الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين
(*)(1)
أول ما يجب أن نبدأ به، ونحن نستبشر بعام جديد: أن نرفع تحياتنا وتهانينا إلى سيد مضر وموضع فخرها، وإمام المسلمين وقائد نهضتهم، حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول، أعز الله الإسلام بتأييده، وهو الذي توسمنا في طلعته الكريمة أن سيبعث الله هذه الأمة الإسلامية على يديه المباركتين بعثًا جديدًا، وأن سيجعل الله لها شأنًا، وأن سيهب لها بيمين نقيبته من بعد ضعف قوة، ومن بعد استكانة عزًّا ومجدًا. وهو الملك الحازم الموفق إن شاء الله.
أيها السادة:
إنا نستقبل عامًا جديدًا، ونستقبل عهدًا جديدًا، في مُلك مَلِكٍ رشيدٍ، وهذا أول عام يحتفل فيه برأس السنة الهجرية من أعوام ملكه السعيد، إن شاء الله.
ومن محاسن المناسبات أن يكون إمامنا "الفاروق" سَمِيَّ أمير المؤمنين "الفاروق"، وقد سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فرق الله
(*) مجلة الهدي النبوي، السنة الأولى، العدد الحادي عشر، صفر 1357 هـ.
(1)
ألقى العلامة المحقق، صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي المحاضرة الآتية بدار جمعية الشبان المسلمين في الاحتفال الذي قامت به جماعة إحياء مجد الإسلام، في مساء الجمعة 9 محرم سنة 1357 هـ.
به بين الحق والباطل، وأن يكون الفاروق عمر أول من أرخ التاريخ الإسلامي من الهجرة النبوية، وأنه اختار التاريخ منها؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، فكان هذا أمارة لنا، وبشرى تطمئن بها قلوبنا، وتنشرح لها صدورنا، أن وفق الله للمسلمين هذا الفاروق خلفًا للفاروق، يفرق الله به فى عصرنا الحاضر بين الحق والباطل، ويعز به الإسلام كما أعزه بعمر رضي الله عنه.
أيها السادة:
إن أبرز الحوادث وأبعدها أثرًا في تاريخ الإسلام حادثان خطيران، بنى عليهما كل ما قام للإسلام من مجد ودولة:
أولهما: هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وثانيهما: غزوة بدر الكبرى. الهجرة استنقذت الإسلام من مخالب الكفر، وغزوة بدر بدء الصراع وفاتحة الفتوح بل هي صرعة الضعيف المسكين، للقوي المستطيل.
وأقوى الحادثين وأخطرهما في الإسلام: الهجرة؛ إذ صبر المسلمون على ما كانوا عليه فيه من بلاء، واحتملوا ما افتن فيه أعداؤهم من ألوان الأذى والمكروه، حتى أمرهم الله بالهجرة إلى المدينة، ثم أمر رسوله بذلك، فكان بدء الاستقلال للدولة الإسلامية الناشئة، وكانت الهجرة أمرًا عظيمًا، لعلنا لا ندرك الآن ما فيها من شدة وعناء، فإن الله قد حرم على المهاجرين أن ينقضوا هجرتهم، فلا يرجع واحد منهم إلى بلده (مكة) إلا لحج أو عمرة أو نحو ذلك،
ولم يجز لهم أن يعودوا إلى الإقامة فيها؛ ولذلك لما مرض سيدنا سعد بن أبي وقاص بمكة في حجة الوداع بكي وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة). فدعا له الرسول بالشفاء وقال: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة". قال ابن أبي وقاص: (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة).
فكان المهاجرون يحجون ويعتمرون، دخلوا مكة فاتحين، وكانوا يدخلونها زائرين، ولم يكن لأحد منهم أن يقيم فيها إلا على قدر حاجته، وهو يرى بلده الذي ولد فيه ونشأ، ويرى أهله وإخوانه، وتتوق نفسه إلى ذكريات صباه، ثم هو يغالب هواه ويطيع أمر ربه فيعود إلى دار هجرته قد باع نفسه وماله إلى الله، وخرج عن كل شيء في الدنيا، إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، ولذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الهجرة:"ويحك إن الهجرة شأنها شديد". وقال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وقال لمن أراد أن يبايعه على الهجرة: "إن الهجرة قد مضت لأهلها".
