المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ٢

[شمس الدين الأفغاني]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌ المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات المباركة التي تحذر من الشرك

- ‌المبحث الثانيفي ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌الفصل الثانيفي عدة قواعد وضوابط فقهية لعلماء الحنفية

- ‌الفصل الثالثفي بيان عدة ذرائع الشرك التي صرح علماء الحنفية بوجوب سدها

- ‌القسم الأولفي عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين

- ‌القسم الثانيغلو القبورية في تصرفه صلى الله عليه وسلم في الكون

- ‌القسم الثالثغلو القبورية في سماعه صلى الله عليه وسلم لنداء المستغيثين به

- ‌القسم الرابعغلو القبورية في حياته صلى الله عليه وسلم البرزخية

- ‌الفصل الثانيفي غلو القبورية في بعض الأولياء خاصة

- ‌الثاني الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية

- ‌الثالثالبدوي

- ‌الفصل الثالثفي غلو القبورية في الأولياء عامة

- ‌المبحث الثانيفي التنبيه على أمر مهم

- ‌المبحث الثالثفي التنبيه على أمر أهم من الأول

- ‌القسم الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال الغلو إجمالا

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثانيفي استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثالثفي نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى

- ‌المبحث الثالثفي إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية

- ‌المبحث الثانيفي تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالثفي ذكر بعض نصوص علماء الحنفيةفي إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبوريةفي التصرف في الكون لغير الله سبحانه

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية ردا على عقيدة القبوريةفي زعمهم التصرف في الكون للصالحين

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

- ‌ الفصل الأول: في عرض أمثلة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله

- ‌المبحث الثالثفي بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبوريةفي استغاثتهم بغير الله عند الكربات

- ‌لمطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة بالأحياء الغائبين وبالأموات

- ‌المطلب الثانيفي بيان ترجيح القبورية الاستغاثة والتوسل بالأموات

- ‌المطلب الثالثفي بيان استغاثات القبورية المتفرقات

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

- ‌ المبحث الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بعدة آيات من كتاب اللهعلى إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الثانيفي ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية علىإبطال عقيدة القبورية

- ‌ المطلب الأول: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله أمر محرم

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في تحقيقهم أن القبورية أشد شركامن الوثنية الأولى

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

الفصل: ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

‌الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في تحقيقهم أن القبورية أشد شركا

من الوثنية الأولى

، وأنهم أشد خوفا وأكثر خضوعا وأعظم

عبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات

وفيه مبحثان:

-‌

‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

.

- المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد خوفا وأكثر خضوعا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات.

ص: 1169

المبحث الأول

في جهود علماء الحنفية في تحقيق

أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

لقد تبين في المباحث السابقة على لسان علماء الحنفية:

أن الاستعانة بالأموات محرمة في شرع الله، بل إشراك بالله، بل أُمّ لعدة أنواعٍ من الشرك بالله.

وفي هذا المبحث أذكر نصوص علماء الحنفية على أن القبورية باستغاثتهم بالأموات أشد شركا من الوثنية الأولى، حيث يدعون غير الله عند إلمام الملمات* ويتركون رب البريات* كما سأذكر في المبحث الذي يليه نصوص علماء الحنفية على أن القبورية أشد خوفا، وأكثر خضوعا، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات*

وبهذه المباحث يتحقق لكل منصف، طالب للحق، ذي عينين: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات، لم يرتكبوا إشراكا بالله تعالى فحسب، بل ارتكبوا أمّا لعدة أنواعٍ للشرك.

وأن القبورية قد وصلوا في إلحادهم وإشراكهم بالله، ووثنيتهم، وعبادتهم للقبور وأصحابها- إلى حد صار شركهم أشد من الوثنية الأولى.

ص: 1171

وأنهم وصلوا في الاستخفاف برب الكائنات* واستغاثتهم بالأموات عند الكربات* إلى حد قالوا: إن الاستغاثة بالله تضر بالمكروب، وتؤخر قضاء الحاجات* وإن الولي أسرع إجابة من الله حينما يدعوه المكروب لدفع الكربات* بل يتبين أن القبورية قد وصلوا في التهوين بشأن الله تعالى وعبادته وخوفه والتضرع إليه إلى حد صاروا أشد خوفا، وأكثر خضوعا، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات* وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية * لتحقيق هذه المباحث، كشفا عن فضائح هؤلاء القبورية * * فأقول وبالله أستغيث * وبه أستعين* * إذ هو المستغاث المغيث* وهو المستعان المعين *:

1 -

5- قال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) - وتبعه العلامتان ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ)، والشيخان: الأديب الأريب الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، والرستمي الملقب بشيخ القرآن والحديث- في تفسير قوله تعالى:.... {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

[يونس: 22]، واللفظ للأول:

(.. الآية دالة على أن المشركين [السابقين كانوا] لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال [من الشدة] ، وأنت خبير بأن الناس [القبورية] اليوم- إذا اعتراهم أمر خطير*

ص: 1172

وخطب جسيم* في بر أو بحر- دعوا من لا يضر ولا ينفع* ولا يرى ولا يسمع * فمنهم من يدعو الخضر وإلياس* ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس* ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة* ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة* ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه* بتضرعه ودعاه* ولا يكاد يمر له ببال* أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال* فبالله تعالى عليك: قل لي: أي الفريقين [القبورية والوثنية] من هذه الحيثية [في الاستغاثة عند الشدائد] أهدى سبيلا*؟؟؟، وأي الداعيين [المشرك المستغيث بالله في الشدة، أو القبوري المستغيث بالميت في الشدة] أقوم قيلا *؟؟؟ وإلى الله المشتكى من [أهل] زمان عصفت فيه ريح الجهالة* وتلاطمت [فيه عليهم] أمواج الضلالة* وخرقت سفينة الشريعة* واتخذت الاستغاثة بغير الله للنجاة ذريعة* وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف* وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف*) .

6 -

7- وقال رحمه الله تعالى أيضا مبينا أن ضلال القبورية في باب

ص: 1173

الاستغاثة بالأموات أشد من ضلال المشركين الأولين، وأن القبورية عندهم من الاستخفاف بالله تعالى وإجلال الأولياء ما لا يوجد عند الوثنية الأولى، وذلك في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] ، وتبعه الشيخ غلام الله الملقب بشيخ القرآن (1980م)، واللفظ للأول:

(وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام* [القبورية وأئمتهم الطغام*]- من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم، بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية - سفه عظيم* وضلال جديد، ولكنه أشد من الضلال القديم* [لأن المشركين الأولين كانوا يدعون الله عند الشدائد، بخلاف القبورية اليوم] ومما تقشعر منه الجلود* وتصعر له الخدود* الكفرة أصحاب الأخدود* فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود* أن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير:

إياك، ثم إياك* أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك* فإن الله تعالى لا يعجل في استغاثتك* ولا يهمه سوء حالتك* وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين* [دون الاستغاثة برب العالمين*] ؛

ص: 1174

فإنهم يعجلون في تفريج كربك* ويهمهم سوء ما حل بك* فمجّ ذلك سمعي* وهمي ودمعي * وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين* من أمثال هذا الضلال المبين*، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات* مثل ذلك [من الوثنيات*]

) .

