الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقعة الجمل
(*)
حين ثارت (موقعة الجمل) بين المفتيين السابق واللاحق، قابلت الأخ العلامة الشيخ محمود شلتوت، أحد جماعة كبار العلماء، وأحد أعضاء لجنة الفتوى في الأزهر، وهو من يعرف العالم الإِسلامي له فضله وشجاعته في قول الحق، وعتبت عليه أن لم يتحدث هو ولا لجنة الفتوى في وضع الحق موضعه، والفصل بين الرأيين أيهما الصحيح: رأى المفتي السابق أن هذا المحمل بدعة في الدين، لا يجوز إقرارها، وأن طواف (الجمل) سبع مرات وتقبيل مقوده حرام منكر، ورأى المفتي اللاحق بإباحة ذلك، وأنه بدعة (حسنة)! وحدثته بأن الناس ستتفرق بهم الآراء بين رأيين لعالمين معروفين، كان كل منهما في منصب الإفتاء الرسمي للدولة، وأن الفصل بين الحق والباطل إنما يكون بكلمة صريحة حازمة من أكبر هيئة علمية إسلامية في مصر، جماعة كبار العلماء، أو لجنة الفتوى بالأزهر، فقبل مني هذا العتب ووعد ثم أوفى، فتحدث إلى العالم عن طريق محطة الإذاعة المصرية مساء يوم الثلاثاء 21 ذي الحجة سنة 1369 (3 أكتوبر سنة 1950) حديثًا شاملًا، وعرض فيه لبدعة (المحمل) هذه بكلمة قيمة فاصلة. فطلبت منه أن يرسل لي نصها،
(*) مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، ربيع الأول 1370 هـ.
وأن يأذن بنشره في مجلة (الهدي النبوي) تمامًّا للبحث، وختامًا له عظيمًا، بعد أن كتب أخي الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية، كلمته الجيدة، التي نشرناها في العدد الأول من المجلد الخامس عشر (محرم سنة 1370)، فأرسلها لي، وأذن - حفظه الله بنشرها - وها هي ذي كلمته:
خلق الله الملائكة وفضّل بعضها على بعض: جعل منها مهابط الوحي، ومنها منابت الذكرى، ومنها مثابة التقديس والعبادة. وخصَّ من ذلك المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجعل أولها أفضلها:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1). فضله بجملة من وجوه التفضيل لم تجتمع لغيره من أماكن العبادة والتقديس، فجعل زيارته ركنًا من أركان الدين، وطلب الطواف به، وجعله ركنًا من أركان الحج، ولم يشرع الطواف لشيء سواه، وصار معلومًا بينًا من الدين أنه لا يجوز الطواف حول مسجد أو بيت سوى الكعبة؛ فالطواف حول الأضرحة ومقاصير الأولياء، وأعمدة بعض المساجد والصاري الذي ينصب في الموالد: ابتداع في الدين، وشيء لم يأذن به الله.
ومنه الطواف في الدائرة التي ترسم للمحمل، فيطوف بها جمل
(1) الآيتان (96، 97) من سورة آل عمران.
المحمل سبع مرات، وهي المعروفة بالدورات السبع، وقد اقترحت مضاهاة لطواف الحجاج ببيت الله الحرام.
وقد نص الفقهاء على أن التشبه بالواقفين بعرفات في مكان غير عرفات مخترع في الدين، قالوا: إن الوقوف إنما عُهد قربة بمكان مخصوص، فلا يجوز فعله في غيره، كما لا يجوز الطواف في غير الكعبة، وكما خص بيته الحرام بالطواف، وخص عرفات بالوقوف وحرمهما في غيرهما، خصه بتقبيل بعض أجزائه، وهو الحجر الأسود، وجعله عبادة خاصة في هذا المكان.
فمن قبل الأحجار والقبور، والجدران والستور، ولو كانت أحجار الكعبة أو القبر الشريف، أو جدار حجرته أو ستورها، أو صخرة بيت المقدس: فقد خرج عن هذا التشريع، وابتدع في الدين ما ليس منه؛ فإن التقبيل والاستلام، ولو بالإشارة ونحوها، تعظيم، والتعظيم خاص بالله، لا يجوز إلَّا فيما أذن فيه.
ومن ذلك ما يقع في حفلة المحمل، التي أحدثتها شجرة الدر، من تقبيل مقود الجمل، واستلام الجمل بالإشارة لمن لم يقدر على لمسه تبركًا بهما وتشبهًا باستلام الحجر الأسود وتقبيله.
هذه كلمة العلامة الشيخ محمود شلتوت، وهي في هذا قول فصل، وأنا أرى أنها تمثل رأي جماعة كبار العلماء، ورأي لجنة الفتوى، بل ما أظنه أذاعها إلَّا بهذه الصفة وهذا المعنى.
* * *