الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترتجيه. وكلما ضعف الوازع الديني في القوم، وهاجمتهم عادات الغربيين، انحلوا م عهدة الوفاء والكرم، ولذلك ترى الأوفياء والكرماء بعيدين إلا قليلاً عن المناطق التي اختلطت بالغريب على سواحل البحر، وأخذت من معارفه، وتخلقت بأخلاقه، واعتادت عاداته.
ومنذ شاع الكذب والحسد في الشاميين، ضعفت مادة حياتهم من التجارة والصناعة، وكادت ثقة الغرب ترتفع منهم، وإذا كتب لهم أن شاعوا في الجملة اليوم فبفضل الأسس القديمة التي قام عليها مجتمعهم وجامعتهم، وبفضل نشاطهم في مهاجرهم حيث رأوا أنفسهم أمام جاليات كثيرة من الأمم اضطرتهم الحال معها أن يظهروا بمظهر الأمانة ليعتاشوا ويرتاشوا. أما التحاسد والمشاغبة فلم تنقطع شأفتهما فيهم حتى في ديار الغربة، وربما زادهم على ما كانوا ألفوه منها ما روأوه في مهاجرهم عند الأمم الأخرى فاقتبسوه وأضافوه إلى رؤوس أموالهم. وربما بلغت الجالية الشامية نحو ألف ألف نسمة أي نحو سبع سكان القطر، فما أمرهم باليسير إذا حتى لا يشار إليهم بجملة، لأنهم على الأقل يمثلون صورة من أهل القطر في الخارج، والأجانب لا يعرفون إلا أنها صحيحة مطابقة للأصل، أو أنهم من أمثل طبقات الشعب. ولو تفرقوا في الأرجاء التي ينزلونها، كما تفرقت
قلوبهم في موطنهم الأصلي، لكان لزماً أن يؤثر ذلك في أخلاقهم وعاداتهم، ولكنك تراهم في مهاجرهم يجتمعون أهل كل إقليم بإقليمه على الأكثر، وقد لا تختلط لفائفهم بسكان الديار التي ينزلونها إلا كما يختلط الشامي بالمصري إذا نزل مصر، يختلط به ليبرح منه ويحتفظ بشاميته وتقاليده بعد جيلين وثلاثة وأحياناً بعد أربعة وخمسة.
عادات القبائل وأخلاقها:
ثُمن أو سبع أهل القطر الشامي اليوم أي نحو خمسمائة ألف نسمة بادية أو قبائل رحالة، ويقال لهم في الاصطلاح: العرب أو العربان، تصطاف في مكان وتشتو في آخر، وقلّ من يألف منهم سكنى الدور، وبيوتهم من الخيام والمضارب تنسج من شعر المعزى، يعتمدونها بعمد ويشدونها بأطناب،
ويضربونها حيث نزلوا لرعية ماشيتهم، يحملون معهم أثاثهم وخرثيهم ودوابهم ومؤونتهم، وهم شاوية يقومون على تربية الشياه والعنز ويربي بعضهم الأباعر، والشاوية من الأسماء التي تطلق على عشائر دير الزور على الفرات خاصة لأنهم جماعة شياه. ومعاش البدو من مواشيهم وما تدر عليهم من السمون والألبان والأجبان والزبد وما يبيعون من نتاج قطعانهم، أو من غزو بعضهم بعضاً إن كانوا أشراراً على الفطرة لم تدمث أخلاقهم قليلاً بالاحتكاك بالمتحضرين، وإذ كان سكان البادية على هذه الحالة من التنقل وأكثرهم يوغل في الشياء إلى وسط ديار العرب انتجاعاً للكلأ والماء، أصبح من المتعذر أن تنشأ لهم حالة ثابتة يتأتى معها وصف كل قبيل منهم في عاداته وأخلاقه.
