المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ٢

[شمس الدين الأفغاني]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌ المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات المباركة التي تحذر من الشرك

- ‌المبحث الثانيفي ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك

- ‌الفصل الثانيفي عدة قواعد وضوابط فقهية لعلماء الحنفية

- ‌الفصل الثالثفي بيان عدة ذرائع الشرك التي صرح علماء الحنفية بوجوب سدها

- ‌القسم الأولفي عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين

- ‌القسم الثانيغلو القبورية في تصرفه صلى الله عليه وسلم في الكون

- ‌القسم الثالثغلو القبورية في سماعه صلى الله عليه وسلم لنداء المستغيثين به

- ‌القسم الرابعغلو القبورية في حياته صلى الله عليه وسلم البرزخية

- ‌الفصل الثانيفي غلو القبورية في بعض الأولياء خاصة

- ‌الثاني الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية

- ‌الثالثالبدوي

- ‌الفصل الثالثفي غلو القبورية في الأولياء عامة

- ‌المبحث الثانيفي التنبيه على أمر مهم

- ‌المبحث الثالثفي التنبيه على أمر أهم من الأول

- ‌القسم الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال الغلو إجمالا

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثانيفي استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو في الصالحين

- ‌المطلب الثالثفي نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات

- ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى

- ‌المبحث الثالثفي إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية

- ‌المبحث الثانيفي تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق

- ‌ الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالثفي ذكر بعض نصوص علماء الحنفيةفي إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبوريةفي التصرف في الكون لغير الله سبحانه

- ‌المبحث الثالثفي نصوص علماء الحنفية ردا على عقيدة القبوريةفي زعمهم التصرف في الكون للصالحين

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

- ‌ الفصل الأول: في عرض أمثلة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله

- ‌المبحث الثالثفي بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبوريةفي استغاثتهم بغير الله عند الكربات

- ‌لمطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة بالأحياء الغائبين وبالأموات

- ‌المطلب الثانيفي بيان ترجيح القبورية الاستغاثة والتوسل بالأموات

- ‌المطلب الثالثفي بيان استغاثات القبورية المتفرقات

- ‌الفصل الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

- ‌ المبحث الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الأولفي استدلال علماء الحنفية بعدة آيات من كتاب اللهعلى إبطال عقيدة القبورية

- ‌المطلب الثانيفي ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية علىإبطال عقيدة القبورية

- ‌ المطلب الأول: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله أمر محرم

- ‌الفصل الثالثفي جهود علماء الحنفية في تحقيقهم أن القبورية أشد شركامن الوثنية الأولى

- ‌ المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى

الفصل: ‌المبحث الثانيفي جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى

‌المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى

نداء المستغيثين بهم عند النوازل

والكلام ههنا في مقامين:

المقام الأول: في عرض عقيدة القبورية في سماع الموتى.

1 -

لقد اعتقد القبورية أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويسمعون نداء المستغيثين بهم.

2 -

ولقد سبق بعض نماذج من خرافاتهم في سماع الموتى سماعا واسعا.

3 -

وعلمهم الواسع بالمغيبات وبأحوال هذا الكون وبجميع ما في اللوح المحفوظ.

4 -

ونظرهم الواسع على الكون وعلى اللوح المحفوظ.

5 -

وقد صرحوا بأن الولي يصل إلى درجة يكون سمعه كسمع الله، وبصره كبصر الله، فلا تخفى عليه خافية كما لا تخفى على الله.

6 -

وقالوا: إن سمع الأولياء وبصرهم وعلمهم وإدراكهم أقوى مما

ص: 841

كان في حياتهم.

7 -

وإن الولي أقوى تصرفا وسمعا لأصوات العالم.

8 -

وإنه يسمع ما يقوله الزائر.

9 -

وقالوا: (إن الميت يمسع تسبيح نحو الحشيش الذي لا يدرك للأحياء بنص الأئمة الذين هم عمدة أهل الفتوى [أئمة القبورية ومفتوهم] ، كيف ينفي السماع عن صوت المنادي له (أي الميت)

؟) .

وقالوا: إن الميت يسمع قراءة القرآن حيث كانت القراءة.

وإنه يسمع سلام الأحياء عليه.

والميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع، لأن العلم يستلزم السماع.

والأموات من المؤمنين يسمعون.

والأموات أحياء في قبورهم يسمعون من يخاطبهم.

10 -

وقالوا: قد صح للأموات المؤمنين الحياة ولوازمها من السمع

ص: 842

والبصر والكلام.

11 -

وقالوا: إذا كان سماع الموتى ثابتا فأي حرج في نداء الأموات؟.

12 -

وقد اهتم القبورية بمسألة سماع الموتى قديما وحديثا، لأن إثبات سماع الموتى من أعظم أدلتهم على جواز الاستغاثة بهم، فقد ألفوا في سماع الموتى عدة كتب.

13 -

وأما التبويب وعقد الفصول والمقاصد ونحوها من العناوين البارزة في سماع الأموات * توصلا بذلك إلى جواز نداء الأموات عند الكربات* والاستغاثة بهم لدفع الملمات* فهو هجيري عامة القبورية في كتبهم القبورية الوثنية.

14 -

قلت: سلف هؤلاء القبورية في كثير من هذه القبوريات، ولا سيما السماع لنداء المستغيثين- هو السبكي (756هـ) ،

ص: 843

فإنه اهتم بهذا تمهيدا لجواز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم.

وتبعه القبورية بعده إلى يومنا هذا.

فتراهم يبوبون ويعقدون فصولا وعناوين بارزة في سماع الموتى لأصوات المستغيثين بهم، وعلمهم بأحوالهم؛ ليتوصلوا بذلك إلى جواز الاستغاثة بالأموات عند نزول الكربات.

ص: 845

المقام الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى:

لقد تصدى علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى وأبطلوها بعدة وجوه، أذكر منها عشرة:

الوجه الأول: استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] .

قالوا في صدد تقرير استدلالهم بهذه الآية: " إن الله تعالى قد شبه الكفار بالموتى الذين لا يسمعون ".

فدل على أن الموتى لا يسمعون.

الوجه الثاني: استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] .

وتقرير استدلالهم بهذا الآية: أن الله تعالى شبه الكفار بالموتى الذين لا يسمعون، وبالصم الذين لا يسمعون إذا قابلهم الداعي المنادي، فكيف إذا كان الصم مدبرين بعيدين، فحينئذ لا يسمع الصم نداء الداعي بالطريقة الأولى.

قال الشيخ الجنجوهي (1323هـ) : (استدل المنكرون [لسماع

ص: 846

الموتى] ومنهم عائشة، وابن عباس، ومنهم الإمام [أبو حنيفة] بقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، فإنه لما شبه الكفار بالأموات في عدم السماع - علم: أن الأموات لا يسمعون، وإلا لم يصح التشبيه

) .

وقال: (إن في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} استعارة مصرحة، و" الموتى " مشبه بهم، و " الكفار " مشبهون، ووجه الشبه يكون أقوى في المشبه به ، وإلا لم تصح الاستعارة) .

وللإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) كلام مهم في تفسير هذه الآية، لتحقيق أن الموتى لا يسمعون نداء المستغيثين بهم.

الوجه الثالث: استدلالهم بقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52] وتقرير الاستدلال بعينه هو ما سبق في الآية التي قبلها آنفا، قال الإمام النسفي (710هـ) في تفسير هذه الآية، مبينا فائدة تقييد " الصم " بتولية الإدبار: (فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلا أو مدبرا، فما فائدة هذا التخصيص؟

ص: 847

قلت: هو [أي الأصم] إذا كان مقبلا يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولي لا يسمع ولا يفهم بالإشارة) .

قلت: ويظهر من هذا أن الميت لا يسمع في حال من الأحوال، سواء كان مقبلا أو مدبرا، وأن الميت كما لا يسمع صوتا كذلك لا يفهم الرمز والإشارة أيضا.

وللعلامة الآلوسي (1270هـ) تحقيق مهم في عدم سماع الموتى في تفسير هذه الآية.

قلت: لقد ذكر علماء الحنفية أربعة فروق بين الميت وبين الأصم، لتحقيق أن الميت أبعد عن السماع من الأصم:

الفرق الأول: قيد تولي الإدبار في الصم دون الموتى؛ فإن الأصم إذا كان مقبلا يفهم بالإشارة والرمز، بخلاف الميت- كما سبق آنفا في كلام النسفي.

الفرق الثاني: أن الأصم قد يسمع في بعض الأحوال، فيمكن سماعه بخلاف الميت.

الفرق الثالث: أن الأصم قد يمسع الصوت الهائل، كصوت الرعد القوي، بخلاف الميت.

الفرق الرابع: أن الله تعالى لم يذكر المفعول الثاني حينما قال: {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، لكنه ذكر المفعول الثاني حينما قال:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} .

ص: 848

فأطلق الإسماع في الموتى وقيده في الصم، لتحقيق: أن الموتى لا يسمعون شيئا من المسموعات على العموم.

قال الآلوسي: (وإطلاق الإسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات) .

الوجه الرابع: استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] .

قالوا في تقرير الاستدلال بهذه الآية على نفي سماع الموتى: (المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم والوحي النازل عليه- دون حال الموتى؛ فإن الله يُسْمعُ الموتى إذا شاء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يُسْمِعُ من مات وقُبِرَ؛ فالموتى سامعون من الله، والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال التفتازاني (792هـ) : (وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} - فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى، ولا نزاع في أن الميت لا يسمع) .

ص: 849

وقال الإمام ابن الهمام (861هـ) بعد ذكر قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} مستدلا بهما: (إنهما يفيدان تحقيق عدم سماعهم؛ فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم، وهو فرع عدم سماع الموتى) .

ونقل كلامه كثير من أعلام الحنفية وأقروه.

الوجه الخامس: استدلال الحنفية بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] .

وتقرير الاستدلال بهذه الآية على نفي سماع الموتى- 1- ما قاله الشيخ محمد حسين النيلوي، ومحمد أمير البنديالي - وهما من علماء الحنفية المعاصرة، واللفظ للأول-:

(قد علمت

، أن عزيرا لم يعلم في هذه المدة الطويلة شيئا، ولم ير شمسا تطلع وتغرب، ولا قصرا، ولا نجما، ولا سحابا، ولم يحس مطرا،

ص: 850

ولم يسمع صوت الرعد ونحوه من الأصوات الهائلة، ولم يشعر مرور النهار، وكر الليالي، ولم يحس الحر ولا الزمهرير.

ولو قلنا بشعوره وإحساسه لزم الكذب.

2 -

وما قال غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن في تفسير هذه الآية:

(إن هذا النبي عزيرا عليه السلام قد أماته الله تعالى ليشاهد كيفية إحياء الموتى ثم مرّ عليه مائة عام وهو ملقى على ظهر الأرض غير مقبور، فلما أحياه الله وسأله: كم لبثت؟ - أجاب بالظن والتخمين فقال: لبثت يوما، أو بعض يوم، ولم يعلم أنه مرّ عليه مائة عام؛ فعلم من هذا: أن هذا النبي الجليل القدر عليه السلام لم يشعر باختلاف الليل والنهار، ولم يعلم انقلابات الزمان طول هذه المدة فلو كان يعرف هذه الأمور ويشعر بها- لبين: أنه لبث مائة عام، ولم يقل: لبثت يوما أو بعض يوم، وقد علم من هذا الحادث الجلل: أن الموتى لا يسمعون،

ص: 851

لأن هذا النبي- عزيرا عليه السلام لم يشعر بجميع تلك الانقلابات التي حدثت طول هذه المدة، ولم يعرف في مدة مائة عام الليل من النهار، كما أنه لم يسمع طول هذه المدة الطويلة أي صوت من الأصوات التي تحدث، مع أنه لم يكن مقبورا في بطن الأرض.

بل كان ملقى على ظهر الأرض

، كما علم من هذه الواقعة المهمة: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام لا توجد في أبدانهم المباركة بعد موتهم، وأن موتهم موت حقيقي، وأن حياتهم في القبور حياة برزخية، لا دنيوية ناسوتية) .

قلت: لقد تبين من نصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية عدة أمور:

الأول: أن الأنبياء لا يعلمون الغيب، ولا سيما بعد الموت، فكيف يعلمه الأولياء؟..

