الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحمد باشا تيمور رحمه الله في كلمات نشرها في بعض الصحف والمجلات، ثم جمعها في كتاب "تصحيح لسان العرب" ونشره أخونا الأستاذ محمد عبد الجواد الأصمعي في قسمين: الأول في سنة 1334 بمطبعة الجمالية، والثاني في سنة 1343 بالمطبعة السلفية، وهو كتاب بني على التحقيق العلمي الدقيق الذي امتاز به أستاذنا تيمور باشا في كل ما أثر عنه من آثار.
ولم يك من همّ أستاذنا الجليل تيمور باشا أن يتتبع كل ما في الكتاب من مآخذ، ولم يقصد إلى ذلك، ولو قصد إليه لأتمه وأتقنه.
وقد وقعت إليّ مآخذ أخرى مصادفة أثناء عملي، رأيت أن أقيدها وأنشرها في الفينة بعد الفينة، عسى أن يكون في نشرها فائدة، وفيما أقرأ وأرى قد تكون لي لمحات وآراء في "لسان العرب" أحب أن أعرضها للبحث والنقد خدمة للعربية، في وقت تسمو فيه العروبة إلى العُلا.
فهذه أبحاث منثورة حرة، لا تربطها وحدة، ولا يؤلف بينها منهج، إلّا أنها أبحاث في "لسان العرب": اللغة والمعجم، ولا تتقيد بقيود، إلا الحق والتحقيق.
تعريب الأعلام
2
تضطرب أقلام الكتاب كثيرًا وآراؤهم في تعريب الأعلام الأجنبية، كما نرى فيما ينشر في الصحف والمجلات والكتب.
ويحاول كثير من المحدثين أن يخضعوا اللسان العربي للنطق بحروف ليست من لسانهم، اتباعًا للغات الأجنبية التي منها يعرّبون، فلا يكادون ينطقون باسم أعجمي في حديثهم العربي أو يكتبونه حتى تسمعه منهم أو تقرأه لهم أعجميًّا صرفًا! ثم جاء المجمع اللغوي بمصر منذ بضع سنين، فأصدر قرارات في تعريب الأعلام زادت الأمر اضطرابًا، والألسنة عجمة! فقرر فيما قرر:
1 -
"يكتب العلم الإفرنجي الذي يكتب في الأصل بحروف لاتينية بحسب نطقه في اللغة الإفرنجية، ومعه اللفظ الإفرنجي بحروف لاتينية بين قوسين في البحوث والكتب العلمية، على حسب ما يقرّه المجمع في شأن كتابة الأصوات اللاتينية التي لا نظير لها في العربية".
2 -
"تكتب الأعلام الأخرى التي ترسم بغير الحروف اللاتينية والعربية بحسب النطق بها في لغتها الأصلية، أي كما ينطقها أهلها لا كما تكتب" إلخ. وقد نشرت هذه القرارات في مجلة المجمع، في الجزء الرابع سنة 1356 هـ (ص 18 - 21).
وهذه القرارات إذا ما تأملها القارئ رأى فيها معنى واحدًا يجمعها، وروحًا عامًّا يسيطر عليها، وهو الحرص على أن ينطق أبناء العروبة بالأعلام التي ينقلونها عن لغات أعجمية بالحروف التي ينطقها بها أهلوها، وقسر اللسان العربي على ارتضاخ كل لكنة أعجمية لا مثال لها في حروف العرب، وتسجيل هذه الأوابد من
الحروف برموز اصطلاحية تدخل على الرسم العربي، زعموا تزيدًا في الحروف وتكثرًا.
ولئن تم هذا الذي يُراد لتجدنّ اللغة العربية من بعدُ، في رسمها وكتابتها ونطقها ولهجاتها، مجموعة غريبة متنافرة من اللهجات الأعجمية والرسوم الرمزية. ولتجدن ألسنة أبنائها لا تكاد تقيم حرفًا من العربية على ما نطق به العرب، مما أثبته علماء "التجويد" في إخراج الحروف من مخارجها، وعلى قواعدهم بنيت قواعد العلوم العربية، وبها حفظ لنا النطق بالكلم العربي، وبالقرآن، وهو سياج اللغة وحاميها.
ولست أدري مَمَّ استنبطت هذه القواعد التي اختارها هؤلاء الأعلام الكبار أعضاء المجمع.
فإن لغة العرب قبلت نطقًا ونقلت سماعًا، لم يضع لها العرب الأقدمون القواعد في الإعراب والتصريف علومًا مدونة. إنما أخذت عنهم اللغة كما ينطقون، وجاء القرآن العظيم مثبتًا أعلامها، حافظًا كيانها على مر الدهور. ثم استنبط علماء الإسلام القواعد العلمية في النحو والصرف والبلاغة والعروض وغيرها، بالاستقصاء والتتبع، وبضم النظير إلى النظير، والشبيه إلى الشبيه، ثم جعلوا ما خرج عن النظائر شاذًّا أو مسموعًا. ولكنهم لم يرسموا الحدود الدقيقة والقواعد الواضحة في التعريب ونقل الكلمات الأعجمية إلى العربية، فيما علمنا.
فإذا أردنا أن نضع قواعد مستحدثة في هذا، كما وضع المتقدمون لغيره، وجب أن نترسم خطواتهم، ونتتبع آثارهم ونصنع صنيعهم في طريق الاستنباط، وهو الطريق الواضح، والمحجة البينة: أن نستقرئ النظائر، ونتتبع الأمثال، فنضم كل شكل إلى شكله، وننظر في الأمر الجامع يجمعها، حتى نخرج القاعدة الغالبة، ثم يكون ما ندَّ عنها شاذًّا أو نادرًا أو سماعيًّا، ثم إن شئنا وطاوعتنا القواعد قليلًا قسنا على الشاذ والسماعي في القلة والندرة وعند الضرورة. وهذا شيء بديهي لا يكاد يشك فيه عالم.
فحين نريد أن نضع قاعدة أو قواعد لتعريب الأعلام على مثال لغة العرب، يجب علينا أن نستقصي كل علم أجنبي نطق به العرب، وأن نعرف ماذا كان أصله في لغة أهله، وماذا صنع فيه العرب حين نقلوه، لنأخذ من ذلك معنى عامًّا جامعًا لصنعهم، يكون أساسًا لما نضع من قاعدة أو قواعد. وأكثر الأعلام التي نقل العرب، وأوثقها نقلًا ما جاء في القرآن الكريم، من أسماء الأنبياء وغيرهم. فلو تتبعناها وشئنا أن نخرج منها معنى واحدًا تشترك فيه كلها، بالاستقصاء التام والاستيعاب الكامل، وجدنا فيها معنى لا يخرج عنه اسم منها، وهو:
أن الأعلام الأجنبية تنقل إلى العربية مغيرة في الحروف والأوزان، إلى حروف العرب وحدها، وإلى أوزان كلمهم أو ما يقاربها، وأنها لا تنقل أبدًا كما ينطقها أهلها إلَّا أن توافق حروفها وصيغها حروف العرب وأوزانها.
وهذا المعنى هو القاعدة التي لا يصح تجاوزها في نقل الأعلام الأجنبية إلى العربية، وهو الذي تشير إليه أقوال أئمة العربية من المتقدمين والمتأخرين.
قال الجوهري في الصحاح (ج 1 ص 80): "تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها". وانظر أيضًا اللسان (ج 2 ص 79).
وقال أحمد بن فارس في كتاب الصاحبي في فقه اللغة (ص 24 - 25): "حدثني علي بن أحمد الصباحي، قال: سمعت ابن دريد يقول: حروف لا تتكلم بها العرب إلا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها من التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها، فمن تلك الحروف الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل "بور" إذا اضطروا فقالوا: "فور". ثم قال ابن فارس: "قلنا: أما الذي ذكره ابن دريد في "بور" و"فور" فصحيح، وذلك أن "بور" ليس من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيره فاء".
وقال الجواليقي في المعرب (ص 6): "اعلم أنهم كثيرًا ما يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها، فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجًا، وربما أبدلوا، بعد مخرجه أيضًا. والإبدال لازم؛ لئلا يدخلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم".
وفيه أيضًا (ص 8 - 9): "قال أبو عمر الجرمي: وربما خلطت العرب في الأعجمي إذا نقلته إلى لغتها
…
قال: وإذا كان حكي لك
في الأعجمية خلاف ما العلامة عليه فلا ترينه تخليطًا، فإن العرب تخلط فيه وتتكلم به مخلطًا؛ لأنه ليس من كلامهم، فلما اعتنفوه (1) وتكلموا به خلطوا".
وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط (ج 1 ص 317 - 318) في اسم "جبريل": "وقد تصرفت فيه العرب، على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة".
ونقل السيوطي في المزهر (ج 1 ص 292) عن المرزوقي في شرح الفصيح: "المعربات ما كان منها بناؤه موافقًا لأبنية كلام العرب يحمل عليها، وما خالف أبنيتهم منها يراعى ما كان إلفهم له أكثر فيختار. وربما اتفق في الاسم الواحد عدة لغات، كما روي في جبريل ونحوه. وطريق الاختيار في مثله ما ذكرت".
فهذه هي الفطرة العربية السليمة، المناسبة لقوة عارضة العرب، ولرصانة لغتهم، وإتقانهم مخرج حروفهم وتجويدهم إياها، وكذلك لا نزال نرى عامتنا على فطرتهم إذا ما لاكت ألسنتهم اسمًا أعجميًّا، يصوغونه صياغة الحرف العربي والنطق العربي، غير متعلمين ولا متكلفين، وإن أخطؤوا قواعد اللغة وقواعد الإعراب، أما متعلمونا ومثقفونا - أو أكثرهم - فأنت ترى ماذا صنعوا بلغتهم إذا نقلوا إليها عن اللغات الأعجمية: يتبعون قرار المجمع اللغوي! أو هم قد سبقوه
(1)"اعتنفوه" بالفاء، يقال:"اعتنف الشيء" أي أتاه ولم يكن له به علم ولا حذق، أو كرهه ووجد له مشقة.
إلى العمل به قبل وضعه! فلا يكاد لسانهم ينطق بكلمة أجنبية أو علم أجنبي حتى ينقلب لسانًا إفرنجيًّا تبرأ منه لغة العرب، وتنفر منه أسماع العرب، فيأتون بالحروف المعوجة، والحروف المخطوفة، ويجمعون بين ساكنين أو ثلاثة، ويبدؤون بالساكن، وهكذا ينطقون بها "كما ينطقها أهلها" وليتهم فعلوا هذا حقًّا، إنما هم ينطقون كل كلمة أجنبية، إما كما ينطقها الإنجليز، وإما كما ينطقها الفرنسيون، حتى لو كانت الكلمة فارسية أو هندية أو صينية أو يابانية أو جاوية، أو ما شئت من لغات أمم سمعنا بها، ومن لغات أمم لم نسمع بها! ! وإن شئت مصداق قولنا فاستمع للإذاعة في "الراديو" من مصر ومن غيرها، وتأمل نطق المتحدثين من المتعلمين والمثقفين بالعربية، حين يعثر لسان أحدهم بكلمة أجنبية، وانظر كيف "يتفاصح" فيعوج لسانه ويتمطى ويلين، يحاول أن ينطقها كما ينطقها أهلها "الإنجليز أو الفرنسيون" فقط، فتسمع لغة عربية أعجمية "حديثة"! ! ودع عنك أن هذا "التفاصح" إنما يحرصون عليه في الألفاظ الأعجمية، أما قواعد اللغة العربية، وأما صحة الألفاظ العربية فلا "يتفاصح" فيها أحد، إلا القليل النادر. وهكذا فعلوا في الكتابة، حتى ما كتب خطأ في اللغات الأخرى، يحرص أبناء العربية على كتابته على الخطأ، كما ورد عن السادة الذين نقلدهم! وأقرب مثل لذلك اسم البلدة الهندية "دهلي" الشهيرة، اسمها عند أهلها "دهلي" وكتبها كذلك علماء الهنود الكبار الذين ألفوا نفائس الكتب بالعربية، وهكذا نسبتهم إليها، مثل العلامة الكبير "شاه ولي الله الدهلوي"، ومع ذلك فإن الإنجليز أخطؤوا
فنطقوها وكتبوها "دلهي" بتقديم اللام، ويظهر في أن هذا خطأ قديم، منذ أن عدوا على الهند واستعمروها، ولكن الإنجليز قوم محافظون، لا يهون عليهم أن يلعبوا بلغتهم، حتى لو نقلوا إليها نقلًا خطأ، إذا شاع على ألسنتهم. ومن أعجب ما يتصل بهذا أني رأيت كتابًا في الطب باللغة الأردية، طبع على الحجر في دهلي، ومؤلفه اسمه "الدكتور
…
الدهلوي" وكتب اسمه على صحته هكذا بالحروف العربية في أول الكتاب وبالحروف الإفرنجية في آخره، ثم كتب اسم البلد الذي طبع فيه الكتاب "دلهي" فهذا هندي دهلوي يتبع الأجانب في خطئهم في تسميته بلده.
