الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا
(*)
فقد الإسلام في هذه الأيام عَلَمًا عاليًا من أعلامه، وإمامًا حجةً من أئمة الهدى، ومجاهدًا كبيرًا، ومصلحًا عظيمًا، عاش حميدًا ومات شهيدًا (1).
ولد أستاذنا الإمام (السيد محمد رشيد رضا) رضي الله عنه في يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى سنة 1282 (18 أكتوبر سنة 1865) بقرية (القلمون)، وهي قرية من قرى جبل لبنان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن مدينة (طرابلس الشام) نحو ثلاثة أميال.
وأسرة أبيه من السادة الأشراف الذين ينتهي نسبهم إلى جدّنا الأعلى سيدنا الحسين بن علي عليهما السلام وهم من أهل العلم
(*) مجلة المقتطف، المجلد السابع والثمانون، الجزء الثالث، 4 رجب 1354 - 1 أكتوبر 1935.
(1)
فإنه رحمه الله خرج مع ركب الأمير سعود حين سفره من مصر إلى الحجاز، فذهب معهم إلى السويس، مات في العودة عندما وصل إلى مصر الجديدة، وما كان خروجه هذا مجاملة أو تقربًا للأمير، وإنما كان ليحدثه في شؤون المسلمين، ويعرض عليه آراءه في طرق الإصلاح؛ ليعرضها سمو الأمير على جلالة والده الملك عبد العزيز بن آل سعود، فكان خروجه عملًا من أعمال الجهاد في سبيل الله، ولم يقو جسمه في هذه السن على احتمال المشاق، فمات مجاهدًا شهيدًا، إن شاء الله. وكان ذلك في يوم الخميس 23 جمادى الأولى سنة 1354 (22 أغسطس سنة 1935).
والإرشاد والرياسة، ذوو كرم وكرامة، ودين وتقوى، وعزة نَفْسٍ وتَرَفُّعٍ. وقد عاشرنا في مصر منهم أفرادًا، فكانوا من أنبل الناس خُلُقًا، وأطهرهم قلبًا، وأصدقهم حديثًا. وكان أبوهُ من أعزِّ الرِّجال نفسًا، وأجرئهم جنانًا، وأسخاهم يدًا، وأمهُ: من أسلم النساء فطرة، وأكرمهنَّ أخلاقًا، وأوفاهنَّ لزوج، وأحناهنَّ على ولد، وأسرة أمه ينتهي نسبها إلى سيدنا الحسن بن علي عليهما السلام.
أول ما تعلمَّ رحمه الله في كتَّاب قريتهِ، فتعلم قراءة القرآن والخط وقواعد الحساب الأربع، ثم أدخل في (المدرسة الرشدية) بمدينة "طرابلس الشام" وهي مدرسة ابتدائية للدولة العثمانية، يدرس فيها الصرف والنحو والحساب ومبادئ الجغرافية، والعقائد والعبادات، واللغة العربية واللغة التركية، وكان جميع التدريس فيها باللغة التركية (1).
ثم دخل "المدرسة الوطنية الإسلامية" في سنة 1299، وهي أرقى من المدرسة الرشدية، وجميع التعليم فيها باللغة العربية، إلَّا اللغتين التركية والفرنسية، وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية، والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية. وكان أستاذه العلامة الشهير "الشيخ حسين الجسر الأزهري" هو المدير لها، بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها؛ لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح ولا رقي إلَّا بالجمع بين علومِ الدِّين وعلوم الدُّنيا على الطريقة العصرية الأوربية، مع
(1) المنار والأزهر (ص 139).
التربية الإسلامية الوطنية، تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوربية والأمريكانية (1).
فلم يدخل المدارس إلَّا بعد تجاوزه الخامسة عشرة من عمره، وكان ذلك عن رأي والده وإرشاده، خوفًا عليه مما يعرض في المدن للناشئين من الفتن، فلما أن وثق من دينه وخلقه ورشده أذن له بالإقامة في مدينة طرابلس الشام لطلب العلم في المدارس.