8 -

12- وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) أيضا. وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ)، والشيخان: الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، والرستمي، في تفسير قوله تعالى:

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، مبينين أن القبورية شاركوا الوثنية الأولى في الإشراك بالله تعالى باستغاثتهم بالأموات* ولكن فاقوهم في الكفر بسبب قولهم: إن الولي أسرع إجابة من رب البريات عند الكربات* وهذه غاية في الاستخفاف بخالق الكائنات* ونهاية في الإجلال والتعظيم للأموات* واللفظ للألوسي الجد:

(وقد رأينا كثيرا من الناس * [القبورية الضلال بوساوس الخناس] على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين [حيث سلك هؤلاء القبورية مسلك المشركين الأولين*] يهشون لذكر أموات يستغيثون

ص: 1175

بهم، ويطلبون منهم* ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم * ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل- يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي: يا فلان! أغثني.

فقلت: له: قل: يا الله.

فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .

فغضب، وبلغني أنه قال فلان [يعني الآلوسي] منكر على الأولياء [مستخف بهم]، و [لقد فاق كفرُ بعض القبورية كفر المشركين الأولين من حيث إنني] سمعت عن بعضهم أنه قال:

ص: 1176

" الولي أسرع إجابة من الله عز وجل ".

وهذا من الكفر بمكان* [لم يعرف عن عباد الأوثان*] نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان) .

13 -

14- وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) مُبَيِّنين أن كفرَ القبورية شر من كفر الوثنية، واللفظ للأول، والثاني شريكه في المضمون فقط:

(وهذا الكفر شر من كفر عباد الأصنام:

فإن أولئك لم يكونوا يطلبون من الأوثان كل ما يطلبونه من الرحمن، بل [كانت] لهم مطالب لا يطلبونها إلا من الله، كما قال الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] ، فبين أنه إذا جاء عذاب الله، أو أتت الساعة- لا يدعون إلا الله، فلا يطلبون كشف الشدائد* وإنزال الفوائد* إلا منه، فمن جوز طلب ذلك من المخلوق- كان أضل من هؤلاء المشركين؛ وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ) .

15 -

16- وقالا رحمهما الله في بيان أن القبورية أشد شركا من المشركين السابقين، واللفظ للثاني:

ص: 1177

(.... سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات* ولدفع الكرب والمهمات*:

مما لا يقدر على دفعه ورفعه إلا خالق الأرض والسماوات* وقد كان المشركون الأولون إذا وقعوا في شدة- {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، ومن فعل هذا بحالتي الشدة والرخاء* بل في قسمي المنع والعطاء* - فقد غلا وجاوز حده* واستحق أن يكون سيفُ الرسالة غِمْدَه *

) .

17 -

18- وقال العلامتان السهسواني (1326هـ) ، والخجندي (1379هـ) في بيان أن القبورية أعظم شركا من الوثنية الأولى، في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات والملمات- واللفظ للأول:

(فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم

؛ بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن [أهل] الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد عند الأمور كما حكى الله عنهم بقوله:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}

ص: 1178

[الإسراء: 67]، وبقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40]

؛ وبقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] ، بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهمتهم الشدائد- استغاثوا بالأموات ونذروا لهم.

وقل من يستغيث بالله سبحانه في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم.

ولقد أخبرني بعض من ركب البحر أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله) .

19-

وقال العلامة السهسواني رحمه الله (1326هـ) :

(فإذا عرفت هذه فاعرف أن المشركين الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف شركا من عباد مشركي زماننا؛ لأن أولئك كانوا يخلصون لله في

ص: 1179

الشدائد، وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدة والرخاء، والله المستعان) .

20 -

21- ولقد حقق العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله، والشيخ فضل الله أحد المعاصرين: أن القبورية أشد كفرا، واشنع شركا في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات من الوثنية الأولى - من جهتين:

الأولى: أن المشركين السابقين كانوا يخلصون الاستغاثة لله سبحانه عند الكربات بخلاف هؤلاء القبورية فإنهم يدعون الأموات عند أشد الكربات والبليات الملمات.

والثانية: أن المشركين السابقين كانوا يدعون الأنبياء والأولياء والملائكة، بخلاف هؤلاء القبورية، فإنهم كثيرا ما يدعون الفسقة والفجرة الأموات.

والنص للأول رحمه الله: فاستمع له وأنصت لتعرف حقيقة شرك القبورية:

(اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل عصرنا من وجهين:

أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى:

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] .

وقال تعالى:

ص: 1180

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] .

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}

إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] .

وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] .

فمن فهم هذه المسألة التي أوضحها الله تعالى في كتابه:

وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعون الله، ويدعون غيره في الرخاء.

وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له وينسون ساداتهم- تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا والله المستعان.

والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين عند الله، إما أنبياء، أو أولياء، وإما ملائكة

؛ وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور في الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك.

ومن يعتقد في الصالحين، ومن يعبد ما لا يعصي كالخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) .

ص: 1181

22 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله، في بيان أن القبورية وصلوا في الشرك إلى حد أشركوا بالله حتى في الربوبية، فصار إشراكهم عند الاستغاثة بالأموات واعتقادهم التصرف بهم أعظم وأشد من شرك المشركين الأولين:

(

، ما يعتقده عباد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأن لهم قدرةً على إجابة المضطر وإغاثة الملهوف وقضاءِ حوائج السائلين- فهذا شرك في الربوبية، لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفا وتدبيرا) .

23 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله أيضا- في بيان إبطال قول البوصيري (694هـ) الصوفي الخرافي، رادا على من حاول تأويله ممن كان على شاكلة البوصيري من القبورية، مبينا ما فيه من شناعة وشرك أعظم، وأن شرك القبورية في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات والملمات أشنع وأبشع وأعظم وأشد من شرك مشركي الجاهلية الأولى:

(وأما ما انتقده أهل العلم والدين على كلام البوصيري - فكثير جدا، من ذلك قوله:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

، إن قول البوصيري هذا أشنع وأبشع

؛ لما تضمنه من الحصر،

ص: 1182

ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجلل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] ؛ فدعاء غير الله في الأمور العامة الكلية- أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة التي هي الحادث العمم.

وأما من قال من الغلاة في الاعتذار عنه:

إن مقصوده الشفاعة والجاه- فهذا لا يفيده شيئا؛ لأن عامة المشركين إنما يقصدون هذا، ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة، كما حكاه القرآن في غير موضع) .

24 -

وقال العلامة شكري الآلوسي رحمه الله (1342هـ)، مبينا أن القبورية أعظم شركا من أهل الجاهلية الأولى في باب الاستغاثة بالأموات* عند الكربات ونزول البليات وإلمام الملمات*:

(ومن ذهب إلى مشاهد أهل البيت وغيرهم من الأولياء في بغداد في موسم الزيارات- تحقق ما ذكرناه، واستقل بالنظر إلى فعل هؤلاء ما كان يفعله المشركون عند آلهتهم

ص: 1183

كاللات والعزى، وقد رأيت والله بعيني رأسي من سجد للأعتاب * معرضا عن رب الأرباب* ولا أقول: إن العوام فقط على هذا المنوال* فكم قد رأينا وسمعنا عمن يدعي العلم- قد فعل هذه الفعال*) .

25 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله ذاكرا أنواعا كثيرة من الشرك الذي وقع فيه أهل الهند وغيرها من أهل البلاد، مبينا أن القبورية قد وصلوا في الشرك إلى حد عجزت الجاهلية عن أقل قليل شرك القبورية، وأن القبورية أشركوا الأحجار، والآبار، والصخور، والأشجار، بالله سبحانه:

(ومن ذلك عند الناس شيء كثير من أحجار، وآبار، وصخور، وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء- لو رجعتِ الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات، وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات) .

26 -

وقال رحمه الله بعد الاستدلال بقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}

[النمل: 65] ، مبينا أن القبورية أشد شركا من

ص: 1184

المشركين الأوائل:

(انظر إلى هذا الاستفهام، وحسن موقعه، بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها، تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعائهم آلهتهم، والاستغاثة بهم في الملمات * والشدائد المذهلات* وأن أهل الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد* ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء، وهؤلاء [القبورية] يشتدُّ شركهم عند الضر ونزول الشدائد *) .

27 -

وقال رحمه الله، مبينا أن عباد القبور أشد شركا من عباد الأصنام:

(والرسول صلى الله عليه وسلم أبطل دين المشركين ومداره على الاستغاثة والالتجاء إلى غيره، وهي كانت عبادة الوثنيين، وكالذبح، والنذر، غير أنهم كانوا عند النوائب ليستغيثون بالله سبحانه، بخلاف عباد القبور في عصرنا) .

28 -

وقال رحمه الله مبينا أن شرك القبورية أدهى وأمر من شرك المشركين السابقين:

(.... يغالون في الصالحين بما لا يرضى الله به، ويبنون على قبورهم المساجد والمشاهد، ويوقدون السرج، إلى غير ذلك من البدع، ثم إنهم يندبونهم في المهمات* ويستغيثون بهم عند طلب

ص: 1185

الحاجات* وكل ذلك وأمثاله مما لا يرضى به الله ورسوله، ولا أهل العلم والدين، فإنه من أفعال مشركي العرب في الجاهلية، بل هو أدهى وأمر) .

قلت: لأن المشركين الأولين كانوا لا يستغيثون بغير الله عندما كربتهم الكروب، بخلاف القبورية فإنهم يستغيثون بالأموات* حتى في أعظم الشدائد والكربات * فصار شركهم أدهى وأمر من شرك المشركين السابقين.

29 -

وقال العلامة محمد سلطان المعصومي الخجندي (1379هـ) رحمه الله، مبينا أن القبورية أشد شركا في باب الاستغاثة من الوثنية الأولى:

(إن هؤلاء القبوريين قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات* لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن [أهل] الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، كما حكاه الله تعالى عنهم في [عدة] آيات، بخلاف المعتقدين في الأموات، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد- استغاثوا بالأموات، ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله سبحانه وحده في تلك الحال) .

ص: 1186

30-

وقال رحمه الله في الرد على مؤلف كتاب " آه مهجوران " الحنفي، مبينا أن القبورية، ولا سيما هذا المؤلف أخبث حالا وأشد شركا من مشركي الجاهلية في باب الاستغاثة:

(اعلموا أيها المسلمون، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أن مخمود مؤلف " آه مهجوران "- أخبث حالا، وأشد شركا وكفرا من مشركي الجاهلية - الذين ذمهم الله تعالى، وأوعدهم؛ لأنهم كانوا يدعون الله تعالى وحده عند الشدائد، كما قال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:

ص: 1187

32] ، بخلاف المخمود، فإنه إنما دعا عبد القادر الجيلاني وحده، وطلب منه كشف الشدائد، ودفع البلاشفة، فهو أشد كفرا وشركا من كل المشركين، نعوذ بالله منه ومن شركه) .

31 -

ولقد ذكر الشيخ الغلام الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) - عدة آيات تدل على أن المشركين كانوا يدعون الله وحده عند الملمات والكربات، ثم قال:

(تنبيه: لقد تبين من هذه الآيات أن مشركي مكة لم يكونوا يدعون عند نزول الملمات إلا الله عز وجل وحده لا شريك له، ومع ذلك كانوا مشركين؛ لأنهم كانوا يدعون غير الله في غير ذلك الوقت، ولكن مشركي اليوم القبورية، قد سبقوا مشركي مكة وتجاوزوا الحد؛ لأنهم يدعون غير الله حتى وقت نزول الملمات بهم، فيقول أحدهم:

إن السفينة قد وقعت في بحر البلاء: المدد يا معين الدين الجشتي.

ص: 1188

ويقول الآخر: يا بهاء الحق ادفع السفينة وأخرجها) .

32 -

33- وقال ابن آصف الملقب بشيخ القرآن (1407هـ) ، والعلامة الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، مبينين أن شرك القبورية أشد، وكفرهم أعظم من الوثنية الأولى: (وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه:

أن كثيرا من هؤلاء القبورية أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه- حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني- تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إن الله تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين* ويا ملوك المسلمين* أي رزء للإسلام أشد من هذا الكفر؟؟؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟؟؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟؟؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟؟؟) .

34 -

وقد ذكر العلامة الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول في

ص: 1189

صدد رده على القبورية، وإبطال استغاثاتهم بالأموات عند الكربات:

قولهم: " يا سيدي فلان اشفني، أو اشف مريضي، أو اكشف كربتي، واقض حاجتي، أو أهلك عدوي، وعليك أن تفعل كذا وكذا، وأنت وكيلي، وأنت كفيلي، ثم قال في إبطال قولهم مبينا أنهم في هذه الاستغاثات بالأموات عند الكربات أشد شركا من المشركة الأولى:

(ليس [هذا] من التوسل المباح في شيء، بل هو كفر بواح، وإشراك بالله في التصرف والقدرة والدعاء، يجب استتابة المبتلى به، فإن تاب وإلا يقتل، وليس هذا أقل من شرك المشركين الذين أنزل لإصلاحهم القرآن، وبعث لدعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أزيد من شركهم بكثير، وذلك لأن مشركي مكة وغيرهم كانوا قائلين بوجود الله تعالى، وأنه خالق السماوات والأرضين، وخالقهم، وخالق آبائهم الأولين، وأن بيده ملكوت السماوات والأرض وأنه يدبر الأمر، وأنه يجير ولا يجار عليه، وأنه سخر الشمس والقمر، وأنه يجري السحاب، وينزل الأمطار، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [" فإذا.... " العنكبوت: 65] ؛ ولم يكن أحد من المشركين يثبت لله شريكا يساويه في العلم والقدرة وسائر الصفات، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، وإنما اتخذوا من دون الله أولياء قصدوا بعبادتهم التقرب إلى الله، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكانوا يحجون، ويعتمرون، ويطوفون بالبيت، ويلبون، ويقسمون

ص: 1190

بالله، وكانت أصنامهم تماثيل الأنبياء، والملائكة، والجن، والصالحين من عباد الله والكواكب العلوية، وكان مبدأ شركهم هو الغلو في الصالحين) .

ثم ذكر ثلاثين آية لتحقيق هذه المطالب، كما ذكر عدة أحاديث لبيان عقائد المشركين السابقين.

35 -

وقال أيضا بعدما ذكر عدة آياتٍ وأحاديث وأقوال أهلِ العلمِ في بيان عقائد المشركين الأولين، مبينا أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى في استغاثاتهم بالأموات عند الملمات والكربات:

(وإذا أحطت بما ذكرنا علما- أدركت أن كفرَ المشركين من المؤمنين في أمة رسولنا صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم، أعظمُ من كفر الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت أن الله تعالى ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا غير الله من السادة والقادة والطواغيت، فلم يدعوا أحدا منهم، ولم يستغيثوا بهم، بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، وأنت ترى أن المشركين المدعين للإيمان من المسلمين- وفيهم من يدعي أنه من أهل العلم والفضل، وفيه الصلاح والزهد، والاجتهاد في العبادة- إذا مسه الضرر وأهمه أمر من أمور الدنيا- قام يستغيث بغير الله من الأولياء،

ص: 1191

كمعروف الكرخي والشيخ عبد القادر الجيلاني، وسالار مدار ونحوهم

؛ وأشنع وأفظع وأقبح وأعظم جرما وأطم ضلالة- أنهم يستغيثون بالطواغيت، والأجداث، وأهل القبور، والمردة من الجن والشياطين، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويسافرون إلى أنصابهم، ويفزعون إلى أحبارهم ورهبانهم) .

36 -

وقال شيخ القرآن الفنجفيري رحمه الله (1407هـ) بعدما ذكر عدة نصوص، مبينا أن شرك القبورية أقبح، وأشد، وأشنع، وأبشع من شرك الوثنية الأولى:

(فتبين أن شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك العرب وكفرهم، وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم أعظم كفرا من اتخاذ أولئك) .

37 -

وقال رحمه الله أيضا مبينا أن القبورية أعظم شركا من المشركين الأولين أضعافا مضاعفة:

ص: 1192

(ولا شك أن هذا الشرك قد شاع أضعافا مضاعفة مما كان عليه مشركو العرب، كما قيل

والمشركون أقل شركا منهم

هم خصصوا ذا الاسمَ بالأوثان

)

38 -

وقال رحمه الله أيضا لتحقيق هذا المطلوب:

(فالمشركون كلهم أجمعون كانوا يقرون بالخالق الواحد، كما أخبر سبحانه في غير ما آية، لكن شركهم أقل من شرك المستنجدين بالقبور اليوم، فإنهم كانوا يدعون الله تعالى في المصائب الشديدة، والأهوال العظيمة، كما قال تعالى: / 30 {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]

) .

39 -

وقال رحمه الله محققا أن القبورية أشد شركا من المشركين السالفين:

(....لكن المشركون الذين أنزل فيهم القرآن- كانوا يدعون الله في الأمور العظام، وهؤلاء المشركون [القبورية] يدعون غيره، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

ص: 1193

[يونس: 22]، وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]

) .

ثم ذكر قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل التي تدل على أن المشركين كانوا يدعون الله في الشدائد فقط.

40 -

وقال رحمه الله: (وقد زادوا أوصافا للأولياء الكرام والأنبياء العظام مشركين بالله العظيم، فقالوا: بعلم الغيب لهم، وأن لهم التصرف فيما يختارون ويهبون للناس ما يشاءون وتقربوا بهم إلى الله العظيم بالوسائل الشركية كالمشركين، الذين كانوا يقولون:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، ويستغيثون بهم في الشدائد ويتضرعون إليهم ويتقلبون أعتابهم، ويطوفون حول قبورهم، وينذرون لهم ويسجدون،

ص: 1194

فوق عابدي اللات والعزى

؛ ويسألون من الموتى النصر، والرزق، والعافية من الأمراض، وقضاء الدين، وتفريج الكربات التي كان عباد الأصنام يسألون منهم، وجعلوا من العبادة غير الله كالدعاء، والاستغاثة، والنذر، والنحر وغيرها) .

41 -

وقال الرستمي الملقب بشيخ القرآن والحديث بعد ما ذكر قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل، وحقق أن المشركين الأولين كانوا لا يدعون في الملمات إلا الله تعالى وحده- مبينا أن القبورية أشد شركا منهم:

(فلا يخفى على من تدبر وتفكر أن الناس [القبورية] اليوم أعظم شركا من المشركين السابقين؛ لأنهم كانوا يدعون في الشدائد الإله الحق [فحسب] ، وأهل هذا الزمان [من القبورية] يدعون في البليات الأولياء، ويقول أهل ناحيتنا:

" يا بير بابا، أدركني "،

ص: 1195

ويقول بعضهم: " يا بهاء الحق، ادفع السفينة وأخرجها "، ومثل هذا، فما هذا إلا شرك أعظم) .

42 -

وقال بعدما ذكر عدة آيات ونصوص بعض العلماء في بيان عقيدة المشركين السابقين، وتحقيق: أنهم كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأنهم لم يكونوا يدعون غير الله تعالى عند الملمات، مبينا أن القبورية من هذه الناحية أعظم شركا منهم:

(فعلم من جميع هذا التحقيق الأنيق* والتفصيل الدقيق*: أن المشركين السابقين كانوا يجحدون توحيد الإله فقط [ولا ينكرون توحيد الرب]، فليتأمل الذين يعتقدون: أن الأنبياء أعطاهم الله التصرف في أمورنا وأموالنا وأنفسنا، وهم يدفعون عنا البلايا بالقوة العطائية، ولذا ينذرون لهم، ويستبشرون بقصصهم، ولو كان مما لا يستمع له أولو العقل، والبصيرة،

ص: 1196

كما اشتهر في شأن الشيخ عبد القادر جيلاني، من أنه بدل التقدير لرجل في اللوح المحفوظ، أو أنه أخرج سفينة مشحونة غريقة بعد اثني عشر سنة، فليتدبر!! أي فرق بين هذه الطائفة الضالة [القبورية] ، وبين الذين قبحهم الله، وأنذرهم بالعذاب المهين الأليم؟؟؟، [بل القبورية أشد شركا منهم لدلالة هذه الآيات الكريمة التي مرت] ....) .

