الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن 155 متراً طولاً و137 عرضاً وعليه قامت في القرون الوسطى الملاجئ والمستشفيات الخاصة بزوار الغرب ولا سيما رهبنة فرسان القديس يوحنا ومستشفياته. وحول ابن أخت صلاح الدين كنيسة الملجأ إلى مستشفى وبقي اسمه العربي الفارسي أي المارستان يطلق منذ ذاك العهد على مجموع تلك الأماكن. وفي سنة 1869م أعطى سلطان العثمانيين النصف الشرقي من المارستان إلى تاج بروسيا بمناسبة زيادة ولي عهد بروسيا للقدس. وقد كان صلاح الدين جعل دار الأسقف في القدس لما فتحها بيمارستان المرضى.
ومستشفيات القدس اليوم كمستشفيات بيروت مهمة لكثرتها ووفرة ريعها وتنافس المبشرين في تجويدها لها أحذق الأطباء، وفي بعض قرى لبنان مستشفيات صغيرة ومصاح منها مصح بحنس ومستشفى جمعية الفرندس في برمانا، ومصح ضهر الباشق وغيرها، وفي عمل دومة من دمشق مستشفى ابن سينا لأصحاب الأمراض العقلية.
لهفة على المدارس وغيرها:
أرأيت أيها الناظر في هذا الكتاب، كيف كان عمل الأجداد في إنشاء المدارس والربط والخوانق والمستشفيات، وكيف تساوى في تأييدها والوقف عليها الملوك والعظماء وجمهور الناس من الرجال والنساء. وكيف جودوا بناءها وأحكموا وقوفها الدارة ومع هذا لم تقو على مقاومة المخربين والغاصبين فعاد أكثرها دوراً وحوانيت. أزهرت في أزهرت في أربعة قرون واستصفيت في أربعة، استصفاها
من ارتكبوا العار في الاستيلاء عليها من دون حرج، عملوا هذا وهم متنمسون بالدين يصلون ويصومون، ويقال عنهم: إنهم المسلمون، وربما كان على أبدان بعضهم شعار العلماء وما هم في الواقع إلا من أهل الرسم لا من أهل العلم، وقد يكون أقرب الناس إلى مخالفة الشرع القائمون عليه.
ترى هل تلام الحكومات على هذا العبث بالمدارس وانتهاك حرمتها أم تلام الأمة؟ لاشك أن الحكومات ينالها قسط كبير من الملامة لأنها هيأت سبل السرقات، وربما كانت مشتركة بالسرقة أحياناً، ولكن اللوم كل اللوم
على الجماعة والمدارس مدارسهم والدين دينهم. ومنذ عبث العابثون بالمدارس، وسرق السارقون عينها ومغلها، تراجعت دروس الدين وتراجعت معها دروس العلوم الأخرى ففشا الجهل المطبق في الأمة، وكادت تعود سيرتها الأولى من الجاهلية الجهلاء، وأصبح من وسموا بالعلم إذا سئلوا أفتوا بغير علم، وجوزوا ما حرمه الشرع وحرموا ما جوزه، ومن مساويهم أكل أموال الأقاف واستصفاء أعيانها، ومعدهم تهضم خصوصاً المساجد والمدارس.
أضاع الخلف ما أبقاه السلف معموراً زهراً من المدارس التي كانت في العصور الغابرة غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفاً ومظروفاً، وبها أثبت أجدادنا أنهم كانوا شيئاً مذكوراً في إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على مجد أمتهم، وأن الأعمال العظيمة لم تقم بنفسها لو لم يفكر فيها عقول كبيرة، وما كانت تلك المدارس تعمر لو لم يدرس فيهلا نوابغ من رجال العلم والاداب، ولو لم تكن ذات قانون معقول. نعم لم نعرف سر هذه الصناعة التي مثلتها لنا هذه المدارس، ولعله يقوم في الجيل المقبل أبنائنا علماء بالآثار والبحث يكشفون سر أعمال الأجداد كما توفر علماء الآثار في أوربا مائة سنة حتى كشفوا لأممهم أسرار البيع العظمى التي قامت خلال القرون الوسطى، وعسى
أن يبرهن الباحثون منا انه لم يقم في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه ويغذونه بعقولهم، ويفضون عليه من معين قرائحهم.
قلت مرة من محاضرة ألقيتها في الشهباء في ربيع سنة 1341هـ - 1923م وقابلت فيها بين مدارس حلب ودمشق: من تأمل مدارس أرباب الخير من المسلمين في الشهباء والفيحاء، وقرأ ما كتب بتأمل، وزارها المرة بعد المرة على تغير معالمها، وتشويه طرأ على محاسنها، وفساد عرا أذواق الأبناء والأحفاد، إذا قيس إلى سلامة ذوق الأجداد، وجعل نسبة بين عدد ما عمر منها وما بقي في البلدتين الشقيقتين يؤكد معنا أن الفساد استحوذ عليها في دمشق أكثر من حلب، وأن من تجردوا من الوجدان فاستحلوا استصفاء تلك المدارس كانوا في الفيحاء اكثر من أمثالهم في الشهباء، ولذلك كان عدد الباقي في حلب اكثر وأجود من المدارس في دمشق.
ولا ينكر أن مادة البناء قد تختلف في بلد عن آخر. وقد كان الاعتماد في تلك القرون على الحجر الصلد، وفي دمشق عدة مقالع جميلة منوعة منه كما في حلب، ولم يكثر الآجر والطوب والخشب إلا في القرون الحديثة، ولذلك لم تخرب المدارس الدمشقية لعدم متانة في بنائها، فإن المثلة الظاهرة منها إلى اليوم لا تجعلها تختلف في شيء عن مدارس حلب. ولكن القائمين على هذه المدارس في هذه المدينة كانوا يعتدلون في العبث بها، ومتانة الأخلاق من جملة ما امتاز به الحلبيون، يضاف إليها حب الاحتفاظ بتراث الأجداد على صورة كانت ظاهرة في قرون الارتقاء، كامنة في عصور الشقاء والرجوع إلى الوراء.
والناظر إلى مدارس دمشق وحلب وهي لا تقل عن ثلاثمائة مدرسة، منها زهاء مائتين في دمشق يدرك أنها من عمل السلاطين والعمال وقليل من التجار وأهل الخير. وكان منهم من يتوخى منها أن تكون توليتها لبنية من بعده ليعيشوا منها إذا
صودرت أملاكهم. بنى قليل من التجار المدارس لأن الشعب كان يفنى في أغلب العصور في كبرائه، فلم يكن شأن في مظاهر النعمة والغبطة مدة قرون لغير أرباب الدولة أو من كان يعد في جملتهم، وكان الناس يحاذرون أن تنشأ لهم شهرة في الثروة، والثروة تتجلى في الدار والفرش والدابة واللباس، وفي بذل المال فقامة دور العلم وإيواء اليتامى والمحاويج، فكانوا يتظاهرون بالفقر لينجوا من مخالب العمال.
وقل أن رأينا جماعة اتفقوا على إقامة عمل من هذا القبيل يفتخر به اللهم إلا قليلاً من المساجد، ولو فعلوا لأمنت أعمال الجماعات من اعتداء المعتدين اكثر من عمل الأفراد، ولما استصفت واستحل هدمها، ولا غير خططها ومعالمها من لا يخافون الله ولا عبادة، ولجاءت ممثلة للعظمة الحقيقية في الأمة، على نحو ما قامت البيع والأديار والمدارس في الغرب، بإرشاد رجال الدين من كرادلة وأساقفة وقساوسة، فكانوا يجمعون قليلاً من صدقات الملوك والأغنياء والفرسان والشعب، فيجيء مجموعها عظيماً يدار بأيدي هيأة منظمة على كل حال، ويختطون خطة لا يخرج عنها الخلف إلا قليلاً،
للثر القديم من الموقع في النفس مال ليس للثر الحديث، فإن الأول
يذكر بأمور كثيرة، يذكر بمجد السلف وأياديهم البيضاء وإرادتهم الصحيحة، يذكرنا بأن فلاناً الذي تحترمه الأمة بنى ذاك المصنع وتلك الدار، وأن فلاناً العالم درس هناك أو كان يألف المكان الفلاني، وكم من أثر تاريخي أو مصنع من مصانعنا نمر به دون أن نحفل بما فيه من عبر، ولو كنا على شيء من مدينة أجدادنا ما زهدنا هذا الزهد البشع في تراثهم، ولو اقتبسنا المدينة الحديثة بمحاسنها ومساوئها لرأيتنا أسرع إلى التقاط آثار الجدود والاحتفاظ بها من الماء إلى الحدود.
لا تستطيع أمة أن تقطع الصلة بينها وبين ماضيها، خصوصاً إذا كانت ذات غابر
عظيم كغابر الأمة العربية، قام على أساس متين، وتقاليد جميلة، ومقدسات متسلسلة، أما ونحن لا نرقى بدون القديم والأخذ من نافع الحديث، فواجب العقلاء أن يفكروا في أقرب الطرف إلى هذه الغاية، وهذا لا يتم بغير إحياء دور العلم ومعاهد الفضل، وإحياؤها موقوف على قليل من العناية.
ليس للمدرسة الحديثة التي ننشئها اليوم تلك النضارة، ولا تتجلى فيها معاني الحسن والإحسان التي نشعر بها ونكاد نلمسها في المعاهد القديمة مثل مدرسة ضيفة خاتون رحمها الله فإنك إذا رأيتها تمثلت أمامك صفحة من تاريخ هذه الأمة المجيد، تمثلت بيت بني أيوب وأفضالهم على ربوع الشام، وكفى بهم وبصلاح الدين حسنة عقم الدهر أن يلد مثلها. كثير من المصانع بناها الملوك بالسخرة وإرهاق الرعية، وإعانات الأسرى والمعتقلين، ولم نقرأ في التاريخ أن أحدا من آل البيت الصلاحي عمر مدرسة أو جامعاً أو مستشفى أو رباطاً من مال مشبوه، أو سخرة ممقوتة، فأكرم وأنعم كل فرد أصيلاً كان في هذا البيت الشريف أو دخيلاً عليه. . . .
عمر أهل الخيرات من سلف هذه الأمة هذا القدر العظيم الذي نعجب به من معاهد التعليم الديني دع المساجد والجوامع، ولو كتب البقاء لبعضها لأغنت القوم بعض الشيء بمعارفها ونشرت النور بينهم. وكانت المدارس والجوامع في تلك القرون المظلمة في الغرب المستنيرة في هذا الشرق هي المتكلفة بتعليم الناس وإخراجهم من الأمية، وكان لمعظم المدارس والجوامع مرتبطة بها وخارجة عنها لتعليم الأطفال تؤهلهم لتلقي دروس
المدارس والجوامع، ولا نغالي إذا قلنا: إن عدد الأميين كان في تلك العصور أقل مما هو الآن في هذه الديار. ولو اطرد العمل اطراده في مدارس الغرب مثلاً لأصبحنا في هذا القرن والأميون أقل مما هم في مماليك المدينة الحديثة.
ولكن الجهل قضى على تلك المدارس وأكل المتولون أوقافها فخربت وتغيرت معالمها. وكم من وقف يستمتع به النظار عليه يصرفون ما وقف على الخير في سبيل شهواتهم بدون محاسب من ذممهم ولا رقيب من أصحاب السلطان. ولو كتب لهم أن يأكلوا منها بالمعروف ويصرفوا حقوق تلك المعاهد أو بعض مغلها على رمها وإجراء الرزق على ساكنيها والدارسين فيها لأتت بثمرات جنية، ولما أكلوا في بطونهم النار، وركبوا متن العار والشنار، وكم من بيت كان موسوماً في القديم بالعلم والتقى فخلف من بعد السلف خلف عبثوا بالحرمات فاستحلوا أموال المدارس والمعابد فدثر البيت وانقرضت الأسرة وذهبوا وما يملكون جملة. لم يرحموا لأنهم لم يرحموا.
ضبطت الحكومة السابقة أكثر أوقاف الملوك والسلاطين وكان ريعها كثيراً جداً في هذه الديار، فلم تصرفها فيما خصصت له ولم تنجح في الغاية التي توختها منها، واستقل بعض أرباب النفوذ بالأوقاف التي ائتمنوا عليها أو انتهت إليهم بحكم الوارثة فأساءوا الاستعمال إلا من عصم الله. فالسبب إذاً في خراب مدارسنا الجميلة سوء إدارة الحكومات السالفة وعبث المتولين عليها وإخراجها عما وضعت له من عمل الخير بصنع أولئك الذين يعدون أنفسهم في جملة هذا المجتمع وهم أعدى عداته اه.