الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ج 5 ص 107 - 143) غاية الأمر أن الحديث دل على معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد الكاتب أن يصدق بصحتها، فهذا شيء مرجعه لعقيدته، لا نتحكم فيها، ولكن لا علاقة له بالقواعد الصحيحة الدقيقة التي يرجع إليها في صحة الأحاديث وضعفها، كما بينا ذلك في التعليق على ما كتبوه في الدائرة في شأن اسم "الله" جل وعلا، وفي مقدمة شرحنا على كتاب "اختصار علوم الحديث" للحافظ ابن كثير.
المادة: الأنصار
الجزء: 3/ الصفحة: 55
تعليقات أحمد شاكر على مادة (الأنصار) في دائرة المعارف:
(1)
ليس في الكلمة معنى شرعي ومعنى غير شرعي، بل هي كلمة استعملت في معناها اللغوي على الحقيقة، كسائر أنواع الاستعمال اللغوي، فكل أناس نصروا شخصًا معينًا أو عقيدة خاصة - كانوا أنصارًا لمن قاموا بنصره، فالكلمة استعملت هنا في معناها اللغوي الحقيقي، وأطلقت على بعض أفراد مدلولها؛ ولذلك قال في لسان العرب:"النصير: الناصر. قال الله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] والجمع أنصار، مثل: شريف وأشراف. والأنصار أنصار النبي صلى الله عليه وسلم غلبت عليهم الصفة، فجرى مجرى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أضيف إليه بلفظ الجمع، فقيل أنصاري".
(2)
هذه دعوى غريبة لا توافق أي دليل، ولا نجد لكاتبها وجهًا يستند إليه ولا على سبيل الشبهة، فإنه يرمي بذلك الأمة العربية، في أوج فصاحتها وبلاغتها بأنها لا تفرق بين كلمتين تشابهتا في بعض الحروف وهما كلمتان مختلفتا المعنى: إحداهما عربية خالصة، مرجعها إلى مادة "نصر" التي اشتقت منها مشتقاتها، والأخرى نسبة شاذة على غير قياس إلى كلمة أعجمية الأصل، هي علم جامد لا يشتق منه شيء، وهي كلمة "ناصرة" اسم قرية قيل: إن المسيح عيسى عليه السلام ولد فيها أو نشأ بها. ولن يشتبه الأمر بين الكلمتين على أجهل عربي بلغة قومه، فضلًا عن القرآن الكريم، وهو معجزة العرب، وقد جاء به سيدهم وأفصحهم وأعلمهم بالعربية، وصدع به قومًا كان جلّ فخرهم بالفصاحة والبلاغة. ثم ماذا يرى الكاتب من البأس في وصف الحواريين رضي الله عنهم بأنهم "أنصار الله"؟ ! هل يرى في هذا الوصف مذمة تعيبهم أو منقصة تلحقهم أراد أن يبرئهم منها؟ ! .
أما نحن فنصدق ما حكاه الله عن نبيه عيسى عليه السلام وعن الحواريين: من أنهم كانوا أنصار الله، نصروا نبيهم عيسى في مواقف الشدة ضد أعدائه وأعداء دينه، وآمنوا به وصدقوه، ونصروا ما جاء به من توحيد الله وتنزيهه، ومن الدعوة إلى الحق، فكانوا بذلك أنصار الله.
(3)
ادعى الكاتب في هذا الموضع دعاوى لا توافق شيئًا من الحقائق التاريخية الثابتة، فإنه لم يزعم أحد قط أن لقب "الأنصار" إذا
أطلق كان المقصود به الخزرج فقط، بل الأوس والخزرج كلاهما أطلق عليهما اسم الأنصار، وإنما رأى الكاتب كلمة فنقلها على غير وجهها، ولعله لم يصل إلى حقيقة معناها في اللغة العربية، ونصها في مسند الإمام أحمد بن حنبل (ج 3، ص 460 - 462) في قصة بيعة العقبة الثانية من رواية ابن إسحاق عن مَعْبَد بن كعب بن مالك عن أخيه عُبيد الله عن أبيهما كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة: إن العباس بن عبد المطلب حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم لقاءه الخزرج والأوس في موعدهم بالشعب. قال كعب: "فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج. قال: وكانت العرب مما يسمون هذا الحيّ من الأنصار الخزرج: أوْسَهَا وخزْرَجَها". وهذا حديث إسناده صحيح، ورواه ابن هشام في السيرة من رواية ابن إسحاق أيضًا (ص 294 - 297 طبعة أوروبا) ونقله الحافظ بن كثير في تاريخه عن ابن إسحاق (ج 3، ص 160) ونقله الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد عن مسند الإمام أحمد وعن الطبراني (ج 6 ص 42 - 45). فلم يفهم كاتب المقال وجه الكلام، وظن أن إطلاق اسم "الخزرج" على الأوس والخزرج معناه أن "الأنصار" لقب الخزرج وحدهم، وفاته أن الخزرج كانوا في ذاتهم أكثرية في المدينة، وأن الأوس كانوا أقل منهم عددًا، ولذلك كان العرب يسمون الفريقين "الخزرج" كقاعدتهم في التغليب بالكثرة أو بالشهرة أو ما إلى ذلك، كقولهم "العمران" و"القمران" ونحوهما.
وكذلك نقل الكاتب "أن الأوس وقفت من النبي موقفًا محايدًا إن لم تكن ناصبته العداء أحيانًا" إلى آخر ما ألقاه هنا كأنه حقيقة تاريخية مقررة: فإنه شيء لم نجد له مثيلًا ولا شبيهًا مما في أيدينا من كتب التاريخ والسير والأحاديث، ولا نرى شبهة له في نقله هذا، وإن الأوس كانوا والخزرج سواءً في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الإقامة بين أظهرهم، وكان الحاضرون من الأنصار في بيعة العقبة الأولى 12 رجلا منهم رجلان من الأوس، ثم شهد بيعة العقبة الثانية 73 رجلًا وامرأتان، منهم 11 رجلًا من الأوس (انظر المصادر المتقدمة وغيرها من كتب السيرة) وشهد غزوة بدر 314 رجلًا، منهم 83 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج، انظر سيرة ابن هشام (ص 485 - 506)، وتاريخ ابن كثير (ج 3 ص 314).
(4)
قال الله تعالى في سورة آل عمران في شأن الأنصار: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . [103]. وقال في سورة الأنفال: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [62، 63]. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فكان مما قال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ " فكلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنّ. ونقل ابن إسحاق
وغيره: أن آية آل عمران نزلت في شأن الأوس والخزرج، وأنهم كاد يثور بينهم القتال بدسيسة من بعض اليهود، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يسكنهم ويقول:"أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ! ". وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح، رضي الله عنهم. انظر تفسير ابن كثير (ج 2 ص 200 - 208) فهذا الذي يشير إليه كاتب المقال، وهو حادث بسيط لا أثر له في إثارة الإحن السابقة، والأحقاد الماضية، بعد الإخاء والصفاء، ولكنه ابتلاء واختبار، ثبت الله فيه قلوبهم على الإيمان والألفة والمحبة، وكان سببًا في نزع ما لعله بقي في نفوس بعض الأفراد من الشحناء والبغضاء، رضي الله عنهم.
(5)
هذا كلام ليس فيه شيء من التحقيق العلمي، ولا هو مما يوافق أدب التحدث عن الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله، وأرجاهم له، وأشدهم خشية لله، واعتمادًا عليه، ولا يعتمد إلَّا على الله، ولا يرجو النصر إلَّا من عنده سبحانه وتعالى، وليس في شيء من الصدق أن الأنصار لم يجاهدوا إلا كارهين، فإن كل الروايات متضافرة على خلاف هذه الدعوى الباطلة:
فروى ابن إسحاق في شأن غزوة بدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس فأشار عليه كثير من المهاجرين بلقاء قريش وقتالهم، قال ابن إسحاق: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليّ أيها الناس". وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عَدَدُ الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برءاء من ذمامك حتى نصل إلى ديارنا، فإذا
وَصلتَ إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوّه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تَخَلَّفَ منا رجل واحد، وما نكره أن نَلقى عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منًّا ما تَقَرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله. انظر سيرة ابن هشام (ص 434 - 435) وتاريخ ابن كثير (ص 362) وطبقات ابن سعد (ج 2 ق 1 ص 8) ومغازي الواقدي ص 44.
وروى الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن حميد عن أنس ابن مالك قال: "لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه، ثم استشارهم فأشار الناس فأشار عليه عمر رضي الله عنه فسكت، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم. فقالوا: يا رسول الله، والله لا نكون كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك". المسند رقم (12047 ج 3 ص 105) ورواه أيضًا بإسناد آخر صحيح عن حميد عن
أنس (رقم 12986 ج 3 ص 188) ورواه أيضًا بإسناد صحيح عن ثابت عن أنس (رقم 13330 و 13739 ج 3 ص 220 و 257 - 258).
وكان أنس بن النضر بن ضمضم، عم أنس بن مالك: لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قال أنس بن مالك:"فشقّ عليه وقال: في أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبتُ عنه؟ ! لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فاستقبل سعدَ بنَ معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أينَ؟ واهًا لريح الجنة، أجِدُهُ دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الرُّبَيِّعُ بنتُ النضر: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه". رواه الإمام أحمد في المسند رقم 13047 و 13117 و 13693 ج 3 ص 194 و 201 و 253) ورواه البخاري (ج 6 ص 16 - 17 فتح الباري).
فهذه الأحاديث الصحيحة - وهي من رواية أنس بن مالك، وهو أنصاري - صريحة في أن قومه لم ينكصوا عن الجهاد، ولم يترددوا في بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الدعوة إلى الله، وإلى الدين الحق الذي آمنوا به، وعاهدوا نبيهم على السمع والطاعة والنصر والتأييد، وحسبنا هذا لندل على بطلان ما ادعاه كاتب هذا المقال.
(6)
روى مسلم في صحيحه (ج 2 ص 63) عن أبي هريرة في شأن غزوة الفتح قال في حديث: "فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار". قالوا لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ " قالوا: قد كان ذلك. قال: "كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضَّنَّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم". وانظر سيرة ابن هشام (ص 824)، والسيرة الحلبية (ج 3 ص 128 طبعة بولاق)، والمواهب اللدنية (ج 1 ص 157 طبعة الشرفية)، وشرح المواهب للزرقاني (ج 2 ص 397 طبعة بولاق).
(7)
هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن مناوئيه من قريش كرمًا منه وفضلًا، وقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهم قومه وعشيرته، ومع ذلك فإنه عاد إلى دار هجرته مع أنصاره وفاء بوعده لهم، واتباعًا لأمر ربه في إمضاء هجرته، ولعل الكاتب يشير إلى قسمة غنائم حنين، إذ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم لقريش ولم يعط الأنصار شيئًا، فقال ناس من الأنصار: "يغفر الله لرسول الله،