وعرب الشام من أصول شتى وقد تتغير أسماء قبائلهم مهما عظمت قي كل قرن أو قرنين، فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بدخول الإسلام الشام، في القرن الثالث أو الرابع، وما عرف من أسمائها في القرن الثامن أو التاسع تبدل في القرن الحادي عشر، وهكذا تتبدل أسماء العائلة تبعاً للمتأمر عليها، وقد تسمى القبيلة كلها باسم أميرها أو شيخها. والعشائر كلها تنقسم إلى أفخاذ وبطون، والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته، أو من كان أذكى قومه جناناً، وأبسطهم بالكرم يداً، وأشجعهم يوم النزال قلباً، واصلبهم في الحوادث عوداً، ثم تنتقل بالوراثة.
وغزو القبائل بعضها بعضاً يحول دون بقاء الثروة الناطقة والصامته فيهم، فقد
تكون القبيلة اليوم في الغابة من طيب العيش، ناعمة البال بحلالها أي ماشيتها، فتغزى من الغد في عقر دارها، فلا تلبث أن تصبح أعرى من مغزل لا بد لها ولا لبد. دع ما يصيبها من نقص في الأنفس، فقد كان من النادر أن تجد رجلاً بلغ أقص سن الشيخوخة لأنه يعتبط في الغزوات، ويقتل في سن الفتوة غالباً. والحكومات الشامية اليوم تحظر على القبائل الغزو، وهم يخافون سطوتها لمكان السيارات ورشاشاتها في الأرض، والطيارات وقذائفها في الجو، وتحاول كل حكومة أن تعطي البادية أرضاً تزرعها لتأوي
إلى البيوت الثابتة، وتتخلى عن عيش البداوة وما تستلزمه من شقاوة وشقاء. ومن عشائر الشام ما عرف أنها كانت رحالة فأصبحت مزارعة مقيمة، ولذ لها عيشها الثاني فاغتنت يوم تحضرت، مثل الدنادشة أو بني دندش فهم قبيلة يمانية جلت إلى حوران منذ نحو ثلاثمائة سنة، ثم انتقلت إلى أرجاء تل كلخ من عمل حصن الأكراد، ولهم اليوم قرى عامرة وبيوت وقصور في قرى الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح ومشتى حمودة ومشتى حمزة وبرج الدنادشة وغيرها، وظلت أخلاقهم إلى عهد قريب أخلاق العشائر يحبون الغزو والسطو وحمون الذمار والجار، وهم على حصة موفورة من الكرم والوفاء وصحة العهد. واتفق مثل هذا التحول لكثير من عشائر الحديديين والموالي وبني خالد، فإنهم لما امتلك السلطان عبد الحميد الثاني أرضاً واسعة في الشمال الشرقي من الشام في أرجاء حماة وحمص، حمى العشائر ومنع الغزو بينها، فتحضر من هذه العشائر عدد كبير انصرفوا إلى اعتمال الأرض والعناية بالزرع والضرع. وهكذا كانت الحال في القديم والحديث، تدخل البادية في الحضارة، وقل أن خرج أفراد من الحضارة إلى البداوة، لأن الترقي سنة الطبيعة، والبداوة أصل ثم يذوب أهلها على الزمن في الحضر.
تبعد منازل البدو عن سواحل البحر المتوسط غالباً، ولا تزال تمتد في الداخل حتى
ينتهي العامر من ديار الشام في الجنوب والشرق، وهناط البداوة بأجلى مظاهرها. والأولى أن يقال مثلاً في عشائر الفضل والهوادجة والبحاترة النازلين على ضفاف بحيرة الحلوة، وبني صخر الضاربين في البلقاء، وبني حسن في علجون، والحسينية والفواعرة والعكيدات في أرجاء حمص، وبني خالد عرب حماة، والحديديين والموالي واللهيب والغيار عرب حلب، والسًّبعَة والفدعان من عنترة النازلين من بحيرة الجبول إلى سليمة وعشائر البشاتورة والبواتية الغزاوية والمساعيد ونقار والصقور عرب بًيْسان ونابلس وجنين وطول كرم، وعشائر شرقي الأردن التي تشتو في وادي العربة أو الأغوار، أو الحماد أي الصحراء العربية شرقاً، وتصطاف في ارض معينة الحدود معروفة - فالأولى أن يطلق على هذه القبائل اسم نصف حضرية
لأن منها من يزرع الأرض، ومن أفلح في الفلاحة، وأيقن على الأيام أن العيش الثابت خير من المتقلقل، وأن من يدفع للدولة أجرة حمايته، أهنأ بالَا ممن يتكل في حمايته على نفسه وسيفه وعصبيته.
وهكذا يقال في عرب الغياث والعمور في اللجا والصفا، وعرب العدوان والأيديات والعباد والمشالخة والحمايدة والشوابكة والدعجة والعجمارمة والنمر والكايد في أطراف عَمّان والصلت ومادبا، والخرشان والجبور في الموقر والعليا والنقير، وبني حميدة والسليط والحجايا والحباشنة والصرايرة والطراونه وكثرربة والمعايطة والمجالي والمدنات في أرجاء الكرك، والحويطات والدمانية وأبي تايه والمطالقة والنعيمات والديابات وبني عطية في جهات معان، وعرب الشرور وبني عطا والهلالات والعبيدية والعلايا في وادي موسى وجبال الشراة، والحميدات وعبدين والبحارات والكلالدة والوهبيات والمنازعين في الطفيلة، فإن كثيراً منهم يزرعون الأرض، ويقومون على تعهد الماشية، وقد يبعدون في الانتجاع ثم يعودون أدراجهم.
وعلى مثل هذه الحال عشيرة العمور في أرجاء تدمر وعشائر بو شعبان في السخنة والجبور في البو كمال والعكيدات في الميادين ودير الزور وغيرهم من العشائر النازلة على شط الفرات الغربي، فإنها كلها نصف متحضرة وبقليل من العناية تدخل في المدينة وتترك عاداتها وشقائها، ويسوغ لنا أن نستنتج أن البادية حتى أكثرها إيغالاً في البداوة يمكن تحضيرها إذا أكرهت على التحضر خلافاً لما يذهب إليه بعض أهل الغرب. وفي الشام قبائل من البدو مثل عرب الروالة من عنزة وهم لا يقلون عن عشرين ألف نسمة، ينتقلون أبداً كالنور أو الغجر كل مدة في ناحية، ولا ينزلون المدن إلا لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم وألبانهم. والنور جيل منحط من الناس يرتحلون كالبدو ويعملون الأعمال الخسيسة، ولذلك يحتقرهم جميع أصناف العالم من أهل المدن والقرى والبدو، وهم قلما تخلو منهم بلد ومنهم عدد كبير في أوربا.
ولا تختلف عادات العشائر لأنها كلها في حالة أولية فطرية هدتهم إليها الحاجة إلى الحياة، فعشائر ولد علي والسرحان والمعجل والسردية والنعيم
في حوران والقنيطرة والزوية، والزريقات في طرابلس والتياهة والعزازمة والترابين والجبارات والحناجرة والكعابنة والصرايعة والجهالين وفقرة وثباني وهارين وفرحات وزويديين وضواحك وسلامات وصقرير والرسيلات وأبي صونية والغوالبة في أقصى فلسطين أي في أرجاء بئر السبع وغزة والخليل والمجدل، وعشائر القدس ورام الله وبيت لحم وأريحا ويافا والرملة كالسويطرة وعرب النبي روبين والجماسين وأبي كشكو المالمة والعوجا والديوك والنويعمة والخطباء والفهيرات والعرينات والنصيرات والتعامرة والعبيدية والسواحرة وعرب حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد وهم الغابة والعواضين والشقارات والزبيدات والتواتحة والكمابية والضيبة وبني عزة والنغناغية والرمل التركمان
وجسر الزرقاء وقسارية والفقرة ونفيعات والدمايرة والسواعيد والسمينة والغوارنة والسويطات والحجيرات والطوقية والمريسات وصبيح الحجيرات والمزاريب والسبارجة والجواميس والغزالين والتلاوية والمواسي والسرجونة والسدور والسمايرة والخرامية والسماكية والمنارة وكراد الخيط والملاحة والشمالنة والبويزية والزنغرية وزبيد وقديرية وطوبا وحسينية وعلمانية ووقاس والصويلات والنميرات، وعشرات من القبائل كلها متشابهة في عاداتها وأحوالها الطبيعية وجلها لا تسد مطامعه إلا الغارات واستباحة حمى المعمور، عرفوا بذلك منذ عرف تاريخهم. وكان الرومان خاصة يقيمون المخافر من اجتياحهم القرى ويقيمون لهم منهم زعماء يصدونهم عن الاعتداء بعضهم على بعض، أو يحولون دون اعتدائهم على المقيمين من سكان المزارع والدساكر.
وفي تاريخ فلسطين أن العزة والسيطرة كانت في جميع بلاد الساحل والسهل البدو وأهل الدير، فبلاد السبع وغزة كانت منقسمة بين الغزارمة والحناجرة والترابين والجبارات، فالعزارمة يمانيون ومشايخهم أجداد ابن سعيد، وأمراء الترابين عائلة أبي ست، وأمراء التياها الهزءيل، وأنساب هذه القبائل غير صريحة فإنها مزيج من عشائر مختلفة وقبائل متنوعة وفيهم القيسي واليماني، وبلاد الخليل أكثرها قيسية ومقاطعة القدس يمانية وقيسية اه.
وكما عرف البدوي بأنه يجير الملتجئ إليه، كذلك إذا آنس ضعفاً
من أحد أبناء السبيل في البرية سرق منه ماله وثيابه أو هيمانيه ودابته، وندر أن يقتله فشأنه شأن معظم البشر عبد القوة لا يحاذر غيرها. ولطالما كان الجنود الشاميون أيام كانوا يفرون على عهد الترك من اليمن تطيل البادية عليهم أيدي الاعتداء تارة ويكسونهم ويطعمونهم تارةً أخرى، وهكذا كان الفار يعرى ويكتسي مراراً حتى يصل إلى المعمور من دياره.
وماذا يعمل البدوي وماشيته ترعى أمامه، وكيف يصرف ليله ونهاره، وكيف تطيب له الحياة في الصيف والشتاء، وهو معرض لأشد الحرارة وأشد لا جرم أن البدوي، وهو بذكائه وفراسته معروف موصوف أكثر من الفلاحين أهل القرى، يعرف من الأخبار التي تهمه من أنباء العالم ما ينبغي له الإحاطة به، ويتناقله بسرعة البرق، حتى إن ما يحدث في الحجاز أو العراق، يصل خبره إلى ابن بادية الشام وما وراءه من العرب، قبل أن تصل السيارة والبريد، فينتقل الخبر في الأفواه من فم إلى فم، ويسمون الأخبار العلوم وأول ما يسأل البدوي في البادية أو المعمورة عن العلوم. وإذا لم يمن عند البدوي ما يتسلى به من القصص والأخبار التي تمون في العادة نمطتً واحداً يأخذ شاعر القبيلة ربابة يضرب عليها، ويفكههم من نظمه أو من محفوظه بأشعار. وفي الغالب أن يكون ما ينشدهم إياه بلهجتهم التي يألفونها. ويحتوي على الأكثر الحماسيات وأخبار الغزاة والغزوات وأيام الشجعان وحوادث الكرماء والضيفان. والرقص معروف عندهم وهو الدبكة أو السحجة يرقص في الغالب الفتيان والفتيات، دون الرجال والنساء المتزوجات. ومهور النساء غالية في بعض العشائر، وتكون من الجمال والشياه غالباً لا من النقود لقلة تداول النقد بينهم فهم يتقايضون الحاصلات، كما يتقايضون البنات بالحيوانات. والبدوي يخصب إن جادت المراعي من خيرات السماء، وإلا فقد أترب وأجدب، ونفقت دوابه فأعوزته اللقيمات.
ويجلس الرجال في العراء في خيمة مضروبة تكون في الغالب خيمة الشيخ أو الغني، يتعاطون قهوة البن وهم يجيدون طبخها لفراغهم وتوفرهم على معالجتها. وقد يستغني البدوي عن الأكل أو يقلل منه كثيراً، ولكنه لا
يستغني بحال عن تعاطي في كل ساعة فهي نقله وحلواؤه وشرابه المتنعش، وقد يصرف أحدهم ثمن بّن في السنة أكثر مما يصرف على طعامه ولباسه. وأحب الهدايا إلى قلب البدوي
أن تحمل إليه مقداراً من البن. وطعامهم من أسهل الأشياء، مقصور على بعض الألبان والبّر والجريش والأقط والعصيدة، ولباسهم ساذج للغاية وكسوتهم متشابهة: قفطان من القطن، وعباءة خفيفة، وزنار عادي، وكوفية وعقال، ولا يلبسون في الأعم من حالاتهم قمصاناً وصُدَراً وسراويل، وأكثرهم حفاة، ويصطنع كسكان وادي موسى نعالاً من جلود الأباعر ينيطونها بحبال يدخلون فيها أباهِم أرجلهم تعلق بها.
قّل أن تجد في البادية من يقرأ ويكتب، فقد تبلغ العشيرة ألف نسمة ولا تظفر فيها بمن يكتب جملة. ومن العشائر من تستأجر خطيباً من أهل الحضر يكون معها في مشتاها ومصيفها، ويعظم بما يعلم من أمور الدين. وأكثر البادية لا يتطهرون ولا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون من الإسلام إلا أن الله واحد وأن محمداً رسوله. ولولا هاتان الكلمتان لقلنا إنهم كعرب الجاهلية حذو القذّة بالقذة وقد تصلي بعض القبائل كالرولة، ولما كان الماء يعوزهم في منتجعاتهم وتنقلاتهم فهم يتيممون صعيداً طيباً، والله يعلم هل يحسن أكثرهم قراءة فاتحة الكتاب، أو يعرفون سوره الصغار. وما كانت هذه العشيرة تصلي من قبل لولا أن لابسها بعض دعاة الشيعة وعلموا كل فريق منهم إقامة الصلوات، ولنقوهم بعض معتقدات التشيع من حيث لا يدرون. وقد تديّن اليوم أي دان بالمذهب الوهابي قسم من الروالة لما لحقوا بنجد، والمذهب الوهابي مذهب محمد بن عبد الوهاب وهو مذهب أحمد بن حنبل بأصوله وفروعه. وإذا كان من الأمور العادية في البادية أن تكون القبائل في خصام دائم، وهي أشبه بحكومات صغرى تتقاتل وتستعين بالغريب على خصمها، مست الحاجة إلى قضاة يفصلون بينها في المنازعات، وقضاتهم منهم يتقاضون عندهم بأجر معلوم، وأحكامهم سريعة نافذة، ومن أحكامهم ما هو مطابق للشرع
الإسلامي، ومنها ما هو من بنات أفكار القاضي، أو
يأخذه من العرف والعادة. والاختلافات تفض بين المتخاصمين على أيدي الرؤساء صلحاً على الأكثر وقّل أن يراجع البدوي الحكومة في مسألة لأن من أصولها البحث والتحقيق، وهو يحب قضاء عاجلاً، وأن يحكم له أو عليه في جلسة واحدة، وينفي القاتل في بعض القبائل سبع سنين فإذا صالح أهل القتيل ودفع الدية يعود إلى عشيرته، وتختلف دية القتيل بين 33 ألف غرش إلى 15 ألفاً، ولا يحق عند بعضهم لأحد بعد سبع سنين أن يثأر للقتيل، والأخذ بالثأر كثير عندهم، ولا مدة عند معظمهم للمطالبة بالثأر. ومن المأثور عنهم أن البدوي أخذ ثأره بعد أربعين ستة وقال: إنني تعجلت أخذه. وجزاء السارق تغريمه المال المسروق من ضعفين إلى أربعة أضعاف، وينجو السارق بالفرار، ويدفع الضارب للمضروب إذا عطل منه عضواً نصف الدية. والزاني يرجم عندهم حتى يموت ولكنهم تساهلوا في هذا الحكم، والفحش عندهم على نسبة ما هو عند الحضر ويكثر في بعض العشائر ويقل بحسب اختلاطها بأهل المدن وبعدها عنها، والخمور لا أثر لها في البادية لأن العرب قلما يشبعون الخبز والإدام فمالهم إذاً والمدام، ولشطف العيش عندهم يعدون في الأعياد اليوم الذي ينزل على شيخهم ضيف يجب أن ينحر له شاة في تلك الوجبة مدعوون كلهم بالطبيعة، وعندما يأكلون اللحم فترى قطعانه تسافر من فوق الرؤوس حتى يطعم من المنسف البعيد منهم عنه، وتسمع عندها تعريق اللحم عن العظم أشبه بأصوات حيوانات وقعت على عظام.