ومن العجب أيضًا أن أرى رجلًا من كبار علمائنا وأدبائنا يكتب في بعض مؤلفاته الأعلام الإفرنجية، ويتأنق في ضبطها، فيضع علامتي السكون على حرفين متتابعين، بل يضع علامة السكون على آخر حرف من العلم، وهو موضع الإعراب في العربية! ولست أدري كيف طاوعته يده على هذا، وهو رجل "محافظ" مثلي - على التعبير الحديث - يحمل شهادة العالمية التي أحملها، وإن كان له فضل السبق إليها، وما أظنه نال شهادة غيرها، وقد تعلمنا فيما تعلمنا بابًا في النحو في "موانع الصرف" وأن منها "العلمية والعجمة" وأن من أحكامه أن العَلَمِ الأعجمي الأصل يعرب بالضمة في حال الرفع وبالفتحة في حالي النصب والجر، ولم يذكروا أبدًا أنه يعرب بالسكون أو يبنى على السكون! والأعلام الأعجمية الأصل جرت عليها هذه الأحكام في القرآن والحديث والشعر والنثر، لم يجرِ عليها
حكم آخر أبدًا، فأنى جاءت هذه الطريقة المحدثة إلّا من التقليد ومن إخضاع أرواحنا وعقولنا إلى الأجانب؟ ! ولو تأمل المتأمل، وأنصت السامع، لما يتحدث به أكثرنا وما يكتبون، لرأى هذا الخطأ شائعًا ذائعًا، لا يكاد يتحرز منه أحد، فترى كل الناس تكتب - مثلا - اسم "تشرشل" هكذا بالتاء قبل الشين! وليس في الاسم في لغتهم هذا، إنما هي شين صرف، تثقل تثقيلًا خاصًّا هو أقرب إلى لثغة بعض ذوي العاهة من أبناء العربية إذا ما نطقوا بهذا الحرف، ولا أزال أذكر أنه كان يكتب قديمًا في الصحف دون هذه التاء المنكرة التي يبدأ بها ساكنة، وما سمعت عاميًّا ينطقه على فطرته بعد كتابته بالتاء إلَّا النطق الذي تقتضيه لغة العرب "تشرشل" بكسر التاء والشين معًا، يجعلونهما حرفين حقيقيين لا حرفًا واحدًا خارجًا على اللغة، وهكذا كثير من المثل التي نراها ونسمعها في هذه الأعلام.
وأغرب من كل هذا، أني حين أنصت للمتحدثين من الأدباء والمثقفين من أبناء العروبة المخلصين لها، أجدهم حين يتحدثون بلغة أجنبية: إنجليزية أو فرنسية، إذا جاء على لسانهم في حديثهم علم عربي نطقه الإفرنج نطقًا خاصًّا على لغتهم، نطقوه نطق الإفرنج الخلص! ونسوا القاعدة التي يتبعونها في لغتهم إذا نقلوا إليها علمًا أعجميًّا، نسوا أن ينطقوا العلم العربي كما ينطقه أهله العرب، وهم منهم، بل من خيرتهم! !
فالمسألة نفسية روحية، قبل أن تكون علمية لغوية.
* * *