المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هؤلاء أن الرسول ادعى أولًا أنه مرسل إلى جميع الأمم، - جمهرة مقالات أحمد شاكر - جـ ٢

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌مَسائلُ عِلْمِيَّةٌ

- ‌في لسان العرب

- ‌تعريب الأعلام2

- ‌من بدع القبور

- ‌موقعة الجمل

- ‌تعليق على كلام عبد الرحمن الوكيل على بدعة المحمل

- ‌فوائد شتى

- ‌العمل بالحديث الصحيح

- ‌الفقه في الدين والاجتهاد

- ‌السؤال عما لم يقع

- ‌معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

- ‌نشوء علم الفلسفة

- ‌كتاب المهذب للذهبي

- ‌كتاب الجمع بين الصحيحين

- ‌فصل

- ‌سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة

- ‌الجعاظرة الجوّاظون

- ‌القول الفصل في مسَّ المرأة وعدم نقضه للوضوء

- ‌(باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة)

- ‌ولاية المرأة القضاء

- ‌ولاية المرأة القضاء - مَرَّةً أخرى

- ‌(هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ )(وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية

- ‌(حقوق المرأة أمام القضاء)

- ‌الرقص والطيب للنساء

- ‌في تعليم النساء وصلاتهن في المساجد

- ‌نظامُ الطَّلاق في الإسلامِ

- ‌نظام الطلاق في الإسلام (*)[بقية المقال المنشور في العدد السابق]

- ‌تراجم وأعلام

- ‌أستاذنا الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا

- ‌محمد شاكر

- ‌نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح

- ‌مناسبات

- ‌استقبال شهر رمضان

- ‌تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين

- ‌بمناسبة الإشراف على مجلة (الهدي النبوي)

- ‌لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌أهم تعقبات الشيخ أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف

- ‌المادة: أسامة بن زيد بن حارثة

- ‌المادة: استحسان

- ‌المادة: استسقاء

- ‌المادة: استصحاب

- ‌المادة: إسماعيل

- ‌المادة: الأشعث

- ‌المادة: أضحى

- ‌المادة: اقتباس

- ‌المادة: إقرار

- ‌المادة: الله

- ‌المادة: إمام

- ‌المادة: أمة

- ‌المادة: أمة

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أم الولد

- ‌المادة: أمي

- ‌المادة: إنجيل

- ‌المادة: أنس بن مالك

- ‌المادة: الأنصار

- ‌المادة: أهل البيت

- ‌المادة: أهل الحديث

- ‌المادة: أهل الحق

- ‌المادة: أهل الصُّفة

- ‌‌‌المادة: بحيرا

- ‌المادة: بحيرا

- ‌المادة: براق

- ‌المادة: برزخ

- ‌المادة: برصيصا

- ‌المادة: برنك سَبِل

- ‌المادة: بُسر

- ‌المادة: بسملة

- ‌المادة: بعل

- ‌المادة: البغوي

- ‌المادة: البغوي

- ‌المادة: بئر معونة

- ‌المادة: البيهقي

- ‌المادة: تابع

- ‌المادة: تأويل

- ‌المادة: التجارة

- ‌المادة: التجارة

- ‌‌‌المادة: الترمذي

- ‌المادة: الترمذي

- ‌المادة: تسنيم

- ‌المادة: التشريق

- ‌المادة: التشريق

- ‌‌‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقليد

- ‌المادة: التقية

- ‌المادة: التلبية

- ‌المادة: تميم الداري

- ‌المادة: الجاهلية

- ‌المادة: جبريل

- ‌المادة: الجمرة

- ‌المادة: الجمعة

- ‌المادة: الجن

- ‌المادة: الجنة

- ‌المادة: الجهاد

- ‌المادة: جهنم

- ‌المادة: الحديبية

- ‌المادة: الحديث

- ‌المادة: الحسن بن علي

- ‌المادة: الحسن بن علي بن أبي طالب

- ‌المادة: الحسين بن علي

- ‌المادة: حفصة

- ‌المادة: حمزة بن عبد المطلب

- ‌المادة: خديجة

- ‌المادة: الخطبة

- ‌المادة: الزهري

- ‌المادة: تعليق

- ‌المادة: سروال

- ‌المادة: السعي

الفصل: هؤلاء أن الرسول ادعى أولًا أنه مرسل إلى جميع الأمم،

هؤلاء أن الرسول ادعى أولًا أنه مرسل إلى جميع الأمم، ثم رجع عن ذلك في المدينة واقتصر على الأميين فقط؟ !

