الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين الذين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل. فكان حقًّا عليها - حتى لا تتخلف عن السير في ركب الحضارة - أن تسائل نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي، تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة، أَوَ ليستِ المرأة تزاول مهنة المحاماة طبقًا للقوانين التي وضعتها وزارة العدل؟ وما هي الفوارق بين المحاماة في صفوف الدفاع عن الأفراد، والمحاماة في صفوف الدفاع عن الحكومة.
(ثم طلبت المدعية تحديد جلسة يحكم فيها بإلغاء القرار الخاص برفض طلب تعيينها معاونة للنيابة، أو محامية في إدارة القضايا الحكومية).
وجاء في جريدة المصري الصادرة صباح يوم الثلاثاء 18 صفر سنة 1370 (28 نوفمبر سنة 1950) ما نصه:
(حقوق المرأة أمام القضاء)
(تنظر أمام محكمة القضاء الإداري غدًا القضية التي رفعتها الأستاذة عائشة راتب على مجلس الدولة من أجل الاعتراف بمبدأ قبول خريجات كلية الحقوق من الفتيات في وظائفه.
(وقد سبق أن أشارت الصحف إلى دعوة الأستاذة عائشة راتب إلى العمل بمجلس الدولة ونجاحها في الامتحان الذي فرض عليها، وموافقة جميع المستشارين على قبولها فيه، ثم رفض طلبها بدون إبداء أي تبرير قانوني، وقد قابلت الآنسة عائشة وسألتها عن أملها في كسب هذه القضية الهامة؟ فقالت: إنها تعتقد أن هذه القضية ليست قضية شخصية تتعلق بمصالحها الخاصة، وإنما هي قضية إنسانية عامة، متعلقة بحقوق المرأة المصرية العادلة المهضومة، وعبرت الآنسة عائشة عن آمال جميع خريجات كلية الحقوق اللائي يناضلن منذ وقت طويل من أجل قبولهن في مناصب الحكومة التي ما زالت مغلقة أمامهن، في مجلس الدولة وإدارة قضايا الحكومة والقضاء والسلك السياسي).
وأنا لم أقرأ صحيفة الدعوى التي تقدمت بها المدعية، ولكن إذا صدق الملخص الذي نقلته عنها ومجلة (أخبار اليوم) استطعنا أن نحدد الاتجاه الذي تتجه إليه المدعية ومحاميها في توجيه دعواها.
وهو اتجاه طيب جدًّا! ! وقد تعجبون أن أقول هذا، ولكني أقوله وأقصد إلى معناه وأصر عليه! لأنه اتجاه يكشف عما يراد بالإسلام مصارحةً، دون مواربة أو نفاق!
فقد يذكر كثير من القراء، وخصوصًا أترابنا وأندادُنا في السن، الذين أدركوا بدء الحركة الملعونة: حركة السفور وحركة تحرير المرأة، وما أحاطها بها دعاتها وفي مقدمتهم قاسم أمين، والذين
كانوا من ورائه، واللائي كن من ورائه يدفعونه ويَدْفَعْنَه إلى تَقَحّم المهالك، ويتساقطون ويتساقَطْن فوقه في الهوة كالذباب، أحاطها هؤلاء ومن تبعهم ومن جاء من بعدهم بسياج قويّ برّاق من المداورة والنفاق، يزعمون أنهم لا يريدون الخروج على الإسلام، وأنهم إنما يبغون تفسيره بما لم يعلمه مَنْ قبلهم من العلماء الجهلاء والأئمة الجامدين! ! وأنهم إنما يريدون له النقاء والصفاء، وإزالة ما غَشَّى وجهَه من أكدار تراكمتْ عليه بمر العصور، وتعريضه للضوء والنور: نور أوربة، حتى يُعجب الخواجات!
زعموا أنهم لا يرمون إلّا إلى السفور: سفورِ الوجه فقط، لا سفورِ الصدور، ولا سفورِ النهود والظهور، ولا سفورِ شيء مما وراء ذلك، مما يراه الناس عيانًا في كل حَفْل وناد، بل يَرَوْن بعضه أو كثيرًا منه في المدارس والمعاهد، بل يرون شيئًا منه في المساجد والمعابد.
