الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المادة: برصيصا
الجزء: 3/ الصفحة: 546
تعليق أحمد شاكر على مادة (برصيصا) في دائرة المعارف:
أولًا: أن المفسرين الذين ذكروا قصة برصيصا عن تفسير هذه الآية إنما ذكروها على أنها مثال من مثل إغواء الشيطان للإنسان، لا أن ذلك هو المراد منها وحده، قال العلامة الحافظ ابن كثير في تفسيره (8: 300 من طبعة المنار): "وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل، هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها".
ثانيًا: أن ابن هشام ذكر في السيرة في هذا الموضع: أن حادث يوم بدر كان مرويًّا على الشك على أنه مع أبي جهل أو مع عمير بن وهب.
ثالثًا: أن المفسرين لم يذكروا أبا جهل في هذا الموضع على التعيين، وإمامهم الزمخشري قال:"كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر وقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" فلم يذكر أبا جهل كما نسبه إليه كاتب المقال، وكذلك من تبعه من المفسرين.
رابعًا: قصة هذا الراهب وردت بألفاظ مختلفة، بعضها مطول وبعضها مختصر، وكلها موقوفة على الصحابة أو التابعين، ليس شيء
منها مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا رواية ذكرها السهيلي في كتاب (التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام) طبعة مصر سنة 1356 ص 127 - 128) وإسنادها ضعيف جدًّا؛ لأنها من رواية عروة بن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد مجهول لا قيمة له؛ لأن عبيد بن رفاعة تابعي، لم يدرك النبي، وأحاديثه عنه مرسلة، فابنه أبعد من ذلك وأصغر، ثم إن ابن سعد ذكر أولاده في كتاب الطبقات (ج 5، ص 204) ولم يذكر فيهم من يسمى "عروة" ونقله السيوطي في الدر المنثور (6: 200) عن عبيد بن رفاعة عن النبي ونسبه لابن أبي الدنيا وابن مردويه والبيهقي، وهو حديث ضعيف، لما قلنا من أن عبيد بن رفاعة لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه ابن الجوزي في كتاب (تلبيس إبليس) مطولًا (ص 26 - 29) وجعله من رواية عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة.
خامسًا: وأكثر أسانيد هذه القصة إلى الصحابة ضعيف، إلا إسناد روايتها عن علي بن أبي طالب، قال الطبري في التفسير (28: 33): "حدثنا خلاد بن أسلم قال حدثنا النضر بن شميل قال أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبد الله بن نهيك قال سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: إن راهبًا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، فجاءوا بها. قال: فداواها وكانت عنده، فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها
فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة! ! فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فذلك قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)} [الحشر: 16]. وهذا إسناد جيد، عبد الله بن نهيك - بفتح النون وكسر الهاء - كوفي، ذكره ابن جنان في الثقات. ورواها أيضا الحاكم في المستدرك (ج 2، ص 484 - 485) من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن حميد بن عبد الله السلولي عن علي بن أبي طالب، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد". ووافقه الحافظ الذهبي، ولم أجد ترجمة لحميد بن عبد الله السلولي هذا.
سادسًا: وهذه القصة المختصرة عن علي بن أبي طالب فيها عبرة وعظة، وليست من الأحاديث المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من القصص الذي يحكى على سبيل الاعتبار، ولعلها مما سمع الصحابة من اليهود من أخبار بني إسرائيل، مما يسميه علماء المسلمين "الإسرائيليات" فسواء كانت حقيقية أو غير حقيقية فإنها ليست تفسيرًا للآية، وإنما هي مثل من المثل، وذكر المفسرين الأقدمين إياها على هذا المعنى، واستشهاد علي وغيره من الصحابة بالآية عقيب القصة على هذا المعنى أيضًا، ثم تزَّيد الرواة الوضاعون الكذابون في أمثال هذه الحكايات، وخرجوا بها عن الحد الذي نقله المتقدمون، واغتر
المفسرون المتأخرون وغيرهم من العلماء فذكروا هذه الروايات المخترعة الباطلة، ولم يكونوا يريدون إلا الوعظ والعبرة، وكثير منهم لا يعرف الصحيح من الضعيف، أو يعرفه ويكتفي بأن رواه بإسناده، وأن القارئ العالم بالأسانيد سيظهر له ضعف الإسناد فلا يظنه صحيحًا، ثم ازداد الجهل بالسنة الصحيحة وبأسانيدها في عامة العلماء، فاختلط عليهم الصحيح بالباطل، إلا من عصم الله، وآتاه حظه من الرشد والتوفيق من الله.
سابعًا: كتاب "جامع البيان" الذي أشار إليه كاتب المقال هو تفسير نفيس لمعين الدين محمد بن عبد الرحمن الصفوي المولود سنة 832 والمتوفى سنة 905 هجرية، وقد طبع في دهلي قديمًا (سنة 1296 هجرية) وقد طبع الثلث الأخير من هذا الكتاب سنة 1355 بإشرافنا وتصحيح الشيخ محمد حامد الفقي، وقد ذكر في (ص 375) في التعليقات المنقولة عن طبعة الهند: أن السيوطي في الدر المنثور نقله عن ابن أبي أمامة مرفوعًا وعزاه للبيهقي، وهذا شيء لم أجده في الدر المنثور، فلا أدري ممن الخطأ فيه، ولكنه خطأ بكل حال.
ثامنًا: إن تسمية الراهب المنسوب إليه القصة باسم "برصيصا" لم يذكر في كتب المتقدمين والروايات الأولى، ولكنه ذكر في كتب المتأخرين كالبغوي في تفسيره (ج 8، ص 300 - 303 من طبعة المنار) ثم من بعده. وقد قال السهيلي في كتاب التعريف والإعلام (ص 128): "ويقال اسم هذا الراهب برصيصا، ولم يذكر اسمه إسماعيل القاضي، ولا أنا منه على ثقة". وقال ابن كثير في تفسيره (8: 300):