المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظام الطلاق في الإسلام - جمهرة مقالات أحمد شاكر - جـ ٢

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌مَسائلُ عِلْمِيَّةٌ

- ‌في لسان العرب

- ‌تعريب الأعلام2

- ‌من بدع القبور

- ‌موقعة الجمل

- ‌تعليق على كلام عبد الرحمن الوكيل على بدعة المحمل

- ‌فوائد شتى

- ‌العمل بالحديث الصحيح

- ‌الفقه في الدين والاجتهاد

- ‌السؤال عما لم يقع

- ‌معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

- ‌نشوء علم الفلسفة

- ‌كتاب المهذب للذهبي

- ‌كتاب الجمع بين الصحيحين

- ‌فصل

- ‌سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة

- ‌الجعاظرة الجوّاظون

- ‌القول الفصل في مسَّ المرأة وعدم نقضه للوضوء

- ‌(باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة)

- ‌ولاية المرأة القضاء

- ‌ولاية المرأة القضاء - مَرَّةً أخرى

- ‌(هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ )(وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية

- ‌(حقوق المرأة أمام القضاء)

- ‌الرقص والطيب للنساء

- ‌في تعليم النساء وصلاتهن في المساجد

- ‌نظامُ الطَّلاق في الإسلامِ

- ‌نظام الطلاق في الإسلام (*)[بقية المقال المنشور في العدد السابق]

- ‌تراجم وأعلام

- ‌أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا

- ‌محمد شاكر

- ‌نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح

- ‌مناسبات

- ‌استقبال شهر رمضان

- ‌تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين

- ‌بمناسبة الإشراف على مجلة (الهدي النبوي)

- ‌لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌أهم تعقبات الشيخ أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف

- ‌المادة: أسامة بن زيد بن حارثة

- ‌المادة: استحسان

- ‌المادة: استسقاء

- ‌المادة: استصحاب

- ‌المادة: إسماعيل

- ‌المادة: الأشعث

- ‌المادة: أضحى

- ‌المادة: اقتباس

- ‌المادة: إقرار

- ‌المادة: الله

- ‌المادة: إمام

- ‌المادة: أمة

- ‌المادة: أمة

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أمي

- ‌المادة: إنجيل

- ‌المادة: أنس بن مالك

- ‌المادة: الأنصار

- ‌المادة: أهل البيت

- ‌المادة: أهل الحديث

- ‌المادة: أهل الحق

- ‌المادة: أهل الصُّفة

- ‌‌‌المادة: بحيرا

- ‌المادة: بحيرا

- ‌المادة: براق

- ‌المادة: برزخ

- ‌المادة: برصيصا

- ‌المادة: برنك سَبِل

- ‌المادة: بُسر

- ‌المادة: بسملة

- ‌المادة: بعل

- ‌المادة: البغوي

- ‌المادة: البغوي

- ‌المادة: بئر معونة

- ‌المادة: البيهقي

- ‌المادة: تابع

- ‌المادة: تأويل

- ‌المادة: التجارة

- ‌المادة: التجارة

- ‌‌‌المادة: الترمذي

- ‌المادة: الترمذي

- ‌المادة: تسنيم

- ‌المادة: التشريق

- ‌المادة: التشريق

- ‌‌‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقية

- ‌المادة: التلبية

- ‌المادة: تميم الداري

- ‌المادة: الجاهلية

- ‌المادة: جبريل

- ‌المادة: الجمرة

- ‌المادة: الجمعة

- ‌المادة: الجن

- ‌المادة: الجنة

- ‌المادة: الجهاد

- ‌المادة: جهنم

- ‌المادة: الحديبية

- ‌المادة: الحديث

- ‌المادة: الحسن بن علي

- ‌المادة: الحسن بن علي بن أبي طالب

- ‌المادة: الحسين بن علي

- ‌المادة: حفصة

- ‌المادة: حمزة بن عبد المطلب

- ‌المادة: خديجة

- ‌المادة: الخطبة

- ‌المادة: الزهري

- ‌المادة: تعليق

- ‌المادة: سروال

- ‌المادة: السعي

الفصل: ‌نظام الطلاق في الإسلام

بين عالمين

‌نظامُ الطَّلاق في الإسلامِ

(*)

منذ بضعة أشهر أخرجتُ كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) فتقبله العلماء الأعلام في مصر، وفي سائر الأقطار بقبول حسن والحمد لله، وأكثروا من الثناء عليه وعلى مؤلفه، وجاءتني كتب متواترة من كبار علماء الإسلام في الحجاز والهند والعراق والشأم وغيرها، ومن كبار المستشرقين في أقطار أخرى، ولا أراني أهلًا لكل ما أثنوا به عليَّ، وإنما هو حسن الظن منهم، وقد أعجزني أن أوفيهم حقهم من الشكر على هذا الفضل الجم، وأسأل الله أن يجزل لهم المثوبة على فضلهم.

