الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استقبال شهر رمضان
(*)(1)
أيها السادة:
لقد أظلكم شهر رمضان، شهر الصيام، شهر العبادة، شهر سمو الروح ونقائها، ويوشك أن تصبحوا غدًا صائمين، أَوْ لا فبعد غد، فهل أعددتم العدة لاستقباله، فحاسبتم أنفسكم على ما أسلفتم من خير تحمدون الله عليه، وتسألونه التوفيق إلى المزيد منه، أو شرٍّ تأسفون عليه وتتوبون وتستغفرون الله منه، وتسألونه أن يحفظكم من العودة إليه.
هكذا يستقبل شهر رمضان، وأخشى أن يفهم كثير من الناس أن رمضان يستقبل بالاحتفالات الرسمية، والاستعداد للتأنق في المأكل والمشرب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، والاستعداد لأصناف من اللهو واللعب في السهرات، ثم لا يفكرون فيما وراء ذلك! !
أيها الناس: إن الله شرع لكم الصيام تطهيرًا لأرواحكم، وحفظًا
(*) مجلة الهدي النبوي، السنة السادسة، العددان التاسع عشر، والعشرون، شوال 1361 هـ.
(1)
ألقاها صاحب الفضيلة العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر في الحفل الذي رأسه بمدينة بنها لاستقبال هلال رمضان.
لها من طغيان الجسد وشهواته، ولم يشرعه لتقاسوا آلام الجوع والعطش فقط؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ، فليس للَّهِ حاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ".
شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، بذكر الله وقراءة القرآن، والإكثار من الصلاة، وخاصة صلاة الليل، وجعل ثوابه أعظم الثواب، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ، الحسنةُ بَعَشْرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعْفٍ، قال الله تعالى: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لِي وأنا أجزي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي: للصائمِ فرحتان: فَرْحَةٌ عِندَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ عِندَ لقاءِ رَبِّه، ولَخلوفِ فَمِ الصَّائمِ عِنْدَ اللَّهِ أطيبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".
أيها السادة إني أرى في كثير مِمّا اتخذنا مِنَ العاداتِ في الصَّوْمِ ما يُنافِي حقيقته، بَلْ ما يُحْبِطُ الأجرَ عليه، بل ما يزيد الإنسان به إثمًا، فَهِمنا أن معنى قيام الليل، سهر الليل، فصرنا نسهر في القهوات والنوادي، لا نفكر إلّا في اللهو واللعب إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم نأكل ما شاء الله أن نأكل، ثم نصبح مرهقين متعبين، وقد ضاقت صدورنا، واضطربت أعصابنا، وساءت أخلاقنا، فلا يكاد اثنان يتحدثان، حتى ينفجر الغضب وتثور الثائرة، وتتدفق الألفاظ النابية، إلى ما ترون من حالٍ كلكم تعرفونها، وقد تتعذرون لصاحبها بأنه صائم. ولا أستثني من ذلك أحدًا إلّا من عَصَم اللهُ.
فانظروا وتفكروا، وقارنوا هذه الحال الشاذة الشائعة في الصوم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائمٌ إني صائمٌ". وذلك أن الصائم ينبغي أن يكون هادئ النفس، رضيَّ الخلق يضع نُصْبَ عينيه أن الصيام جُنَّة له من الإثم، جنة له من سوء الخلق، جنة له من المعاصي، جنة له من فحش القول، جنة له من قول الزور والعمل به.
والذي ينبغي لكم في هذا الشهر المبارك - إن سمعتم لنصحي - أن تتبعوا شرائعكم في الصيام؛ فتقتصدوا في الطعام والشراب عند الفطور وعند السحور، وأن تجعلوا سهركم إن سهرتم في قراءة القرآن وتدبره، ومن استطاع منكم أن يقوم الليل فليفعل؛ وذلك أن يصلي في بيته أو مسجده ما شاء الله له أن يصلي، وهذه هي صلاة التراويح التي غيرت عن أصلها، فصار المصلون ينقرونها سِراعًا في وقت قصير بعد صلاة العشاء، صلاة لا تنفع ولا تقبل، وإنما الصلاة ما كانت في خشوع وطمأنينة، وكلما أخرها المصلي إلى ما بعد الثلث الأول من الليل كان أفضل، ثم ينام أحدكم ما شاء الله له أن ينام، ثم يقوم قبل الفجر فيطعم طعامًا خفيفًا للسحور، ثم يصلي الفجر، وإن شاء نام بعد ذلك، وإن شاء تصرف في شأنه وعمله.
أما الذين يأكلون عند انقضاء سهرتهم ثم ينامون إلى ما بعد طلوع الشمس، فإنهم يخالفون سنة الإسلام في السحور، وأخشى أن يذهب تركهم صلاة الفجر بثواب صيامهم، فلا هم صاموا ولا هم أفطروا،
وليس لله حاجة في أن يدعوا طعامهم وشرابهم؛ إذ لم يطيعوا أمره، ولم يأخذوا بسنة نبيه، وإذ أضاعوا صلاة الفجر عن وقتها عمدًا.
أيها السادة: إن الأمم تُصهر الآن في النيران عقابًا لها على ما كفرتْ بأَنْعُم اللهِ، ولعل اللهَ قد صان بلادَ الإسلامِ من كثيرٍ مما يُلاقي غيرها، لحكمةٍ يَعْلَمُها، ومأثرة يدخرها لهم؛ أن يعود للإسلام مجده، وأن يعود المسلمون حكام الدنيا كما كانوا، ولكن هذا إذا كانوا مسلمين، وإذا تمسكوا بدينهم وأقاموا شريعته، واهتدَوْا بهديه والنذُرُ من بين أيديكم ومن خلفكم فاعتبروا واخْشَوْا رَبَّكم، فقد نرى من تهافتِ المسلمين على المنكرات ما نخشى أن يُعَمِّمَ اللهُ بالعقابِ من أجلِه، وها أنتم أولاء تَرَوْنَ المُجاهِرين بالمعاصي لا يخافون الله ولا يستحيون من الناس ولا يخشون عاقبة ما يصنعون.
وقد كان مما نرى من مُجاهرتهم ربهم بالحرب أن يجاهروا بالإفطار في رمضان في الطرقات والأماكن العامة، وفي دواوين الحكومة، ويزعمون أنهم يحتمون بما يدعونه الحرية الشخصية، وما هكذا كانت الحرية وما هكذا تكون الأمم في تمسكها بمقوماتها وعاداتها وشعائرها الدينية، وكان هذا العمل يؤذي المسلمين الصادقين في شعورهم ويحرج صدورهم، وقد وفق الله الرجل الصالح: الزعيم الجليل صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس، فأصدر بالأمس القريب كتابًا عظيمًا في هذا الشأن، حفظ على المسلمين كرامتهم وصان لهم شعورهم، ورفع الحرج عن قلوبهم،
فأمر أن لا يُجاهِرَ مُفطرٌ بفطرِه، مُسلمًا كان أو غير مسلم، احترامًا لحق الأمة في الاستمساك بشعائرها وتقاليدها، فكان عمله عمل رجل يعرف ما يريد، ويعرف كيف يضع الأمور مواضعها، مستعينًا بربه متوكلًا عليه.
إن الله قد مَنَّ علينا في هذه السنين الشداد بمليكنا الفاروق الملك الحازم النقي، نعم القدوة هو لشباب أمته وكهولها وشيوخها، مُلِئَ قلبُه إيمانًا وحكمة، يقود أمته إلى المجد بخطوات سراع، مهتديًا بهدي الإسلام، متمسكًا بعروته الوثقى.
وإنا لنرجو بيُمْنِ طَلْعَتِه أن يكون المستقبل لنا إن شاء الله.
* * *