الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرة:
نابغة الشباب الأستاذ رياض محمود مفتاح
(*)
تقدمة بين يدي المحاضرة (1)
أرى من الواجب عليَّ أن أعرّف الأستاذ إلى إخواني أعضاء الجماعة وقراء المجلة. وأنا الذي عرفته إلى رئيسنا الأخ الشيخ محمد حامد الفقي، وإلى إخواننا الذين سمعوا المحاضرة، بل لعلي أكون أول من كشف الستار عن عبقرية هذا الشاب ونبوغه، وأفخر بأن نظرتي إليه كانت صادقة شبيهة بالإلهام. ولا أزال أحمد الله في كل حين على هذا التوفيق.
ولمعرفتي به قصة طريفة:
وأول ذلك يوم مبارك لا ينسى على الدهر، عصر يوم الخميس غرة السنة الحاضرة، اليوم الأول من شهر المحرم سنة 1362 (7 يناير سنة 1943)، ولم أكن أعرف عن الأستاذ شيئًا ولا سمعتُ به، فكنت جالسًا في مكتبة الخانجي بمصر، فرأيت كتابًا بجواري لم أره من قبل، فنظرت فيه فإذا عنوانه (الحرب الحديثة وما تلقيه على مصر والشرق العربي من دروس) فلمحت فيه لمحات، وتصفحت منه
(*) مجلة الهدي النبوي، السنة السابعة، العدد السابع، رجب 1362 هـ.
(1)
(ألقاها بدار جماعة أنصار السنة المحمدية بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء 15 جمادى الأولى سنة 1362 - 19 مايو 1943 م).
صفحات، فوجدتُ فيه كلمات نفيسة في الدين والسياسة والاجتماع توافق كثيرًا مما ندعو إليه من الآراء للنهوض بالأمة العربية وسائر الشعوب الإسلامية ولنصر الإسلام وإعلاء كلمته، فعجبت لهذا الكتاب، ولم أجد فيه شيئًا عن مؤلفه إلَّا اسمه (رياض محمود مفتاح المحامي)، وزاد عجبي أن الكتاب مطبوع في أغسطس سنة 1940، وأني لم أسمع به ولم أره من قبل، وأخذت الكتاب وقرأته كله، فكنت كلما قرأتُ فيه ازداد سموًّا في نظري، وازداد مؤلفه نبلًا وقدرًا حتى قرأته كله، ثم كتبت على نسختي ما نصه (أتممت قراءته عصر يوم الثلاثاء 13 محرم سنة 1362 (19 يناير سنة 1943)، واستفدت منه علمًا جمًّا وآراء نافعة. فلله در مؤلفه العظيم. إنه شاب ينظر بنور الله وأرجو أن يكون له من الأثر في العالم الإسلامي ما لأكبر المصلحين، نفع الله به، ووفقه وأيده).
فهو في كتابه يدعو المسلمين إلى أن يتمسكوا بدينهم، وأن لا يفتنهم عنه ما يرون من المدنية الأوربية الزائفة، وأن يهيمن الإيمان في القلب على كل أعمال المسلم؛ من عبادة ومعاملة وسياسة واجتماع، وأن يحافظ المسلم على العبادة التي أمر بها لله وحده ليكون ذلك هاديًا له في كل شأن من شؤونه في حياته، وأن يقوم المسلمون بدعوة العالم كله إلى الأخذ بشريعة الإسلام، وإن ذلك هو السبيل الوحيد لحل المشكلات الدولية التي تثير الحروب الماحقة في فترات متقاربة.
وسأنقل لكم هنا بعض فقرات من هذا الكتاب النفيس المدهش:
يقول في (ص 22): (وهنا تكون الكلمة للشرق العربي؛ ليؤدي رسالته للعالم في العصر الحديث بالاستمساك بالدين الإسلامي، وتنظيم أحوال البشر على مبادئه السامية؛ من الإيمان والعدالة والتضامن والتسوية والأخوة الإنسانية جمعاء، فهي المبادئ التي لا صلاح للبشر إن خرجوا عليها، وهي المبادئ الخالدة يرجع إليها الناس بعد طول تقلب وتجارب فيجدون فيها الهدى؛ فالبشر اليوم أحوج ما يكونون إلى مبادئ جديدة، وأذهانهم على الأُهبةِ لفحص الجديد من المذاهب والمبادئ، بعد أن فشلت مذاهبهم، وشَكَّكَتْهم التطورات العالمية الأخيرة في قيمتها وصلاحيتها).