وفي بعض ما جاءني من الكتب أبحاث قيمة من النقد العالي المبني على الحجة والبرهان، مما يصلح أن يكون مثالًا يُحتذى للباحثين والمجتهدين، في دقة النظر، وعلو الفكر، وأدب القول والتسامي عن العصبية والهوى، والتزام ما ينصره الدليل الصحيح، وهي الخصال التي نرجو أن يسير على نهجها كل عالم مفيد، وكل طالب مستفيد، وخصوصا في علوم الدين وهي الخصال التي جاهد أسلافنا في سبيل حمل الناس على الأخذ بها واتباعها، ثم تبعانها

(*) مجلة الرسالة العدد 157 الاثنين 17 ربيع الثاني سنة 1355 هـ 6 يوليه سنة 1936 م (السنة الرابعة).

ص: 623

من بعدهم، فجاهد إخواني وجاهدت معهم في سبيل ذلك جهادًا كثيرًا، منذ نيف وعشرين سنة، ولا نزال - والحمد لله - نسير على هذا النهج القويم والصراط المستقيم.

ومما يجب عليَّ، إحقاقًا للحق، واتباعًا لسبيل الهدى، أن أفكر فيما ورد على كتابي من اعتراض ونقد، وأعيد النظر فيما اخترت ورأيت، وأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي لي وللناظرين فإما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وأما انتصرت لقول وزدته بيانًا وتأييدًا، لا أبالي أي ذنب كان، وإنما أنا طالب علم، فأي قول أو رأي نصره عندي الدليل، فإنه العلم الذي أطلبه وأسعى إليه، لا أبغي به بدلًا.

ولذلك رأيتُ أن أنشر في الرسالة الغراء مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية - ما أراه جديرًا بالنشر مما جاءني من نقد واعتراض، وأساجل كاتبيه البحث، أملًا في أن يشترك معنا كثير من العلماء الأعلام في هذا المجال، عَلَّنا نصل إلى الحقيقة فيما كان موضع اختلاف ونظر، وقديمًا قال الناس: الحقيقة بنت البحث.

ومن أشرف ما وصل إليَّ وأعلاه: كتاب كريم من صديقي الكبير وأستاذي الجليل، شيخ الشريعة، وإمام مجتهدي الشيعة بالنجف الأشرف، العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، فقد تفضل - حفظه الله - بمناقشة رأي في مسألة من مسائل الكتاب، وهي (مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته) فإنني

ص: 624

ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وأنه إذا حصل الطلاق بغير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقًا، ولم يتعد به، وهذا القول وإن كان مخالفًا للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل، ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية، وذهبت أيضًا إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي، ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة، واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل واحد فيهما، فرأي الأستاذ - بارك الله فيه - أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال:

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم، وله الحمد والمجد:

من النجف الأشرف 8 صفر سنة 1355 إلى مصر لفضيلة الأستاذ العلامة المتبحر النبيل الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم، أيده الله.

سلامة لك وسلام عليك .. وصلتني هديتك الثمينة رسالة (نظام الطلاق في الإسلام)، فأنعمت النظر فيها مرة بل مرتين إعجابًا وتقديرًا لما حوته من غور النظر، ودقة البحث، وحرية الفكر، وإصابة هدف الحق والصواب، وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاءة أغشية الأوهام، وحطمت قيود التقاليد القديمة وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة، فحياك الله، وحيا ذهنك الوقاد وفضلك الجم.

ص: 625

وأمهات مباحث الرسالة ثلاث:

(1)

طلاق الثلاث.

(2)

الحلف بالطلاق والعتاق.

(3)

الإشهاد على الطلاق.

وكل واحدة من هذه المسائل الثلاث قد وفيتها حقها من البحث، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ومدارك الاستنباط القويم من الكتاب والسنة، فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاص الصواب، وروح الحقيقة، وجوهر الحكم الإلهي، وفرض الشريعة الإسلامية.

وقد وافقت آراؤك السديدةُ في تلك المسائل ما اتفقت عليه الإمامية من صدر الإسلام إلى اليوم، لم يختلف فيها منهم اثنان، حتى أصبحت عندهم من الضروريات، كما اتفقوا على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق، بل الطلاق باطل عندهم بدونه.

وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الإشهاد فيهما معا فقلت في صفحة (120) ما نصه: "وذهبت الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب شرائع الإسلام .... ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه". انتهى.

ص: 626

وفي كلامك هذا (أيدك الله) نظر أستميحك السماح في بيانه، وهو أن من الغريب حسب الفن مطالبة النافي بالدليل والأصل معه! وإنما يحتاج المثبت إلى الدليل، ولعلك (ثبتك الله) تقول قد قام الدليل عليه، وهو ظاهر الآية، بناء على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول:"والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: {وَأَشْهِدُوا}. راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا" إلى آخر ما ذكرت، وكأنك (أنار الله برهانك) لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة، كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وإلا لما كان يخفي عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، ولابتداء الكلام في صدرها بقوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة أي؛ لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي؛ إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة، وتركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعًا واستطرادًا، ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله، سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنك لا

ص: 627

تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم، لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه، وهذا لعمري حسب قواعد العربية والذوق السليم جلي واضح، لم يكن ليخفى عليك، وأنت خرِّيتُ العربية، لولا الغفلة (والغفلات تعرض للأديب).

هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها، وهو: أن من المعلوم؛ أنه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه وتعالى من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة، سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة، بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى، فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه، على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده عز أو قل وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولًا ولحصول الأناة والتأخير ثانيًا، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان، أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة، كما أشير إليه بقوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} . وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم مضافًا إلى الفوائد الأخر.

وهذا كله بعكس قضية الرجوع: فإن الشارع يريد التعجل به،

ص: 628

ولعل للتأخير آفات، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط، وتصح عندنا - معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة. ولا يشترط فيها صيغة خاصة، كما يشترط في الطلاق، كل ذلك تسهيلا لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده، والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقتهم.

وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع، وهي، أي المطلقة الرجعية عندنا، معشر الإمامية، لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية.

فهل في هذا كله مقنع لك في صحة ما ذهبت إليه الإمامية من عدم وجوب الإشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق؟ ! فإن استصوبته حمدنا الله وشكرناك، وإلا فأنا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة، واتباع الحق أينما كان، ونبذ التقليد الأجوف، والعصبية العمياء، أعاذنا الله وإياك منها، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات، إن شاء الله، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة، والأثريات اللامعة، والمآثر الناصعة، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا، ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من:

محمد الحسن آل كاشف الغطاء

ص: 629

ملاحظة: ومن جملة المسائل التي أجدتَ فيها البحث والنظر: مسألة بطلان طلاق الحائض، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق، وهذه الفتوى أيضًا مما اتفقت عليها الإمامية وهي بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة.

* * *

هذا هو نص كتاب الأستاذ شيخ الشريعة، لم أحذف منه شيئًا إلا كلمة خاصة لا علاقة لها بالموضوع، وإنما هي عن تفضله بإهداء بعض كتبه إلي. وسأحاول أن أبين وجهة نظري وأناقش أستاذي فيما رآه واختاره، بما يصل إليه جهدي في عدد قادم، إن شاء الله.

* * *

ص: 630

بين عالمين

نظام الطلاق في الإسلام (*)

نشرت في الرسالة (العدد 157 في 6 يوليو سنة 1936) كتاب أستاذنا الكبير العلامة شيخ الشريعة، إمام مجتهدي الشيعة، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في نقد ما ذهبت إليه في كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) من اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، خلافًا لما ذهب إليه أئمة الشيعة من اشتراطه في الطلاق دون الرجعة، وقد انتصر الأستاذ - حفظه الله - لمذهبهم بأبدع بيان، مما لم نجد له نظيرًا فيما بين أيدينا من كتب العلماء من الشيعة الإمامية.