ص: 1197

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد خوفا

ورجاء وأكثر خضوعا وتضرعا وأعظم توجها وعبادة للأموات

منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات ولو كانوا في أفضل

البقاع وأشرف الأوقات

لقد سبق في المباحث السابقة على لسان علماء الحنفية أن القبورية باستغاثتهم بالأموات* عند الكربات والملمات* مرتكبون للشرك الأكبر بخالق الكائنات*، بل هم مرتكبون للشرك الذي هو أمّ لعدة أنواع من الشرك برب الأرضين والسماوات* وتحقق أيضا على لسان علماء الحنفية في بيان مقارنتهم للقبورية بالوثنية الأولى - مقارنة دقيقة* علمية عميقة*- أن القبورية أشد شركا من المشركين السابقين.

وأذكر في هذا المبحث بعض جهود علماء الحنفية لتحقيق:

أن القبورية أشد خوفا ورجاءً، وأكثر خضوعا وتضرعا، وأعظم توجها وعبادة للأموات * منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات، ولو كانوا في أفضل البقاع، وأشرف الأوقات* وسيظهر بحمد الله تعالى للمنصفين الطالبين للحق على لسان علماء الحنفية: أن القبورية يستغيثون بالأموات* بغايةِ التوجهِ، وإقبالِ القلوب إليهم عند الملمات* ونهاية التذللِ والخضوعِ والتضرعِ لهم لدفع المضرات* وأعظمِ الرجاء منهم عندما يريدون منهم جلب

ص: 1199

الخيرات* وذلك لا يتصور منهم لخالق الكائنات* ولو كانوا في بيوت الله من المساجد، والأسحار في الأوقات* وأن ما تفعله القبورية من بعض العبادات* لرب الأرضين والسماوات*- فهو إنما يفعلونه له على سبيل التكلف والعادات* وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية، لتحقيق هذا المطلوب، والله المستغاث المغيث، وهو المعين المستعان* وبه الثقة والحول والقوة، وعليه الاعتماد والتكلان*:

1 -

4- قال الإمامان: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ)، والشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، واللفظ للأول:

محققين أن القبورية أعظم نشاطا وأكثر اهتماما بالحج إلى القبور وأهلها الأموات* منهم بالحج إلى بيت خالق الأرض والسماوات* وأن الحج إلى القبور عند هؤلاء الطغام*- أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام*:

(ثم في اتخاذ القبور عيدا من المفاسد العظيمة- التي لا يعلمها إلا الله- ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتقبيح للشرك، وتهجين للكفر والبدع، ولكن [غالب العلماء* والأمراء والوزراء* - بين قبوريين أو أموات،

ص: 1200

أو نيام* وفي المثل:] ما لجرح بميت إيلام*،

فمن مفاسد اتخاذها عيدا:

أن غلاة متخذيها عيدا [عند حجهم إليها]- إذا رأوها من موضع بعيد- ينزلون من الدواب* ويضعون الجباه على الأرض [تحقيقا للآداب*] ، ويكشفون الرؤوس، وينادون من مكان بعيد* ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد*، ويرفعون الأصوات بالضجيج* ويرون أنهم قد ازدادوا في الربح على الحجيج*، حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين* ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين* فتراهم حول القبور سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا* وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا*، فلغير الله تعالى، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات* و [ما] يرتفع من الأصوات* ويطلب من الميت من الحاجات* [ما لا يطلب إلا من رب البريات*] ويسأل من تفريج الكربات* وإغناء ذوي الفاقات* ومعافاة أولي العاهات والبليات* [ما لا يسأل إلا من خالق الكائنات*] ، ثم إنهم ينتشرون حول القبر طائفين* تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركا وهدى للعالمين*،

ص: 1201

ثم يأخذون في التقبيل والاستلام* كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام*، كذلك يخرون على الجباه، والخدود* والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود*، يكملون مناسك حج القبر بالتقصير، والحلاق* ويستمتعون من ذلك الوثن، إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق*، ثم يقربون لذلك الوثن القرابين* وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين*، ثم نراهم يهنىء بعضهم بعضا [جاهرا] * ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا* ثم إذا رجعوا [من هذا الحج * بعد أداء مناسك العج والثج*]- يسألهم بعض غلاة المتخلفين* [المتأسفين على فوات الحج إلى المقبورين] *:

أن يبيع ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام* فيقول: لا، ولو بحجك كل عام*، هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم [مما جرى على لساني قالهم، وحالهم] * ولا استقصينا جميعَ بدعِهم وضلالِهم [مما في أقوالهم، وأفعالهم] *، إذ هي فوق ما يخطر بالبال* ويدور في الخيال*) .

ص: 1202

5 -

10- وقال الأئمة الثلاثة: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ)، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد علي المظفري، والفظ للأول:

مبينين أن القبورية بدلوا شرع الله في زيارة القبور، كتبديل اليهود، ولكن القبورية فاقوهم بكونهم أشد خضوعا عند قبور الأموات* الذين يستغيثون بهم، منهم لله في المساجد والأسحار من الأوقات*:

(فبدل أهل البدع، والضلال، قولا غير الذي قيل لهم [في زيارة القبور] ، فإنهم بدلوا الدعاء له [أي الميت] بدعائه نفسه، أو بالدعاء به، وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم -إحسانا إلى الميت، وإلى الزائر- سؤال الميت، والإقسامَ به على الله تعالى، وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وجعلوا حضورَ القلب، وخشوعه عندها أعظمَ منه في المساجد، وأوقات الأسحار....) .

ص: 1203

11 -

17- وقال الإمامان: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ)، والشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامتان: شكري الآلوسي (1342هـ) ، والخجندي (1379هـ) ، وابن آصف الملقب بشيخ القرآن (1407هـ) ، واللفظ للأول، مبينين: أن القبورية أشد تضرعا وخشوعا وخضوعا وعبادةً عند قبور الأموات* الذين يستغيثون بهم لدفع الكربات وجلب الخيرات، منهم لخالق البريات في المساجد والأسحار من الأوقات*:

(فإن الشركَ بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه- أقربُ إلى النفوس من الشرك بشجر، أو بحجر، ولهذا نجد كثيرا من الناس عند القبور- يتضرعون، ويخشعون، ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم- عبادةَ لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها، ولديها- ما لا يرجون في المساجد) .

18 -

وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) مبينا أن الشرك قد عم

ص: 1204

وطم بسبب الجهل بآثار الرسالة، ومن ذلك الاستغاثة بالأموات عند الكربات* وأن القبورية أعظم تضرعا وعبادة للأموات، منهم لرب السماوات*:

(ولا يُجوِّزُ ذلك إلا مَنْ جهَلَ آثارَ الرسالةِ، ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات عند نزول الكربات* يسألونهم ويتضرعون إليهم، فكان ما يفعلونه معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات*) .

19 -

20- وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، ومحمود شكري الآلوسي (1342هـ) رحمهما الله، في بيان أن القبورية أشنع شركا، وأعظم عبادة للقبور، وأهلها وأشد تعظيما، وخشوعا عند الاستغاثة بالأموات عند الكربات:

(....، وربما كان ما يفعلونه أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله تعالى، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف) .

ولهذا النص بداية، ونهاية مهمتان قد سبقتا.

ص: 1205

21 -

وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) مبينا أن القبورية أعظم عبادة للأموات* منهم لله عز وجل، حيث أنهم يرجحون النذور للأموات، والسفر إلى قبورهم على الحج والعج والثج لرب البريات*:

، كيف لا، وقد اتسع الخرق على الراقعين* وقدّمَ السفر إلى مقابر الأولياء على سائر الفرائض كثيرٌ من الجاهلين* بل يقدمه عامة أهل البدع على الحجّ* ويُعد إيفاءُ نذرِه لأصحابها أفضل من العج والثجّ* ويُحسب الطواف حول ذلك الميتِ * شبهَ الطوافِ بينَ أركانِ البيتِ* فألهاهم عن الواجبات التفاخرُ بذلك والتكاثر* وظنوا أن أصلح الأمة من واظب على السفر إلى المقابر *) .

22 -

وقال العلامة السهسواني (1326هـ) مبينا أن القبورية أعظم عبادة، وأشد خوفا وأكثر تعظيما للأموات* منهم لله سبحانه في الحرم وأشرف الأوقات*:

(وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستعانة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور- فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من

ص: 1206

يعتقده، أو قريبا منه لمخافة تعجيل العقوبة ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد، أو قريبا من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الذي يعتقده) .

23-

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ناقلا كلام شيخ الإسلام (728هـ) رحمهما الله تعالى، مستدلا به على أن القبورية أعظم عبادة، وأكثر خضوعا للأموات * منهم في المساجد لخالق الأرضين والسماوات في باب الاستغاثات* محققا أن بعض الغلاة يرجح الحج إلى القبر الشريف على الحج إلى الكعبة المشرفة، وأن القبورية في استغاثتهم بالأموات على طريقة الوثنية الأولى، وأن هذا حال كثير من أهل الزهد والعبادة والعلم من القبورية، فما ظنك بالعوام الطغام* الذين هم أضل من الأنعام*:

(ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كسفينة نوح [عليه السلام] ، [من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق]- أن الذين خرجوا عن المشروع- خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون [إلى الميت]، ويدعو أحدهم الميت فيقول:

" اغفر لي، وارحمني "،

ص: 1207

ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبر الكعبة، ويقول:" القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة "، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع [فما ظنك بمريده العامي] ، فلعله أمثل أصحاب شيخه يقوله عن شيخه، وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق، والاجتهاد في العبادة والزهد- يأمر المريد أول ما يتوب: أن يذهب إلى قبر الشيخ،

ص: 1208

فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها، وجمهور هؤلاء [القبورية] المشركين بالقبور- يجدون عند عبادة القبور من الرقة، والخشوع، وحضور القلب [والخوف والرجاء من المقبور]- ما لا يجدونه في المساجد [والأسحار] ، وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها " مناسك حج المشاهد "، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموها منسكا وحجا، فالمعنى واحد، [ومن هؤلاء من يقول:" وحق النبي الذي تحج إليه المطايا "، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله عز وجل، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا حج البيت] ، وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح- صنف كتابه " الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام "،

ص: 1209

[وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وذكر في مناقب هذا الشيخ، أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا في مناقبه] .

وبسبب الخروج عن الشريعة- صار بعض [أكابر] الشيوخ [عند الناس] :

ممن يقصده [الملوك، والقضاة، والعلماء، والعامة- على طريقة ابن سبعين]، قيل عنه: إنه كان يقول: " البيوت المحجوجة ثلاثة، مكة، وبيت

ص: 1210

المقدس، والبلد الذي بالهند الذي للمشركين"، لأنه [كان] يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال: " أريد أن أسلك على يديك "، فقال له: " على دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ "، فقال له: " واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ "، قال: " لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل "، [ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم:

" إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين، أو ثلاثا- كان كحجة] ، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات- يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها، [كما يعرف المسلمون بعرفات] ،

ص: 1211

كما يفعل بالمغرب والمشرق، [ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه- أفضل من الحج، ويقول أحد المريدين للآخر- وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق-:

" أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ "، فشاور الشيخ، فقال:" لو بعت لكنت مغلوبا "، ومنهم من يقول:" من طاف بقبر الشيخ سبعا- كان كحجة "، ومنهم من يقول:" زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة "، ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال:" كل خطوة إلى قبره كحجة، ويوم القيامة لا أسع بحجة "، وأنكر بعض الناس ذلك- فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه، فزبره على إنكاره ذلك،] وهؤلاء، وأمثالهم صلاتهم، ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم، [وليسوا من عمار مساجد الله

، فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله، وعمار مساجد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح-

ص: 1212

كان إذا رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة- خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه:" ويحك هذا هلال القبة "، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وهؤلاء إذا نوظروا- خوفوا مُناظرهم، كما صنع المشركون بإبراهيم عليه السلام

؛ وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلّله، والحرام ما حرّمه، وكانوا في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوها إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذوه رسولا

؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى، وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني....،] ،

ص: 1213

والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس [من القبورية] مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، و [بعض] هؤلاء لهم صلاح، ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر- خطا إلى جهة [قبر] الشيخ عبد القادر [الجيلاني] خطوات، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس [أهل العلم من القبورية فضلا عن عوامهم الجهال] ، وهؤلاء [القبورية المستغيثون بالأموات علماؤهم وجهالهم] مستندهم-[على جواز الاستغاثة بالأموات* عند الكربات

ص: 1214

والملمات*] مع العادة [العامية الجاهلية التي ألفوها وعاشوا عليها في بيئتهم القبورية]- قول طائفة [من القبورية] : " قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب "؛ ومعهم [شبهة أخرى أقوى من الأولى، وهي:] ، أن طائفة استغاثوا بحي، أو ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع [حتى] في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان [، فلا مستند للقبورية في هذه الحكايات] ، فإن الشياطين تتمثل لهم، [لاستدراجهم وإضلالهم] ، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا- لطال

ص: 1215

المقام) .

24-

ثم علق العلامة الآلوسي (1342هـ) على كلام شيخ الإسلام السابق، مستدلا به قاطعا دابر القبورية عامة، ودابر النبهاني (1350هـ) خاصة، محققا أن القبورية أشد خوفا، وأكثر رجاء، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق الأرض والسماوات في باب الاستغاثات* قائلا: (فتأمل هذا الكلام* [كلام شيخ الإسلام *] ، فإنه يستبين منه ضلال النبهاني، وأضرابه من الغلاة، وقد صرح شيخ الإسلام* [في كلامه هذا، وما أطيب هذا الكلام* بعدة من الفوائد* التي هي من الدرر الفرائد*:

منها] : أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء [والأولياء] ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية.

ومنها: أن بعضهم [من هؤلاء القبورية] أفضى به ذلك- إلى أن يصلي للميت، ويقول:" اغفر لي، وارحمني "، وهذا جائز عند النبهاني، وإخوانه من عباد القبور، سائغ لا ينكر.

ومنها: أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل

ص: 1216

التماثيل، وهذا واقع منهم أيضا [وليس مجرد اتهام وخيال * ولا فرض مقال محال *] ، وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة [بالأموات* عند الكربات] .

ومنها: أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور [وأهلها]- يجدون عند عبادتها [وعبادة أصحابها] :

من الرقة، والخشوع، وحضور القلب- ما لا يجدونه في المساجد، [ولا في أوقات الأسحار!!!، ويجدون من الخوف والرجاء من الأموات* ما لا يجدونه من رب البريات*] !!!.

ومنها: أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند النبهاني، ومن على شاكلته- من الفضائل التي لا تنكر.

ومنها: إنكار الشيخ [شيخ الإسلام] على من صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، [وهو: مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام] في اليقظة والمنام.

ومنها: أن هذا المصنف [من طاماته القبورية: أنه قد] حج مرة،

ص: 1217

وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع، ولم يذهب إلى الكعبة، وفاعل ذلك عند الغلاة أفضل من الحاج!!! ومنها: أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: " البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والصنم الذي في الهند ".

و [منها: أن] بعضهم لا يرى ذلك للصنم الذي في الهند، ويراه لمن يعتقده، وما يتأله به من المشايخ.

ومنها: أن بعضهم يعرف عند مقابر الشيوخ، كما يفعل بعرفة.

و [منها] : أن هذا وقع في المغرب والمشرق [وليس بمجرد اتهام] .

ومنها: أن الشيخ [شيخ الإسلام] نفى العلم عمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، كالصرصري، وابن النعمان، [وأمثالهما من القبورية الجهلة بحقيقة التوحيد، وإن كانوا علماء فضلاء في علوم أخرى] .

و [منها:] أنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد ويدعونهم، [بحكم البيئة وعادة العوام فحسب، لا بحكم الكتاب والسنة] .

ومنها: أن من له فضل، وعلم، وزهد، قد يقع منه الشرك، والاستغاثة بغير الله، [لأجل جهلة بعلم التوحيد، وإن كان في نفسه فاضلا] .

و [منها:] أن مستندهم [في الاستغاثة بالأموات] مع العادة [العامية الجاهلية]- قول طائفة [من القبورية] :

" قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب "، [وليس مستندهم كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آثار السلف] .

و [منها: أنه] من المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم،

ص: 1218

وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه، وأنكروا على فاعله.

و [منها: أنه] قد مضى فيما مر من عبارات شيخ الإسلام:

أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذمّا.

ومنها: قوله: إن طائفة استغاثوا بحي، أو ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، [وهذا من تلبيس إبليس] .

و [منها: أن هذا ليس مجرد الخيال والاتهام، بل] هذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان

) .

25 -

وقال رحمه الله تعالى أيضا- مبينا أن القبورية أعظم عبادة، وأشد خوفا ورجاء، وأكثر خضوعا وخشوعا وتعظيما للأموات* منهم لخالق البريات* محققا أن شرك القبورية أشنع وأبشع في باب الاستغاثة بالأموات* عند الكربات والملمات*:

(ومن أعظم البدع في هذا الزمان:

معابد يعتقدون أن الصلاة عندها أفضل من الصلاة في جميع بيوت الله، وهم وإن لم يصرحوا، ولكن طبعت قلوبهم على ذلك، فتراهم يقصدونها من الأماكن البعيدة، وربما أن تكون بحذائهم مساجد مهجورة، فيعطلونها، وإذا ألجِئوا

ص: 1219

للصلاة فيها- صلوا كارهين، وتلك [المعابد] يهرعون إليها!؟! ولو في أوقات الكراهة، وهي أفضل عندهم من الصلاة في الأوقات الفضيلة في المساجد. وتلك المساجد التي بحذاء القبور- ليست مقصودة، لكونها بيوتا لله، بل لكونها حضرات لمن انتسبت إليه من أهل تلك القبور، يدلك على ذلك كله أنهم لا يسمونها إلا حضرات، فإذا قلت لأحدهم: أين صليت؟ - قال لك: صليت في حضرة الشيخ فلان، وليس مقصودهم به إلا التقرب به، وبحضرته، وكلما أكثر الرجل الترداد إلى القبور- - ولو كانت مشتملة على أنواع المنكرات من ستور الحرير والديباج، والترصيع بالفضة، والعقيان، فضلا عن غيرها- كان مشهورا بين الناس بالديانات* مغفور الزلات* مقربا عند أصحاب تلك الحضرات*، ولقد امتلأت قلوب العوام، [بل قلوب كثير من الخواص]- من رجائهم ومخافتهم،

ص: 1220

فتراهم إذا عضلت عليهم الأمور*- أوصى بعضهم بعضا بقصد أصحاب القبور* وكذلك إذا وقع على أحد يمين الله- حلف به من غير أدنى وجل* أو حذر [أو خجل*]، وإذا قيل له: احلف بفلان عند قبره- خصوصا إذا أمره بالغسل لهذا اليمين، ليكون ذلك من أقوى العبادات- خاف خوفا يظهر على جميع جوارحه، فلو أنه أدخل إلى قبره- ارتعدت فرائصه، وانحلت قواه [من شدة الخوف والهيبة] ، وربما أن أحدهم- لكثرة أوهامه، وشدة خوفه- تبطل حواسه، فيزدادون كفرا * وتضحك عليهم الشياطين جهرا*

ص: 1221

وترى كثيرا منهم يعلقون مرضاهم عليهم، فيأخذون المريض- وهو في غاية شدته-، فيدخلونه على قبره، والسعيد عندهم من يدخلونه داخل شباكه، ويتعلق بستر قبره، والرزية العظمى: أنهم في حالتي السراء، والضراء، يتلاعب إبليس بهم، فإن مات مريضهم- قالوا: ما قَبِلنَا الشيخُ فلان- يعنون به صاحب القبر-.

وإن صادف القدر، فعوفي- - لا سيما إذا وافق مطلوبهم ذلك الوقت- فرحوا بما عندهم من الكفر، فأرسلوا القرابين، ومعها شموع العسل موقدة من بيوتهم- إظهارا لقدرة صاحب القبر [على قضاء الحوائج] ، وتنبيها على إلهيته [بل ربوبيته]، وكثيرا ما ينشرون الرايات له على طريقة أهل الجهل من الأعراب:

من أن من يفعل شيئا عظيما نشرت له راية بيضاء، وقد رأيت من لم يفعل ذلك،

ص: 1222

ولكنه ينصب راية بيضاء على سطح داره ثلاثة أيام- يصيح كل يوم وقت المغرب بأعلى صوته:

الراية البيضاء لفلان بيض الله وجهه، وبالجملة: فأكثر البدع الخبيثة نشأت من هنالك، حتى إني رأيت بدمشق الشام أناسا ينذرون للشيخ عبد القادر الجيلي قنديلا يعلقونه في رؤوس المنائر، ويستقبلون به جهة بغداد، ويبقى موقدا إلى الصباح، وهم يعتقدون: أن ذلك من أتم القربات إليه، كأنهم يقولون بلسان حالهم:

" أينما توقدوا، فثم وجه عبد القادر "،

ص: 1223

فيا لله العجب، ما هذه الخرافات؟ * وأين دين الله الذي قد مات؟ * بال الشيطان في عقولهم* وأضلهم عن سبيلهم* ولا ترى أحدا ينهى عن أمثال ذلك* وأعظم ما هنالك * ومن أقبح المنكرات* ما يستعمله جميع النساء [القبوريات*] عند وضع الحمل، ولا سيما في شدة الطلق، فإنهن يستغثن بعلي بن أبي طالب [رضي الله عنه] ، وكلما اشتد الطلق- صاحت النساء بأعلى أصواتهن داعيات ومستغيثات به، ليفرج عنهن ما قد كربهن، ومن يسمعهن- يتيقن إشراكهن، وقلما تسلم امرأة منهن في هذا الحال العظيم* والخطب الجسيم* وكثير منهن يزعمن: أنه الموكل بالأرحام* والموكول إليه في هذه الأحوال العظام* والحاصل: أنه لو أراد الإنسان أن يفصل منكرات القبور* وتكيات المتصوفة ومنكرات الحيطان، والآبار، والصخور* والأحجار،

ص: 1224

والتماثيل

،- لضاق عنه نطاق التحرير* وعجز عن ضبطه من تصدى للتسطير*) .

26 -

وقال رحمه الله تعالى، في بيان الزيارة الشركية التي يرتكبها القبورية، مبينا أن إشراكهم أعظم وأشنع* وأكبر وأبشع* حيث إن أحدهم يجد في قلبه من الخشية والرهبة عند القبور، وعند الاستغاثة بأصحابها- ما لا يجد لخالقه عز وجل في المساجد والأسحار:

(

وجد هذا الزائر في فؤاده من الخشية والرهبة- ما لا يجد أدنى معشار جزء من عشرة بين يدي خالق السماوات والأرضين* وإله جميع العالمين*، فيدخل إلى القبر خاشعا ذليلا، متواضعا، لا يخطر في قلبه مثقال ذرة من غير إجلاله* منتظرا فيض كرمه، ونواله) .

27 -

وقال التهانوي (1362هـ) : مبينا أن القبورية أشد خوفا من الأموات* منهم من رب البريات*:

إن كثيرا من عابدي القبور، بسبب تعظيم قبور الأولياء، وإرخاء الستور عليها- حصل لهم الضرر العظيم في اعتقادهم، حتى اعتقدوا في الأولياء التأثير مع الله، فتراهم يتركون النذر لله، وأكثروا النذور للأولياء، والتقرب إليهم، وتركوا الحلف بالله حتى صار عندهم الحلف بالله كالعدم، ولا

ص: 1225

يتجاسرون الحلف بالأولياء، لاعتقادهم: أن من حلف بولي خائنا كاذبا- يضره في بدنه، وماله، وأولاده، وهذا من الشرك، والعياذ بالله، ثم ذكر عن بعض علماء الروم وقضاتهم الموصوفين بالعلم والصلاح:

أنه قال: " لو مكنت من هدم قبور الأولياء لهدمتها، كما فعل عمر بشجرة الرضوان، والمصيبة: أن فقهاء القرى يأمرون العوام عند توجه الحلف بالولي، ويقولون: إن فيه إظهارا للحق!؛ فانظر إلى هؤلاء الفقهاء [السفهاء] كيف يتوسلون إلى إظهار حق الخصم الدنيوي، بضياع الدين من أصله؛ [لأن من نذر لغير الله، أو حلف بغير الله، أو سجد لغير الله- فهو مشرك بالله] .

28 -

وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) بعدما حقق أن شرك القبورية أعظم من شرك أهل الجاهلية الأولى، مبينا أن القبورية أعظم عبادة للقبور وأهلها في المشاهد*، منهم لله، في المساجد*:

(ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور، ويتوجهون إليهم، ويستغيثون بهم، ويقولون: إن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور- اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته؛

ص: 1226

وكثير منهم، ومن غيرهم من الجهال- يرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء عليهم السلام، والصالحين من أهل البيت وغيرهم- أفضل من الصلوات الخمس، والدعاء في المساجد، وأفضل من حج البيت العتيق) .

29 -

وقال الشيخ أبو الحسن الندوي، مبينا أن القبورية أعظم خوفا من الأموات* منهم لخالق الكائنات* كاشفا عن حال القبورية في الشام وغيرها:

(يخشون القبور وأصحابها، ولا يخشون الله!! حتى أن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلون من القبائح - كان إذا رأى قبة البيت، أو الهلال الذي على رأس الميت- خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض....) .

وقال: (وقاحة المشركين [يعني القبورية] وجرأتهم!!؛ ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا [يعني بالله] ، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذبا

) .

ص: 1227

30 -

وقال العلامة الرستمي، مبينا أن القبورية أعظم خوفا من الأموات* منهم لخالق البريات*:

(بعضهم يذهبون إلى قبور الأولياء من بعيد، ومعهم الضأن والمعز والدجاجة وغيرها، نذرا لصاحب القبر، ويتقربون إليها بذبحها هناك

؛ يلتزمون على أنفسهم

؛ ولا يقصرون فيه، ولا يتأخرونه عن وقته، ولا ينقصون منه خوفا من الضرر، ولا يكون في قلوبهم ميلا إلى الصلاة لله تعالى، ولا إلى أداء الزكاة له تعلق، والتصدق له تعالى، بل تركوه نسيا منسيا، فلو لم يكن هذا شركا- فلا يكون الشرك إلا اسما، ولا يكون له مصداق) .

قلت:

هذه كانت بعض نصوص علماء الحنفية الدالة على أن الاستغاثة بالأموات* من أعظم الإشراك بخالق الكائنات* وأنها ليست بشرك فحسب، بل هي أمّ لعدة أنواع من الإشراك برب البريات* وأن القبورية أعظم شركا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثات* وأنهم أشد خوفا ورجاء وأكثر خشوعا وخضوعا، وأعظم عبادة للأموات*

ص: 1228

منهم لخالق الأرضين والسماوات* ولو كانوا في أشرف المقامات وأسعد الأوقات* وقد تحقق بهذه التحقيقات الحنفية * أن القبورية فرقة مشركة وثنية من الفرق الوثنيات* وبعد هذا ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف شبهات المستغيثين بالأموات* كما نعرف جهود علماء الحنفية في قلعها، وقمع أصحابها- مستغيثين برب البريات*

ص: 1229