الثاني: أن هذا النبي- مع كونه موضوعا على ظهر الأرض غير مقبور في بطنها- لم يشعر بأحوال هذه الدنيا واختلافها وانقلاباتها من ليل ونهار، وحرّ وقرّ. وصيف وشتاء، وشمس وقمر، ونجم وكوكب، وهب الرياح وسكونها، وأمطار وسحب، وكانت الشمس تطلع عليه، وتمطر عليه الأمطار، وتهب عليه الرياح، ويأتي عليه اختلاف الليل والنهار، وغير ذلك من أحوال هذا العالم، وما يحدث في هذا الكون، ولم يعلم شيئا من ذلك؛

ص: 852

حتى لم يدر المدة التي لبثها؛ فإذا كان الأمر كذلك- هو نبي، أو رجل صالح- على أقل تقدير- وكان مع ذلك موضوعا على وجه الأرض، ولم يكن مقبورا في بطنها- فكيف يطلع على أحوال المستغيثين به والمستنجدين به

؟؟ الثالث: أن هذا النبي إذا لم يعلم أحوال هذا الكون على التفصيل الذي ذكرت آنفا مع أنه ملقى على وجه الأرض- فكيف يعلمها الأولياء

؟ وكيف يطلع الأموات على أحوال المستغيثين بهم

؟

الرابع: أن حياة الأنبياء والأولياء والشهداء حياةً برزخيةً لا علاقة لها بأحوال هذا العالم، وأن حياتهم ليست من جنس الحياة الدنيوية، فلا يمكن قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية إطلاقا.

الخامس: أن الأموات عامة سواء كانوا أنبياء، أو أولياء أو شهداء، أو غيرهم- لا يسمعون شيئا من الأصوات التي تحدث في هذا الكون:

سواء كانت أصوات الرعد أو أصوات الرياح* أو أصوات السباع أو أصوات الأمطار في المساء والصباح* فضلا عن أصوات المستغيثين بهم ونداءهم عند الكربات* ودعائهم وصراخهم صراخ الثكالى عند إلمام الملمات والمهمات*

السادس: أنه قد بطلت خرافات القبورية عامة، وخرافات الديوبندية خاصة، ومزاعمهم القبورية في حياة الأنبياء، والشهداء، وغيرهم، وسماع الموتى، وفي ذلك عبرة للقبورية، أيما عبرة، ونكال للديوبندية أيما

ص: 853

نكال..؛

وهكذا يفضح الله الخرافيين* ويخزي القبوريين الصوفيين *

الوجه السادس: استدلال علماء الحنفية بقصة أصحاب الكهف على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى.

فقد قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} ..* {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ..* وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}

*

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 11، 18-19، 25-26] .

وتقرير الاستدلال بهذه القصة القرآنية على نفي سماع الموتى:

1 -

ما قاله الشيخان النيلوي والبنديالي من الحنفية المعاصرة:

إن الله تعالى قد أنام أصحاب الكهف إنامة ثقيلة بحيث إن الأصوات لا تنفذ إلى مسامعهم، وضرب الله على آذانهم حجابا يمنع السماع، فناموا نومة لا توقظهم الأصوات؛ مع أن النائم إذا سمع الصوت ينتبه، ثم هؤلاء قد لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، ومع ذلك لم يعرفوا ذلك، فقال بعضهم بالتخمين، والظن:" لبثنا يوما أو بعض يوم "، وقال بعضهم:" ربكم أعلم بما لبثتم "،

ص: 854

ولو كانوا يعلمون ذلك لكان كلامهم هذا كذبا محضا، ولكن لما كان كلامهم هذا مبنيا على الظن- لم يكن كذبا [بمعنى أنهم لم يأثموا بذلك، مع كونه خلافا للواقع؛ لأن النائم لا يمكن له أن يحصي مدة نومه، و (لما لم يسمعوا شيئا من الأصوات، ولم يحسوا شيئا مما في عالم الدنيا مع كونهم نياما أحياءً - فكيف بعد الممات لمثل هؤلاء الأولياء.

فثبت عدم سماع الأموات من هذه الآية - بطريق دلالة النص،

ص: 855

والدلالة كالعبارة في القطعية- على ما تقرر في الأصول

،

ص: 856

على أنا قد أنكرنا سماع الموتى والمثبتون يدعون سماع الموتى والدليل إنما يجب على المدعي دون المنكر، فإن المنكر يكفيه منع المقدمة في الدليل

)

2 -

وما قال غلام الله الملقب بشيخ القرآن عند الحنفية (1980م) :

(لقد تبين من قصة أصحاب الكهف عدة أمور مهمة:

الأول: أن من آيات الله تعالى ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف.

الثاني: أن نومهم طول هذه المدة إنما كان بمحض قدرة الله تعالى، وليس في ذلك أي دخل وقدرة لأصحاب الكهف.

الثالث: أن أصحاب الكهف مع كونهم أولياء الله لم يكن في قدرتهم أن يدفعوا عن أنفسهم الأعداء؛ فاضطروا للفرار والهجرة حتى لجأوا إلى الغار فارين بدينهم، فلو كانوا يملكون النفع والضر والتصرف في الكون- لما لجؤوا إلى الفرار والدخول في الغار.

الرابع: أنهم لأجل عجزهم كانوا يدعون الله تعالى أن يرحمهم ويحفظهم من كيد الأعداء؛ وهذا دليل على أنهم لم يكونوا يملكون شيئا من القدرة والتصرف في الكون والنفع والضر لأنفسهم، فكيف

ص: 857

لغيرهم

؟

الخامس: أن الله تعالى قد ضرب على آذانهم فناموا نومة ثقيلة لم يسمعوا شيئا من الأصوات طول تلك المدة؛ وقد مرّت عليهم أحوال هذا العالم، ولم يعلموا أنهم سينامون هذه النومة الطويلة؛ فدل على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، ولم يكونوا متصرفين في الكون.

السادس: أنهم لم يكونوا يستطيعون أن ينتبهوا من سباتهم الطويل طول هذه المدة؛ ولكن الله تعالى هو الذي أيقظهم من هذه النومة الطويلة، وهذا دليل عجزهم.

السابع: أن أصحاب الكهف لم يعلموا: أنهم لبثوا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا؛ فهذا برهان على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، فهم إذ لم يعلموا أحوال أنفسهم- فهم بالطريق الأولى لم يكونوا يعلمون أحوال غيرهم.

الوجه السابع: استدلال الحنفية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر 13-14] .

وتقرير الاستدلال بهاتين الآيتين على نفي سماع الموتى عامة،

ص: 858

وعلى نفي سماع الذين يدعونهم القبورية قديما وحديثا- موقوف على تمهيد مهم، وهو أن علماء الحنفية قالوا في تفسير هاتين الآيتين: إن هاتين الآيتين ليستا في الأصنام والأحجار والأشجار، بل هما في حق العقلاء من الأنبياء والأولياء والملائكة الذين كان المشركون يستغيثون بهم عند الكربات* وينادونهم عند إلمام الملمات * ويهتفون بأسمائهم لدفع البليات* ويصرخون مستنجدين بهم لقضاء الحاجات*؛ لأن هذه الصيغ المذكورة في هاتين الآيتين: نحو " الذين " و " يملكون "، و "تدعوهم"، و " لا يسمعوا "، و " ولو سمعوا "، و " ما استجابوا "، و " يكفرون "- من صيغ العقلاء؛ بل قوله تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} صريح في أن المراد العقلاء؛ لأن الأحجار والأشجار والأصنام لا يعقل أن يقال فيها: إنهم يوم القيامة يكفرون بشرككم؛ ولو كان المراد الأصنام والأحجار والأشجار- لكان حق الكلام أن يقال: (والتي تدعونها من دونه ما تملك من قطمير، إن تدعوها لا تسمع دعاءكم، ولو سمعت ما استجابت لكم

) ؛ وهذا كله برهان باهر، وسلطان قاهر، على أن المراد أن المشركين كانوا يدعون عباد الله الصالحين من الأنبياء والأولياء دون الأصنام المجردة والأحجار الصرفة والأشجار البحتة؛ ثم قوله تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} مثل قوله تعالى:

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}

ص: 859

[يونس: 28-29]، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ..* فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}

[الفرقان17-19] .

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}

[المائدة: 116]، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}

[سبأ 40- 41] ؛

فدل هذا كله دلالة قاطعة على أن المراد أنهم كانوا يدعون الصالحين من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأن هذه الصفات كلها من صفات ذوي العقول، وهذه الصيغ كلها لا تستعمل في اللغة العربية إلا في ذوي العقول؛ ثم من المعلوم: أنه ليس في العالم أحد يعبد هذه الحجارة المنحوتة ثم يقول: إنها إلهي؛ لأن هذا مخالف لبداهة العقل والعلم الضروري الحسي، فلا يعتقد أحد في حجارة منحوتة أنها إلهه؛ لعلمه علما ضروريا أنها ليست بإله ولا خالق ولا رب ولا رازق؛ بل كان المشركون يعتقدون في الأموات من الصالحين أنهم مجابو الدعاء، مقبولو الشفاعة عند الله تعالى؛

ص: 860

فكانوا يدعونهم وينادونهم على اعتقاد أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى لا على اعتقاد أنهم هم المستقلون بالنفع والضر، المتصرفون في الكون بقدرتهم الذاتية، أو أنهم هم المالكون لهذا الكون؛ ثم اتخذوا على صورهم تماثيل وأصناما لتكون قبلة لعبادتهم لهؤلاء الصالحين؛ فكان المقصود عبادة هؤلاء الصالحين دون الأحجار والأصنام؛ فالقبورية الذين يقولون: " إن المشركين هم الذين كانوا يعبدون الحجارة، ومن لا يعبد الحجارة فليس بمشرك - فهم لا يعرفون معنى العبادة، ولا معنى الشرك، ولم يطلعوا على أحوال المشركين في القرون الخالية؛ نعم الأصل أن هذه الآيات وأمثالها كلها واردة في ذوي العقول من الأنبياء والملائكة والأولياء ولكن إن فرض أن من الناس من يعبد الأحجار والأصنام لذاتها- فهذه الآيات ترد عليهم بالطريق الأولى والأحرى.

هذا هو خلاصة ذلك التمهيد الذي حققه علماء الحنفية في تفسير هاتين الآيتين.

ثم قال هؤلاء الأعلام من الحنفية مستدلين بهاتين الآيتين على إبطال سماع الموتى: إذا تحقق أن هاتين الآيتين وأمثالهما في ذوي العقول من الصالحين كالأنبياء والأولياء-

ص: 861

فاعلم أن الله تعالى قد صرح بأن هؤلاء الأنبياء والأولياء الذين ماتوا- لا يسمعون شيئا من دعاء هؤلاء المستغيثين بهم ونداءهم وصراخهم والهتاف بأسمائهم وأصواتهم، كما أنهم لا يملكون لأنفسهم من قطمير، فضلا عن غيرهم؛ فهاتان الآيتان من أعظم الحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والأدلة السابغة* على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى؛ فتحقق كالشمس في رابعة النهار*أن الموتى لا يسمعون ولا يميزون الليل من النهار*.

وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه شيخ القرآن (1980م)، والشيخان: النيلوي، والبنديالي - وهم من علماء الحنفية المعاصرين- واللفظ للأول:

( [قوله تعالى] : {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} - استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع.

هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام، ويحتمل أن يكون [الكلام] مع عبدتها، وعبدة الملائكة، وعيسى، وغيرهم من المقربين وعدم السماع حينئذ: إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك [أي السماع] كالأصنام، وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام، وروي هذا عن البلخي.

ص: 862

أو لأن الله عز وجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثال هذا الدعاء، لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه

؛ {وَلَوْ سَمِعُوا} على سبيل الفرض والتقدير- {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ؛ لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم، والسماع لا يستلزم ذلك

) .

قلت: الحاصل: أنه قد تبين من هذه المباحث للحنفية أن الموتى لا يسمعون أصوات أهل هذا الكون من الأحياء، فبطل سعي المستغيثين بغير الله تعالى، لأن هؤلاء الأموات لا يسمعون نداءهم ودعاءهم فضلا عن أن يملكوا لهم من قطمير.

الوجه الثامن: استدلال علماء الحنفية الرادين على القبورية بقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] .

وطريق الاستدلال وتقريره بهاتين الآيتين على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى - هو بعينه ما سبق في الوجه السابق من التمهيد الذي ذكره الحنفية: من أن هاتين الآيتين وأمثالهما في حق ذوي العقول الصالحين من الأنبياء

ص: 863

والملائكة والأولياء، وإذا تحقق هذا فهاتان الآيتان صريحتان في أن الذين يدعونهم هؤلاء المستغيثون- هم غافلون عن دعائهم فضلا عن أن يسمعوا نداءهم وصراخهم، فلا يعلمون أحوالهم فضلا عن أن يملكوا لهم نفعا وضرّا؛ بل هم يوم القيامة يكونون أعداء لهم كافرين بنداءهم واستغاثتهم ونذورهم، فضلا عن أن يكونوا أولياء لهم ينصرونهم ويحبونهم؛ ولو فرض أن أمثال هذه الآيات تشمل الأصنام والأحجار أيضا- فالأصنام والأحجار لا تسمع نداء المستغيثين بها بالطريق الأولى.

فالحاصل: أن المستغيثين بالأموات * عند إلمام الملمات لدفع المضرات وقضاء الحاجات* - هم أشد ضلالا وأبعد غورا في الضلال من كل ضال، حيث ينادون من لا يرى ولا يسمع* ولا يضر ولا ينفع ولا يجلب ولا يدفع*، هذا هو ما يهدف إليه كلام هؤلاء العلماء من الحنفية.

الوجه التاسع: قول علماء الحنفية في صدد بيان مسألة التلقين.

لقد ذكر فقهاء الحنفية أن المحتضر يلقن الشهادتين، والمحتضر من قرب من الموت، فيلقن الشهادتين تذكيرا له وتثبيتا لجنانه،

ص: 864

وهذه الفائدة لا توجد بعد موته، وقد صرحوا أن بناء هذه المسألة على مسألة أخرى: وهي أن الميت لا يسمع عند الحنفية وللإمام ابن الهمام (861هـ) رحمه الله كلام مهم جدّا في هذا الباب.

الوجه العاشر: قول علماء الحنفية في صدد بيان مسألة الحلف في الكلام والضرب والزيادة ونحوها:

لقد صرح فقهاء الحنفية قديما وحديثا بأن من حلف أن لا يكلم فلانا أو لا يضربه أو لا يزوره، ونحو ذلك من الأيمان- تقيد يمينه بحال الحياة؛ فلو كلمه بعد موته لا يحنث؛ لأن المقصود من الكلام الإفهام، والموت ينافيه؛ لأن الميت لا يسمع، فلا يفهم؛ لعدم السماع للميت، ولو ضربه بعد موته لا يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن؛ والإيلام لا يتحقق في الميت، ولو زاره بعد موته لا يحنث؛

ص: 865

لأن الميت لا يزار وإنما يزار قبره لا هو.

ص: 866

قلت: الحاصل:

أنه قد تبين من نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية أن الأموات لا يسمعون شيئا من أصوات أهل هذا العالم ألبتة، ولكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، نعم.. إن الله تعالى إذا أراد أن يسمع ميتا- فهو على ذلك قدير؛ فالله سبحانه وتعالى يسمع الجبال والأحجار والأشجار، ولا كلام لنا في قدرة الله تعالى.

فالميت في عدم السماع لأصوات أهل هذا العالم- كالجماد من الأحجار والأشجار، فمن استغاث بالأموات* عند إلمام الملمات والكربات* فهو كمن استغاث بالأحجار* أو استنجد بالأشجار* وبذلك قد تبين سفاهة القبورية الوثنية المستغيثين بالأموات* تاركين الاستغاثة برب البريات لدفع البليات وجلب الخيرات* فانقلعت شبهة سماع الأموات من جذورها.

ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة الحنفية لتحقيق أن الأموات لا يسمعون نداء المستغيثين بهم عند الكربات * ولا دعاءهم ولا صراخهم وأصواتهم وضجيجهم عند البليات*:

1 -

قال العلامة النيلوي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة في الرد على مزاعم القبورية عامة والديوبندية خاصة، مبينا عقيدة الإمام أبي حنيفة

ص: 867

رحمه الله (150هـ) :

(رأى الإمام أبو حنيفة من يأتي القبور بأهل الصلاح، فيسلم ويخاطب ويتكلم ويقول: يا أهل القبور هل لكم من خير، وهل لكم من أثر؟ إني أتيتكم وناديتكم من شهور، وليس سؤالي منكم إلا الدعاء، فهل دريتم أم غفلتم؟ فسمع أبو حنيفة يقول يخاطبه بهم فقال: هل أجابوا لك؟ قال: لا! فقال: سحقا لك، وتربت يداك!؛ كيف تكلم أجسادا لا يستطيعون جوابا، ولا يملكون شيئا، ولا يسمعون صوتا؟؛

وقرأ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]

) .

ص: 868

2 -

7- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ)، وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخان الرباطي والرستمي، واللفظ للأول:

(وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع * ولا يرى ولا يسمع*) .

8 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبينا عقيدة القبورية في سماع الأموات، مبطلا عقيدتهم الوثنية هذه، مبينا أن هؤلاء الغلاة من الزنادقة المشركة:

(وهذا الذي ذكرناه: من أن الغلاة [من القبورية] يعتقدن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه - هو مما لم يمكنهم إنكاره، كيف؟ والنبهاني - على ما أسلفناه- يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وزمان.

وقد تكلمت يوما مع أحد غلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم إذا استغاث بالرفاعي قبل الشروع في ذكرهم [أي وردهم الشركي] فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي؟؟؟؛ وهو في قبره في أم عبيدة!!!، ويمدك؟؟؟ قال:نعم؛

ص: 869

فقلت له: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة، ومواضع متعددة ألوف مؤلفة، وإن كانوا في أقطار شاسعة!! فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويغيثهم؟ قال: نعم، قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم، قال: ليس هذا من الغلو، بل هو مقتضى الدين؛ ألم تسمع حديث الأولياء؟:

وهو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: «وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به

» الحديث.

فظن هذا الغبي الجاهل: أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد:

من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات- أنه يصير في معنى الحق [يعني الله] ؛ تعالى الله عن ذلك

) .

ثم بين رحمه الله المعنى الصحيح لهذا الحديث، وردَّ على إلحاد هؤلاء القبورية الصوفية الزنادقة الملاحدة المحرفة للدين تحريفا قرمطيّا

ص: 870

باطنيّا، ثم قال: (والمقصود: أن الغلاة [القبورية] يعتقدون: أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟؟؟؛ وهو سيد الأولياء والأصفياء؟؟؟؛ فلا بد أنهم يعتقدون [فيه] فوق اعتقادهم في الولي

) .

9 -

وقال رحمه الله أيضا:

(ومن العجيب: أن كثيرا من الغلاة أهل القبور الذين يندبون الصالحين ويستغيثون بهم ويستمدون منهم- في السراء والضراء* والشدة والرخاء* يعتقدون: أن مدعويهم يسمعون الأصوات* سواء في ذلك من قرب ومن كان في أبعد الجهات* وإذا توجهت إلى أحدهم سهام الطعن- يقول: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: «

كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها

» الحديث؟؟؟

ص: 871

وقد حمله بعض أهل الزيغ [من القبورية الصوفية الاتحادية والحلولية] على ما يدعونه: من أن العبد إذا لزم العبادة الظاهرة والباطنة، حتى يصفى من الكدورات- أنه يصير في معنى الحق [يعني الله تعالى] .

تعالى الله عن ذلك

وقد تكلمت مع بعضهم [من هؤلاء القبورية الصوفية الحلولية الوثنية] يوما، حيث استمد بأحد الشيوخ الذين أماتهم الله تعالى منذ مئين من السنين [وهو الرفاعي كما سبق قريبا] ، فزعم أنه يحضر روحه فينال الاستفاضة منه، فقلت له: بينك وبين مدعوك هذا عدة فراسخ وأميال!؟!، وربما كان مثلك في مائة بلد وأكثر!!، وكلهم استمدوا من الشيخ [الرفاعي] في آن واحد!!؛ فهل يسمعهم [ويسمع نداءهم وصراخهم وأصواتهم] ؟؟؟، و [هل] يحضر عندهم جميعا؟؟؟، قال: نعم.

قلت: قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171، والمائدة:77] .

قال: هذا ليس من الغلو؛ وذكر الحديث السابق: [.... كنت سمعه

] ، قال: فإذا كان الله سمع المقربين بالنوافل-

ص: 872

لا يستغرب مثل ذلك [يعني حضور الولي في كل مكان وزمان، وسماعه لجميع الأصوات وعلمه بحال جميع الناس] ، فإن الله تعالى لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

قلت: فإذن تعددت الآلهة؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ حيث لم يبق فرق عند هؤلاء الزنادقة بين الله سبحانه، وبين من يدعون: أنه كان يتقرب بالنوافل

) .

10 -

وقال العلامة الخجندي (1397هـ) في كلام طويل حاصله: أن من اعتقد أن أوراح المشائخ حاضرة وتعلم يكفر، ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله يكفر، ومن اعتقد أن المرشدين حاضرون، أو أن الأموات حاضرون- فقد كفر؛ لأن الأموات لا علم لهم بحال الأحياء، ومن اعتقد أن الجيلاني غوث أعظم يسمع نداء المستغيثين به، فعقيدته تخالف الإسلام، وتجر إلى الشرك، والغوث الأعظم هو الله؛ والأولياء لا قدرة لهم على سمع نداء المستغيثين بهم، ومن اعتقد في غير الله أنه حاضر وناظر في كل زمان ومكان فقد أشرك.

ص: 873

قلت: بعدما عرفنا بطلان عقيدة القبورية في سماع الموتى- وأنها عقيدة شركية- ننتقل إلى المبحث الآتي؛ لنعرف جهود الحنفية في إبطال شبهات القبورية.

ص: 874