الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية
في حياة الأموات وسماع الموتى
للقبورية شبهات كثيرة تشبثوا بها لإثبات زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، وأن الموتى يسمعون كلام الأحياء ونداءهم واستغاثتهم بهم، وأقوى هذه الشبهة وأشهرها أربع:
شبهتان تتعلقان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم في القبر حياة دنيوية.
وشبهتان تتعلقان بسماع الموتى لكلام الأحياء ونداءهم.
وقد أبطلها علماء الحنفية فجعلوها كأمس الدابر.
وفيما يلي ذكرها مع جهود علماء الحنفية في إبطالها:
الشبهة الأولى: أن القبورية عامة، والديوبندية خاصة، تشبثوا لإثبات زعمهم القبوري: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بقوله تعالى:{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] ؛ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تجوز مناكحة أزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن الحي لا يجوز نكاح زوجته.
وقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية:
بأن هذه مغالطة مكشوفة، ودجل شيطاني قبوري وثني، وليست علة حرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بل علة حرمة نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأب لأمته، وأن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، كل ذلك احتراما له صلى الله عليه وسلم وإكراما لأزواجه رضي الله عنهن؛ قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم:(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) .
وفي مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) .
وقد ذكر علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] :
عدة علل لتحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
منها إكرام النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وأن فيه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ينافي غيرته صلى الله عليه وسلم، وأن المرأة تكون لآخر زوجها في الجنة.
ولم يذكر أحد أن العلة هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة دنيوية، بل قالوا: إن مطلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا لا تحل لأحد.
قلت: لو كانت العلة الحياة- لجاز نكاح مطلقته صلى الله عليه وسلم، وبهذه التحقيقات بطلت هذه الشبهة من أصلها والحمد لله.
الشبهة الثانية: هي زعم القبورية عامة، والديوبندية خاصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تورث تركته، فإن الحي لا يورث.
وقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة:
بأن العلة لعدم كون تركة النبي صلى الله عليه وسلم تورث - إنما هي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» .
وقد صرح علماء الحنفية في شرح هذا الحديث بأن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صدقة لا تورث، وأن الحكمة في سبب عدم ميراث الأنبياء عليهم السلام: أنه لا يظن بهم أنهم جمعوا المال لورثتهم.
أو لئلا يخشى على وارثهم أن يتمنى لهم الموت فيقع في محذور عظيم.
أو لأن الأنبياء كالآباء لأممهم، فمالهم حق لأممهم جميعا، لا لفرد واحد منهم.
وهذا معنى الصدقة، فمالهم صدقة على أممهم جميعا.
قلت: لقد تبين بهذا التحقيق بطلان هذه الشبهة القبورية، وقضي عليها بحمد الله تعالى.
الشبهة الثالثة: تشبث القبورية بحديث قليب بدر، وهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقد ألقى فيها القتلى من صناديد قريش، فقال لهم: " أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا
…
"؟ قال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
…
" الحديث.
وقد استدل بهذا الحديث عامة القبورية على سماع الأموات * ليتوسلوا بذلك إلى جواز الاستغاثة بهم عند الكربات *
الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بأن هذا كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خاصا به صلى الله عليه وسلم.
وقد أحياهم الله تعالى ليسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، توبيخا لهم، وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما؛ فلا دلالة في هذا الحديث على أن جميع الموتى يسمعون؛ فلا يقاس عليهم غيرهم.
قلت: ويؤيد ذلك قول قتادة الراوي عن أنس رضي الله عنه:
(أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما) .
الحاصل: أن هذا الحديث خارج عن موضوع النزاع، لأنه في الأحياء لا في الأموات.
ولأنه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الخارقة للعادات* لا في سائر الأموات ولا سائر الأحوال والأوقات* فبطل استدلال القبورية به على ثبوت سماع الأموات* تمهيدا لجواز الاستغاثة بهم عند إلمام الملمات* أقول: حديث القليب هذا من أعظم الحجج الساطعة والبراهين القاطعة على نفي سماع الأموات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلم هؤلاء الكفار الموتى الملقون في القليب-قليب بدر- استغرب ذلك عمر بن الخطاب جدّا وقال أمام بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
(يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟؟؟) .
وفي لفظ: (يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟؟؟) .
وفي لفظ: (يا رسول الله، كيف يسمعوا؟؟؟ وأنى يجيبوا؟؟؟ وقد جيفوا
…
) .
فدل ذلك على أن عقيدة الصحابة رضي الله عنهم: أن الأموات لا يسمعون، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على استغراب عمر، واستبعاده.
الشبهة الرابعة: تشبثت القبورية بحديث قرع النعال، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحاب، وإنه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فأقعداه
…
» الحديث.
قالوا: إن هذا الحديث يدل على أن الأموات يسمعون، فثبت سماع الأموات* فجاز نداؤهم عند الكربات*.
الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية بعدة أجوبة أذكر منها ثلاثة:
الجواب الأول: أن هذا الحديث غاية ما فيه أنه يدل على أن الميت يسمع قرع نعال الناس أول ما يوضع في القبر، فالدعوى أعم من الدليل، والدليل أخص من الدعوى؛ لأن الدعوى: أن الميت يسمع كل حين جميع أصوات المستغيثين به، فلا مطابقة بين المدعى وبين الدليل، وقالوا: لا بد أن يحمل هذا الحديث على أول وضع الميت في القبر جمعا بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، وقوله سبحانه:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ؛ لأنهما يفيدان تحقيق عدم سماعهم، فلا بد من حمل هذا الحديث على أول وضعه، دفعا للتعارض بين هاتين الآيتين وبين هذا الحديث.
الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن الميت تعاد إليه روحه عند سؤال الملكين؛ قال العيني (855هـ) : (جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان إذا قلنا: إن الأرواح تعاد إلى الأجساد عند المسألة، وهو قول الأكثر من أهل السنة
…
) .
قلت: إذا كان الأمر كذلك فهذا الحديث يكون خارجا عن محل النزاع، لأن النزاع في سماع الميت، لا في سماع الحي.
قال العلامة عبد السلام الرستمي حفظه الله- وهو من كبار علماء الحنفية الرادين على القبورية-: (ويدل عليه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في عذاب القبر طويلا وفيه: " وتعاد روحه في جسده
…
". رواه أحمد، وأبو داود،
ومشكاة، ص26 ج1) .
الجواب الثالث: أنه لا يلزم من سماع قرع النعال سماع الكلام.
قال العلامة عبد السلام الرستمي حفظه الله:
(والجواب الثالث: على تقدير الظاهر:
أن الثابت منه سمع خفق النعال فقط، لا سمع الكلام، ولا فهم الكلام، كما أن من كان تحت السقف، وفوق السقف رجل يمشي على السقف ويتكلم فالذي تحته لا يسمع كلامهم ولا يفهم، نعم يسمع خفق نعاله فقط) .
قلت: الحاصل: أنه قد تبين من هذه التحقيقات الحنفية أنه لا يوجد
أي دليل ولا شبه دليل يدل على سماع الأموات* كل وقت وحين جميع أصوات المستغيثين بهم عند الكربات* بل الحجج السابقة براهين باهرة، وسلاطين قاهرة على أن الأموات* لا يسمعون نداء المستغيثين بهم لدفع المضرات، وجلب الخيرات* وأن القبورية في عقيدتهم وغلوهم في حياة الأموات وسماعهم في أقبح السفاهات* وأن وصفهم للموتى بسماع جميع الأصوات في كل الأوقات* وعلمهم بأحوال الكون من أعظم الوثنيات* وللعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كلام مهم حقق فيه أن القول بأن الأنبياء والأولياء يسمعون أصوات العباد كلهم، وأصوات الخلائق كلها، وأنهم يعلمون ما يفعله العباد كلهم، ويجيبون دعاءهم- كفر من جنس قول النصارى في المسيح، وأنه شرك وتأليه لغير الله، فليس هذا إلا لله وحده الذي يسمع أصوات الخلائق كلهم.
تنبيه النبيه:
لقد أجاب الفنجفيرية من الحنفية الماتريدية النقشبندية الديوبندية عن هذا الحديث الصحيح، وحديث قليب بدر- وغيرهما- بأنها من أخبار الآحاد الظنية المخالفة لقطعيات القرآن - فلا يؤخذ بها، إذ لا عبرة بالظن في باب الاعتقادات.
قلت: هذا فاسد باطل* كاسد عاطل* لأن هذا من خرافات الجهمية وأفراخهم الماتريدية والحق أن مثل هذه الأحاديث المحتفة بقرائن الصحة، ولا سيما أحاديث الصحيحين- قطعية مفيدة للعلم القطعي النظري.
وأقول: لما عرفنا بطلان عقيدة القبورية في الحياة والسماع للأموات*- بطلت عقيدتهم في الاستغاثة بهم عند الكربات* والآن ننتقل إلى الفصل الآتي- لنعرف بطلان زعمهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نور، لا بشر.
الفصل الثالث
في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية بجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نورا لا بشرا
وفيه مبحثان:
- المبحث الأول: في ذكر كلام بعض علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية هذه.
- المبحث الثاني: في تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق.
المبحث الأول
في ذكر كلام بعض علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية من أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا بشر
من السفاهات العجيبة، والحماقات الغريبة، التي ارتكبها كثير من القبورية، ولا سيما البريلوية- هي عقيدتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا ظل له كما سبق.
ولما كانت هذه العقيدة من أعظم السفاهات والسفسطات* وتخالف العلوم الضرورية والمحسوسات والبديهيات*- أردت أن لا أطول فيها وأكتفي بنبذة يسيرة من كلام علماء الحنفية في إبطال هذه السفسطة؛ وأحسن ما وجدت من كلام علماء الحنفية في إبطال هذه العقيدة، من ناحية الاختصار والقوة والنصيحة والجامعية- هو كلام الشيخ المفتي رشيد أحمد اللديانوي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة؛ فأكتفي به، فأقول: لقد سئل الشيخ المفتي رشيد أحمد اللديانوي:
ما حكم من يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور، بينوا تؤجروا؟؟؟
فقال في الجواب: الجواب باسم ملهم الصواب:
لقد أطلق على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نور؛ ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم نور بمعنى أنه على الهداية التامة من الله، وأنه هاد لغيره إلى صراط مستقيم، وبهذا المعنى يصح أن يقال: أن جميع الأنبياء عليهم السلام أنوار، لأنهم على الهداية وأنهم هداة الأمم، فالنور ههنا بمعنى الهداية [والهادي] ؛ وبهذا المعنى يصح أن يقال: إن كل مؤمن على نور من الله تعالى، أي على الدين والإيمان؛ كما قال سبحانه:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] ؛ فالهداية نور، والضلالة ظلمة، فالهداية نور باطني، كما أن الشمس والقمر والنجوم أنوار ظاهرية، والنور الباطني أفضل من النور الظاهري؛ ولذا نقول: إن المؤمن أشرف المخلوقات، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الرسل الذين هم أفضل بني آدم؛ فمن أنكر بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله نورا لا ظل له كنور الشمس والقمر والنجوم مثلا- فقد استخف برسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة التعظيم، وصار هذا المحب كالصديق الأحمق الذي يضر بصديقه لحماقته وبلادته،
فهو أخس من العدو العاقل وأضر؛ فإن الله تعالى قد أمر الملائكة أن تسجد إلى آدم؛ فدل هذا على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ فلا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم بشرا وبين كونه نبيّا ورسولا، كما أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم نورا بمعنى هاديا، وبين كونه بشرا؛ والحقيقة أن من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لا بشر ويرى المنافاة بين البشرية والرسالة- فقد اعتقد عقيدة الكفار السابقين المنكرين للرسل عليهم السلام، الذين كانوا يرون المنافاة بين الرسالة والبشرية.
وقد رد الله عليهم في عدة مواضع من كتابه الحكيم.
الغرض: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور أيضا بمعنى الهادي، وبشر أيضا، فمن أنكر كونه صلى الله عليه وسلم بشرا- فقد كفر؛ لأنه إنكار لعدة نصوص قرآنية، واستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: لما كان كلامه مجملا- أردت أن أفصله وأبرهن عليه في المبحث الآتي: