الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولاية المرأة القضاء
(*)
لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء! !
والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدم إليها بعض (البنات) اللائي أعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلًا لأنْ يكُنَّ في مناصب النيابة، تمهيدًا لوصولهنّ إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة إن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.
وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء، ويَحْكُونَ في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمِنْ ذاكرٍ مذاهبَ أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهبَ المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهبَ الحقَّ الذي لا يجوز ولايتَها القضاءَ قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقًا، في الأموال وغير الأموال.
ومن أعجب المضحكات في هذا الجدال الغريب: أن تقوم امرأة فتكتب ردًّا على من استدل من العلماء بالحديث الصحيح الثابت:
(*) مجلة الهدي النبوي، المجلد الخامس عشر، العدد الثاني صفر 1370 هـ.
"لن يُفْلحَ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً"(1). فتكونَ طريفةً كل الطرافة، وتدل على أنها تكتب بعقل المرأة حقًّا، فتستدل على بطلان هذا الحديث؛ بأنه لا يعقل أن يقوله رسول الله الذي يقول:"خُذُوا نِصْفَ دِينَكُمْ عَنْ هذه الحُمَيْراء"! ! وهي لا تعرف هذا الحديث ولا ذاك الحديث، ولا تعرف أين يوجدان أو يوجد أحدهما، من كتب السنة أو كتب الشريعة أو غيرها؛ لأن كتابتها تدل على أنها مثقفة ثقافة إفرنجية خالصة! ليس لها من الثقافة العربية أو الإِسلامية نصيب!
ووجه العجب المضحك في استدلالها هذا الطريف: أن الحديث الذي استدلت به حديث لا أصل له أبدًا، أي هو حديث مكذوب لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولستُ أزعم أنها هي التي اخترعته، فإني لا أظنها تصل إلى هذه الدرجة. ولكنه حديث ذُكر في بعض المصنفات القديمة، ونصَّ حفّاظ الحديث ونَقَدتُه العارفون العالمون على أنه حديث منكر، لم يجد له العلماء الحفاظ إسنادًا قط، بل قال ابن القيم الإِمام:(كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق).
فاعجبوا - في بلد العجائب - أن تقوم امرأة لا تعرف عن الشريعة شيئًا، إلا أن يكون ما يعرفه العوامّ، على شك في هذا أيضًا، فتردّ على العلماء الرسميين، وتجزمَ بتكذيب حديث صحيح ثابت،
(1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 97 و 13/ 46 من فتح الباري)، ورواه أيضًا الترمذي والنسائي.
استنادًا إلى حديث مختلق مكذوب! ! وليتها - مع هذا كله - تعرف الفرق بين الشهادة والرواية عند علماء الأصول، وبين الولاية والشهادة، حتى تستطيع أن تحكم هذا الحكم الطريف، ولو عرفتْ لعلمتْ أن الشريعة فرقتْ بين رواية المرأة العِلْمَ، إذا كانت مسلمة عارفة بدينها متمسكةً به محافظةً عليه، مستوفية شروط العدالة الشرعية، وأنها في هذه الحالة تُقبل روايتُها العلم، وتُصدَّق فيما روتْ، وأنها إذا استوفتْ هذه الشروط كلها كانت شهادتها في الأموال مقبولة، على أن تكون نصفَ شهادةٍ فقط، أي تُقبل شهادتها مع امرأة أخرى مثلها، وتكونان معًا في مقام شاهد واحد من الرجال، بشرط أن يكمَّل نصابُ الشهادة بشهادة رجل آخر، بنص القرآن الكريم:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (1). إنها لو علمتْ ذلك لفهمتْ أن الحديث المكذوب الذي تستدل به لو كان صحيحًا لما كان منافيًا للحديث الصحيح في منع ولاية المرأة، كما هو بديهيّ!
ثم ندع هذا الاستطراد، ونعود إلى أصل الموضوع:
سألتْ وزارةُ العدل العلماءَ فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضُوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإِسلام، هَدَمها أهلُ هذا العصر أو كادوا؟ !
(1) الآية 282 من سورة البقرة.
ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحتُ الأصول، ثم بَنَيْتُ عليها الجوابَ عن الفرع أو الفروع.
فإن ولاية المرأة القضاءَ في بلدنا هذا، في عصرنا هذا - يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً:
أولًا: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإِسلام أم خالفها؟ .
إن المسلمين لم يُبْلَوْا بهذا قطُّ، فيما نعلم من تاريخهم، إلَّا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غَلَب الإِسلامُ التتارَ، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ، الجائر كان مصدره الفريقَ الحاكم إذْ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإِسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره؛ ولذلك لا نجد له في التاريخ الإِسلامي - فيما أعلم أنا - أثرًا مفصلًا واضحًا إلا إشارةً عالية محكمةً دقيقةً، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 (1).
(1) وقد ذكر الحافظ ابن كثير أيضًا بعض أشياء عن هذا في تاريخه الكبير (البداية والنهاية 13/ 117 - 121) وكذلك ذكر المقريزي بعض ذلك في الخطط 3/ 357 - 360، من طبعة مطبعة النيل بمصر سنة 1325).
والحافظ ابن كثير من أجلِّ تلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية ومن أعظمهم، وقد ذكر ذلك في تفسيره (ج 3 ص 174 من طبعة المنار) عند تفسير قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
وأرى أن أذكر هنا الآيتين اللتين قبل هذه الآية، وهي كلها متصلة في السياق {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50].
فقال الحافظ ابن كثير: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذه عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد
اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإِسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظرة هواه؛ فصارتْ في بنيه شرعًا متبعًا يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتالُه حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليلٍ ولا كثير، قال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} . أي؛ يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . أي ومَن أعدلُ من الله في حكمه لمن عَقَل عن الله شَرْعَه، وآمَن به، وعَلم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها؛ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء). أرأيتم هذا الوصف القويّ من ابن كثير في القرن الثامن؟ ألستم تَرَوْنَه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفًا: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أَتَى عليها الزمن سريعًا، فاندمجتْ في الأمة الإِسلامية، وزال أثرُ ما صنعتْ؟ ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالًا منهم؛ لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بالياسق الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مردَّ أمرهم إلى معتنقي هذا (الياسق العصري) ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإِسلامي، يريدون تحويله إلى (ياسقهم الجديد) بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدَع تارة، وبما ملكتْ أيديهم من السلطان في الدولة تارات.
ويصرحون - ولا يستحيون - أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين! ! وأنتم ترون ذلك وتعلمون.
أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكرًا كان الابن أو أنثى، عالمًا كان الأب أو جاهلًا؟ !
هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنه إثباتًا ونفيًا أولًا، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك - بالضرورة - سؤالًا محددًا واضحًا: أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا (الياسق العصري) وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟ !
ما أظن أن رجلًا مسلمًا يعرف دينه ويؤمن به جملةً وتفصيلًا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابًا محكمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعتَه وطاعةَ الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجالِ القضاءَ في هذا الحال باطلةٌ بطلانًا أصليًّا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة! !
ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاءَ من تلقاء نفسه.
وثانيًا: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانونَ أو غيره، سواء مما يجوز
تعلمه ومما لا يجوز؟ وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله.
أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبَّاد الشهوات؟ !
يجب أن نجيب عن هذا أولًا، ثم نبحثَ بعدُ فيما وراءه.
ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه.
ألَا فَلْيُجِبْ العلماء وليقولوا ما يعرفون، ولْيبلّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.
سيقول عنّي عبيد (النسوان) الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألَا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يومًا ما بما يقال عنَّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول.
* * *