‌المادة: إنجيل

الجزء: 3/ الصفحة: 24

تعليق ونقد أحمد شاكر على مادة (إنجيل) في دائرة المعارف:

بعد نقد أغلاطه تفصيلًا في مواضعها لم أقرأ فيما قرأت من مقالات "دائرة المعارف الإسلامية" مقالًا مضطربًا كهذا المقال.

فإن كاتبه خلط فيه خلطًا غريبًا؛ فشرَّق وغربٌ، وأسهب وأوجز، وأشار وصرح، وهو يدور في حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها، ولا يعرف كيف يخرج منها، وقد وضع نصب عينيه غاية يرجو الوصول إليها، ثم يعجز عن إدراكها؛ إذ كانت خيالًا يضطرب في ذهنه، ليس لها وجود في حقائق التاريخ، فهو يحاول أن يثبت أن الدين الإسلامي مقتبس من الكتب التي يسمونها عندهم "أناجيل"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على علم بها أو بشيء منها، فجاءت في القرآن أشياء من الإنجيل كما يزعم، وأن المسلمين عرفوا هذه الكتب، فذهبوا ينقلون عنها علومهم ودينهم، ويفترون الأحاديث بمعاني ما عرفوا منها على نبيهم، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصحيحة، ولم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحية خالصة، وإنما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النصرانية" وأن الشعراء

ص: 776

عند ظهور الإسلام كانوا يترددون على الحيرة "فنقلوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص في حاناتها" إلى آخر ما تهافت فيه ليرجعه إلى شيء واحد سماه "المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره".

ثم ذهب يضطرب به القول؛ فتارة يشير إلى بعض آيات من القرآن فيها ذكر مريم وعيسى وغير ذلك، مما يظن أنه يتفق والمروي عندهم أو يخالفه، وتارة يذكر "الطب وأعمال الحكومة" وأنها من الوسائل التي وثقت الصلات بين المسلمين والنصارى، وتارة يذكر بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأحاديث الصحيحة؛ ليحاول أن ينسبها إلى أصول عندهم، حتى يتهيأ له أن يشكك القارئ، ثم يوهمه أن المسلمين أخذوها عن النصارى ونسبوها إلى نبيهم على أنها معجزات له، ثم يزداد اضطرابا، فيذكر بعض مؤرخي المسلمين ويصفهم بأنهم "كانوا على علم واسع بالإنجيل" ويحرف في تلخيص كلامهم حتى يوقع في نفس القارئ أنهم كانوا يحتجون بهذه الأسفار، ويعتبرونها مصادر صحيحة لبعض التاريخ، ثم يناقض نفسه فينقل عن البيروني أنه قال:"لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه" ويغلبه ما يجد في نفسه من الحرص على رأيه حتى يغفل عن خطأ من الناسخين في نسخة البيروني فينسب إليه أنه كان يعرف تفسير الإنجيل لرجل اسمه "داذ يشوع" وهو شخص لم يوجد قط، وإنما أتى من خطأ النسخة، ولو حرص على التحقيق العلمي ما وقع في هذه الغلطة الشنيعة.

ص: 777

ولكنه نسي بجوار هذا أن يذكر كثيرًا من علماء المسلمين الذين اطلعوا على هذه الأناجيل، وأبانوا ما فيها من اختلاف وأخطاء، وألفوا في ذلك كتبًا وافية، كابن حزم وابن تيمية وابن قيم الجوزية والقرافي، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم.

وأخيرًا يدعي أن المسلمين على وجه عام يحترمون الأناجيل، وأن الترك يسمونها "الإنجيل الشريف" وأن كثيرًا منهم "يؤثرون الإنجيل على القرآن دون أن يجهروا بهذا الرأي" ويحتج لذلك برجل تركي ارتد عن الإسلام في عهد سليمان الأول فحكم بقتله جزاء ردته.