وكان قبل دخوله المدارس شديد العناية بمطالعة كتب الأدب وكتب التصوف، قال في كتابه "المنار والأزهر" ص 140:"وكان أعجب كتب التصوف إليَّ إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فهو الذي طالعته كله، وكنت أكثر مراجعته وقراءَة بعض أبوابه عودًا على بدء، ثم صرتُ أقرؤه للناس، وكان له أكبر التأثير في ديني وأخلاقي وعلمي وعملي، وإنهُ لتأثير صالح نافع في أكثره، ضارّ في أقله، وقد عالجتُ الضار منهُ بعد العلم به: فما كان فيه من خطأ علميٍّ فقد رجعت عنهُ بالتدريج، بعد اشتغالي بعلم الحديث، ولا سيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية والغلوّ في الزهد، وبعض العبادات المبتدعة، وأما تأثيره الوجداني في الزهد واحتقار الدنيا، والمتكالبين عليها وعلى وظائف الحكومة، فلم أستطع الاعتدال فيه، فضلًا عن التفصي منهُ" وقد تلقى العلم عن كثير من العلماء الأعلام، فمنهم العلامة الشهير الشيخ حسين الجسر:
(1) المنار والأزهر (ص 139، 181).
أخذ عنهُ العلوم العربية والشرعية والعقلية، ومنهم شيخ الشيوخ الشيخ محمود نشابه: أخذ عنهُ الحديث وفقه الشافعية، ومنهم العالم المحدث العابد الشيخ محمد القاوقجي الكبير: تلقى عنهُ بعض مؤلفاته في الحديث، ومنهم العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي: حضر عليهِ قليلًا من نيل الأوطار للشوكاني، واستفاد كثيرًا من معاشرته في العلم والأدب والتصوف.
ونشأ عابدًا متعبدًا، زاهدًا متنكسًا، يذهب إلى المسجد في السَّحَر، ولا يعود إلى البيت إلَّا بعد ارتفاع الشمس، ويصلي في الليل متهجدًا تحت الأشجار في بساتين آلِه، ورباهُ أهلُه ثُمَّ رَبَّى نفسه على الحياء والصدق والإخلاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشجاعة في ذلك، فلا يخشى إلَّا الله، وكَمَّل نفسه بكثير من العلوم العصرية، ووسع دائرة تفكيره بالاطلاع على شؤون الاجتماع وسياسة العصر؛ فكان يطالع المجلات العلمية، وفي مقدمتها "المقتطف"، والمجلات السياسية وأهمها "العروة الوثقى" التي كان يصدرها في باريس المرحوم الأستاذ السيد جمال الدين الأفغاني والمرحوم الإمام الشيخ محمد عبده. ولقد حدثني صديقي الكاتب الفاضل السيد محيي الدين رضا؛ أنهُ مع عمِّه المرحوم السيد رشيد يعترف بفضل "المقتطف" عليه في توسيع دائرة معارفه في نشأته، وأنه كان يواظب على قراءته ما وجد سعةً من وقتِه.
وأما مجلة (العروة الوثقى) فإنها كان لها أكبر الأثر في توجيه
تفكيره إلى الوجهة الإصلاحية للمسلمين (1)، وإلى وضع منهج واضح يسير عليه في سبيل الإصلاح، وقد اتبع ما رسم لنفسه من خطة لم يحد عنها قيد شعرةٍ حتى لقي الله.
وأوتي موهبة الكتابة العالية في إبان نشأته، ونشر بعض مقالات في جريدة (طرابلس) فكان صحفيًّا بطبعه وفطرته، وما زال يكتب ويحرّر إلى حين وفاته، فكان من أبلغ الكتاب قلمًا، وأوسعهم مجالًا، وأقومهم بِحُجة.