ثم جاءت هذه البُنَيَّة المدعية، فكشفت الستار كلَّه عن مقاصد هؤلاء الدعاة الذين كانوا يجمجمون ولا يكادون يصرحون بالأصل الذي إليه يقصدون، وإن كانوا لَيَفْعلون ويفعل مَنْ وراءهم، من المبشرين وأتباع المبشرين، وأبناء المبشرين، ومِن وراء أولئك المستعمرون المستترون والظاهرون: الذين يريدون استعباد المسلمين الأعزة، وهم يعلمون أنهم لا يصلون إلى ذلك إلا أن يقلبوهم أذلة بانتزاع هذا الإسلام، الذي أعزهم الله به من قلوبهم حتى يصيروا أذلة، والذين مهما يَنْسَوا فلا يَنْسَوا ثأر (لويس التاسع) الذي أسره
المسلمون في مدينة (المنصورة) وحبسوه في (دار لقمان) ولا ينسوا ثأر هزائمهم المتوالية في الحروب الصليبية في مصر والشأم، وطردهم من بيت المقدس إلى آخر ما يعرف الناس عامة إجمالًا أو تفصيلًا.
هذه المدعية صرحت بما يريدون، بأوضح عبارة تكشف عن مقاصدهم وأقساها، ووضعت الأمر كله بين يدي هيئة قضائية من أكبر هيئاتهم، إن لم تكن أكبرها وأعلاها فقد كانوا من قبل يعلمون على هينة وفي لين، وإذا تحدثوا عن ذلك تحدثوا بحكمة وتحوط حتى لا يثور عليه المسلمون غيرة على دينهم! فإذا ما تحدث منهم متحدث ألان القول ومهد له حتى لا يكاد القارئ المتوسط يشعر بما وراء ذلك من خطر على الدين وتدمير.
ولا أكاد أذكر قولًا صريحًا لواحد منهم، إلا كلمة رقيقة لينة تناسب الهوينى انسياب الأفعى، لرجل من كبار رجالهم ممن له مظهر إسلامي، أو ممن كان له مظهر إسلامي على الصحيح، قال في كلمة نشرت في صحيفة إسلامية! ! واسعة الانتشار، في أواسط سنة 1368 (أوائل سنة 1949) قال فيها مما قال:(ولا يخفى أننا في مصر نجري في حكمة واعتدال! ! على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة)! !
ولست أدعي أن هذه الكلمة هي أصرح ما قالوا من هذا اللون من القول، ولا أنهم لم يقولوا مثلها مرارًا، فإن مقدرتي على الاطلاع وعلى القراءة محدودة، ولكني أستطيع أن أجزم بأني لم أقرأ، أو على
الأقل لا أذكر أنني قرأت مثلها في التصريح بما ينون ويعتزمون.
وإن كنت واثقًا منذ عقلت الدين، وفقهت الأوضاع السارية في بلدنا أن هذا هو المرمى والمآل من قبل أن نولد، بل من قبل أن يولد آباؤنا.
ثم جاءت هذه الدعوى، تضع الأمر كله على المنصة بين يدي القضاء، تعرض الموضوع من أوله (هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ )
وهذه أسئلة في الصميم، لا تستطيع المدعية ولا محاميها، بل لا يستطيع من هو أكبر منهما وأعلم من رجال القانون وغيرهم أن يجيبوا إلا بالسلب، بل أنا لا أستطيع أن أجيب إلا بالسلب! فليس في مصر حكومة دينية، والحكومة القائمة - أعني نظم الدولة - لا تطبق المبادئ الشرعية حقًّا وصدقًا، بل لا تطبقها كذبًا وزورًا، بل أقول أكثر من هذا: إن النص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام لا يمثل حقيقة واقعة، إنما هو خيال ووهم كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوربة في الخيال والتمثيل، والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف.