ووعدتُ أن أناقش الأستاذ فيما أرتأى واختار، وأن أبين وجهة نظري، ملتزمًا ما رسمته لنفسي من شرعة الإنصاف في البحث والنظر "فأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فإما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وإما انتصرت لقولي وزدته بيانًا وتأييدًا، لا أبالي أي ذينك كان". ووفاء بما وعدت، أنشر هنا ما قلته في الكتاب (ص 118 - 121):

"قال الله تعالى في أول سورة الطلاق: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ

(*) العدد 159، أول جمادى الأولى سنة 1355 هـ - 20 يوليه سنة 1936 م، السنة الرابعة.

ص: 631

بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. [الطلاق: 1، 2].

والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: {وَأَشْهِدُوا} . راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا، والأمر للوجوب؛ لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه إلى غير الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب؛ لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل - هو أحد طرفي العقد - وحده، سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مرارًا، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَل المرأة، وحقوق للمرأة قِبَل الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر، فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلًا لا يترتب عليه أي أثر من آثاره".

"وهذا الذي اخترنا هو قول ابن عباس، فقد روى عنه الطبري في التفسير (ج 28 ص 88) قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . عند الطلاق وعند المراجعة. وهو قول عطاء أيضًا، فقد روى عنه

ص: 632

عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. نقله السيوطي في الدر المنثور (ج 6 ص 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (ج 3 ص 456) وكذلك هو قول السدي، فقد روى عنه الطبري قال: في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . على الطلاق والرجعة".

"وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق، وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب (شرائع الإسلام ص 208 - 209 طبعة سنة 1302) ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب، ولا دليل عليه".

"وأما ابن حزم فإن ظاهر قوله في المحلى (ج 10 ص 251) يفهم منه أنه يرى اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وإن لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق، بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط، قال: فإن راجع ولم يشهد فليس مراجعًا؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . فقرن (1) عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد،

(1) في النسخة المطبوعة من المحلى (فرق) وهو خطأ مطبعي واضح من سياق الكلام، وقد صححناه في الكتاب على غالب الظن (لم يفرق) إذ لم نتمكن حين الكتابة من مراجعة النسخ المخطوطة بدار الكتب، ثم رجعت إليها بعد، ففي نسخة المحلى (رقم 45 فقه حنبلى) هذه الكلمة (ففرق) ولكنها غير واضحة النقط، وهي خطأ كالنسخة المطبوعة، وفي النسخة (رقم 15 فقه حنبلي)(فقرن) وهي واضحة الحروف بينة النقط، وهي الصواب، والحمد لله. ونرجو القراء أن يصححوها في المحلى وفي كتابنا.

ص: 633

فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي عدل، أو راجع ولم يشهد ذوي عدل: متعديا لحدود الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".

"واشتراط الإشهاد في الرجعة هو أحد قولي الشافعي، قال الشيرازي في المهذب (ج 2 ص 111): لأنه استباحة بضع مقصود، فلم يصح من غير إشهاد كالنكاح، وهو أيضًا أحد قولي الإمام أحمد، انظر المقنع (ج 2 ص 259) والمغني (ج 8 ص 482) والشرح الكبير (ج 8 ص 472 - 473".

"والقول باشتراط الإشهاد في صحة الرجعة، يلزم منه أنها لا تصح إلا باللفظ، ولا تصح بالفعل، كما هو ظاهر، وهو مذهب الشافعي".

هذا ما قلته في المسألة، وقد ردَّ عليه الأستاذ شيخ الشريعة من جهتين: من لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، ومن جهة الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية، فقال في الوجه الأول: "إن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في طهر المواقعة ولا في الحيض، لزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .

ص: 634

أي إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرُّجعة التي لم تذكر إلا تبعًا واستطرادًا".

وأما أن السورة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى إنها سميت سورة الطلاق: فنعم. ولكن هل معنى هذا أنها مسوقة لأحكام إنشاء الطلاق وإيقاعه: من اشتراط حصوله في قُبُل الْعِدَّة، ومن وجوب الإشهاد عليه، لا غير؟ ! ما أظن أحدًا يرضى أن يدعي ذلك! ولو سميت السورة سورة الطلاق! !

فإن في السورة اثنتي عشر آية فيها نحو من خمسين ومائتي كلمة، لم يذكر فيها من الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق وإيقاعه إلا إحدى عشرة كلمة في الآيتين الأوليين، ثم سيق نصف السورة تقريبًا لبيان الأحكام المتعلقة بالطلاق عامة، من إنشاء وإيقاع، ومن إمساك بمعروف أو مفارقة بمعروف، ومن عدة وإنفاق وإسكان وإخراج وأجرة إرضاع، ومن بيان لحدود الله في الطلاق ووعيد شديد لمن تعداها، ومن ترغيب في تقوى الله والتوكيل عليه، كل أولئك في الآيات السبع الأولى من السورة الكريمة، ثم سيق سائرها لأشياء أخرى ليست لها علاقة بالطلاق.

فهل كل هذا ذكر تبعًا لسبع كلمات في الأحكام الخاصة بإنشاء

ص: 635

الطلاق في الآية الأولى، والأربع كلمات في الآية الثانية؟ ! كلا! أنها سورة الطلاق، ذكر فيها كثير من أحكامه عامة، وسيق نحو نصفها لإرشاد الرجال إلى ما يجب عليهم عند الطلاق وبعده، وكل ذلك أصل مقصود، لم يذكر شيء منه تبعًا ولا استطرادًا.

ولو قرأ القارئ الآيتين الأوليين بأناة وروية، وتأمل فيهما، على ما تقتضيه الفطرة العربية المستقيمة والذوق السليم، لتبين له أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الأشياء الثلاثة المذكورة في الآيتين، وهي الطلاق: أي إنشاؤه، والإمساك بالمعروف: أي الرجعة، والمفارقة بالمعروف: أي إنفاذ الطلاق بتسريحها بإحسان عقيب انقضاء عدتها، وأنه لو كان المراد الأمر بالإشهاد عند إنشاء الطلاق فقط لكان موضع ذكره في صدر الآية الأولى عند قوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . أما تأخيره بعد ذكر الإمساك أو المفارقة، فإنه صريح في عودته إلى جميع ما تقدم عليه.

وهذا هو الذي فهمه أكثر العارفين باللغة والمتمكنين منها، ولم يستهجن أحد منهم عوده إلى الرجعة، ولا ادعى أنها ذكرت تبعًا واستطرادًا، فابن عباس وعطاء والسدي وغيرهم فهموا أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معًا، ولذلك قال ابن حزم:"فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض".

وكذلك قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من أعلم

ص: 636

الناس باللغة وأفصحهم، فقد قال في كتاب الأم (ج 5 ص 226):"ينبغي لمن راجع أن يشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يقر بذلك؛ أو يموت قبل أن تعلم الرجعة بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعة في العدة، ولئلا يتجاحدا أو يصيبها فتنزل منه إصابة غير زوجة".

وقال محمد بن جرير الطبري في التفسير (ج 28 ص 88): "وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو الرجعة".

وقال العلامة جار الله الزمخشري في الكشاف (ج 2 ص 403: "وأشهدوا، يعنى عند الرجعة والفرقة جميعًا، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وقيل: فائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث".

وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج 8 ص 282): "وأشهدوا: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك. وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . وعند الشافعية واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: وأشهدوا، يريد به على الرجعة فقط، والإشهاد شرط في صحتها، فلها منعه من نفسها

ص: 637

حتى يُشْهِدَ. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع من النوازل أشكالًا كثيرة".

وبنحوه قال سائر المفسرين، حتى لقد قال العلامة أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي المفسر من كبار أئمة الشيعة الإمامية، المتوفى سنة 548 في تفسيره مجمع البيان (ج 2 ص 430 طبع إيران):{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة، ولا الرجل الطلاق.

وقيل معناه: وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا، وهذا أليق بالظاهر؛ لأنا إن حملناه على الطلاق كان أمرًا يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحة الطلاق، ومن قال: إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب".

فهذا الإمام الشيعي لا يرى مانعًا من جهة اللغة والسياق، أن يرجع الأمر بالإشهاد إلى الرجعة وإلى الطلاق معًا، ويتأول ذلك أو يدعي أن الظاهر رجوعه إلى الطلاق فقط، انتصارًا لمذهب الأئمة من أهل البيت في اشتراطه الطلاق دون الرجعة.

ومع ذلك فإن مذهب الإمامية أن الإشهاد على الرجعة مندوب إليه مستحب، نص على ذلك في كتبهم في مواضع مختلفة.