وقد عزم على الاتصال بالمرحوم السيد جمال الدين الأفغاني "لتكميل نفسه بالحكمة والجهاد في خدمة الملة، فلما توفاه الله تعالى إليه، واشتهر أن السياسة الحميدية هي التي قضت عليه، ضاقت عليه المملكة العثمانية بما رحبت، وعزم على الهجرة إلى مصر، لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، ومن مناهل العلم العذبة الموارد، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر، وكان أعظم ما يرجوه من الاستفادة في مصر الوقوف على ما استفادهُ الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة، وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن يعمل معهُ وبإرشاده في هذا الجوّ الحرّ"(2).
ثم يسَّر الله لهُ أسباب السفر إلى مصر، ورضي به والداه رحمهما الله، ولما وصل إلى بيروت في طريقهِ إلى مصر عرض عليهِ
(1) تاريخ الإمام محمد عبده (ج 1 ص 84 و 303 و 995 - 996).
(2)
المنار والأزهر (ص 191).
عبد القادر أفندي القباني أن يقيم في بيروت، ويتولى رئاسة التحرير لجريدته (ثمرات الفنون). قال السيد رحمه الله:"فقلتُ لهُ: إن الحرية التي في بيروت لا تسعني. قال: أو تريد أن تنقد جلالة السلطان عبد الحميد أو تخوض في سياسته؟ قلت: إنما أريد إصلاح الأخلاق والاجتماع والتربية والتعليم. قال: إن لك أوسع الحرية في هذا. قلت: إذا أردت أن أكتب في فضيلة الصدق ومضارّ الكذب ومفاسده فأبيّن أن أكبر أسباب فشوّ الكذب في الأمم الحكم الاستبدادي، أتنشر لي ذلك جريدتكم؟ ! قال: لا، لا، عجّل بالذهاب إلى مصر ولا تخبر أحدًا! (1) ".
ويجدر بنا في هذا الموضع أن نصحح خطأ مشهورًا، يظنه أكثر الناس صوابًا، وذلك: أنهم يزعمون أن السيد رشيد رحمه الله جاء إلى مصر لإتمام الدراسة العلمية ولذلك تتلمذ للشيخ محمد عبده، والحقيقة أنهُ رحمه الله لم يغادر بلاده إلَّا بعد إتمام دراسته، وبعد نيل الشهادة العالمية والأذن له من شيوخه بالتدريس، وكان قد جاوز الثلاثين من عمره، وإنما اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده كما يتصل العالم الصغير بالعالم الكبير، وبقي تلميذًا لهُ - على هذا المعنى - إلى حين وفاته، كما كان يفعل سلفنا الصالح رضي الله عنهم ولو بقي الأستاذ الشيخ محمد عبده حيًّا إلى الآن لبقي السيد رشيد تلميذه إلى الآن، ولوَفَّى لهُ في حياته كما وَفَّى لهُ بعد مماته رضي الله عنهما.
(1) المنار والأزهر (ص 192).
فكان السيد رحمه الله مع الأستاذ الإمام تلميذًا لهُ وصديقًا، وناصحًا ومخلصًا، وكان مستودع أسراره والداعية لآرائه، والمدافع عنهُ في كل معركة من معارك جهاده، بل كان كما وصفهُ الأستاذ الإمام لوالدي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد شاكر - حفظه الله - "ترجمان أفكاره".
جاء السيد رشيد إلى مصر وقد وضع نصب عينيه صحبة الأستاذ الإمام، ثم إنشاء صحيفة إصلاحية يستمد فيها من حكمته وخبرته، فوصل إلى الإسكندرية مساء الجمعة 8 رجب سنة 1315 "30 يناير سنة 1898" فأقام فيها أيامًا ثم انتقل منها إلى طنطا فالمنصورة فدمياط، ثم عاد إلى طنطا وسافر منها إلى القاهرة قبل الظهر من يوم السبت 23 رجب "18 يناير سنة 1898" وفي ضحوة اليوم الثاني (الأحد 4 رجب) ذهب إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره بالناصرية، ثم اتصل الأمر بينهما واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في تسميتها، وذكر له اسم (المنار). مع أسماء أخرى، فاختار الإمام اسم (المنار)، ثم شرع السيد في تحريره، وكتب فاتحة العدد الأول بقلم الرصاص في جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية - وكان ذلك في منتصف شوال سنة 1315 (مارس سنة 1898) - وذهب بها إلى داره وعرضها عليه، فأعجب بها كل الإعجاب، وارتضى كل ما ذكره فيها من المقاصد والأغراض، إلَّا كلمة واحدة: هي تعريف الأمة بحقوق الإمام، والإمام بحقوق الأمة،
قال ما معناه: "إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلَّا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضره ولا يرجى نفعه الآن" فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي الأستاذ وإشارته (1).
وقد اقترح السيد على الأستاذ الإمام عقيب اتصاله به - وكان أول اقتراح له عليهِ - أن يكتب تفسيرًا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجد روحها ونورها في مجلة (العروة الوثقى) فاعتذر الإمام عن ذلك، فاقترح عليهِ أن يقرأ دروسًا في التفسير، فكان يعتذر، ثم لم يزل بهِ حتى أقنعهُ برأيه، فبدأ الأستاذ الإمام في قراءة التفسير بالأزهر الشريف في غرة المحرم سنة 1317 وانتهى منهُ منتصف المحرم سنة 1323 عند تفسير قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} . من الآية 126 من سورة النساء، فقرأ زهاء خمسة أجزاء في ست سنين، ثم توفي الإمام إلى رحمة الله يوم 8 جمادى الأولى سنة 1323 هـ. وكان السيد رحمه الله يكتب في أثناء الدرس مذكرات بأهم ما يقوله الأستاذ، ثم بدا لهُ باقتراح بعض الراغبين في الاطلاع على تفسير الإمام: أن ينشر هذا التفسير في المنار، فشرع في ذلك في المحرم سنة 1318 هـ.
قال السيد رحمه الله: "وكنت أولًا أطلع الأستاذ الإمام على ما أعده للطبع كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه،
(1) تاريخ الأستاذ الإمام (ص 995 - 1005 وص 913).
فكان ربما ينقح فيه بزيادة قليلة أو حذف كلمة أو كلمات، ولا أذكر أنه انتقد شيئًا مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضيًا بالمكتوب بل معجبًا به. على أنه لم يكن كله نقلًا عنهُ ومعزوًّا إليه، بل كان تفسيرًا للكاتب من إنشائه، اقتبس فيهِ من تلك الدرس العالية جل ما استفاده منه" (1).
ثم استقلَّ السيد رحمه الله بعبء التفسير وحده بعد أستاذه، فقام به خير قيام، بل فاق في هذا المجال أستاذه الإمام؛ فإن الأستاذ الشيخ محمد عبده إنما كان روحًا وثابًا، وحكيمًا عظيمًا، وقائدًا ماهرًا، ولكن لم يكن مطلعًا على السنة النبوية اطلاعًا كافيًا، ولا يكون المفسر للقرآن مفسرًا حقًّا إلَّا بالتوسع في دراسة الحديث النبوي والتشبع منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببيان الكتاب للناس، فقوله وفعله وكل حالاته شرح لهذا الكتاب الكريم.
وقد أتمَّ السيد تفسير اثني عشر جزءًا من أجزاء القرآن، طبعت كلها. وفسر بعض آيات من أول الجزء الثالث عشر، ثم فقدناهُ أحوج ما كنا إليه، رحمه الله ورضي عنهُ.
وإن أخوف ما كنتُ أخاف هو هذا الموقف الذي صرنا إليه: مات السيد رشيد ولم يكمل تفسير القرآن. ولقد أذكر أني تحدثتُ إليه في هذا المعنى منذ عشرين سنة تقريبًا، وكنتُ من أقرب الناس إليه وأبرّهم به، فألححت عليه في أن يوجه عزمه وهمته إلى إتمام
(1) تاريخ الأستاذ الإمام ص (765 - 768).
