصرية عشرات من المقالات في الصحف، أبانت عن بعد نظره، وصدق فراسته، حتى لقد توقع فيها كثيرًا مما كان بعد سنين، إذ درس مرامي السياسة الإنكليزية، في شؤون الأمة المصرية والأمة الإسلامية، وعرف كيف يسعون إلى نيل مقاصدهم حتى لقد كنا في العهد القريب، إذا ادْلهمَّ الخطبُ، واضطربت الأمور رجعنا إلى مقالاته في الظروف المشابهة لها، فوجدنا أنهُ يكاد يصف ما نحن فيه، وكأنهُ يكتبهُ حين قرأناه وكأنهُ ينظر إليه بنور الله.
ولم يفكر يومًا واحدًا في خوض معترك الأحزاب المصرية، بل كان يترفَّع عن أن يُسلم مَقادَه إلى أحدٍ من الناس، كائنًا من كان، كما أَبَى من قبلُ أن يعودَ إلى إسارِ المناصب الحكومية، وكان يقول للزعماء والقادة قولة الحقّ، فينقد خطأ المخطئ ويمدح صواب المصيب، وعن ذلك كان يظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ لهُ هوًى أو ضلعًا مع بعض الأحزاب أو الزعماء؛ إذ كان يكثرُ خطأ المخطئ، فيُكْثرُ من نقده والنصيحة لهُ، فيظنُّ المنتقَدُ أو أنصارُه وأتباعُه أن الناقد من خصومه، أو من أنصار خصومه.
وبجانب هذا لم يَدَعْ مسألة شرعية أو اجتماعية أثيرت في الصحف، بما يتعلق بشؤون الإسلام والمسلمين، إلَّا قال فيها ما يراهُ حقًّا وصوابًا، وصَدَعَ بما أمر الله به الدعاة والهداة، وأعْرَضَ عن المنكرين، ثقةً بربّهِ، وتوكلًا عليهِ؛ إذ كان أبرزُ سجاياه، أنهُ صُلْبٌ في
دينه، صلبٌ في عقيدته، صلبٌ في رأيه، شجاعٌ غير جبانٍ، لا يرهب أحدًا من الناس، ولا يخشى إلَّا الله.
* * *
أما الناحية العلمية منهُ فإنهُ كان عالمًا بكتاب الله يفقههُ ويعرفهُ، ويداوم مدارسته والغوص على أسراره، وكانت له في التفسير نظرات دقيقة، وقد قرأ لنا التفسير مرتين: مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي. وله في السُّنَّة اطلاعٌ جيدٌ وفقهٌ سليمٌ، وقرأ لنا صحيح مسلم، وسنن الترمذي، والشمائل، وسنن النسائي، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لنا فقه الحنفية في كتاب الهداية، على طريقة السلف، في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين، وكثيرًا ما خالف مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح، وقرأ لنا في الأصول جمع الجوامع وشرح الإسنوي على المنهاج، وفي المنطق شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية وغيرهما، وفي البيان الرسالة البيانية، إلى غير ذلك من الرسائل الصغيرة في علوم مختلفة.
وكان في العلوم العقلية آيةً من الآيات، بل هو أقوى رجل ظهر في الأزهر فيها؛ ولذلك لم يكن يصمُد لهُ أحد في مناظرة أو جدال، لإبداعه في إقامة الحجة وإفحام المناظر؛ لخصب ذهنه وتسلسل أفكاره، وانتظامهما على قواعد المنطق الصحيح السليم، ولست أقول هذا فخرًا أو غلوًّا، بل أشهد به عن يقين وخبرةٍ، وقد تلقيتُ عنهُ
أكثر العلوم العالية، ولازمت دروسه أكثر من ثمان سنين، في الصباح والمساء، كما يعرف ذلك ويشهد به إخواني في الدرس والطلب، وكما يقر به المنصفون من أقرانه من أهل العلم.
وأخلاقهُ كانت أخلاق العلماء الأولين، كان رجلًا مسلمًا يخاف الله ويرجو رحمته، ولا يخاف غيره ولا يرجوه، يعمل ما يعمل، أو يقول ما يقول، خالصًا لله، أذكر أنهُ في أوائل الثورة المصرية، كتب نداءً شديد اللهجة، يزيد في وقود الثورة، ثم دعاني أنا وأخي السيد علي، وقرأه علينا، يطلب رأينا، فأعجبنا به، وقلت له: ولكن بعده الاعتقال، فما عبأ بذلك، وأذاعَهُ على الناس في الصحف.
ولم تكن الدنيا من همه في شيءٍ، وقد كانت تجري على يديه، وكان له من النفوذ في الدولة ما يمكن له من الغنى لو أراد، وكان دائمًا مقربًا إلى العرش، بل أتى عليه حينٌ من الدهر كان أقرب الناس إليه زلفى، فعصمه زهده وعفته وإباؤه، ولقد حدثني واحد من شيوخي حفظهُ الله، منذ أكثر من خمس وعشرين سنة؛ أنهُ حاوره مرة ليحمله على شراء دار لأولاده، فأبى رحمه الله، وقال له: إنما أُحسن تربيتهم وتعليمهم، ولهم رزقهم عند الله، وكان يضع الميزانية سنويًّا لمعهد إسكندرية ثم في الأزهر، وكان يقرر فيها ما يستحقه العلماء والموظفون من علاوات ونحوها، فكان يكتب لنفسه أمام اسمه ما لا يخطر على بال أي رئيس أو عامل أن يصنعه، كان يكتب بخطه لنفسه (لا يستحق شيئًا) ولو أراد لنفسه عرض المال لاستحق شيئًا كثيرًا.
* * *
ومنذ سنة 1931 اعتزل الدنيا، ثم أقعده المرض في المنزل، وألزمه الفراش؛ إذ أصابه الفالج، فاحتمله صابرًا محتسبًا، راضيًا عن ربه وعن نفسه، موقنًا أنهُ قضى دَيْنَه، فقام بما وجب عليه خير قيامٍ، نحو دينه ونحو أمته، منتظرًا دعوة ربه لعباده الصالحين:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} .
إلى أن جاءتهُ الدعوةُ فأجاب، هادئًا راضيًا مطمئنًا، فقبضهُ الله إليه في منتصف الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس 11 جمادى الأولى سنة 1358 (29 يونيه سنة 1939).
ونسأل الله أن يلحقهُ بآبائه الطيبين الطاهرين، وإخوانه الصالحين السابقين:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *