المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ٢

[شمس الدين الأفغاني]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌ المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات المباركة التي تحذر من الشرك

- ‌المبحث الثانيفي ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌الفصل الثانيفي عدة قواعد وضوابط فقهية لعلماء الحنفية

- ‌الفصل الثالثفي بيان عدة ذرائع الشرك التي صرح علماء الحنفية بوجوب سدها

- ‌القسم الأولفي عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين

- ‌القسم الثانيغلو القبورية في تصرفه صلى الله عليه وسلم في الكون

- ‌القسم الثالثغلو القبورية في سماعه صلى الله عليه وسلم لنداء المستغيثين به

- ‌القسم الرابعغلو القبورية في حياته صلى الله عليه وسلم البرزخية

- ‌الفصل الثانيفي غلو القبورية في بعض الأولياء خاصة

- ‌الثاني الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية

- ‌الثالثالبدوي

- ‌الفصل الثالثفي غلو القبورية في الأولياء عامة

- ‌المبحث الثانيفي التنبيه على أمر مهم

- ‌المبحث الثالثفي التنبيه على أمر أهم من الأول

- ‌القسم الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال الغلو إجمالا

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثانيفي استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثالثفي نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى

- ‌المبحث الثالثفي إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية

- ‌المبحث الثانيفي تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالثفي ذكر بعض نصوص علماء الحنفيةفي إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبوريةفي التصرف في الكون لغير الله سبحانه

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية ردا على عقيدة القبوريةفي زعمهم التصرف في الكون للصالحين

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

- ‌ الفصل الأول: في عرض أمثلة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله

- ‌المبحث الثالثفي بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبوريةفي استغاثتهم بغير الله عند الكربات

- ‌لمطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة بالأحياء الغائبين وبالأموات

- ‌المطلب الثانيفي بيان ترجيح القبورية الاستغاثة والتوسل بالأموات

- ‌المطلب الثالثفي بيان استغاثات القبورية المتفرقات

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

- ‌ المبحث الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بعدة آيات من كتاب اللهعلى إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الثانيفي ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية علىإبطال عقيدة القبورية

- ‌ المطلب الأول: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله أمر محرم

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في تحقيقهم أن القبورية أشد شركامن الوثنية الأولى

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

الفصل: ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

‌الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

التي تثبتوا بها لدعم عقيدتهم في علم الغيب

والتصرف في الكون لغير الله تعالى

للقبورية شبهات كثيرة تشبثوا بها، تشبث الغريق لدعم عقيدتهم الفاسدة في زعمهم علم الغيب والتصرف في الكون لغير الله.

أذكر منها أشهرها مع كلام علماء الحنفية في إبطالها:

الشبهة الأولى: شبهة الاستقلال والعطاء.

زعمت القبورية: أن الشرك هو اعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب علما ذاتيا استقلاليا، وأما إذا اعتقد الإنسان أن الأنبياء، والأولياء يعلمون الغيب بإعطاء الله تعالى لا بالاستقلال - فهذا لا يدخل في باب الشرك؛ فكل ما ورد من النصوص التي فيها نفي علم الغيب من غير الله تعالى- فالمراد: نفي علم الغيب على سبيل الاستقلال، لا على سبيل الإعطاء من الله تعالى.

ص: 975

الجواب:

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: لا ريب أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وجود عطائي لا ذاتي وكذا رسالته صلى الله عليه وسلم أمر عطائي لا ذاتي، وهكذا القرآن الكريم عطاء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فجميع علومه صلى الله عليه وسلم عطائية لا ذاتية، وإذا ثبت ذلك- فلا يمكن أن يعتقد أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علم الغيب علما ذاتيا بالاستقلال، لأن الموصوف إذا كان عطائيا- فلا يعقل أن تكون صفاته ذاتية بالاستقلال دون العطاء، وهذا أمر ضروري معلوم ببداهة العقول.

الوجه الثاني: أن يقال: إن من قال: إن الله تعالى إله وخالق ورازق بالاستقلال وبالذات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إله، وخالق، ورازق بالعطاء، لا بالذات ولا بالاستقلال- فلا شك أنه كافر خارج عن ملة الإسلام، مرتد عن الدين، ومشرك شركا صراحا، وكافر كفرا بواحا؛ مع أنه لم يدع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالق ورازق وإله بالذات

ص: 976

والاستقلال، فهكذا حكم من اعتقد أن الله تعالى عالم الغيب بالذات والاستقلال، وأن الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب بالعطاء.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الله تعالى لم يعط أحدا علم الغيب كله فالله هو وحده يعلم المغيبات كلها؛ أما غيره تعالى فلا يعلم الغيب كله لا استقلالا ولا عطاء؛ وقد صرح علماء الحنفية بأن الله تعالى لم يشرك أحدا في علم غيبه على سبيل العطاء.

وقد صرح علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] :

بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد علم الشعر؛ فبطلت شبهة العلم العطائي من أصلها.

ونص علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] :

على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط علم أخبار الرسل كلهم، بل الله تعالى أعطاه علم بعض أخبار بعض الرسل؛ فهذا دليل قاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط علم الغيب كله،

ص: 977

فلم يعلم الغيب كله حتى على سبيل العطاء من الله تعالى.

الشبهة الثانية: شبهة الكرامة:

لقد تشبثت القبورية لجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات بكرامات يذكرونها عن أوليائهم الذين يستغيثون بهم عند الشدائد، ويقولون بجواز الاستغاثة بهم عند الملمات بحجة أن الله تعالى أكرمهم بالكرامات التي بها يقتدرون على كشف المكروبين، وإجابة دعاء المضطرين، وبها يتصرفون في الكون، وبها يعلمون حال الداعين، وبها يسمعون نداءهم.

وهذه الشبهة من أهم الشبهات التي يذكرها عامة القبورية في كتبهم.

ويقولون: إن الكرامة تظهر من الولي بقصده وبغير قصده.

ص: 978

وقصدهم بذلك أن الأولياء لهم قدرة على التصرف في الكون، وأن ذلك منهم كرامة، وأن الكرامة تصدر منهم بقصد منهم أيضا، ويقولون: إن الكرامة لا تنقطع بعد الموت، وجازف بعض أئمة القبورية كالكوثري وغيره فقالوا:

" الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه، فيكون أقوى في التصرف ".

وهكذا نرى أئمة القبورية يصرحون أن الأولياء أقوى تصرفا وقدرة بعد الموت منهم في حياتهم؛

ص: 979

ولذلك يقولون: الاستمداد من الموتى أسرع في قضاء الحاجة.

وإنه أنجح لمقصوده، وأقرب إلى الإجابة.

ويقولون جهارا دون إسرار بلا حياء من رب العباد ولا من العباد: اعتناء الولي باللائذين به بعد موته يكون أكثر من اعتنائه بهم في حياته؛ لأنه كان مشغولا بالتكليف، وبعد موته يطرح عنه الأعباء وتجرد؛ ولأن الحي فيه بشرية وخصوصية، والميت ليس فيه إلا الخصوصية فقط، فالولي لم يفقد في قبره شيئا من علمه وعقله وقواه الروحانية، بل يزداد علما وحياةً وروحانيةً وتوجها، فينفع بعد مماته أكثر مما ينفع في حياته.

هكذا اهتم أئمة القبورية بكرامات الذين يستغيثون بهم في الشدائد ليحتجوا بها على جواز الاستغاثة بهم، بل على وجوبها.

فنراهم قد أفردوا لها مباحث وفصولا وأبوابًا، بل رسائل ومؤلفاتٍ، وقد أتوا في هذا الباب بأعجب العجب من الأكاذيب والأساطير. وإذا أنكر عليهم أحد وقال لهم: إن هذه الخوارق بعد موت الأولياء باطلة لا أصل لها- قاموا عليه وهولوا وجولوا وصاحوا وصرخوا وهاجوا وماجوا قديما

ص: 980

وحديثا.

الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن شبهة الكرامات، وأبطلوا تشبث القبورية بها بعدة أجوبة جعلوها كأمس الدابر، أذكر منها ثمانية:

الجواب الأول: أنه لا ملازمة بين الكرامات وبين الاستغاثة بأصحابها، لأن الكرامة لا تقتضي جواز الاستغاثة بصاحبها ولا تبيحها، بل الاستغاثة بأصحاب الكرامات ليست إلا طريقة أهل الأوثان؛ قال الإمام صنع الله الحلبي:

(وأما كونهم مستدلين على أن ذلك من الكرامات، فحاشا الله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظن بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامة، فهذا ظن أهل الأوثان، كما أخبر الرحمن [عنهم بقوله] :{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}

ص: 981

[يونس: 18] .

وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .

وأما أهل الإيمان فليس لهم غير الله دافع* ومنه تحصل المنافع، قال جل ذكره:{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 40-41]

، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وملك وولي وغيره على وجه الإمداد إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره* ولا خير إلا خيره) .

وقال العلامة شكري الآلوسي في الرد على ابن جرجيس البغدادي مبينا أن الكرامة لا تبيح الاستغاثة بأهلها، ومحققا أن ثبوت الكرامة لا يستلزم جواز الاستغاثة:

(ثم ساق كلاما طويلا يتعلق بإثبات كرامات الأولياء، ظنا منه أن ثبوته يبيح له ولأمثاله دعاء الصالحين ونداءهم في الملمات، والاستغاثة بهم في الشدائد، فسبحان الله العظيم ما أشغف هذا الرجل بكل ما يخالف الشريعة الغراء* ويألفه العوام والجهلاء * فلذلك أفتى بكل نكير * ولم يعترف بوجود منكر في العالم بتقرير ولا تحريم، وأثقل ما يكون عليه الأمر بالمعروف، ما وردت به السنة، وإذا ذكر الله وحده اشمأز قلبه * واكفهر وجهه* وصار في أعظم محنة،

ص: 982

وخلاصة الكلام * أنه أحد إباحية الطغام*) .

الجواب الثاني: أن الكرامة أمر خارق للعادة يظهرها الله تعالى على يد ولي من أوليائه بدون اختياره، وهي من فعل الله عز وجل ولا يد للولي فيها، بل ليس للولي كسب في الكرامة.

وقد صرح بذلك كثير من أئمة القبورية، وكلامهم حجة على إخوانهم من أهل مشربهم؛ بل صرح النابلسي أحد كبار مشاهير أئمة القبورية (حنفي 1143هـ) بأن الكرامة بمحض قدرة الله تعالى وإرادته، ولا مدخل لقدرة العبد فيها، ولا لإرادته، ومن زعم أن للولي تأثيرا فيها فقد كفر.

بل صرّح علماء الحنفية بأن المعجزة أيضا ليست إلا فعلا لله سبحانه.

وقال الإمام صنع الله الحلبي مبطلا شبهة الكرامة ومبينا أن الكرامة ليست في قدرة الولي واختياره:

(وأما اعتمادهم بأن هذه التصرفات لهم من الكرامات- فهو من المغلطة..

ص: 983

لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به من أولياءه وأنبياءه، لا عن قصد لهم ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم

، فلا يقال: إنه من تصرفهم أو يطلق عليه ما قالوه من التصرف، " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا "؛ فالمؤمنون المخلصون مبرأون من مثله) .

وقال رحمه الله أيضا: (والكرامة ليست من هذا الباب لأنها من إظهار التكرم لأهل تقواه بدون الإذن لهم ودون التحدي والقصد منهم) .

وقال رحمه الله أيضا: (وهي أمر خارق للعادة كالمعجزة غير أنها لا تقرن بدعوى نبوة ولا بتحدي، ولا فيها قصد بحيث كلما أراد جرت، لأنها من الآيات وهي على وفق إرادته تعالى؛ قال جل ذكره:{إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:109، العنكبوت: 50] .

وليس للمخلوق فيها تصرف بما أراد، ومن أراد، وأن لا تكون مصادمة للشريعة الغراء) .

قال العلامة شكري الآلوسي مبطلا شبهة المستغيثين بالأموات

ص: 984

المتشبثين بالكرامات:

(وأما الجواب عن مسألة الكرامات- فيقال: إن كرامات الأولياء حق لا شبهة فيها

؛ ولكن الكرامة فعل الله لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها، ولا تأثير، وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدها يقول:" هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره "، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فقد تكون سببا يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له، ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا، وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات ما ليس لغيرهم، فقد جاء عيسى ابن مريم بما هو أعجب المعجزات والكرامات:

يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب بما يأكلون وما يدخرون، وقد أنكر الله تعالى على من قصده ودعاه في حاجته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه ضال بعبادة غيره؛ قال تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا}

[آل عمران: 80] الآية، والأرباب هم المعبودون المدعوون، وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76] ،.

وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى

ص: 985

العبادة فتنبه، فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعا ولا ضرا،.

وإن قل؛ كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار* ومعجزاته أوضح من الشمس في وسط النهار) .

وقال رحمه الله أيضا: (لا يستغاث بالمخلوق فيما يختص بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت، فالكرامة فعل الله لا فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره؛ ولم يكن الصحابة يستغيثون ويسألون من ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق؛ فهذا الكلام الذي قاله الغلاة جهل مركب يليق بقائله، وكل إناء بالذي فيه ينضح) .

الحاصل: ما قاله العلامة خرم علي البلهوري (1273هـ) .

(نتأسف على حال المسلمين حيث إنهم نسوا واجباتهم التي أمروا بها في القرآن واتبعوا الحكايات الكاذبة والأساطير الواهية، وبنوا اعتقادهم عليها، وليس المراد أننا ننكر كرامات الأولياء، فإن كراماتهم حق ثابتة، يظهرها الله على أيدي أوليائه، ولكن الكرامة لا تصدر منهم كل وقت، ولا هم قادرون عليها، ولا اختيار لهم في صدور الكرامات بحيث يفعلونها ما يشاءون،

ص: 986

فإذا ثبت أن الكرامة ليست في اختيار الأولياء، ولا لهم قدرة عليها فالاستغاثة بهم بحجة الكرامات سفه محض، وإن لم يكن هذا سفه، فما هو السفه؟) .

الجواب الثالث: أن علماء الحنفية قد صرحوا: بأن الكرامة بمعنى صدور أمر خارق للعادة تسلب بعد موت الولي.

قلت:

وذكر علماء الحنفية أن الحكمة في صدور الكرامة من الولي بمعنى أمر خارق للعادة هو التثبت على الحق واليقين والاجتهاد في العبادة والاحتراز عن السيئات.

قلت: هذا لا يُحتاج إليه بعد موت الولي، لأن عين اليقين يحصل بعد الموت، وما بعد الموت ليس وقت التكليف، ولأجل هذا صرح علماء الحنفية بأن الكرامة ليست مقصودة، بل المقصود هو الاستقامة، وقالوا: إن الكرامة الحقيقية هي الاستقامة، وقالوا: إن الاستقامة جزء من ألف كرامة؛

ص: 987

بل قالوا: " وأما الكرامة فعندهم حيض الرجال"، وقالوا:" كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب شكر الاستقامة "، وقالوا في فضل الاستقامة على الكرامة وبيان الحكمة في صدور الكرامة:

(والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كالكرامة) .

قلت: هذه حقيقة قد اعترف بها بعض أئمة القبورية أيضا؛ فقد قال محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي (1234هـ) :

(والكرامة أمر خارق للعادة على يد ولي غير مقارن لدعوى النبوة منه، وفيها تثبيت له، ولهذا ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم، وفقدها أهل النهايات

ص: 988

في نهاياتهم، لأن ما هم عليه من الرسوخ والتمكن لا يحتاجون معه إلى تثبت، ولذلك قل ظهورها على يد السلف من الصحابة والتابعين، وصاحب الكرامة لا يستأنس بها بل يشتد خوفه، مخافة أن يكون ذلك استدراجا) .

وقد ذكر العلامة اللكنوي المعظم لدى الحنفية عامة، والكوثري والكوثرية خاصة الفائدة والحكمة من الكرامة، ثم قال:(وإذا كانت هذه هي الحكمة من الكرامة بمعنى خرق العادة- علم أن الكرامة لا تكون بعد الممات؛ لأنه لا معنى لازدياد اليقين بعد الموت) .

الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لو ثبتت الكرامة بمعنى خرق العادة لشخص من الأولياء- فإنه يجتهد في إخفائها ولا يركن إليها، ويخاف أن تكون من قبيل الاستدراج، ويسعى في أن لا يطلع عليه أحد، ويحاول كتمانه، خوفا من الاغترار والاشتهار.

قلت: فعلى هذا لا يمكن للولي أن يجعل كرامته سلاحا يحارب به، ولا آلة للتصرف في الكون، ولا سببا لإغاثة المستغيثين به.

ص: 989

الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن كل أمر خارق للعادة ليس من الكرامة ولا دليلا على الولاية، بل قد يكون الأمر الخارق للعادة من قبيل الاستدراج الشيطاني، والأحوال الشيطانية التي تصدر من الفسقة والفجرة، بل من الكفرة والمشركين، حتى أمثال فرعون، والسامري، والدجال؛ فلا يدل الأمر الخارق للعادة على أنه كرامة، ولا على أن صاحبه من أولياء الله؛ فإن الدجال يقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي، فتنب، وللخربة: أخرجي كنزك فتخرج؛ ومع هذا فإنه دجال، أبتر، كذاب، ملعون؛ فلا اعتداد بمخاريقهم وإن طاروا في الهواء، ومشوا على الماء.

قلت: فلم يبق مستمسك للقبورية بالخوارق على الاستغاثة بالأموات عند الكربات.

الجواب السادس: أن كثيرا مما يظنه القبورية كراماتٍ- هي في الحقيقة ليست بكراماتٍ لأولياء الرحمن؛ بل الحقيقة أن الشياطين قد تظهر لهم بصورة شيوخهم وأوليائهم، وأتوا بغرائب من الخوارق إضلالا لهم واستدراجا لهم، فيظنون أن هذه من كرامات الأولياء، وتتمثل لهم الشياطين فيظنون أن الولي الفلاني قد حضر للإغاثة،

ص: 990

وأن فلانا الولي قد خرج من القبر، وأن الولي الفلاني قد كلمه أو عانقه، والشيطان ربما يقضي بعض حاجته، فيظن أن هذه من كرامات الولي مع أن هذه أحوال شيطانية تصدر من هؤلاء الشياطين.

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المرام:

1 -

قال الإمام محمد البركوي (981هـ) رحمه الله، والعلامتان السهسواني (1326هـ)، وشكري الآلوسي (1342هـ) واللفظ للأول:

(وهذه الأمور المبتدعة عند القبور على مراتب:

أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب في بعض الأزمان، كما يتمثل لعباد الأصنام؛ فإنه يدعو من يعظمه فيتمثل له الشيطان ويخاطبه ببعض الأمور الغائبة

، وكذلك يوجد بعباد القبور عند القبور أحوال يظنونها كرامات، وهي من الشيطان؛ مثل أن يوضع عند قبر من يظن كرامته مصروع، فيرون أن الشيطان قد فارقه، فإنه يفعل ليضل) .

وفي تمثل الشياطين للقبورية وتلاعبهم بهم واستدراجهم وإضلالهم- كلام مهم للإمام أحمد الرومي (1043هـ) أحد كبار الحنفية وللشيخين سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي.

2 -

وقال الإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) :

(لأن غالب من يتكلم في هذه العصور بالولاية ممن خلا عن العلم،

ص: 991

وجعل تقواه في الخلوات وترك الجماعات

، ليتصل بإخوانه من الجن ويتكلم بطامات يظنونها من كرامات) .

3 -

وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ)، وابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) واللفظ للأول:(ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات.. هيهات،!؟!؛ إنما هو شيطان أضله وأغواه* وزين له هواه* وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام* ليضل عبدتها الطغام* وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته، كرامة له، ولقد ساء ما يحكمون) .

ومثله كلام للإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخين سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي.

4 -

وقد ذكر العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن كثيرا ممن يزعم القبورية أنهم أولياء الرحمن، وأن لهم كرامات هم في الحقيقة أولياء الشيطان، ولهم اتصال بالجن والشياطين، فيصدر منهم أمور شيطانية يظنونها كرامات الأولياء،

ص: 992

فمنهم من يحمل إلى مكان ثم يعود، ومنهم من يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين ونأتيه به، ومنهم من تدل الشياطين على السراق، وبعضهم قد لا يريدون الكذب، ولكن يتخيل لهم أشياء وهمية يظنونها أمورا واقعة في الخارج ويظنون أنها كرامات الأولياء، وتكون من تلبيسات الشياطين.

5 -

وقال رحمه الله في بيان تمثل الشياطين للقبورية لإغوائهم:

(وهؤلاء مستندهم على العادة قول طائفة: قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فإن الشياطين تتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقام) .

6 -

وقال العلامة الخجندي (1379هـ) في بيان أن الشياطين تتمثل للقبورية فيظنون أن الولي قد أتى بالكرامة لإغاثتهم: (وقد يتمثل الشيطان بصورة المستغاث به ويخاطبه ويقضي بعض حوائجه، ويخبره ببعض الأمور الغائبة،

ص: 993

فيغتر الغر أنه المستغاث به فيقع في الضلال- نعوذ بالله منه) .

وللإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخين سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي كلام في غاية الأهمية.

7 -

وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) :

(ومعلوم أن المشركين من عباد الأصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضي لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم

، وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى- تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ، حتى يظنوا أن الشيخ حضر، وأن الله صور على صورته ملكا، وأن ذلك من بركة دعائه؛ وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين

، وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة، ولا مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة، وإما غير مساجد، مثل الكهوف، والغيران التي في الجبال ومثل المقابر، ولا سيما قبر يحسن به الظن، ومثل المقابر التي يقال إن بها أثر نبي أو رجل صالح، ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنونها كرامات رحمانية، فمنها: أن صاحب القبر قد جاء إليه- وقد مات من سنين كثيرة

، والشياطين كثيرا ما يتصورون بصور الإنس في اليقظة والمنام،

ص: 994

وقد يأتي لمن لا يعرفه فيقول: أنا الشيخ الفلاني، والعالم الفلاني، وربما قال: أنا أبو بكر، وعمر، وربما قال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد صلى الله عليه وسلم

، ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره في صورته فيكلمه، ومن هؤلاء من رأى في دائرة الكعبة صورة شيخ قال: إنه إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سئل المقبور أجابه، وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل الغرب حصل له مثله وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن قال ذلك:

ويحك، أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟

ص: 995

فهل كان في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت فأجابه؟ وقد تنازع الصحابة رضوان الله عليهم في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم؟؟؟ وهذه ابنته فاطمة رضي الله عنها تنازعت في ميراثها، فهلا سألته صلى الله عليه وسلم فأجابها؟؟؟) .

8 -

وقال رحمه الله في بيان تمثل الشياطين للقبورية:

(هكذا كان المشركون يعوذون برجال من الجن وقد يتمثل لهم الجن، وقد يخبرهم ببعض المغيبات ويحصل لهم نوع من التصرفات، وكذلك كانت الشياطين تضل المشركين وتدخل في الأصنام فتكلمهم، فهكذا المشركون [القبوريون] يستغيثون بالمشائخ فيحصل لهم قضاء الحوائج) .

9 -

وذكر شيخ القرآن الفنجفيري أيضا:

أن القبورية لما استغاثوا بغير الله تعالى، وعظموا القبور والمشائخ، وطلبوا منهم الحوائج- أطاعهم الشياطين ليكفروا بالله،

ص: 996

فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء إلى مكة أو إلى بيت المقدس أو غيرهما من البلاد

، وقد يرى أحدهما القبر قد انشق وخرج منه الميت، فعانقه أو صافحه، أو كلمه، وهو يظن أنه الولي صاحب القبر، ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورة صاحب القبر ليضله، وهذا يوجد كثيرا عند قبور الصالحين.

10 -

وقال رحمه الله أيضا:

(وكثير من الناس يعظمون قبور الكافرين والمنافقين، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل هو قبر كافر، وعندها شياطين تضل بها من تضل، ومنهم من يرى شخصا في المنام يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته أو بغير صورته كالشياطين الذين يكونون للأصنام وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره ويخرج الشيطان فيقضي حوائجه ومثل هذا كثير في شيوخ الكفار) .

11 -

وقال العلامة الرباطي، مبينا وجه تمثل الشياطين للقبورية:

(لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشائخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلان. أغثني، وانصرني، وادفع عني. أنا في

ص: 997

حسبك

، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرَّم الله ورسوله، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم- لما كانوا من جنس عباد الأوثان- صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأصنام ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة كما تخاطب الشياطين الكهان، وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك أو يظن أن الله صوَّر ملكا على صورته فعل ذلك.

ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به..

كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الشرك والهند وغيرهم) .

الجواب السابع: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية كثيرا ما ينادون الفسقة والفجرة، وتارة يطلبون المدد من الزنادقة والملاحدة، وأخرى يستغيثون بأعداء الله الكفرة،

ص: 998

فهل هم أولياء الله؟؟؟، وهل ما صدر منهم يعد من الكرامات؟؟؟، كلا بل هم من أولياء الشيطان* وهم من أعداء الرحمن * وأن خوارقهم من استدراج الشياطين* ليضلوا بها هؤلاء القبورية المساكين* ولكن القبورية الحمقى، وصلوا في السفاهة إلى حد يستغيثون بالفساق الفجار الكفار عند الملمات* ويعدون خوارقهم من ولاية الله والكرامات* وفيما يلي نصوص بعض علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب:

1 -

قال الإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، وتبعه الشيخان سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، واللفظ للأول:

(ومنهم من يستغيث بالمخلوق سواء كان المخلوق حيا أو ميتا، أو مسلما أو غير مسلم، ويتصور الشيطان بصورته، ويقضي حاجة من يستغيث به، فيظن أنه هو الذي استغاث به؛ وليس كما يظن، بل إنما هو الشيطان أضله؛ لما أشرك بالله؛ فإن الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته

؛ فإنه إذا أعانهم على مقاصدهم- فهو يضرهم أضعاف ما ينفعهم،

ص: 999

فإذا كان منتسبا إلى الإسلام- إذا استغاث بمن يحسن به الظن من شيوخ المسلمين، يجيء إليه الشيطان في صورة ذلك الشيخ، فإن الشيطان كثيرا ما يجيء على صورة الصالحين، ولا يقدر أن يتمثل بصورة رسول رب العالمين، ثم إن ذلك الشيخ المستغاث به- إن كان ممن له علم- لا يخبره الشيطان بأقوال أصحابه المستغيثين به، وإن كان ممن لا علم له- يخبره بأقوالهم، وينقل إليهم كلامه- فيظن أولئك الجهلة: أن الشيخ سمع أصواتهم، وأجابهم مع بعد المسافة، وليس كذلك، بل إنما هو بتوسط الشيطان، وقد روي عن بعض المشائخ الذين قد جرى لهم مثل ذلك

، أنه قال: يرى لي شيء بَرَّاق مثل الماء أو الزجاج، ويمثل لي فيه ما يطلب مني من الأخبار، فأخبر الناس به، وبهذا الوجه يصل إليَّ كلام من يستغيث بي من أصحابي، فأجيبه، فيصل إليه جوابي، وكثير من هذه الخوارق يحصل لكثير من الشيوخ الذين لا يعلمون الكتاب والسنة ولا يعلمون بهما،

ص: 1000

فإن الشيطان كثيرا ما يلعب بالناس ويريهم الأشياء الباطلة في صورة الحق

) .

2 -

قال الإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) :

(وإذا قضى الله حاجة لهم، نصبوا لمشائخهم رايات، وعَدُّوا ذلك لهم كرامات، وهذا من زخارف الشيطان للإنسان، قال جل ذكره {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36- 37] .

وقال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] ، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي، أو غير ذلك في كشف ضر، أو قضاء حاجة تأثيرا- فقد وقع في وادي جهل خطير* فهو على شفا حفرة من السعير* وأما كونهم مستدلين على أن ذلك من الكرامات- فحاشا الله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظن بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامة- فهذا ظن أهل الأوثان) .

2 -

وقال رحمه الله مبينا أن غالب من يستغيث بهم القبورية هم فسقة فجرة:

(لأن غالب من يتكلم في هذه العصور بالولاية، ممن خلا عن العلم

ص: 1001

وجعل تقواه في الخلوات وترك الجماعات

، ليتصل بإخوانه من الجن، ويتكلم بطامات يظنونها منه كرامات) .

4 -

وقال رحمه الله أيضا:

(كما يقع لبعض الظلمة والفساق والجهال والكفرة أحيانا استدراجا لهم زيادة في غيهم

؛ فمنهم من يحمل في الهواء، ومنهم من يؤتى بالأموال المسروقة، ومنهم من يدب على السرقة ليحتال على أخذ أموال الناس بالولاية، ونحو ذلك من الشعوذات التي يسمونها كرامات

، فلا يكون مثلها كرامات

، فإن أولياء الرحمن هم المتقون) .

5 -

وقال رحمه الله أيضا، ردا على القبورية، مبينا أن ما يسمونه كرامات هي في الحقيقة ليست بكرامات لأولياء الرحمن؛ بل هي تلبيسات تصدر من هؤلاء الفسقة أولياء الشيطان:

(وأثبتوا التصرف لأرواحهم لأنها باقية، وقالوا بزعمهم ما لم يأذن به الله افتراء على الله، ولم يفرقوا بين كرامات الرحمن لأوليائه وتلبيسات الشيطان لأعدائه، فتركوا حقائق الإيمان، وأعرضوا عن نصوص القرآن،

ص: 1002

و " {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} "، " {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ") .

6 -

وقد رثى حال هؤلاء الملاحدة القبورية الوثنية، العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، أحد كبار علماء الحنفية (1237هـ) ، مبينا ما يحدث في مولد العفيفي من الفسق والفجور جهارا دون حياء باعتقاد أن هذا قربة وعبادة لله عز وجل، وأنهم أبادوا أموالا هائلة في سبيل الشيطان، وأن العلماء يشاركونهم فيقرونهم على هذا الفسق والفجور:

(وبنوا على قبره قبة معقودة، وعملوا له مقصورة، ومقاما في داخلها، وعليه عمامة كبيرة، وصيّروه مزارا عظيما يقصد للزيارة، ويختلط به الرجال والنساء، ثم أنشأوا بجانبه قصرا عاليا، عمّره محمد كتخذا أباظه، وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير، ودثروا بها قبورا كثيرة بها كثير من الأولياء والعلماء والمحدثين وغيرهم من المسلمين والمسلمات،

ص: 1003

ثم إنهم ابتدعوا له موسما وعيدا في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية، فينصبون خياما كثيرة وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي، والملاعب، والغوازي، والبغايا، والقرادين، والحواة.

فيملأون الصحراء والبستان فيطأون القبور، ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات، ويبولون، ويتغوطون، ويزنون، ويلوطون، ويلعبون، ويرقصون، ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارا، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر، ويجتمع لذلك أيضا الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياما أيضا، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار، والعامة، من غير إنكار، بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلا عن كونهم يفعلونه،

ص: 1004

فالله يتولى هدايتنا أجمعين) .

7 -

وقد حقق العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن القبورية أشنع شركا من الوثنية الأولى من ناحية أنهم كثيرا ما يدعون الفسقة والفجرة والزنادقة والكفرة عند الملمات بحجة أنهم أولياء، وأن لهم كرامات، قال رحمه الله تعالى:

(والأمر الثاني: أن الأولين كانوا يدعون مع ربهم أناسا مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة

، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى، والسرقة، وترك الصلاة وغير ذلك، ومن يعتقد في الصالحين ومن يعبد ما لا يعصي كالخشب والحجر- أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) .

8 -

وقد صرح العلامة شكري الآلوسي بأن كثيرا من أئمة القبورية زنادقة وإباحية، بل منكرون للمعاد، وأنه لا جنة ولا حساب ولا نار ولا كتاب.

وصرح بأن غالب من يظنون فيهم الولاية والكرامة هم وجودية وحلولية ملاحدة، أمثال: ابن عربي (638هـ) ،

ص: 1005

وابن الفارض (632هـ) ، وذكر نماذج من كفرهم وزندقتهم وكفرياتهم في الحلول والاتحاد والإلحاد، وذكر أن القبوريين مع ذلك يجعلونهم من أولياء الله تعالى، ويستغيثون بهم في الملمات* بحجة أنهم أولياء أصحاب الكرامات* مع أنهم أولياء الشيطان * وخوارقهم من تلبيسات الشيطان* 9- وقال العلامة شكري الآلوسي، مبينا أن غالب من يستغيث بهم القبورية، ويزعمون أنهم أولياء الله، وأن لهم كرامات- هم في الحقيقة من إخوان الشياطين، وخوارقهم ليست كرامات، بل هي من الأحوال الشيطانية: والكلام على بدع الطرائق وأهلها مفصل في غير هذا الموضع، وفي كتاب " كشف أحوال المشائخ الأحمدية، وبيان أحوالهم

ص: 1006

الشيطانية " ما يشفي صدور المؤمنين وتقر به عين الموحدين) ، ثم ذكر رحمه الله أن هذه الطرق الصوفية:

من الخلوتية، والشاذلية، والقادرية، والرفاعية، والنقشبندية- ليست طرقا علية، بل هي طرق البدع والضلالات* ولا بركة في هذه الخزعبلات* 10- وقد قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله في الصيادي إمام الرفاعية ووليهم في عصره:

ص: 1007

إنه دجال العصر، وشيخ الضلال، ومنبع الكذب والافتراء، وكم له من المكائد والدسائس، وكم انتحل لأحمد الرفاعي كتابا وافترى له دعاوى باطلة، وإنه خبيث له من المكائد والحيل ما يعجز الشيطان عن مثلها، وإن شر هذا الزائغ قد سرى إلى جميع مردته ومنهم هذا النبهاني الزائغ؛

لقد جربتهم فرأيت منهم

خبائث بالمهيمن نستجير

وهذا اللعين لعله من نسل ابن صياد اليهودي؛ لأن أفعاله تؤيد هذه النسبة،

وإن فاتكم أصل امرئ ففعاله

تنبيكم عن أصله المتناهي

وهو اليوم أعظم بلاء على المسلمين، وقد أضر الدولة والملة، وبواسطته قد وسد الأمر إلى غير أهله، وأضر ببيت مال المسلمين؛

ولو كان هذا موضع القول لاشتفى

به القلب لكن للمقال مواضع

ذكره تصفيق ورقص وضرب دفة، وإباحة المحرمات، والمنكرات،

وسل منه غداة يهز رأسا

بحلقة ذكره ويدير دبرا

أقال الله صفق لي وغن

وقل كفرا وسم الكفر ذكرا

فويلك قد كفرت ولست تدري

ولم تبرح على هذا مصرا

11 -

وقال رحمه الله في الكشف عن ديانة النبهاني وشيخه الصيادي رئيس الرفاعية ووليهم، وعامة المتصوفة الذين يظن بهم القبورية أنهم من أولياء الله، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان:

ص: 1008

أين زهد النبهاني وورعه وتقواه؟ وقد صرف عمره في الأحكام القانونية الوضعية الكفرية، والحكم بغير ما أنزل الله! أما يستحي من هذا حاله أن يدخل نفسه في عداد المسلمين؟ فضلا عن أولياء الله؟ وشيخه وشيطانه الصيادي مقتدى الدجالين، خبيث النفس والأفعال، أبي البدع وعنوان الضلال!، وهكذا غالب متصوفة زماننا، فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار.

12 -

وقد شنع شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) على القبورية: بأنهم كثيرا ما يعظمون قبور الكافرين المنافقين على ظن أنهم أولياء الله، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل هو قبر كافر، وذكر أن القبورية كثيرا ما لا يذهبون إلى قبور أولياء الله صدقا، بل يذهبون إلى قبور أمثال الإسماعيلية الباطنية، بحجة أنهم أشراف علويون، وإلى قبور النصارى.

وذكر أن فيمن يستغيث بهم القبورية على ظن أنهم أولياء الرحمن- هم في الحقيقة أولياء الشيطان، فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء حملا له من مكان إلى مكان، فتارة تذهب به إلى مكة، وتارة إلى بيت المقدس، وغيرهما من

ص: 1009

البلاد، ويكون زنديقا كافرا، فاقترن به الشياطين وخدموه لما فيه من الكفر والزندقة والفسوق والعصيان.

ولما كان كثيرٌ من أصحاب الخوارق فسقةً وفجرةً، بل كفرةً- حذر علماء الحنفية من الاغترار بكل صاحب الخوارق، وحذروا منهم فقالوا:(ولو نظرتم إلى رجل أعطي نوعا من الكرامات حتى تربع في الهواء، ومشى على الماء- فلا تغتروا به- حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الأحكام الشرعية) .

قلت: لقد صدق هؤلاء العلماء من الحنفية، فقد وصلت القبورية إلى حد لم يكتفوا بالاستغاثة بالصالحين، بل عدوا كثيرا من الفسقة والفجرة والزنادقة والملاحدة والاتحادية، والحلولية في عداد الأولياء؛ وعدوا فسقهم وفجورهم وخروجهم على شرع الله من الكرامات، واستغاثوا بهم؛ بل

ص: 1010

استغاثوا بالكلاب، والحرباء أيضا!، وفيما يلي أذكر بعض الأمثلة لتكون شاهدة لما قاله هؤلاء العلماء من الحنفية:

المثال الأول:

أن الشعراني أحد كبار أئمة القبورية، بل أحد الزنادقة الصوفية، ذكر من كرامات علي وحيش المجذوب (917هـ) أنه كان يفعل الفاحشة بحمارة أمير البلد في الشارع العام أمام الناس جهارا بدون حياء؛ فكان يأمر الأمير أن يمسك رأس حمارته ليفعل بها الفاحشة، وفي ذلك يقول الشعراني:(وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة وإن سمع حصل له خجل عظيم، والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة، وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة) ! قلت: انظر أيها المسلم إلى هؤلاء الزنادقة الفسقة الفجرة!

المثال الثاني:

أن الصيادي ذكر أن أحد المشائخ كان يضاجع زوجته ويجامعها أمام تلميذه امتحانا واختبارا له.

ص: 1011

المثال الثالث:

أن الحسين الخزرجي (657هـ) ذكر في أحد ممن يزعمونه وليا صاحب المكاشفات أنه كان يدخل الجامع، فكان لا يرى يصلي، ويفطر في رمضان، وكان للناس به شغل رضي الله عنه.

قلت: لعنة الله وغضبه على من يلعب بشرع الله، ويعد أعداء الله، وأحباء الشيطان في عداد أولياء الله.

المثال الرابع:

أن شمس الدين محمد الحنفي الملقب بالسلطان (847هـ) الذي جعلته القبورية إلها يستغيثون به وحكوا له عجائب وغرائب من الكرامات- كان تكبسه النساء الأجنبيات جهارا دون حياء، وهذا من أعظم الفسق والفجور.

المثال الخامس:

أن الحسين الخزرجي (657هـ) قال: " إن الموله أحمد كان كثير الضحك يصلي ويضحك في الصلاة ".

المثال السادس:

أن الحسين الخزرجي (657هـ) قال: " رأيت مولها بالقاهرة مقعدا

ص: 1012

يُعَظّمُ ولا يصلي، وكان يسمى بالحلبي رضي الله عنه ".

قلت: الذي لا يصلى لا يكون من أولياء الرحمن، بل يكون من أولياء الشيطان.

المثال السابع:

أن من أعظم زندقة هؤلاء الصوفية الذين جعلتهم القبورية أولياء الرحمن: أنهم يشترطون للولاية ارتكاب الموبقات التي لا يقرها عقل ولا نقل، فلا يكون الشخص عندهم وليا إلا إذا ارتكب الزندقة، وفي ذلك يقول الشعراني أحد مشاهير أئمة القبورية الوثنية:

(لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم بأنه زنديق؛ وذلك لأن أحوالهم وراء النقل والعقل) .

قلت: نعم! العقل والنقل لا يقران فسقهم وفجورهم.

المثال الثامن:

أن هؤلاء الزنادقة الملاحدة يرتكبون الفسق والفجور أمام الناس جهارا دون حياء، ومع ذلك ترى أتباعهم ومردتهم يعللونها ويعتذرون عنها بأنها ليست على الحقيقة، فقد قال الشعراني أحد هؤلاء الزنادقة القبورية الوثنية - بعدما ذكر قصة فاحشة وليه علي وحيش بالحمارة في الشارع أمام الناس جهارا دون حياء-:

(وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه. فقال:

ص: 1013

هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة) .

قلت: انظر أيها المسلم إلى زندقة هؤلاء الزنادقة الملاحدة، كيف يبرئون الفحشاء والفسق والفجور؟؛ وإذا ارتكب الولي الزنى - قالوا: إنما زنى رحمة بمريده!؟!، فهل هؤلاء أولياء الرحمن؟ أم هم من أعظم أولياء الشيطان؟؟؟؛ وهكذا يبرؤون أولياءَهم بأنهم يرتكبون المعاصي لغرض صحيح، وإذا شرب الولي خمرا- تتحول لبنا في فيه!؟!.

المثال التاسع:

أن الشاه نقشبند إمام النقشبندية (791هـ) كان يأمر مريديه بطاعته التامة المطلقة، حتى كان يأمرهم بالسرقة.

المثال العاشر:

أن الشاه نقشبند كان يتمثل بقول الحلاج الكافر الملحد الزنديق المقتول على زندقته (309هـ) :

ص: 1014

كفرت بدين الله والكفر واجب

لدي وعند المسلمين قبيح

ويستدل به ويؤمن به.

قلت: هل من يكفر بدين الله يكون من أولياء الله؟ حتى يكون الغوث الأعظم محييا، مميتا، متصرفا مطلقا في الكون؟ إلها يعبد من دون الله؟؟؟

المثال الحادي عشر:

أن الشاه نقشبند كان يخدم الكلاب ويعظمها ويطلب منها المدد.

فهل وصلت الكلاب إلى منزلة صارت بها من أولياء الله حتى يستغيث بها هؤلاء الوثنية؟؟؟

المثال الثاني عشر:

أن الشاه نقشبند كان يطلب الشفاعة من الحرباء.

فهل كانت الحرباء من الأولياء والأغواث والأقطاب أيضا حتى يطلب منه الشفاعة؟؟؟.

المثال الثالث عشر:

أن الشعراني أحد مشاهير الزنادقة، وكبار الملاحدة، وأئمة القبورية الوثنية:

ص: 1015

قد فض بكارة زوجته فاطمة فوق ركن قبة قبر وليه وإلهه أحمد البدوي (675هـ) ، وجمع لوليمته الأولياء كلهم شرقا وغربا، أحياءً وأمواتا، وسجل هذه المخازي في كتابه مفتخرا بها، مجاهرا بها دون حياء من العباد* ولا من رب العباد* أقول: بالله عليك أيها المسلم

هل هؤلاء أولياء الرحمن* أم هم أولياء الشيطان؟؟؟ *

المثال الرابع عشر:

أن بعض هؤلاء الصوفية الزنادقة كانوا يخرجون إلى الشوارع عراة، جهارا دون حياء ويقول شيخهم في تعليل ذلك مبررا فعلهم الفاحش:" ما أمرتهم إلا ليكونوا عراة من الذنوب ".

سبحان قاسم العقول!! فهل أمثال هؤلاء أولياء الله؟؟ أم هم فسقة فجرة أعداء الله!! * إذا فاتك الحياء فافعل ما شئت!

ص: 1016

المثال الخامس عشر:

ما قيل: إن كثيرا من هؤلاء الإباحية قد ارتكبوا الفاحشة بالنساء المريدات وباتوا معهن حتى السحر.

فهل هذا وصف أولياء الله؟!؟

المثال السادس عشر:

ما ذكره ابن الجوزي من فسق كثير منهم، وفجورهم، واختلاطهم بالنساء الأجنبيات والمردان واشتغالهم بالغناء.

المثال السابع عشر:

أن الشبلي (234هـ) قد حلق لحيته بعد ما مات ولده.

هل هذه سيرة أولياء الرحمن؟؟؟.

المثال الثامن عشر:

أن كثيرا من الصوفية، ومنهم حجة إسلامهم الغزالي إمام الغزالية (505هـ) : يفضلون سماع الغناء على تلاوة القرآن من سبعة أوجه.

المثال التاسع عشر:

ما يوجد قديما وحديثا من اختلاط الرجال والنساء وارتكاب المناهي

ص: 1017

عند قبور عظمائهم، ولا سيما وقت احتفالهم بمواليدهم على قبورهم، خصوصا ما يقع في مولد البدوي حتى باعترافهم، وما يقع في الهند، وباكستان، وأفغانستان، ولا سيما في مزار؟!؟، وإذا أنكر عليهم منكر هذه الفواحش والفسق والفجور- قال البدوي في تبريرها:" ذلك واقع في الطواف [بالكعبة] ولم يمنع أحد منه "؛ ثم قال: " وعزة ربي ما عصى في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار، وأحميهم من بعضهم بعضا، أفيعجزني الله عز وجل عن حماية من يحضر مولدي؟!؟ ".

المثال العشرون:

ما قاله الشعراني أحد أئمة الزنادقة الوثنية القبورية، والملاحدة الدجالين الكذابين في سياق كرامات يوسف العجمي الكوراني (768هـ) :

(وكان رضي الله عنه إذا خرج من الخلوة يخرج وعيناه كأنهما قطعة جمر تتوقد!، فكل من وقع نظره عليه انقلبت عينه ذهبا خالصا!، ولقد وقع بصره يوما على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب، إن وقف وقفوا، وإن مشى مشوا،.

ص: 1018

فأعلموا الشيخ بذلك، فأرسل خلف الكلب وقال: اخسأ، فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها،.

ووقع له مرة أخرى أنه خرج من خلوة الأربعين، فوقع بصره على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب،.

وصار الناس يهرعون إليه في قضاء حوائجهم،.

فلما مرض الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه، فلما مات أظهروا البكاء والعويل، وألهم الله بعض الناس فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا؛ فهذه نظرة إلى كلب فعلت ما فعلت، فكيف لو وقعت على إنسان) .

وذكر الشعراني من كرامات هذا العجمي أنه كان يحول الاسطوانة ذهبا خالصا، وأن النهر انقلب له لبنا خالصا فشرب منه.

قلت: أيها المسلم!! تدبر قول هذا البدوي كيف يدعو جهال البدو والأعراب إلى الفسق والفجور والانحلال تحت ستار الولاية والكرامة؟!؟؛

ص: 1019

فأشركوا حتى استغاثوا بالكلاب! وأقول: هذه صفحات سوداء لهؤلاء القوم!! ومع ذلك كله إذا أنكر عليهم منكر- يهولون ويجولون ويقومون ويقعدون ويصرخون ويقولون له: أتنكر على الأولياء؟، ويقولون: لعنة الله على من ينكر على أوليائه!! ويرفعون بذلك أصواتهم حتى تصير لهم ضجة!! بل يخوفون من ينكر عليهم هذه الطامات والفواحش، ويقولون: من أنكر على الأولياء يسلب منه الإيمان والقرآن والعلم، ويخشى عليه سوء الخاتمة، ويصاب بكذا، ولهم في ذلك حكايات وأساطير للتخويف حتى لا ينكر عليهم منكر ويستمروا في ارتكاب الفواحش.

ويقولون: إن قوما قطعت ألسنتهم، وآخرين عذبوا في قدر أغلي فيها الماء حتى تطاير منها الشرر إلى أن تهرى لحومهم وعظامهم لأجل أنهم ينكرون على أولياء الله، أمثال ابن الفارض، وابن عربي.

وإن القاضيَ عياضا كان ينكر على إحياء الغزالي فدعا عليه فمات في الحمام، وفلان كان ينكر عليه فأمر ابن سهلة به فضربه.

الحاصل:

أن هذه الأمثلة ومعها آلاف الآلاف تدل على أن كثيرا من هؤلاء

ص: 1020

الذين يستغيث بهم القبورية بحجة أنهم أولياء الرحمن، وأن لهم كرامات يغيثون من استغاث بهم- ليسوا من أولياء الرحمن، بل هم من أعظم أولياء الشيطان، فلا ولاية لهم ولا كرامة، فزالت شبهة الكرامة من أصلها؛ لأن هؤلاء زنادقة ملاحدة فسقة فجرة أهل الخيانة* فلا كرامة ولا ديانة* الجواب الثامن:

أن هؤلاء القبورية أكذب الناس في نقل تلك الحكايات التي افتعلوها لإثبات الكرامات لأوليائهم الأموات الذين يستغيثون بهم عند الكربات * فهذه الأساطير التي ذكروها في كتبهم محض الأباطيل، وخالص الأكاذيب، فلا اعتماد على حكاياتهم، ولا تقبل رواياتهم؛ لأنهم ساقطون عن العدالة والصدق والديانة* إلى دركات الكذب والفسق والخيانة* فإنهم أكذب الناس، وبيوت الكذب، ومعادن البهت؛ كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

الشبهة الثالثة: شبهة المجاز العقلي:

لقد تشبثت القبورية لتبرير شركهم، وتجويز استغاثتهم بالأموات*

ص: 1021

عند نزول النوازل وإلمام الملمات، لجلب الخيرات ودفع المضرات* بشبهة أخرى:

وهي: أنهم يقولون: إن تصرف الأولياء في الكون، وشفاءَهم للأمراض، وكونهم يدمرون الأعداء، وينصرون الأولياء، ويغيثون المستغيثين- إنما نقصد بذلك كله المجاز العقلي! فالمتصرف في الكون هو الله في الحقيقة، والشافي للأمراض هو الله في الحقيقة، والناصر والمغيث هو الله في الحقيقة، وهو النافع الضار في الحقيقة، وهو الفاعل في الحقيقة، ولكن نسبة ذلك كله إلى الولي نسبة المجاز العقلي، لا على وجه الحقيقة.

هذه هي شبهة المجاز العقلي، وهي من أعظم شبهات القبورية عامة، قديما وحديثا.

ص: 1022

الجواب:

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه، أذكر بعضها:

الوجوه الأول إلى الخامس:

ما قاله شيخ القرآن ابن آصف الفنجفيري (1407هـ) رحمه الله تعالى:

(ومن شبهاتهم [أي القبورية] : ما يقولون:

، فقول المسلم إذا استغاث بالميت من قبيل المجاز العقلي، كقولهم: بنى الأمير المدينة.

والجواب أولا:

لو فتح هذا التأويل لما يصح الشرك، وحكم الكفر على أحد من الناس؛ وإن سب الله تعالى، وسب الأنبياء عليهم السلام نعوذ الله

ص: 1023

من ذلك، و [لو] أنكر البعث، والحشر، والنشر، وأباح الفواحش، وادعى الألوهية؛ مثلا يكون معنى قول القائل:" الرسول خالق السماوات والأرض ": " رب الرسول"- بحذف المضاف، ومعنى قول فرعون:" أنا ربكم الأعلى "-: " أنا أقول: ربكم الأعلى "، بتقدير القول:

وكذلك يكون معنى من يدعو الأصنام ويتضرع إليهم: أنه يدعو الله الذي هو مالك الأصنام، ويتضرع إليه تعالى.

فما قال أحد من المسلمين بهذه التأويلات الفاسدة في الاعتقاد.

وثانيا:

أن عباد القبور أكثرهم [عوام جهال] لا يدرون المجاز العقلي [الذي اصطلح عليه هؤلاء المجازيون] ، ولا يعرفون هذه المسألة.

وثالثا:

أنهم [أي القبورية] يعتقدون في أهل القبور التصرف والإعطاء،

ص: 1024

ولا يفهمون إلا أنهم أهل للإعطاء والإيجاد، ويسمونهم أقطابا [وأغواثا] .

ورابعا:

أنهم [أي القبورية] إذا نذروا للأموات وتأخروا فيه، فيصيبوا في ذلك بأمر الله.

يقولون: إن الشيخ الفلاني أصابني بالمصيبة، لأني لم أوف بنذره، و [هكذا] يحذرون من شرهم.

ص: 1025

وخامسا:

إن المشركين الذين أنزل الله فيهم القرآن- إنما كانوا يدعونهم شفعاء [لهم] إلى الله، وكانوا يقولون: إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى، أي منزلة ودرجة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا

) .

قلت: هذه الوجوه كلها قاطعة لأدبار القبورية * وقالعة لشبهاتهم القرمطية*

الوجه السادس:

ما قاله العلامة جوهر الرحمن من كبار علماء الحنفية المعاصرة الرادين على القبورية:

إن النسبة المجازية [على فرض وجود المجاز] :

ص: 1026

هي نسبة الفعل إلى غير الفاعل الذي صدر منه ذلك الفعل، لكونه ظرفا للفعل، كقول القائل:" أنبت الربيع البقل "، أي:" أنبت الله البقل في وقت الربيع "، أو لكونه سببا في صدور ذلك الفعل، كقول القائل:" بنى الأمير المدينة "، أي:" بنى المعماريُ المدينة بأمر الأمير ونفقته "، وإذا عرفت هذا- فاعلم: أن الذي ينادي ميتا، أو حيا غائبا، ويستغيث به، ويقول: يا فلان.. أغثني، أو اشفني، أو أنجني- لا ينطبق عليه أنه ناداه واستغاث به مجازا من ناحية كونه ظرفا للفعل، لأن الميت، والغائب، ليسا بظرف للفعل، فلا يقال: إن الميت أو الغائب ظرف للنداء أو الإغاثة أو الشفاء أو الإنجاء، حتى يقال: إن هذه النسبة نسبة مجازية، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، فهذا المجاز لا يتصوره أحد، ولا يصح في مثل هذه الصورة ألبتة، بقيت الصورة الثانية من المجاز، وهي: أن هذا المنادِيَ المستغيث يقصد: أن الشافيَ والناصرَ والمنجيَ والمغيثَ هو الله تعالى في الحقيقة، ولكن يرى أن الوليَّ الفلانيَّ الذي يستغيث به ويناديه- هو مجرد سبب لذلك.

نقول: هذا الاحتمال أيضا غير وارد، ولا يصح المجاز في هذه الصورة أيضا؛.

لأن هذا المنادِي المستغيث بهذا الولي الميت، أو الحي الغائب-

ص: 1027

لا بد له من أن يعتقد فيه عقائدَ ثلاثا:

الأولى:

أن يعتقد: أن هذا الولي الميت أو الحي الغائب يسمع صوته ونداءه ودعاءه فوق الأسباب العادية.

الثانية:

أن يعتقد فيه: أنه يعلم بحاله ويطلع على مصيبته.

الثالثة:

أن يعتقد فيه أنه يقضي حاجته بأن يشفع له عند الله تعالى.

نقول: لا بد من هذه العقائد الثلاث، وإلا لا يمكن جعله سببا.

وإذا تحقق: أنه لا بد من أن يعتقد هذا المنادِي المستغيثَ في ذلك المنادي المستغاثِ الميتِ أو الحي الغائبِ- نقول: إن السمع المطلق، والعلم المطلق، والقدرة المطلقة، كلها من صفات الله تعالى الخاصة به.

فالميت، أو الحي الغائب لا يسمع نداء المستغيث، ولا يعلم بحاله ولا يطلع على مصيبته؛ فقد قال الله سبحانه:{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21]، وقال تعالى:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ، فبطل دعوى المجاز؛ على أن من يعتقد أن الميت أو الحيَّ الغائبَ يشفع له عند الله تعالى - فهو على طريقة المشركين السابقين،

ص: 1028

فعقيدته هذه هي بعينها عقيدة الوثنية الأولى؛ وقد قال سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ؛ وإذا بطل المجاز في هذه الصور كلها بطلت هذه التأويلات كلها، على أننا نقول: إن مثل هذه التأويلات مع بطلانها وفسادها- قد يتشبث بها من كان له علم بنكات علم البيان ودقائق علم المعاني؛ أما العوام الجهلة- فهم لا يخطر بقلوبهم مثل هذه التأويلات ودعوى المجاز؛ لأنهم بمعزل عن معرفة هذه الدقائق البيانية؛.

فالذي يدافع عن القبورية ويحاول تصحيح أقوالهم الشركية وتصويب أفعالهم الكفرية وتجويز عقائدهم الوثنية- بمثل هذه التأويلات الفاسدة البعيدة الباطلة- فهو في الحقيقة يدفع هؤلاء العوام الجهلة إلى مهاوي الإشراك بالله تعالى؛ فهلا يعلمهم تلك الأدعية المأثورة الصافية الخالصة عن الشرك وشوائبه- بدل أن يرغبهم في الشركيات والكفريات بمثل هذه التأويلات.

الشبهة الرابعة: شبهة الكسب والسب:

تشبثت القبورية بهذه الشبهة، لتبرير إشراكهم بالله تعالى،

ص: 1029

واستغاثتهم بالأموات * عند إلمام الملمات ونزول النوازل والكربات لدفع المضرات وجلب الخبرات* وتبريء أكاذيبهم وكفرياتهم الوثنية وعقائدهم الباطلة، وغلوهم في الصالحين، بل في الفسقة الطالحين:

من التصرف في الكون، والإحياء، والإماتة، والقدرة، والعلم بالغيوب، وتسخير الأمور، وغير ذلك مما سبق أمثلته في باب الغلو؛ وقالوا: إن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء من أعظم الأسباب لاجتلاب البركات، واستنزال الخيرات والرحمات، واستجابة الدعوات وسرعة قضاء الحاجات، والتوسل بهم من قبيل الأخذ بالأسباب، وليس ذلك من باب الشرك بالله، ولا من قبيل عبادة غير الله، وإن طلب الغوث منهم على سبيل الكسب والتسبب، ومن الله تعالى على سبيل الخلق والإيجاد.

فإن الله تعالى جعل الأولياء مفاتيحَ للخير ومنابعَ للبر، وسحبا يمطر منها على عباده أنواع الخيرات.

وغاية ما يعتقد الناس في الأموات أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء؛ لا أنهم خالقون موجدون، والتسبب والتكسب مقدوران للميت، وفي إمكانه كالحي، فمن يستطيع أن يقول: إن ذلك شرك؟

قلت: هذه كانت شبهة الكسب والسبب التي تشبث بها القبورية قديما وحديثا.

ص: 1030

الجواب:

لقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية بعدة وجوه، فجعلوها كأمس الدابر، أذكر منها ما يلي:

الوجه الأول:

أن احتمال التكسب والتسبب في الاستغاثة بالأموات المقبورين، والأحياء الغائبين لا يمكن صحته ولا يتصور وقوعه، لعدم قدرتهم على ذلك، فاحتمال الكسب والسبب ههنا باطل من أصله؛ قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ)، واللفظ للثاني: (فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى- كما يزعمه هذا العراقي الجهول [ابن جرجيس المخذول] ، وأضرابه [من القبورية] .

قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله، أو السؤال بما لا يعطيه و [لا] يمنعه إلا الله، وأما فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس،

ص: 1031

واستغاثة بعضهم ببعض- فهذا شيء نقول به، [ولا نمنعه][ولا ننكره] ، ونعد منعه جنونا؛ كما نعد إباحة ما قبله-[وهو ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى]- شركا.

والعراقي- عامله الله تعالى بعدله - أورد نصوص المباح في الممنوع * واستدل بدلائل المشروع على غير المشروع* قاتله الله!! ما أجهله! * وما أبعده عن الحق، وأضله! * وكون العبد له قدرة كسبية* لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية* [فتحقق أنه] لا يستغاث به [أي بالعبد] فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به [أي بالعبد] ، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه [إلا بالله وعليه وإليه] ؛ فلا يقال لأحدٍ، حيّ، أو ميتٍ، قريبٍ، أو بعيدٍ:" ارزقني، أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي "- إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد الفرد الصمد؛

ص: 1032

قل يقال لمن له قدرة كسبية، قد جرت العادة بحصولها ممن أهَله الله تعالى لها:" أعني في حمل متاعي " أو غير ذلك، والقرآن ناطق بحظر الدعاء عن كل أحد [غير الله فوق القدرة] ، لا من الأحياء، ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء، أو صالحين، أو غيرَهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة، أو بغيرها، فإن الأمور الغير المقدورة للعباد لا تطلب إلى من خالق القدر * ومنشئ البشر* كيف؟ والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه * أسبل الله علينا بفضله عفوه ورضوانه* فالقصر على ما تعبدنا فيه من محض الإيمان * والعدول عنه عين المقت والخذلان* وبالجملة: فالاستغاثة، والاستعانة، والتوكل، أغصان دوحة التوحيد* المطلوب إخلاصه من العبيد*) .

الوجه الثاني:

أن الاستغاثة بالأموات* عند إلمام الملمات على أن هؤلاء الأموات سبب في دفع المضرات* وأنهم من الأسباب لجلب المنافع والخيرات *- هي بعينها عقيدة المشركين السابقين *؛

ص: 1033

فالقبورية خلف لسلفهم الوثنيين الأولين* قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (يريد به [أي يقصد ابن جرجيس العراقي بمقالته]- أن دعاءهم ومسألتهم بطريق التسبب والشفاعة لا يضر.

ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية- فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد * ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى من جاءت به الرسل- يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن- ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله- إلا التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا، ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم ربه؛ وقد قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس الآية: 18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]

؛ فأخبر تعالى: أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله تعالى- بالجاه، والمنزلة

،

ص: 1034

ولم يريدوا منهم تدبيرا، ولا تأثيرا، ولا شركة، ولا استقلالا؛ يوضحه قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31-32]، وقوله:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89]، وقوله:

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] ،

، فتأمل هذه الآيات* وما فيها من الحجج والبينات * تطلعك على جهل هذا العراقي [ابن جرجيس] * وأمثاله [من القبورية أهل الشرك والتلبيس *] ، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين* ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله، وأتباعهم من توحيد رب العالمين* وتأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته ووجوب عبادته وحده لا شريك له- بما أقر به الخصم، واعترف به: من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق والتأثير والتدبير، وهذه عادة القرآن دائما يعرج على هذه الحجة،

ص: 1035

لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود، فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة* والفصاحة، والجلالة، والفخامة وأدلها على المقصود* فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور

؛ وهذا الأحمق [العراقي ابن جرجيس] زاد في غير موضع من كتابه:

قيدا، فقال:" لا يشرك إلا من قصد، وأعتقد الاستقلال من دون الله ".

مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا [العراقي وأضرابه من القبورية] فليسوا بمشركين

) .

قلت: لكن التالي اللازم باطل- فالمقدم الملزوم مثله.

الوجه الثالث:

تحقيق أن الأموات ليسوا من أسباب قضاء الحوائج شرعا:

لقد حقق علماء الحنفية أن الأموات ليسوا سببا من أسباب قضاء

ص: 1036

حوائج المستغيثين بهم، في شرع الله عز وجل، وطالبوا القبورية بإقامة حجة واحدة على ذلك، ولكن القبورية لم يأتوا بدليل واحد ولا بشبه دليل على ذلك، ولن يستطيعوا أن يأتوا بحجة على ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.! فأين في شرع الله تعالى: أن الله سبحانه جعل الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك- سببا لقضاء حوائج المستغيثين بهم؟؟؟ بل شرع الله تعالى كله على نقيض ذلك، ودين الأنبياء والمرسلين جميعا يناقض عقيدة هؤلاء القبورية، فأنى للقبورية إثبات كون الأموات* أسبابا لقضاء الحاجات*

أين العنقاء لتطلب

وأين السمندل ليجلب

قال العلامة السهسواني (1326هـ) - وكان أولا حنفيا-:

(نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، ولكن [نقول] : من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟؟؟ ومن ذا الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب:

- من البشر كان أو غيره- كان ذلك سببا في حصول الرزق، والنصر، والهدى، وغير ذلك: مما لا يقدر عليه إلا الله؟؟؟ ومن ذا الذي شرع ذلك وأمر به؟؟؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟؟؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى [إثبات] مقدمتين:

ص: 1037

إحداهما:

أن هذه [الاستغاثات بالأموات] أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله.

والثانية:

أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها

) .

وقال رحمه الله أيضا:

(أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار [أي الاستغاثة بهم] سببا عاديا من أين علم؟ وأي دليل عليه؟؟؟....) .

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (لا يجوز أن يعتقد: أن الشيء سبب إلا بعلم

فمن أثبت شيئا سببا بلا علم، أو علمه يخالف الشرع، واتخذه مع ذلك سببا- كان مبطلا، مثل من يظن كون النذر [لغير الله] سببا في دفع البلاد* وحصول النعماء) .

الوجه الرابع:

أن نقول: لو سلم أن الأموات* والاستغاثة بهم سبب لقضاء الحاجات* لكان هذا سببا كونيا فحسب، لا سببا شرعيا، وكم من الأشياء هي أسباب كونية للمنافع، ولكنها لما كانت محرمة

ص: 1038

في شرع الله- لم تصح كونها أسبابا شرعية، فلا يجوز تعاطي أي سبب إلا إذا علم أنه سبب شرعي وأمر مباح، قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(وأيضا فليس كل سبب يباح، بل من الأسباب ما هو محرم، وما هو كفر، كالسحر، والتكهن، [وهذا] الغبي [يعني ابن جرجيس] يظن: أن الدليل يسلم له، إذا أراد السبب لا الاستقلال، وعبّاد الكواكب وأصحاب النيرنجيات، ومخاطبات النجوم- يرون: أنها أسباب، ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية، وعباد القبور، و [عباد] الأنفس المفارقة- يرون: أن تعلق قلب الزائر، وروحه بروح المزور- سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك المزور، كما ذكره الفارابي وغيره [كابن سينا الحنفي القرمطي] :

من عباد الكواكب والأنفس المفارقة [والقبور وأصحابها]

) .

وقال العلامة السهسواني (1326هـ) :

(إن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين:

ص: 1039

إحداهما:

أن هذه [الاستغاثات بالأموات] أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله.

والثانية:

أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، [ولا بد من إثبات هاتين المقدمتين] ، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه [شرعا] ، فإن المسافر قد يكون سفره سببا لأخذ ماله، وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سببا لمال يعطونهم، وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببا لنيل مال يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطالب، وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب، وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب، والشياطين، بل عبادة البشر قد تكون سببا لبعض المطالب، وهو محرم؛ فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على

ص: 1040

مصلحته، كالخمر، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا، وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، [أي كونيا وشرعا] ، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية) .

وقال رحمه الله أيضا:

(أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار [أي الاستغاثة بهم]- سببا عاديا في ذلك التأثير من أين علم؟؟؟ وأي دليل عليه؟؟؟ ولو سلم [على سبيل فرض المحال]- فالسببية لا تستلزم المشروعية، ألا ترى: أن كثيرا من العقود الفاسدة- سبب لتحصيل المنافع، وليست بمشروعة) .

قلت:

هذه النصوص لهؤلاء العلماء من الحنفية، كافية للقضاء على شبهات القبورية* وشافية للمرضى بأدواء هؤلاء الوثنية* وبعد ذلك ننتقل إلى الباب السابع، لنعرف عقيدة القبورية في استغاثتهم بالأموات عند الكربات ونعرف بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقائدهم الوثنيات في الاستغاثات*

ص: 1041