إن هؤلاء السادة المهاجرين لم يهاجروا ليكونوا رهبانًا في أديار، لا مقصد لهم إلا الصلاة والصيام، وقد كان ذلك ميسورًا لهم في بلدهم وبين قومهم، وإنما هاجروا ليقيموا دولة الإسلام، وليكونوا حكام الأرض وسادة الدنيا، ثقة بما وعدهم ربهم على لسان نبيهم،
من غير أن يكون لواحد منهم مطمع خاص في شيء من محقرات هذه الحياة، ولكن سعيًا وراء الوحدة الإسلامية، التي لا قيام للدول إلا بها:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء: 92]{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون: 52]. وقد كانوا بضع مئين، ثم قواهم الله بإخوانهم الذين آووهم ونصروهم من أهل المدينة، فوضعوا الأساس الثابت لاستقلال الدولة الإسلامية:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8، 9].
أيها المسلمون:
إن الصحابة الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مائة ألف أو يزيدون قليلًا، وهم الذين نشروا الإسلام في أنحاء الأرض، وهم الذين أنشأوا هذا الملك العريض، والمسلمون الآن يعدون أكثر من أربعمائة مليون، أي؛ أن الواحد من الأولين خلفه أكثر من أربعة آلاف من المسلمين الحاليين، فهل فيهم من غناء للإسلام؟ هل حفظوا ما بأيديهم مما ترك لهم هؤلاء الأبطال من مجد وسلطان؟
إني لأخشى - والله - أن يكون قد تحقق في المسلمين قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
ليس بالمسلمين علة إلا ترك الاستمساك بدينهم، والعنود عن الخضوع له، والإعراض عن العمل بما أنزل الله في كتابه، وبما بَيَّن عنه رسوله في سنته، سواء أكان ذلك في العبادات، أم في المعاملات، أم في الأخلاق والآداب، كله من شرع الله، وكله من دين الإسلام فمن أعرض عن بعضه فقد أعرض عن جميعه، والإسلام دين حكم وسلطان، كما هو دين خلق وفضائل، وكما هو دين عبادة وترقية للروح، لا يفرق بين شيء من ذلك فيه؛ ولذلك قال أبو بكر الخليفة الأول: لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. وسَمَّى هو والصحابة مانعيها مرتدين.
لا علاج لأدواء المسلمين إلا أن يكونوا مسلمين: يعودون إلى العمل بدين الله الذي ارتضى لهم، ويتمسكون بدين الله وسنة نبيه في شأنهم كله؛ كبيره وصغيره، لا يعرضون عنه عنادًا، ولا يتركونه تَأَوُّلًا، ويدعون أهواءهم، ونزوات رؤوسهم، ويخضعون لأمر ربهم {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10].
إن إثم التقصير في الدعوة إلى العمل بالدين في كل شأن من شؤون المسلمين إثم كبير، كل مسلم مسؤول عن ذلك بين يدي الله عز وجل ليس لمسلم عذر عند الله في الإعراض عن الدعوة إلى طاعة الله ورسوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104، 105]. وكونوا كمن وصفهم الله بأنهم {يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
اسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرَن أحدكم نفسه". قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله له يوم القيامة: "ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ " فيقول: خشية الناس. فيقول: "فإياي كنتَ أحق أن تخشى". رواه ابن ماجه.
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أيضًا: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم". أخرجه أحمد.
ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
ويقول أيضًا تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50].
إن إيفاء القول في هذا الموضوع الخطير لا يسعه عشرات من المحاضرات والخطب، ولكن أشرت إشارة موجزة، وأرجو أن يحذر المسلمون سنة الله في خلقه فيما وعظهم به من أخبار الأمم السابقة، فإن أمة من الأمم قبلهم خالفت بعض أمر ربهم فكان جزاؤها ما قال الله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} [الأعراف: 167].
إن الله تعالى يقول لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يحذرهم مخالفة أمره، وقد كانوا مقيمي أحكام دينه، وهم خيرته من خلقه، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولستم أكرم عليه منهم، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه.