الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِبْرَاهِيمُ الحَرْبيّ
هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشِيرٍ الْبَغْدَادِيُّ الحَرْبيّ، وُلِدَ سَنَةَ 198 هـ 0
تُوُفِّيَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ سَنَةَ 285 هـ في أَيَّام المعْتَضِد 0
ـ أَشْهَرُ شُيُوخِهِ:
سَمِعَ مِنْ مُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَد، وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ المِنْقَرِيُّ التَِّبُوذَكِي، وَعَلِيِّ بْنِ الجَعْد [الثَّلَاثَةُ شُيوخِ الإِمَامِ الْبُخَارِيِّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه]، وَسَمِعَ مِنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل، وَأَبي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيّ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْر، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْب، وَأَبي بَكْرٍ بْنِ أَبي شَيْبَة، وَأَبي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَاَّم، وَعَفَّانَ بْنِ مُسْلِم، وَأَبي نُعَيْمٍ الحَافِظ، وَبُنْدَار، وَخَلْقٍ كَثِير 0
ـ أَشْهَرُ تَلَامِذَتِه:
حَدَّثَ عَنهُ أَبُو محَمَّدٍ بْنُ صَاعِد، وَأَبُو عَمْرٍو بْنُ السَّمَّاك، وَأَبُو بَكْرٍ النَّجَّاد، وَخَلْقٌ كَثِير 0
ـ رِحْلَتُِهُ المُبَكِّرَةُ في طَلَبِ الْعِلْمِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
قَالَ عَنهُ الإِمَامُ الذَّهَبيُّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: «طَلَبَ الْعِلْمَ وَهُوَ حَدَث» 0
ـ قَالُواْ عَن عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه:
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَب [أَحَدُ أَئِمَّةِ النَِّحْوِ الْكِبَار]:
«مَا فَقَدْتُ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيَّ مِنْ مَجْلِسِ لُغَةٍ وَلَا نَحْوٍ مِن خَمْسِينَ سَنَة» 0
وَيُرْوَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لمَا صَنَّفَ «غَرِيبَ الحَدِيثِ» وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ كَامِلٌ في مَعْنَاهُ قَالَ ثَعْلَب: مَا لإِبْرَاهِيمَ وَغَرِيبِ الحَدِيث 00؟
رَجُلٌ مُحَدِّث، ثُمَّ حَضَرَ مَجْلِسَهُ؛ فَلَمَّا حَضَرَ المَجْلِسَ سَجَدَ ثَعْلَبٌ وَقَال: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِثْلُ هَذَا الرَّجُل» 0
ـ ثَنَاءُ الأَئِمَّهِ عَلَيْه، رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
قَالَ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنيُّ: «إِبْرَاهِيمُ إِمَامٌ بَارِعٌ في كُلِّ عِلْمٍ، صَدُوق» 0
رَوَى المُخْلِصُ عَن أَبِيهِ قَال: سُئِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي عَالِمُ الْعِرَاقِ عَن إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ فَقَال: جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوح» 0
قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ الحَافِظ: لَا تَرَى عَيْنَاكَ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ إِمَامِ الدُّنْيَا؛ لَقَدْ رَأَيْتُ وَجَالَسْتُ الْعُلَمَاء؛ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَكْمَلَ مِنهُ» 0
قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ محَمَّدَ بْنَ صَالِحٍ الْقَاضِي يَقُول:
قَالَ عَنهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
«كَانَ إِمَامَاً في الْعِلْم، رَأْسَاً في الزُّهْد، عَارِفَاً بِالفِقْه، بَصِيرَاً بِالأَحْكَام، حَافِظَاً لِلْحَدِيث، مُمَيِّزَاً لِعِلَلِه، قَيِّمَاً بِالأَدَب، عَلَاّمَةً في اللُّغَة، صَنَّفَ «غَرِيبَ الحَدِيثِ» ، وَكُتُبَاً كَثِيرَة» 0
قَالَ الْقِفْطِيُّ في «تَارِيخِ النُّحَاة» : كَانَ إِبْرَاهِيم الحَرْبيُّ رَأْسَاً في الزُّهْدِ، عَارِفَاً بالمذَاهب، بَصِيرَاً بِالحديث، حَافِظَاً لَه، له في اللُّغَة كِتَاب «غَرِيب الحَدِيث» ، وَهُوَ مِن أَنْفَسِ الْكُتُب وَأَكْبَرُهَا في هَذَا النَّوْع» 0
ـ قَالُواْ عَنْ تَوَاضُعِهِ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَه:
قَالَ ابْنُ بَشْكُوَالٍ في أَخْبَار إِبْرَاهِيم الحَرْبيّ: نَقَلْتُ مِنْ كِتَاب ابْنِ عَتَّاب: كَانَ إِبْرَاهِيم الحَرْبيُّ رَجُلاً صَالحَاً مِن أَهْلِ الْعِلْم؛ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمَاً مِنَ الَّذِينَ كَانُواْ
يُجَالِسُونَهُ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَحْمَد؛ فَوَقَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَقَرُّواْ بِه؛ فَقَال: ظَلَمْتُمُوني بِتَفْضِيلِكُمْ لي عَلَى رَجُلٍ لَا أُشْبِهُهُ وَلَا أَلحَقُ بِهِ في حَال مِن أَحْوَالِه؛ فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَا أَسْمَعْتُكُمْ شَيْئَاً مِنَ الْعِلْمِ أَبَدَاً؛ فَلَا تَأَتُوني بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا»
ـ قَالُواْ عَنْ زُهْدِهِ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه:
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ: سَأَلت الدَّارَقُطْنِيّ عَن إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ فَقَال:
كَانَ يُقَاس بِأَحْمَدَ بْن حَنْبَلٍ رحمه الله في زُهْدِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِه» 0
قَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبيُّ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَه:
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُكَيْرٍ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيّ يَقُول:
«مَا كُنَّا نَعْرِفُ مِن هَذِهِ الأَطْبِخَةِ شَيْئَاً، كُنْتُ أَجِيء مِن عَشِيٍّ إِلىَ عَشِيٍّ وَقَدْ هَيَأَتْ لي أُمِّي باذِنْجَانَةً مَشْوِيَّةً أَوْ لُعْقَةَ بُنّ
[أَيْ دُهْن]، أَوْ باقَةَ فُجْل» 0
قِيلَ إِنَّ المعتضد نَفَّذَ إِلىَ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ عَشْرَةَ آلَاف؛ فَرَدَّهَا، ثُمَّ سَيَّرَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى أَلْفَ دِينَارٍ فَرَدَّهَا» 0
وَرَوَى المُخْلِصُ عَن أَبِيهِ أَنَّ المُعْتَضِدَ بَعَثَ إِلىَ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ بِمَالٍ؛ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْحَشَ رَدٍّ وَقَال: رُدَّهَا إِلىَ مِن أَخَذَتهَا مِنهُ وَهُوَ محْتَاجٌ إِلىَ فِلْس» 0
وَقِيلَ: إِنَّ المُعْتَضِدَ لَمَّا نَفَّذَ إِلىَ الحَرْبيَّ بِالعَشْرَةِ آلَافٍ فَرَدَّهَا قِيلَ لَهُ: فَرِّقْهَا؛ فَأَبَى، ثُمَّ لمَا مَرِضَ سَيَّرَ إِلَيْهِ المُعْتَضِدُ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَخَاصَمَتْهُ بِنْتُهُ فَقَال:
أَتخْشَينَ إِذَا مِتُّ الْفَقْر 00؟
قَالَتْ: نَعَم؛ قَال: في تِلْكَ الزَّاويَة: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ جُزْءٍ حَدِيثيَةٍ وَلُغَويَّةٍ وَغَيْر ذَلِكَ كَتَبْتُهَا بخَطِّي، فَبِيعِي مِنهَا كُلَّ يَوْمٍ جُزءَاً بِدِرْهَمٍ وَأَنْفِقِيه» 0
ـ قَالُواْ عَنْ وَرَعِهِ وَتَقْوَاه، وَمُرَاقَبَتِهِ لله:
وَرَوَى أَبُو الْفَضْلِ عُبَيْدِ اللهِ الزُّهْرِيِّ عَن أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيِّ قَال:
«مَا أَنْشَدْتُ بَيْتَاً قَطُّ إِلَاَّ قَرَأْتُ بَعْدَهُ «قُلْ هُوَ الله أَحَد» ثَلَاثَاً» 0
قَالَ أَبُو ذَرٍّ الهَرَوِيّ: سَمِعْتُ أَبَا طَاهِرٍ المُخْلِصَ قَال: سَمِعْتُ أَبي قَال: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيَّ وَكَانَ وَعَدَنَا أَنْ يُمِلَّ عَلَيْنَا مَسْأَلَةً في الاِسْمِ وَالمُسَمَّى، وَكَانَ يجْتَمِعُ في مَجْلِسِهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مِحْبرَة، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقِلاًَّ، وَكَانَتْ لَهُ غُرْفَةٌ يَصْعَدُ
فَيُشْرِفُ مِنهَا عَلَى النَّاس، فِيهَا كُوَّةٌ إِلىَ الشَّارع، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَشْرَفَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُمْ:
قَدْ كُنْتُ وَعَدْتُكُمْ أَن أُمْلِي عَلَيْكُمْ في الاِسْمِ وَالمُسَمَّى، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْني في الْكَلَامِ فِيهَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، فرَأَيْتُ الْكَلَامَ فِيهِ بِدْعَة؛ فَقَامَ النَّاسُ وَانْصَرَفُواْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَتَاهُ رَجُل، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَقْعُدُ إِلَاَّ وَحْدَه، فَسَأَلَهُ عَن هَذِهِ المَسْأَلَةِ فَقَال: أَلَمْ تحْضُرْ مجْلِسَنَا بِالأَمْس؟
قَالَ بَلَى، فَقَال: أَتَعْرِفُ الْعِلْمَ كُلَّه 00؟
قَالَ لَا؛ قَال: فَاجْعَلْ هَذَا مِمَّا لَمْ تَعْرِفْ» 0
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بِالإِسْنَاد: مَا انْتَفَعْتُ مِن عِلْمِي قَطُّ إِلَاَّ بِنِصْفِ حَبَّة، وَقَفْتُ عَلَى إِنْسَان، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ قِطْعَةً أَشْتَرِي حَاجَةً؛ فَأَصَابَ فِيهَا دَانقَاً، إِلَاَّ نِصْفَ حَبَّة، فَسَأَلَني عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْتُهُ، ثُمَّ قَالَ لِلغُلَام: أَعْطِ أَبَا إِسْحَاق بِدَانِقٍ وَلَا تحُطُّهُ بِنِصْفِ حَبَّة» 0
ـ قَالُواْ عَنْ بَعْضِ كَرَامَاتِهِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
ويُروَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الحَرْبيَّ لَمَّا دَخَلَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، بَادَرَ أَبُو عُمَرَ محَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْقَاضِي إِلىَ نَعْلِهِ فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا مِنَ الْغُبَار؛ فَدَعَا لَهُ وَقَال: أَعَزَّكَ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَة، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو عُمَرَ رُؤِيَ في النَّوْمِ فَقِيلَ لَه: مَا فَعَلَ اللهُ بِك 00؟
قَال: أَعَزَّني في الدُّنْيَا وَالآخِرَة؛ بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الصَّالِح» 0
قَالَ المَسْعُودِيّ: كَانَتْ وَفَاةُ الحَرْبيِّ المُحَدِّثِ الْفَقِيهِ في الجَانِبِ الْغَرْبيّ، وَلَهُ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَة، وَكَانَ صَدُوقَاً عَالِمَاً فَصِيحَاً، جَوَّادَاً عَفِيفَاً زَاهِدَاً عَابِدَاً نَاسِكَاً، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ ضَاحِكَ السِّنّ، ظَرِيفَ الطَّبْع، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ تكبُّرٌ وَلَا تَجَبُّر، رُبَّمَا مَزَحَ مَعَ أَصْدِقَائِهِ بِمَا يُسْتَحْسَنُ مِنهُ وَيُسْتَقْبَحُ مِن غَيْره، وَكَانَ شَيْخَ الْبَغْدَادِيِّينَ في وَقْتِه، وَظَرِيفَهُمْ وَزَاهِدَهُمْ وَنَاسِكَهُمْ، وَمُسْنَدَهُمْ في الحَدِيث، وَكَانَ يَتَفَقَّهُ لأَهْلِ الْعِرَاق، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ في الجَامِعِ الْغربيِّ يَوْمَ الجُمُعَة، أَخْبَرَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ قَال: كُنْتُ أَجْلِسُ في حَلْقَةِ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيّ، وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَيْنَا غُلَامَانِ في نهَايَةِ الحُسَنِ وَالجَمَالِ مِنَ الصُّورَةِ وَالبِزَّة [أَيِ الهَيْئَةِ وَالثِّيَاب]،
وَكَأَنَّهُمَا رُوحٌ في جَسَد، إِنْ قَامَا قَامَا مَعَاً، وَإِن حَضَرَا حضَرَا مَعَاً، فَلَمَّا كَانَ في بَعْضِ الجُمَعِ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وقَدْ بَانَ الاِصْفِرَارُ في وِجْهِهِ وَالَانْكِسَارُ في عَيْنَيه، فَلَمَّا كَانَتِ الجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ حَضَرَ الْغَائِبُ وَلَمْ يحْضُرِ الَّذِي حَضَرَ مِنهُمَا في الجُمُعَة الأُولىَ، وَإِذِ الصُّفْرَةُ وَالَانْكِسَارُ بَيِّنٌ في لَوْنِهِ؛ فَقُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لِلْفِرَاقِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِلأُلْفَةِ الجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا؛ فَلَمْ يَزَالَا يَتَسَابَقَانِ في كُلِّ جُمُعَةٍ إِلىَ الحَلْقَة؛ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إِلىَ الحَلْقَةِ لَمْ يَجْلِسِ الآخَر؛ فَلَمَّا كَانَ في بَعْضِ الجُمَعِ حَضَرَ أَحَدُهُمَا، فَجَلَسَ إِلَيْنَا، ثمَّ جَاءَ الآخَرُ فَأَشْرَفَ عَلَى الحَلْقَة، فَوَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ سَبَق، وَإِذَا المَسْبُوقُ قَدْ أَخَذَتْهُ الْعَبْرَة، فَتَبَيَّنْتُ ذَلِكَ مِنهُ في دَائِرَةِ عَيْنَيْه، وَإِذَا في يُسْرَاهُ رِقَاعٌ صِغَارٌ مَكْتُوبَة، فَقَبَضَ بِيَمِينِهِ رُقْعَةً مِنهَا وَحَذَفَ بِهَا في وَسْطِ الحَلْقَة،
وَانْسَابَ في النَّاسِ مُسْتَخْفِيَاً، وَأَنَا أَرْمُقُهُ، وَكَانَ ثمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ حَرْبَوَيْه؛ فَنَشَرَ الرُّقْعَةَ وَقَرَأَهَا؛ فَإِذَا فِيهَا دُعَاءٌ أَنْ يُدْعَى لِصَاحِبِهَا مَرِيضَاً كَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِك، وَيُؤَمِّنَ عَلَى الدُّعَاءِ مِن حَضَرَ؛ فَقَالَ الشَّيْخ: اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَأَلِّفْ قُلُوبَهُمَا، وَاجْعَلْ ذَلِكَ فِيمَا يُقرِّبُ مِنْك؛ وَأَمَّنَ الحَاضِرُونَ عَلَى دُعَائِه، ثُمَّ طَوَى الرُّقْعَةَ وَحَذَفَني بِهَا، فَتَأَمَّلْتُ مَا فِيهَا؛ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
عَفَا الله عَن عَبْدٍ أَعَانَ بِدَعْوَةٍ
…
لِخِلَّيْنِ كَانَا دَائِمِينِ عَلَى الْوُدِّ
إِلىَ أَنْ وَشَى وَاشِي الهَوَى بِنَمِيمَةٍ
…
إِلىَ ذَاكَ مِن هَذَا فَحَالَا عَنِ الْعهْدِ
فلَمَّا كَانَ في الجُمُعَة الثَّانيَةِ حَضَرَا جَمِيعَاً؛ وَإِذَا الاِصْفِرَارُ وَالاِنْكِسَارُ قَدْ زَال؛ فَقُلْتُ لاِبْنِ حَرْبَوَيْه: إِنيِّ أَرَى الدَّعْوَةَ قَدْ أُجِيبَتْ، وَأَنَّ دُعَاءَ الشَّيْخِ كَانَ عَلَى التَّمَام، فَلَمَّا كَانَ في تِلْكَ السَّنَةِ كُنْتُ فِيمَن حَجَّ؛ فَكَأَنيِّ أَنْظُرُ إِلىَ الْغُلَامَينِ مُحْرِمَيْنِ بَيْنَ مِنىً وَعَرَفَة، فَلَمْ أَزَلْ أَرَاهُمَا مُتَآلِفَينِ إِلىَ أَنْ تَكَهَّلَا» 0
ـ مِن أَقْوَالِهِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيّ الحَنْبَلِيّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحُسَيْنِ الْعَتَكِيُّ قَال:
سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الحَرْبيَّ يَقُولُ لجَمَاعَة عِنْدَهُ: «مِنْ تَعُدُّونَ الْغَرِيبَ في زمَانِكُمْ 00؟
فَقَالَ رَجُل: الْغَرِيبُ مِنْ نَأْى عَنْ وَطَنِه، وَقَالَ آخِر: الْغَرِيبُ مِنْ فَارَقَ أَحْبَابَه؛ فَقَالَ إِبْرَاهِيم: الْغَرِيبُ في زَمَانِنَا: رَجُلٌ صَالِحٌ عَاشَ بَيْنَ قَوْمٍ صَالحِين؛ إِن أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ آزَرُوه، وَإِنْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ أَعَانُوه، وَإِنِ احْتَاجَ إِلىَ سَبَبٍ مِنَ الدُّنْيَا مَانُوه، ثُمَّ مَاتُواْ وَتَرَكُوه» 0 [مَانُوه: أَيْ مَوَّنُوه]