وهي كما ترى أقوال متهاترة، لا يأخذ بعضها بناصية بعض، ولا يدل مجموعها على شيء له قيمة علمية.

وهذه مسائل شائكة، الخوضُ فيها قد يثير النفوس، ويوغر الصدور، ولو شاء القائل منا أن يقول، لوجد مجال القول ذا سعة، ولكنا لسنا من دعاة الفتنة، ولا ممن يحرصون على الجدال، وقد دأب أمثال هذا الكاتب على مهاجمة الإسلام والعدوان عليه في عقائده، ومحاولة إثارة الشكوك في الحقائق التاريخية الثابتة، التي تتعلق بالإسلام، وليس علينا من بأس أن نقف موقف الدفاع بالقول الرقيق المؤدب، لإقرار الحق في نصابه، وخدمةً خالصةً للعلم الصحيح.

إن الاتصال العقلي والفكري بين المسلمين وبين أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد كان اليهود بجوار المسلمين في المدينة حتى أجلاهم عنها عمر، وكان المسلمون

ص: 778

قد فتحوا مصر والشام وغيرهما من الأقطار التي كان يدين أهلها بالنصرانية، وكان أهلُ الكتاب أهلَ ذمة للمسلمين وفي حمايتهم، يرفرف عليهم عدل الإسلام ونَصَفَتُه، وكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا راضين مختارين، مما رأوا من كرم المسلمين، بعد أن ذاقوا ألوان الظلم والعذاب من زعمائهم ورؤسائهم، ولكنه كان في أول أمره اتصالًا في الشؤون العامة الدنيوية، ولم يوجد اتصال علمي بالمعنى المفهوم إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة تقريبًا، عند البدء في نقل كتب الأوائل إلى اللغة العربية، وكان ذلك مقصورًا على الفلسفة وفروعها والطب وما أشبه هذا، ولم تترجم إلى اللغة العربية الكتب الدينية ولا القصص (الروايات)، ولعله قد ترجم شيء من التوراة والأناجيل تراجم نادرة محصورة بين اليهود والنصارى الذين نشؤوا في الدولة العربية؛ ليسهل عليهم معرفة دينهم إذا عسر عليهم قراءتها باللغات التي كانت بها، وأما أن تكون هذه التراجم معروفة لعلماء المسلمين ودهمائهم، كما يريد الكاتب وأمثاله أن يرجفوا به: فذاك شيء غير ثابت ولا معروف في التاريخ الإسلامي، ولذلك لم يجد كاتب هذا المقال سندًا يؤيد به وجود تراجم للإنجيل إلا الترجمة التي قال عنها إنها نقلت عن السريانية، ونقل عن "جلد مستر" أنه يرى أنها ترجمت بين سنتي (750 و 850 م) أي بين سنتي (132 و 235 هجرية) ويظهر من هذا أنها غير ثابتة التاريخ، وأن هذا التاريخ الذي نسبت إليه ظن فقط، ونحن لم نر هذه النسخة المترجمة، فلا نستطيع الجزم بشيء في صحة هذا النقل وهذا التاريخ أو عدم صحتهما، وأما

ص: 779

الترجمة التي يدعي ابن العبري أنه "قام بها البطريق يوحنا بأمر الأمير عمرو بن سعد بين سنتي 631 و 640 م" أي ما يوافق السنة التي قبل الهجرة إلى السنة 18 هـ: فهذا شيء لا سند له ولا قيمة، وأبو الفرج ابن العبري ليس حجة في مثل هذا النقل، ولا يوثق بشيء ينقله عن عصر بينه وبينه أكثر من (600 سنة) ولم يسنده إلى نقل يقارب العصر المنقول عنه، فإنه عاش بين سنتي 623 و 685 هـ، ثم هذا ابن العبري رجل متعصب معروف بالتحامل على العرب وعلى المسلمين، وهو صاحب الحكاية الباطلة التي نقلها عن حرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية، حتى إن الدكتور (بَتْلَر) صرح بأنه "ليس من دليل على أن أصل هذه الرواية أقدم من أيام أبي الفرج"(انظر فتح العرب لمصر تعريب الأستاذ فريد أبو حديد ص 350 طبعة سنة 1933) فمثل هذا الرجل غير ثقة ولا مأمون على النقل، حتى لو نقل شيئًا عن عصره أو ما يقاربه، فضلًا عن تفرده بنقل يستند إلى ما قبل عصره بمئات السنين.