وقد ورد في رواياتهم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في

ص: 638

بيان طلاق العدة أنه: "إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة، فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها، ثم يطلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين، ويراجعها، يومه ذلك إن أحب، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها

إلخ". نقله الطبرسي في التفسير، وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في التهذيب، والإمام السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي في كتاب "من لا يحضره الفقيه" وغيرهم، فهذا يدل على أنهم يرون أن الأمر بالإشهاد في الآية راجع إلى الرجعة كما هو راجع إلى الطلاق، وإن كانوا لا يشترطونه في صحة المراجعة، فذاك لشيء آخر وهو اتباع الأئمة من أهل البيت، ولولا أن الأمر راجع إليهما لما كان لديهم دليل على استحباب الإشهاد في الرجعة، ولما قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: "ويشهد على رجعتها". فإنه لم يرد طلب الإشهاد فيها في شيء من القرآن إلا في هذه الآية، ولم يرد أيضًا في شيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد ورد في أقوال الصحابة والتابعين، كما نقلنا عن ابن عباس وغيره.

وكما روى أبو داود (ج 2 ص 257)، وابن ماجه (ج 1 ص 319) عن مطرف بن عبد الله:"أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: طلقت لغير سنة، ورجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد". وروى البيهقي في السنن الكبرى

ص: 639

(ج 7 ص 373) نحوه من طريق ابن سيرين عن عمران بن حصين، وإسناده عند أبي داود إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (ص 228).

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن نافع قال: "طلق ابن عمر امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها".

فعبد الله بن عمر فهم من الآية أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الرجعة؛ ولذلك أشهد على رجعة مطلقته، وعمران بن حصين فهم ذلك أيضًا، وأنكر على من طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد واعتبره مخالفًا للسنة؛ إذ خالف ما أمر به في القرآن، وهما عربيان يفهمان لغتهما بالفطرة السليمة، قبل فساد الألسنة، ودخول العجمة على الناس.

وأنا إذ أحتجُّ بأقوال من نقلتُ قولَهم من الصحابة والتابعين والمفسرين، فإنما أحتج بها من وجهة الدلالة العربية وفهم مناحي الكلام في الآيات الكريمة، لا من جهة الرأي الفقهي الاستنباطي، فقد اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، فبعضهم يرى وجوب الإشهاد على الطلاق وحده ويجعله شرطًا في صحتها، وبعضهم يراه مستحبًّا على الرجعة وحدها ويجعله شرطًا في صحتها، وبعضهم يراه مستحبًّا فقط في الأمرين، وبعضهم يراه واجبًا فيهما ولا يراه شرطًا في صحة واحد منهما، كما يفهم من كلام عمران بن حصين.

ص: 640

وأما الذي أراه وأذهب إليه، فهو وجوب الإشهاد في الأمرين جميعًا وأنه شرط في صحة كل منهما؛ لأنه ثبت من دلالة الآيتين في أول سورة الطلاق أن الله سبحانه أمر الرجلين بالإشهاد عند الطلاق وعند المراجعة؛ والأمر في حقيقته دائمًا للوجوب، ولا يدل على الندب إلا دلالة مجازية؛ والمجاز لا يراد من الكلام إلا بوجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، ولا قرينة هنا أبدا تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وإن ادعى الشوكاني في نيل الأوطار ذلك؛ إذ قال (ج 7 ص 43 - 44):"ومن الأدلة على عدم الوجوب؛ أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان". وما أكثر دعوى العلماء الإجماع، خصوصًا في مسائل الطلاق! ! وهي دعوى عريضة، يدعونها في كثير من المواطن إذا ما غلبتهم الحجة وأعوزهم البرهان، وليس لهم عليها أي دليل! كما قلت في (نظام الطلاق) وبينت هناك المعنى الصحيح للإجماع "لكثرة إرجاف المرجفين بدعوى الإجماع في الطلاق، ليرعبوا العلماء المجتهدين الصادقين المخلصين، ويصرفوهم عن البحث فيه، أو يؤلبوا عليهم العامة والغوغاء، فتحاماه أكثرهم وأحجموا عنه، إلا من ثبّت الله قلبه وأيده بروح من عنده"(ص 96 - 103).

* * *

ص: 641