التفسير، وأن يدع كل مشاغله الأخرى ويتفرغ لهذا العمل الجليل النافع، الذي لا نعرف أحدًا من العلماء يضطلع به، ولا نرى له أهلًا غيره، ولكن هكذا قُدّر فكان. ولعلنا نجد من علمائنا من يوفق لاقتفاء أثر السيد رحمه الله في تفسير القرآن حتى يتمهُ، إن شاء الله.
وبعد: فإن آثار السيد رشيد في دفاعهِ عن الإسلام، وتقريبهِ للأذهان لا يحصيها مقال أو كتاب، فإنهُ رجل مكث قريبًا من أربعين سنة يكتب في مجلتهِ وفي الصحف الأخرى، ويؤلف الكتب والرسائل، كل هذا لله وفي سبيل الله، ولا يخشى في الله لومة لائم. ولكن أعظم آثاره وأنفعها، وأرجاها للمسلمين، وأبقاها على الدهر هو هذا التفسير العظيم.
وإني كنت قد وصفت بعض مزاياه في مقال نشرتهُ في مجلة (المنار) في العدد (3 من المجلد 31 ربيع الآخر سنة 1349 سبتمبر سنة 1930، ومما قلت فيه: إنهُ "خير تفسير طبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنهُ هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين".
"ثم هو يظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة
ومعرفة عللها، وتمييز الصحيح من الضعيف منها ما يجعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه".
"ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلَّا وأبان حكمة الله فيها، وأرشد إلى الموعظة بها، وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها، وأعلن حجة الله على الناس؛ فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنهُ، ويظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة. لله دره! "
…
"ولقد عرض للكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين، فأفسدت على كثير من شبانهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلًا دقيقًا، وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنهُ دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقهُ به الجاهلون، أو دسهُ المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم، وينزعوهم من أحضان أمتهم".
"وإنه لكتاب العصر الحاضر يفيد منهُ العالم والجاهل والرجعي والمجدد بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين".
"وأنا أرى من الواجب على كل من عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته، والاستفادة منهُ وبث ما فيهِ من علم نافع، لعلَّ الله أن يجعل منهُ نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة".
ولو شئنا أن نطيل في ترجمة السيد رشيد وتعداد مناقبه وفضائله، أو في بيان مزايا تفسيره ونفعه للناس عامة؛ لكان مجال القول أمامنا واسعًا، ولأعجزنا أن نستوعب ما نريد من ذلك. ونسأل الله سبحانهُ أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء، وأن يجعلهُ من السابقين الأولين.
وإن الأخ الفاضل السيد عبد الرحمن عاصم - ابن عم أستاذنا وصهره - أعلم الناس بسيرته الشخصية والاجتماعية، والسياسية الإسلامية والعربية، وقد شهد لهُ بذلك السيد رشيد نفسه في كتاب المنار والأزهر (ص 194). وأنا أرى أنهُ جدير به أن يكتب ترجمة وافية، أو يعين غيره على كتابتها، وقد عاش معهُ نحوًا من خمس وعشرين سنة، ويخيل إليّ أن هذه الشهادة للسيد عاصم تشير إلى رغبة الأستاذ في ذلك، وكأنها وصية منه ينبغي تحقيقها.
وبعد فإن من أمارات الخير ودلائل التوفيق أن السيد رضي الله عنه ركب السيارة يوم وفاته من السويس، وشرع في قراءة القرآن، ولم ينقطع عن التلاوة حتى قبضهُ الله إليه في مصر الجديدة.
وأخرى: أن آخر ما كتب في تفسير القرآن تحت عنوان (دعاء
يوسف عليه السلام بحسن الخاتمة)؛ أنهُ فسر قوله تعالى حكايةً عن النبي يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]. وكتب في آخر تفسيرها: "فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظًّ منهُ بالموت على الإسلام". فكانت دعوةً استُجِيبت، وكانت - إن شاء الله - أمارةَ حُسْنِ الختام.
* * *