ويقول (ص 26): (ولست أعني بالحضارة الإسلامية ما كان عليه أهل العواصم الكبرى من الترف والنعيم، وما ازدانت به دار السلام والقاهرة وإستانبول من جميل المناظر فالقصور ووشيها، ومجالس الغناء والندمان، وما فيها من العزف والحبور، ليست من الحضارة الإسلامية في شيء بل فيها مما يخالف الإسلام. دين البساطة والرجولة. أكثر مما يوافقه، وإنما خلود الحضارة الإسلامية في مبادئها الموجهة لمخاطبة البشر كافة؛ فالناس فيما بينهم أخوة كأعضاء الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر.
لا يعتبر أحدهما مسلمًا إلّا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهم
سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي منهم إلّا بالتقوى، يهيمن فوق هذه المبادئ مبدأ الإيمان بالله الأحد خالق الدنيا وما فيها من خير وشر، فهو الذي يعبد، ومنه تلتمس الهداية لسلوك طريق الخير ولتطهير النفس من أدران الأثرة والظلم، ولملئها بعوامل المحبة والأخوة والعطف على الفقير، والعدل والإحسان والخضوع لأوامره تعالى.
فهذا الإيمان وهذه العبادة للخالق المسير للأمور ابتغاء مرضاته وحسن الجزاء منه في دار الخلود: هذه العبادة هي زاد النفس؛ للتغلب على عوامل الشر، والاهتداء لعوامل الخير في كل المعاملات الإنسانية سواء منها ما كان بين الفرد وأسرته، أو ما كان بين الفرد وأخيه، أو ما كان بين الحكام والمحكومين، أو ما كان بين دولتهم بأكملها والدولات الأجنبية.
وهذه المبادئ الخالدة أساسية لكل حضارة، وإلَّا كانت واهية الأساس ينهار بناؤها برمته مرة واحدة، تأمل المدن الأوربية وكيف نسقت، وناطحات السحاب وكيف تعالت، والمصانع الضخمة وكم تنتج في اليوم بل في الساعة. تأمل كل هذا، وتأمل كيف يأكل بعض هذه الحضارة بعضًا؛ فتدك ما شيدت، وتقتل ما ولدت، وتسبب للإنسان من المتاعب أضعاف ما جلبته له من الرفاهية؛ ذلك أنها فقدت عنصر الإيمان الأساسي الذي يطهر النفس، ويملؤها بحب الخير للإنسانية لا لوطن واحد ولا لجنس واحد) إلى أن يقول في
(ص 29): (وكانت نظمنا - نحن المسلمين في الشرق العربي - إلى عهد قريب من ذلك النوع الذي يحوي الكثير من الشر لأنفسنا، والتي ليست مثالًا يحتذى به أو توجه الدعوة للغير للاقتداء به، وخير لنا أن نلتمس علاج أدوائنا في مبادئ شريعتنا الغراء، لا في المذاهب الأوربية الضيقة النطاق).
ومما يقول في النظم الاقتصادية بعد أن شرح كثيرًا منها، وتكلم عن الرأسمالية والاشتراكية وغيرهما، قال (ص 116):(غير أن هذا التفكير يجب أن ينأى عن التقليد والاقتباس من المذاهب الأجنبية، فمهما أدى بعضها من نفع، ومهما بدا براقًا، فلا حاجة لنا به، وإنما لدينا نظامنا الإسلامي: (الزكاة) نرجع إليه فنرى فيه علاجًا لعيوبنا الاقتصادية، علاجًا لا يصلح لنا فحسب، بل للإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان). إلى آخر هذا البحث النفيس الذي قل أن تجد مثله لباحث.
وهو يقول في مزية التشريع الإسلامي (ص 170): (على أن أبرز خاصية للشريعة الإسلامية، وأميز ما في الثقافة الشرقية بوجه عام، هو قيامها على الإيمان الديني الذي لا يقتصر على تنظيم عبادة المخلوق للخالق، بل يسيطر على كل الأنظمة الاجتماعية للخلق. ذلك ما يقع وجوب تأديته للعالم على مصر والشرق العربي اليوم، لعل فيه الشفاء والإنقاذ من الخراب والفساد) إلى أن قال (ص 206): (فالمستقبل فيما نرى للشريعة الإسلامية، وسينتهي العالم إليها بعد أن كاد يضيع
الإيمان من النفوس، وبعد أن أدى ذلك إلى قيام أنظمة تستغل الإيمان استغلالًا وحشيًّا، سينتهي العالم إلى تلك المبادئ المطهرة للنفوس، النازعة منها الشرور والأنانية، والدافعة إياها للتضامن، موجهة للإنسانية بلا تفرقة بين الأجناس، سينتهي العالم إلى تلك المبادئ كأساس لتشريعاتهم) إلى أخر ما قال في الكتاب من أبحاث نيرة موفقة، تسمو عن أكثر ما يكتب الباحثون في هذا العصر، فاقرأه كله واستوعبه، فليس يغني بعضه عن بعض.
وكنت أثناء قراءتي الكتاب أسأل كل من لقيت من إخواني وخاصة من المحامين الأهليين، عن مؤلفه، فلم يكن لواحد منهم حظ معرفته، حتى أرشدتني نقابة المحامين، إلى عنوانه، وأنه مقيم في دسوق، وأن اسمه مقيد في جدول المحامين سنة 1938، فعرفت أنه شاب ناشئ، فكتبت له كتابًا يوم الإثنين 12 محرم سنة 1362 (18 يناير سنة 1943)، ذكرتُ له فيه رأي في كتابه، وإعجابي بآرائه وعلمه، وبفقهه في الإسلام، وإدراكه حقائقه، أكثر مما يدركها كثير من علمائه، وذكرت له أنه كتب في قضية نعمل في سبيلها منذ أكثر من عشرين سنة، حتى لقد كدنا أن نضعف، ودعوته أن يضع يده في يدنا، وأن يكون قائدنا في جهادنا، يبث فينا من عزيمته القوية الفتية، ويرشدنا بما وفقه الله إليه من علم ونور، ثم كانت فترة علمت بعد أنه كان فيه مسافرًا، ثم جاءني جوابه المؤرخ 29 محرم سنة 1392 (5 فبراير 1943) فكان جوابًا أقوى روحًا ونفسًا من الكتاب، ثم تواترت
بيننا الكتب، حتى أذن الله باللقاء، فزارني عصر الخميس 17 ربيع الثاني (22 أبريل)، ولم أكن بالمنزل، ثم جاء في اليوم التالي ضحوة الجمعة، فكان فوق ما ظننتُ، وكان أكثر مما أملت، وإن أفخر بشيء فإني أفخر بصدق فراستى في هذا الشاب الناشئ النابغة، عن غير خبر ولا معرفة إلَّا من قراءة كتابه، حفظه الله ووفقه وسدد خطواته. وقد عرفته بعد ذلك إلى رئيسنا الأخ الشيخ محمد حامد، وإلى الإخوان، فكان إعجابهم به مثل إعجابي أو أكثر، واتصلت بيننا أسباب المودة المبنية على العلم والنور والإخلاص والحمد لله رب العالمين.
وسأجتهد في نشر كتبه الخاصة التي كتبها؛ لما فيها من علم جم، وآراء عظيمة النفع، وقوة روح تبعث في النفوس الحزم والعزم، إن شاء الله.
وقد دعوناه ليحاضر جماعتنا (جماعة أنصار السنة المحمدية) فأجاب الدعوة وألقى المحاضرة التي جعلت هذه الكلمة تقدمة بين يديها، وها هي ذه.