الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات
وسماعهم نداء المستغيثين بهم عند الكربات
وفيه ثلاثة مباحث:
-
المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات
، وجعلها حياة دنيوية.
- المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى نداء المستغيثين بهم عند النوازل.
- المبحث الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في حياة الأموات وسماعهم نداء المستغيثين بهم.
المبحث الأول
في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات حياة دنيوية
لقد سبق أن ذكرت: أن القبورية تعتقد أن الأموات من الصالحين ولا سيما الأنبياء والشهداء- أحياء في قبورهم حياة دنيوية جسدية، حسية، حقيقية، عنصرية، بل أعلى وأقوى من حياتهم الدنيوية، وقصدهم بذلك أن الأموات من الصالحين أحياءٌ يسمعون نداء المستغيثين بهم ويعلمون أحوال المستنجدين بهم، ليبرروا بهذا التمهيد الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات.
ولعلماء الحنفية نصوص ترد على عقيدة القبورية هذه، وحاصلها: أن الحياة البرزخية ثابتة لجميع الموتى، ولكن تلك الحياة تختلف عن الحياة الدنيوية لا تقاس عليها، فإن الحياة البرزخية لا تُحَسّ ولا تدرك بمشاعر الأحياء، قال الله تعالى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] .
1 -
قال الإمام النسفي (710هـ) في تفسيره قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] : (لا تعلمون ذلك، لأن حياة الشهيد لا تعلم
حسا) .
2 -
وقال الإمام أبو السعود العمادي (982هـ) :
(ولكن لا تشعرون بحياتهم، وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به المشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية، وإنما هي أمر روحاني لا يدرك بالعقل، بل بالوحي) .
3 -
وقال الإمام أبو منصور الماتريدي (333هـ) :
(إن أرواح الشهداء في الغيب
…
) .
4 -
وقال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1170هـ) :
(أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر، لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها، ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي) .
5 -
وقال رحمه الله: (وعندي: أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت شهيد وغيره، وأن الأرواح- وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها- مغايرة لما يحس به من البدن، لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف) .
6 -
وقال رحمه الله أيضا: (وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مئات السنين،
وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها، فذلك مما رواه هيان بن بيان، وما هو إلا حديث خرافة * وكلام يشهد على مصدقية تقديم السخافة*) . قلت: الحاصل: أن الحياة البرزخية ليست من جنس الدنيوية، فللحياة الدنيوية أحكامها، كما أن للحياة البرزخية أحكامها، فلا تقاس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية البتة.
وأقول: لقد بطل بتصريح هؤلاء الأعلام من الحنفية جميع أباطيل القبورية وأساطيرهم من سماع الأموات نداء الأحياء، وعلمهم بأحوال المستغيثين بهم، وتصرف الأرواح في الكون، وتشكلها بأشكال مختلفة، وإتيانها إلى بيوت أهل الدنيا، وإتيان الموتى بالأجساد العنصرية المادية الدنيوية، وخروجها من القبور لإغاثة المستغيثين وإنجاد المستنجدين، إلى غير ذلك من وثنيات القبورية التي ذكرت بعض الأمثلة منها.
ولذلك قال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد مبطلا مزاعم
القبورية الذين يزعمون أن الأرواح تتشكل وتأتي إلى بيوت أهل الدنيا وتنصر الأولياء، وتدمر الأعداء، ونقل كلامه كل من العلامتين: نعمان، وشكري، وشيخ القرآن، والشيخين الرباطي والرستمي:
(ومنهم [أي من القبورية الغلاة] من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم..، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله تعالى.. ما أجهلهم.. وأكثر افتراءهم..
ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم [أي أئمة القبورية] يقولون:
إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه؛ وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة* وكلام سلف الأمة*، وقد أفسد هؤلاء [أي القبورية وعلماؤهم] على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذلك لأهل النحل والدهرية.
نسأل الله العفو والعافية) .
وقال رحمه الله أيضا في إبطال قول من زعم: أن أرواح الأولياء
مدبرات لأمر هذا العالم، وتبعه حفيده شكري الآلوسي (1342هـ) واللفظ للجد:
(وفي حملها [أي في حمل {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ، [النازعات: 5] على النفوس الفاضلة [أي أرواح الأولياء] المفارقة [بعد موتهم]- إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول: من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم: بنحو من شفاء المريض، وإنقاذ الغريق، والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى: أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء.
والكل جهل، وإن كان الثاني أشد جهلا
…
) .
قلت: الحاصل: أن الحياة البرزخية ليست حياة دنيوية، فلم يثبت أن الميت يتصرف في الأمور كما يتصرف الحي فيما تحت الأسباب.
فبطل زعم القبورية: أن الأولياء بعد موتهم يسمعون نداء المستغيثين بهم وأصوات المستنجدين بهم، وأنهم يغيثونهم، ويعلمون بحالهم، بحجة أنهم أحياء حياة دنيوية جسدية محسوسة، ولذلك قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :
(وكون الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذا الخلص من عباد الله- أحياء في قبورهم حياة برزخية-
لا يقتضي أن يثبت لهم شيء من خصائص الإلهية، كما أن حياتهم الحقيقية لا تقتضي ذلك) .
وقال جده الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) في الرد على هؤلاء القبورية المعتقدين أن الأموات أحياء حياة دنيوية، المستغيثين بالأموات مبينا لهم: أن الأموات غافلون عن ندائهم:
(إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم: مثل يا سيدي فلان.. أغثني..
وليس ذلك من التوسل المباح في شيء
…
واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه [على سبيل الفرض] فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد:
أن المدعو الحي الغائب، أو الميت المغيب، يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير، ودفع الأذى، وإلا لما دعاه * ولا فتح فاه * وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله القوي الغني الفعال لما يريد، ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من:" «أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله عنه: " قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من»
«هذا المنافق ". فجاءوا إليه فقال: " إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى» ".
لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور - الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه* والإصاخة إلى أهل ناديه*- أمر يجب اجتنابه * ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه*، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضي حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء، وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن: أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات
…
هيهات..
إنما هو شيطان أضله وأغواه* وزين له هواه*، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام* ليضل عبدتها الطغام* وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له
…
ولقد ساء ما يحكمون....) .
قلت: الحاصل: أنه قد تبين من نصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية أمور مهمة آتية، كلها تقضي على عقائد القبورية:
الأول: أن الحياة البرزخية ليست حياة دنيوية محسوسة.
الثاني: قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية باطل، لأنه قياس مع الفارق.
الثالث: أن عقيدة تصرف الأرواح وتشكلها بأشكال مختلفة من العقائد الخرافية والأباطيل والأساطير.
الرابع: أن عقيدة خروج الأرواح من القبور وإتيانها إلى أبواب أهل الدنيا ومناصرتها لأوليائها، وتدميرها لأعدائها، من أباطيل القبورية الوثنية.
الخامس: أن إتيان الموتى إلى الدنيا بأجسادها العنصرية لفصل القضاء، وغيره من المهمات ومناصرة الأولياء، وتدمير الأعداء- من أعظم أباطيل القبورية الوثنية وأساطيرهم الخرافية.
وأود أن أذكر ههنا نصين مهمين لعلماء الحنفية، لتكون فيهما عبرة للقبورية، ونكال للديوبندية:
الأول: قول الفقهاء الحنفية:
(إن من ظن: أن الميت ينصرف في الأمور دون الله، واعتقاده ذلك
كفر) .
والثاني: قول الفقهاء الحنفية أيضا: (من قال: أرواح المشائخ حاضرة تعلم يكفر) .