ذلك بأن المبشرين والمستعمرين وأتباعهم وأنصارهم ربوا فينا أجيالًا متتابعة، ينزع الدين منها تدريجيًّا، وتقلب حقائقه في النفوس والعقول، على مبادئ الثورة الفرنسية وغيرها من مبادئ الهدم والإلحاد، حتى لقد وضعوا على ألسنة العلماء أنفسهم أنهم (رجال
الدين) يضاهئون بذلك (رجال الدين) هناك، ليمكن يومًا ما أن يقال ما قالته هذه المدعية (فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة)! ! وليمكنها أن تقول أيضًا: (وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل)! ! بل ليمكنها أن تدعي أن مثل هذا يكون سببًا لأن (تتخلف عن السير في ركب الحضارة)! !
فالمدعية ومحاميها وأمثالهما، وكبراؤهم وزعماؤهم، يرون ما تراه أوربة، أو يرون ما فهموا أنه رأي أوربة، بل يغلون في ذلك أكثر من غلو سادتهم، فيزعمون أن دخول الدين في الحكم والمسائل الاجتماعية تخلف عن ركب الحضارة! ! فيجهلون بديهيات الإسلام ومزايا دينهم القويم، ويرون أنهم إذا تمسكوا به وخضعوا لأحكامه تخلفوا عن ركب الحضارة! فلا يكون هناك خمر ولا رقص ولا سفور ولا فجور، ولا اختلاط الشبان والشابات في المدارس والجامعات، والقهاوي والندوات، والصيد والقنص، والخلوات في الصحاري والسيارات! فإذا فقدوا هذا وأمثاله، فماذا بقي لهم من مقومات الحضارة؟ !
وأعجب من ذلك وأغرب: أن المدعية بلسان محاميها، تسب دينها هذا السب المقذع، ثم تصفه بأنه (الحنيف) ولم تكن بها حاجة إلى هذا التكلف والتناقض، وكان أقرب إلى منطق كلامها أن تصفه
بوصف يناسب دينًا يتخلف المستمسك به عن ركب الحضارة! !
ثم كان من المغالطات الكبرى أنهم بما أودع في نفوسهم من معارف ملتوية، وبما أشربته قلوبهم من فقه لدين أوربة ووثنيتها وثورتها، بل وحضارتها، أنهم فهموا الإسلام على غير وجهه، وظنوه دين عقيدة وعبادة فقط، بل ليتهم أخذوا به على المعنى الذي فهموا، وإن كان خطأ أو نقصًا، إذن لسار بهم الدين (الإسلامي الحنيف) في سبيل الحق والهدى، حتى يعرفهم بما استمسكوا به من عقيدة وعبادة - لو كانتا - بأنه ليس كما رأوا عند أوربة ودرسوا، ولعرفهم أنه (دين ودولة) وحكم وسياسة وقضاء وولاية) وإذن لعرفوا معنى ما نقلناه عن الحافظ ابن كثير في الكلمة الماضية، أن من قدم أي قانون أو أي رأي على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله (فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)(1)، وهذا شيء بديهي معلوم من دين الإسلام بالضرورة لا يعذر بجهله أحد، أيًّا كانت منزلته من العلم أو الجهل ومن الرقي أو الانحطاط.
وليس هذا الخطأ من المدعية أو محاميها، وممن وراءهما من رجال ونساء قاصرًا على بلادنا، إنه ليكاد يكون عامًّا في أكثر المتعلمين المثقفين في بلاد الإسلام خصوصًا البلاد التي خضعت لسيطرة المستعمرين يدفعهم المبشرون، وعامًّا في البلاد التى سايرت (ركب الحضارة) الإفرنجية المتعصبة ضد الإسلام، فتجد في بعض ما
(1) مجلة الهدي النبوي، العدد 2، من السنة 15، شهر صفر سنة 1370، ص 13.
يقول الكبراء التناقض العجيب المدهش، كمثل ما نقلت إحدى الصحف الأُسبوعية في عددها الصادر يوم الجمعة 7 صفر 1370 (17 نوفمبر 1950) عن ضيف كبير من ضيوف مصر، هو (سعادة السيد تمييز خان رئيس التأسيسية بالباكستان) نقلت عنه تلك المجلة أنه قال:(إن الباكستان دولة إسلامية، ولكنها ليست دولة دينية؛ لأن الدولة التي تقوم على تعاليم الدين الإسلامي غير الدولة التي يتولى الحكم فيها رجال الدين).
فهذا رجل عظيم من أمة إسلامية عظيمة، أعرف أنا أنها تحرص على أن يكون تشريعها من دينها الحنيف، دين الإسلام، سواء أصابت في التطبيق أم أخطأت، فكل إنسان عرضة للخطأ، وهذا الرجل العظيم لم يسبق لي التعرف إليه حتى أحكم في شأنه حكمًا صحيحًا، ولكني أظن أنه أعلم بدينه وقوانين أوربة من المدعية وأمثالها، وها هو ذا يخطئ في مثل هذه الدقائق - إذا صح ما نقلته عنه المجلة فيعقد فرقًا بين (الدولة الإسلامية) و (الدولة الدينية) وهو فرق باطل كأنه فرق اصطلاحي فقط فإن كل مسلم يعرف أن (الإسلام دين) بل يعتقد المسلمون بنص ما أنزل الله عليهم في كتابه أن الدين عند الله الإسلام ويظن سعادته - تقليدًا لاصطلاح إفرنجي - أن في الإسلام شيئًا يسمى (رجال الدين)! !
ولطالما حاولتُ نقضَ هذه الأسطورة؛ أسطورة وجود شيء في الإسلام يدعى (رجال الدين)! ! من ذلك ما قلته في محاضرة أعددتها
لألقيها يوم 6 ربيع الأول سنة 1360 (3 أبريل 1941) ومنعني من إلقائها الوزير القائم على الأحكام العرفية الإنجليزية إذ ذاك، وهو حسين سري باشا رئيس الوزراء، وكان مما قلت فيها عن آثار القوانين الإفرنجية في نفوس متعلميها:
"كان لها أثر بيِّنٌ بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليمًا مدنيًّا، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها، ولما وضعت من نظم وقواعد ومبادئ، يرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم، وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصًا محكمًا قطعيًّا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسمًا اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى رجال الدين، بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا"(1).
ولقد أخطأ هذا الرجل الكبير (رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان) خطأ آخر - إن صدق ما نقلته عنه تلك المجلة - أخطأ في ظنه أن الدولة الدينية هي التي يتولى الحكم فيها رجال الدين! !
(1) هذه المحاضرة الممنوعة نشرناها في مجلة الهدي النبوي في العدد 6، من المجلد 5، ثم نشرتها مع بحث آخر في كتاب (الشرع واللغة) المطبوع بدار المعارف بمصر، والفقرة التي هنا في (ص 71) منه.
فما أظن أن أحدًا يقصد إلى هذا أو يرمي إليه، حتى ممن يسمونهم غلطًا (رجال الدين)؛ لأن غاية كل مسلم يفقه الإسلام ويعرف حدوده وحقائقه، أن يحكم المسلمون بتشريعهم، بل أن يجاهدوا في سبيل الله حتى يحكموا به العالم كله إذا استطاعوا، وأن يعملوا على نشره في الأمم الإسلامية أولًا على حقيقته النيرة النقية، وأن يتعلمه الذين يملكون السيطرة على شؤون الدولة في بلاد الإسلام، والذين يَلُون فيهم الأحكام، فإذا ما كان ذلك كانوا أيضًا (رجال الدين) أيًّا كان لونهم من أنواع العلوم الأخرى، حتى هذه القوانين الآثمة التي ضربت على المسلمين لإذلالهم ومحو دينهم في عقر دارهم، فإن المعرفة بها إذ ذاك لا تضر، بل لعلها قد تنفع في الموازنة بين التشريع المبني على الوحي الصحيح الصادق من عند الله، وبين الأهواء والأكاذيب بل السخافات (في بعض الأحيان) التي تبنى عليها القوانين الوثنية الملحدة، ! ! ولقد صدق الله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (1).
وقد أوضحت هذا المعنى وما إليه، بأقوى ما أستطيع من بيان في تلك المحاضرة المصادرة إذ ذاك، وكانت للدعوة إلى أن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر) وهذا هو عنوانها وموضوعها الذي أعدت من أجله فقلت فيها:
"وأريد أولًا أن أقول كلمةً تَرفع شبهةً عن دعوتنا، فإني عُرِفتُ بين
(1) المائدة: 49.
إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤول دعوتي إلى نحو من هذا المقصد.
"كلا فإن الأمر أخطر من ذلك، ومقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعًا بين طائفتين، أو تنحارًا بين فريقين، إنما نريد رفع ما ضرب على المسلمين من ذل، وما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه القوانين الأجنبية".
"إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعو الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (1). {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (2).
"ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم فليحكم بها فلان أو فلان. لسنا نريد إلَّا وجه الله"(3). هذا ما قلته ولا أزال أقوله، وأعتقد أن كل داع إلى العمل بالشريعة الإسلامية يقوله: وأظن أنه يرفع كل شبهة عن دعوتنا الحقة الصادقة المخلصة، ولا يدع مجالًا لمن يعادي التشريع الإسلامي، ممن
(1) النور: 51.
(2)
الأحزاب: 36.
(3)
ص 87 - 88 من كتاب (الشرع واللغة).
أُشرِبوا عقائد الإفرنج أن يظنوا حالنا كحال أوربة قبل موجة الإلحاد، التي قامت هناك لتدمير سلطان رجال الدين عندهم وطغيانهم، ثم لا يَدَعُ مجالًا لأن يقول ما قالته المدعية وما قاله أمثالها من قبل، من الفرق في الإسلام بين شؤون الاجتماع وشؤون الحكم وشؤون المعاملة وغيرها وبين الدين، فكل ما يفعل الناس وما يرون وما يعتقدون، وما يأخذون وما يدعون، داخل في حكم الإسلام وخاضع لسلطانه، رضي هؤلاء وساداتهم من المستعمرين والمبشرين أم أبوا؛ فالإسلام واضح بين لكل من أراد الهُدى، وهو كما قلت في تلك المحاضرة (لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبي من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله)(1).
ولذلك صارَحْتُ الأمةَ كلَّها حينذاك ورجالَ القانون خاصة، بالدعوة إلى وضع تشريع جديد على مبادئ الكتاب والسنة وفي حدود قواعدها، متعاونين متساندين جميعًا وصارحت رجال القانون بأننا سنعمل بالطريق السلمي للوصول إلى الحكم دونهم إذا أبوا أن يضعوا لهذه الدعوة الحقة لإعادة سلطان الإسلام في بلاد المسلمين، وبأني سأدعو العلماء عامة، من رجال الأزهر، ورجال مدرسة القضاء، ورجال دار العلوم (وسيستجيبون لي وسيحملون عبء هذا العمل العظيم وسيرفعون راية القرآن بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام) وبينت لهم السبيل الذي نسلكه أنه
(1) ص 66 من كتاب (الشرع واللغة).
(السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارًا. بل سنجعل من إخفاقنا إن أخفقنا في أول أمرنا مقدمة لنجاحنا، بما يحفز من الهمم ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصرًا لنا مواقع خَطْوِنا، ومواضع خَطَئِنا، وبأن عملنا سيكون خالصًا لله وفي سبيل الله)(1).
وهأنذا قد صارحتهم بذلك منذ عشر سنين أو نحوها، وما أظنهم صارحونا بقريب مما فعلنا، فيما أعلم، إلا النفاق والمداورة، ومدح الإسلام والتظاهر بالدفاع عنه والغيرة عليه مع تنحية أحكامه عن كل شيء في الدولة، أو تغيير أحكامه بالتأويل الكاذب، والفهم الباطل، ليقربوه من أروبة التي هم لها خاضعون، حتى يكون (إسلامًا إفرنجيًّا)! !
حتى جاءت هذه المدعية فكشفت عن الأمر كله، لتقرر علنًا وصراحة أن هذا البلد ليس بلدًا إسلاميًّا، وأنه لا يجوز أن ينظر فيه إلى (المسائل الاجتماعية) زعمت! ! نظرة إسلامية. وعن ذلك أعجبتني دعواها هذه الواضحة الصريحة حتى يعرف المسلمون ماذا يراد بدينهم، من غير أقلامنا، ومن غير أشخاصنا.