ويكثر تعدد الزوجات بينهم خصوصاً عند من يملك بعض نعجات أو بضعة أباعر فتراه طول النهار وجزءاً من الليل، تحت خيمته يتقهوى أي يشرب القهوة مستلقياً على قفاه، يقص أقاصيصه وينعم ببطالته، على حين ترعى امرأته وبناته الغنم والجمال، ويتحطبن الحطب أو يجمعن العشب، وتحمل المرأة الماء على رأسها من مكان بعيد، أو تستقيه في قرب تحملها على حمار إن كان صاحبها من أهل
اليسار، وتستخرج المرأة الزبد والسمن وتعمل الجبن وتخبز الخبز وتهيئ الطعام. ويعيش أولادهم كالسائمة في البرية بدون عناية ويهلك معظمهم قبل الخامسة من العمر، ولهذا تكون أجسام من يفلتون
منهم من الموت قوية تبعاً لقاعدة بقاء الأنسب. وهم لا طبيب عندهم ولا جراح ولا قابلة إلا ما تعلموه من أجدادهم من الوصفات، وثقفوه بطول الزمن في مداواة الجروح، ويداوون أكثر الأمراض المستعصية بالكي أو بأدهان وحشائش لهم يعرفونها. وأمراضهم قليلة بالنسبة لخشونة عيشهم وجشوبة طعامهم وقلة تطهرهم، وذلك لمكان الهواء النقي والشمس المطهرة من أجسامهم ولندرة ما يطعمون من الأطعمة المركبة من حامض وحلو وحار وبارد، ولقلة الهموم التي تساورهم وما تساور في العادة إلا سكان المدن والقرى ممن يفقهون واجبات الحياة، ويكدحون في طلب المعاش ولا يزالون مأخوذين بحب التقليد. والبدوي حاد النظر يرى الأشباح من مسافة بعيدة جداً، وقد يرى والقمر ليلة هلاله ما لا يبصره الحضري، ومن رآه في تمييز المرئيات عن بعد باعد، يكاد يصدق ما ذكرته العرب عن نظر زرقاء اليمامة. وكما كانت أبصارهم حادة كانت أسنانهم وأضراسهم سليمة براقة للطف أخلاطهم وتخليطهم.
قال أديب وهبة: إن سكنى البدوي في بيت الشعر في البوادي المحفوفة بالأخطار والمشاق، وبعده عن الحامية وانتباذه الأسوار، قد ولد فيه عدة مزايا يمتاز بها على الحضري، منها الشجاعة والعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة فتوغل البدو في البادية، وتولعهم بالغزو والغارات قد جعلهم في قتال أو استعداد دائم للقتال، فأصبحت الشجاعة فيهم طبيعة، وتعذر قيام الفرد مهما كان شجاعاً بمقابلة العدد من العدو قد اضطرهم للالتجاء إلى العصبية، وهي التضامن المطلق بين أفراد القبيلة، حتى تطلب العشيرة بأجمعها بحق أحد أفرادها، وأقرب أسبابها لديهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف الأسرة، ومن الأسر تتألف الفصيلة وتتدرج
بهذه الصورة إلى القبيلة. والذي عليه عشائر الشرق العربي أنها تطلب وتطالب بحقوق أفرادها إلى الجد الخامس من جدود الطالب والمطلوب، أي لكل فرد يتصل مع إيهاما بالجد الأول أو الثاني أو الثالث إلى الخامس الحق بطلب حق قريبه، وعليه أن يخضع للحق المطلوب منه، ولهم بذلك قوانين وقواعد موروثة. ثم إن ابتعاد البدو عن المدن وتفردهم في الأرض المقفرة يضطرهم إلى إكرام