وأما كل ما أرجف به الكاتب ليصل إلى ما يدعيه من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بما يسمونه "الأناجيل" حتى يمكنه الإعلان بأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصحيحة" وبأن "هذا الموضوع ليس إلا مسألة فرعية من المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره"، فإنه شيء لا يثبت أمام النقد، ولا تؤيده أية حقيقة من حقائق التاريخ، وقد كان النصارى من قبل الإسلام بمئات السنين مختلفين في صحة الكتب التي يطلقون عليها اسم "الأناجيل" وهي أكثر من سبعين كتابًا، حتى تحكم فيهم الزعماء والرؤساء في

ص: 780

مجمع "نيقية" في القرن الرابع الميلادي، فاعتبر المجمع أن هذه الكتب الأربعة المعروفة الآن هي الأناجيل الصحيحة، وبذلك صارت الكتبَ الرسمية للدين المسيحي، واعتَبَر ما عداها منحولًا أو غير صحيح، وهذه الكتب التي اعتبرت منحولة غير مشتهرة وغير معروفة تفصيلًا إلا قليلًا، فمن أين يعرفها العرب قبل الإسلام وعند بدء ظهوره؟ !

وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أَميًّا لا يقرأ ولا يكتب، كما ثبت بالتواتر الصحيح في التاريخ، وكما نص الله عليه في القرآن الكريم، وقد أقمنا الحجة على ذلك فيما مضى من الدائرة في التعليق على مادة "أمي"(ص 647 من المجلد الثاني). ثم أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، وبعثه إلى الناس كافة بهذا القرآن الكريم، وجعله مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء السابقين، إجمالًا لها من غير تفصيل، وجعل كتابه "مُهَيْمِنًا" على هذه الكتب، أي رقيبًّا عليها كلها، كما قال تعالى في سورة المائدة [آية 48]:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} . وهذا الرجل الأمي لم يقرأ شيئًا من كتبهم، ولم يبلغه من الكتب التي في أيدي النصارى - مع ما فيها من الاختلاف - قليل ولا كثير، ومع ذلك فإنه لا يذكر إنجيل عيسى عليه السلام في القرآن إلا باللفظ المفرد "إنجيل"، فلو كان هذا القرآن من عند غير الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه الروايات؛ لجاء التَّعبير عنها في القرآن ولو مرة واحدة

ص: 781

بلفظ الجمع "أناجيل" وهي التي كانت ولا تزال معروفة عند النصارى، من صحيح في زعمهم ومنحول.

ثم انظر في شأن هذا الرجل الأمي صلى الله عليه وسلم لو كان يعرف هذه العشرات من الكتب التي تسمى "أناجيل" وأراد أن يحقق أمرها، ويعرف الزَّيْف منها من الصحيح، ويحكم فيها حكمًا قاطعًا صحيحًا، ويأتي بكتاب ثبت مهيمن عليها رقيب، فإلى أي أنواع من الثقافة والعلوم الدينية والتاريخية والأثرية يحتاج؟ ! .

وهل كانت هذه العلوم كلها موجودة في كتب مؤلفة قبل بدء الإسلام؟ ! سواء باللغة العربية أم بغيرها من اللغات؟ ! وكم يستغرق تعلم ذلك ومعرفته فقط من السنين؟ !

وأين كان أعداؤه من المشركين وأهل الكتاب، إذا كان قد تعلم كل هذه العلوم، ودرسها الدراسة الكاملة التي تمكنه من الحكم بتحريف كتبهم ونسيانهم {حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}؟ ! [المائدة: 13]

نعم إن بعض المشركين زعم أنه تعلم بعض الشيء من غيره، وقد حكى الله ذلك في القرآن عنهم، ثم ردّ عليهم قولهم بأقوى رد؛ فخرست ألسنتهم وألسنة غيرهم، فلم يدَّع ذلك أحد منهم ولا من أهل الكتاب بعد ذلك، مع كفرهم به وعداوتهم له، وتربصهم به وبالمسلمين أن يجدوا حجة تنصرهم عليهم؛ إذ علموا أنهم لو عادوا إلى هذه الدعوى، لكانت حجتهم داحضةً، ودعواهم كاذبة، فإنه نشأ بينهم وعرفوا تاريخ حياته وأحواله تفصيلًا وإجمالًا، ولم يجدوا من

ص: 782

يصدقهم من أهل عصرهم المشاهدين الحاضرين في أنه تعلم كل هذه العلوم والشرائع من بعض القارئين والكاتبين في مكة.

وقد اتصل المسلمون بالنصارى واليهود بعد الفتح العربي للبلاد اتصالًا وثيقًا، وقامت في بعض الأوقات حرب الجدال الديني بين الفريقين واحتدمت، ومع ذلك فإنه لم يزعم أحد - فيما نعلم - من أعداء المسلمين أن القرآن مقتبس كله أو بعضه من التوراة أو الأناجيل أو الآراء المسيحية، إلا في هذه العصور المتأخرة، حينما ضعف شأن الدول الإسلامية ماديًّا، وقام المستشرقون وفي أعقابهم المبشرون بالهجوم العلمي على المسلمين، بعد أن وضعوا أيديهم على أكثر بلاد الإسلام، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32، 33].

وبعد: فإن الله تعالى يقول في سورة النحل، وهي سورة مكية:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} .

قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات (ج 4 ص 185 - 186 الطبعة الأولى ببولاق): "اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة

ص: 783

أخرى من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك: أنهم كانوا يقولون إن محمدًا إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات؛ لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه - ثم ذكر اختلاف الروايات في اسم هذا البشر، وقال: وبالجملة فلا فائدة في تعديد هذه الأسماء، والحاصل أن القوم اتهموه بتعلم هذه الكلمات من غيره، ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه، ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ". ثم قال في تقرير أوجه الرد عليهم وتكذيبهم: "الأول: أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وكلام العدى ضرب من الهذيان، ولا شهادة لمتهم. الثاني: أن أمر التعليم لا يتأتى في جلسة واحدة، ولا يتم في الخفية، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المتعلم إلى المعلم أزمنة متطاولة ومددًا متباعدة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدًا عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان. الثالث: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارًا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا! ! فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟ ! واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة

ص: 784

لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة".

إن محمدًا صلى الله عليه وسلم وقد ثبت لك أنه لم يتعلم شيئًا من كتب الأديان السابقة، ولم يدرس شيئًا من العلوم والمعارف: يخبرنا عن الله سبحانه أنه يقول في شأن النصارى وكتبهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]. أيمكنك أن تتصور أن هذا الأمي يحكم الحكم القاطع الصريح البين بأن النصارى نسوا الكثير مما ذكرهم به عيسى عليه السلام من نفسه ومن علمه بدون وحي من الله؟ !

إن الذي يأتي بهذا القرآن، وبما فيه من تشريع تقطعت دونه أعناق الأمم، وبما فيه من توحيد وتمجيد لله، وبما فيه من القصص والأخبار الصادقة، وبما فيه من المواعظ والحكم، وبما فيه من مكارم الأخلاق، هذا القرآن الذي أعجزَ الإنسَ والجن أن يأتوا بسورة من مثله، وهو الهدى ودين الحق، أقول: إن الذي يأتي بكل هذا في كتاب واحد لن يعقل أن يكون تعلمه من كتب يحكم هو عليها بأنها محرفة مبدلة، أو كلمات يسمعها عرضًا على ألسنة بعض أهل الكتاب في جزيرة العرب، أو نقلًا عن بعض الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وهم في كل واد يهيمون، وهم يقولون ما لا يفعلون.

ص: 785

ومن المضحك، بل مما يؤسف له؛ أن كاتب المقال لم يصن قلمه في مثل هذا البحث - الذي يزعمه بحثا علميًّا - عن ذكر الحانات.

وكان الأجدر به أن يَفْقَه أن ما يتحدث به السكارى في الحانات، وخاصةً الشعراء منهم، لا يصلح أن يكون أساسًا لدين عظيم يهدي إلى الله، ويعلم الناس الشرائع والمكارم، ويدعو إلى إعلاء كلمة الله، وإلى نشر الفضيلة وحرب الرذيلة، وإلى النهي عن الخمر والميسر وغيرهما من المنكرات، ويصفها بأنها رجس من عمل الشيطان.

وقد كان الأولى به، وهو يشرح مادة "إنجيل": أن يذكر تاريخ هذه الكتب التي بأيديهم أولًا، ثم يدعي بعد ذلك ما شاء من الدعاوي، ولكنه - فيما نظن - أحجم عن ذلك لئلا يكون نقضًا لكل ما يدعيه.

وقد ذكر أستاذنا الإمام العلامة السيد محمد رشيد رضا الكثير من تاريخها في مواضع متعددة من تفسيره، وكان رحمه الله من أعلم الناس في هذا العصر بتاريخها وبدراستها، هو وأستاذنا العلامة الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار أطال الله بقاءه. وهاك قطرة من غيث مما قاله السيد رشيد رحمه الله (ج 6 ص 287 - 288 من التفسير): "بَيّن الله لنا أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به كاليهود، وسبب ذلك أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من

ص: 786

المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته، وكان من اتبعوه من العوام، وأمثلهم حواريه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في عداوتهم ومطاردتهم، فلم تكن لهم هيئة اجتماعية ذات قوة وعلم، تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه، ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرًا من الناس كانوا يبثون بين الناس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب في ذلك، حتى إن الذين كتبوا كتبًا سموها الأناجيل كثيرون جدًّا، كما صرحوا به في كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة، وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية. وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهي متعارضة متناقضة مجهولة الأصل والتاريخ، بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها، واللغات التي ألفوها بها. وقد بينا في تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح، وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلًا منه، كما تحتوي السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث، وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف". ثم ذكر الأدلة على ذلك تفصيلًا، ثم قال (ص 301 - 302): "فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]. وثبت به أنه كلام الله ووحيه؛ إذ ليس هذا مما يعرف بالرأي حتى يقال: إن

ص: 787

النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتدى إليه بعقله ونظره، كيف وقد خفى هذا عن أكثر عُلمائنا الأعلام عدة قرون لعدم اطلاعهم على تاريخ القوم".

وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} . (ج 3 ص 158): "أما لفظ الإنجيل فهو يوناني الأصل، ومعناه البشارة، وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب، تعرف بالأناجيل الأربعة، وهي ما يسمونه العهدَ الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل، أي الحواريين، ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أي على المجموع، فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد، والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعليمه، ولهذا سميت أناجيل، وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها، وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، ففي السنة التي كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال، وفي كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضًا، على أنهم يقولون إنها كتبت في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح، لكن أحد الأقوال في الإنجيل الأول: أنه كتب سنة، 37 ومنها أنه كتب سنة 64، ومن الأقوال في الرابع، أنه كتب في سنة 98 للميلاد، ومنهم من أنكر أنه تصنيف يوحنا، وإن خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد".

"وأما الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله

ص: 788

عيسى ابن مريم عليه السلام من البشارة بالنبي الذي يقيم الشريعة والحكم والأحكام، وهو ما يدل عليه اللفظ، وقد أخبرنا سبحانه أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك؛ فإن التوراة كتبت في زمن نزولها، وكان الألوف من الناس يعملون بها، ثم فقدت، والكثير من أحكامها محفوظٌ معروف، ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج: إن الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى، عليه السلام. وأما كتب النصارى فلم تعرف، ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح؛ لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما أمِنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسةً ظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة، فتحكم الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة، فمن فهم ما قلناه في الفَرق بين عُرْف القرآن وعُرْف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل، تبينَ له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل، ويصح أن يُعَد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحًى به من الله، ولولا ذلك ما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها أن يعرف أنهم نسوا حظًّا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبًا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه، ويقول: الأناجيل. لا الإنجيل، ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة

ص: 789

والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن".

"وقال الأستاذ الإمام - يريد الشيخ محمد عبده - في تفسير هذه الجملة: المتبادر من كلمة "أنزل" أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة، وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه فإنها مع ترتيبها مكررة، والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها، وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة، وليس هو هذه الكتب التي يسمونها أناجيل؛ لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائمًا مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ".

وقال الأستاذ العلامة الشيخ عبد الوهاب النجار في كتاب قصص الأنبياء (ص 465 - 466 طبعة ثانية): "أين يوجد اليوم إنجيل المسيح الذي ذكره القرآن الكريم؟ إن الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يُبشروا به لا يوجد الآن، وإنما توجد قصص ألفها التلاميذ وغير التلاميذ، لم تسلم من المسخ والتحريف بالزيادة والحذف".

وإن شئت معرفة تاريخ هذه الأسفار الأربعة التي تسمى الأناجيل ومقدار ما فيها من التناقض والاختلاف، ومقدار الوثوق بها من الوجهة التاريخية، ثم قيمتها العلمية عند علماء الإسلام، فاقرأ الجزء الثاني من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) للإمام الحافظ الحجة أبي محمد بن حزم المتوفى سنة 456، وكتاب (الجواب الصحيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728، وكتاب (هداية

ص: 790

الحيارى) للإمام المحقق ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751، وكتاب (الأجوبة الفاخرة) للعلامة الكبير شهاب الدين القرافي المتوفى سنة 684، وكتاب (الفاروق بين المخلوق والخالق) لصاحب السعادة الحاج عبد الرحمن بك أفندي باجه جي زاده، وكتاب (دين الله في كتب أنبيائه) للعلامة الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي رحمه الله، وكتاب (قصص الأنبياء) لأستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار، وما كتبه المرحوم الإمام السيد محمد رشيد رضا في التفسير والمنار، وأخيرًا كتاب (الإنجيل والصليب) تأليف الأب عبد الأحد داود الأشوري العراقي، وقد ترجمه عن التركية أحد الأفاضل من مسلمي العراق، وطبع في القاهرة سنة 1351.

وإذا كانت عقيدة المسلمين من عصر النبوة إلى الآن أن هذه الكتب محرفة مبدلة، أو مصنوعة موضوعة، فكيف يتصور ذو عقل أنهم يأخذون عنها دينهم؟ ! أو أن يدخل في أذهانهم وآرائهم بعض ما يقرءونه أو يسمعونه منها، وهم يرون رسولهم صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالدين الحق، وترك في أيديهم كتابًا جعله إمامًا لهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأبان لهم في سنته كل ما احتاجوا إليه في شؤون دينهم ودنياهم، وهم يسمعون حكم الله في الكتب التي عندَ أهل الكتاب أنها محرفة لا يوثق بها، ويسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم". وهذا حديث صحيح رواه البخاري من حديث أبي هريرة (انظر فتح الباري 8: 129 و 13: 282 و 430 طبعة بولاق)،

ص: 791

ويقرون حديث جابر بن عبد الله: أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب وقال:"لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني". رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار، وإسناده صحيح (انظر الفتح 13: 281). وهذا المعنى متواتر عند المسلمين معلوم من الدين بالضرورة.

وكان المسلمون في تشريعهم وفقههم مستقلين تمام الاستقلال بكتابهم وسنة نبيهم، لم يتأثروا في شيء من ذلك بكتب النصارى ولا بقوانين الرومان ولا بغيرها من آراء من سبقهم، يعرف ذلك من توسع في دراسة الشريعة الإسلامية وأصولها من الكتاب والسنة، وقد يخفى على من قصر دراسته ومعرفته على كتب الفروع الفقهية، فيخدعه ما يرى فيها من شبه ببعض القواعد القانونية عند غير المسلمين.

وبعد هذا البيان الموجز، لا أراني في حاجة إلى مناقشة الكاتب تفصيلًا في المواضع التي زعم أن القرآن اتفق مع الأناجيل فيها أو خالفها، وأن للعهد الجديد أثرًا في الحديث، أو في كتب الصوفية أو غيرها، وقد دَمرنا الأساس الذي بنيت عليه هذه الدعاوى الباطلة: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ

ص: 792