وأما شأن المدعية نفسها، فيما تطلب من المحكمة أن تحكم لها به، فلا أعبأ به، ولا يهمني في قليل أو كثير ولا من قريب ولا من بعيد، أن يحكم لها بما طلبت، فتدخل في مناصب القضاء، أو
(1) ص 91 - 92 من كتاب (الشرع واللغة).
ترفض دعواها! لأني قلت من قبل إن ولاية الرجال أنفسهم هذا القضاء (باطلة بطلانًا أصليًّا، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة)(1) فلا يزيده بطلانًا - في نظري - أن تتولاه امرأة، أو يتولاه شخصًا ما أيًّا كان لونه أو صفته، فالأمر عندي فيه سواء.
أما بعد: فإنه أثناء كتابة هذه الكلمة، نظرت المحكمة هذه القضية بجلسة يوم الأربعاء 19 صفر سنة 1370 (29 نوفمبر سنة 1950) برئاسة المستشار (سعادة السيد علي السيد بك) ولخصت جريدة المصري في اليوم التالي (الخميس (20 صفر) بعض ما دار في الجلسة، فذكرت أنه حضر فيها (سيزا نبراوي وكيلة الاتحاد النسائي، وأعلنت انضمام الاتحاد للمدعية طرفًا ثالثًا في القضية، ووقف محامي الحكومة وطالب برفض انضمام الاتحاد؛ لأنه ليس له مصلحة مباشرة في هذا، ورد رئيس الجلسة بأنه يعتقد أن الاتحاد يرى أن هذه القضية هي قضية الجنس، وأن الحكم فيها يتعلق بمستقبل المرأة المصرية عامة)، ثم ذكرت الجريدة أن القضية أجلت لجلسة 30 يناير سنة 1951 للمرافعة.
وليس لنا أن نتحدث في قبول ما يُدْعَى (الاتحاد النسائي) خصمًا ثالثًا في الدعوى أو عدم قبوله، فهذا شيء من اختصاص المحكمة وحدها، تفصل فيه بما ترى، بعد سماع المرافعة من طالب الدخول
(1)(كلمة الحق)، رقم 2، ص 15، من عدد شهر صفر سنة 1370 من مجلة (الهدي النبوي).
ومن المعارض فيه، ولكنا نتحدث عما يدل عليه طلب الدخول في ذاته، وأنه يؤيد كل حرف قلناه من قبل، ويكشف عما يراد بالتشريع الإسلامي كشفًا واضحًا.
وإذا كان لي أن أقترح، فإني أقترح على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وهو من نعرفه علمًا ودينًا وتقوى وغيرةً على الإسلام بشخصه أولًا، وبوصفه شيخًا للأزهر ثانيًا، وبوصفه رئيسًا لأكبر هيئة علمية إسلامية رسمية، وهي جماعة (كبار العلماء)، ثالثًا أن يرسل محاميًا يتدخَّل في هذه القضية بلسان فضيلته ولسان الأزهر، خصمًا ثالثًا أيضًا؛ لأنه يرى، فيما نعتقد جميعًا، أن هذه القضية قضيةُ الإسلامِ وشرعتُه قبل أن تكون (قضية الجنس) وليدفع عن الإسلام ما يريده به هؤلاء النسوة، اللائي لا يعرفن من الإسلام إلَّا ما أَخذْنَه عن (الخواجات وأمثال الخواجات)، واللائي يُرِدْن الانطلاق، لا يُرِدْن غيره، وليدفعَ عن الإسلام ما قد يقوله أنصار (النسوان) من نقد أو تأويل بالباطل أو افتراء.
ولست أدري أيلقى اقتراحي هذا قبولًا أم إعراضًا، ولكنني إذا لم أجد لاقتراحي صدًى، فسأفكر في التدخل في القضية بنفسي، خصمًا ثالثًا، بوصفي من العلماء القدماء، بالسن على الأقل، وبوصفي مجاهدًا طول حياتي ضد الحركة النسوية الخاصة، وضد مهاجمي الإسلام والمتلاعبين به عامة، وإن كان هذا التدخّل فوق مقدوري علميًّا وماليًّا، ولكني سأحاول ما استطعت إن شاء الله.