المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عادات لبنان وأخلاقه: - خطط الشام - جـ ٦

[محمد كرد علي]

فهرس الكتاب

- ‌البيع والكنائس والأديرة

- ‌بيوت العبادة عند الأقدمين:

- ‌منشأ الأديار والبيع:

- ‌أعظم الكنائس وأقدمها:

- ‌مبدأ هدم الكنائس:

- ‌كنائس دمشق:

- ‌كنائس حلب:

- ‌الكنائس والبيع في القدس:

- ‌كنائس فلسطين:

- ‌كنائس الأردن:

- ‌كنائس لبنان:

- ‌عمل الرهبان والراهبات العظيم:

- ‌الأديار القديمة في الشام:

- ‌المساجد والجوامع

- ‌في أول الفتح:

- ‌مساجد حلب:

- ‌جوامع عمالة حلب:

- ‌مساجد الساحل وجوامعه:

- ‌جوامع المدن الداخلية:

- ‌جوامع العاصمة وضواحيها:

- ‌المدارس

- ‌نشأة المدارس

- ‌دور القرآن بدمشق:

- ‌دور الحديث بدمشق:

- ‌مدارس الشافعية بدمشق:

- ‌مدارس الحنفية بدمشق:

- ‌مدارس المالكية بدمشق:

- ‌مدارس الحنابلة بدمشق:

- ‌المدارس الحديثة:

- ‌مدارس الطب بدمشق:

- ‌مدارس حلب:

- ‌مدارس القدس:

- ‌بقية مدارس القطر:

- ‌الخوانق والربط والزوايا

- ‌خوانق دمشق:

- ‌رباطات دمشق:

- ‌زوايا دمشق:

- ‌خوانق حلب وربطها وزواياها:

- ‌ربط القدس وزواياها:

- ‌الربط والزوايا في المدن الصغرى:

- ‌مراقد العظماء وخوانق:

- ‌المستشفيات والبيمارستانات

- ‌مستشفيات دمشق:

- ‌مستشفيات حلب:

- ‌بقيه المستشفيات:

- ‌لهفة على المدارس وغيرها:

- ‌دور الآثار

- ‌المتاحف والعرب:

- ‌نشأة علم الآثار:

- ‌البعثات الأثرية الغربية:

- ‌آثارنا وآثار جيراننا:

- ‌تأسيس دور الآثار:

- ‌متحف دمشق:

- ‌متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس

- ‌وعمان:

- ‌دور الكتب

- ‌نشأة الكتب:

- ‌نشأة الخزائن والعناية بحفظها:

- ‌مصائب الكتب ودورها:

- ‌خزائن اليوم وأهم ما حوت:

- ‌الأديان والمذاهب

- ‌أديان القدماء:

- ‌اليهودية:

- ‌السامرة:

- ‌الأرثوذكسية:

- ‌الكثلكة:

- ‌المارونية:

- ‌البروتستانتية:

- ‌أصل السنة:

- ‌الشيعة:

- ‌الباطنية:

- ‌الإسماعيلية:

- ‌النصيرية أو العلوية:

- ‌الدروز:

- ‌البابية:

- ‌الأخلاق والعادات

- ‌عادات الدمشقيين:

- ‌عادات الحلبيين:

- ‌عادات لبنان وأخلاقه:

- ‌العادات في الأرجاء الأخرى:

- ‌عادات القبائل وأخلاقها:

- ‌رأي في الأخلاق الشامية:

- ‌حياة محمد كرد علي

- ‌مؤلف خطط الشام

الفصل: ‌عادات لبنان وأخلاقه:

اللوحوت أي المغتسل وغسلوه بالماء الفاتر وأدرجوه في ثوب من الكتان يعيبونه بالتقريض والحروق كيلا يطمع به نباشو القبور، ثم يضعون جثة الميت في الأورت أي النعش ويحضر أحد أقربائه ويقرأ عليه قداساً أي يصلي عليه صلاة الميت، ثم يحمل النعش بين ثلاثة أشخاص وعلى كل من مرت به الجنازة أن يمشي معها أربعة أذرع أو أكثر ويطلب من الميت السماح، إلى مدفنه ويوارونه في ترابه ويقوم أحد الحاضرين ويبارك عليه بقوله: باروخ ديان ها ايميت أي عيوننا ما رأت وأيدينا ما سفكت هذا الدم. فإذا وصلوا إلى بيت الميت قام أحد الحاضرين إلى كل وارث له وخرق ثوبه من زيقه وهو يقول: باروخ ديان ها ايميت ثم تحضر مائدة عليها أطعمة متنوعة يرسلها أحد الحاضرين فيأكل منها ورثة الميت على شرط أن يضع الطعام بأيديهم أحد الحاضرين ويبارك لهم بقوله: باروخ ميناحيم ابيليم أي تبارك الذي يسلي الحزين. وعلى ورثة الميت أن يلزموا منازلهم سبعة أيام لا يعلون فيها علاً مطلقاً ويسمونها التآبيل أي الحداد. وفي اليوم السابع يصنع طعام الفقراء وهكذا في اليوم الثلاثين تسعة أشهر ومرور السنة اه.

‌عادات لبنان وأخلاقه:

كانت عادات لبنان إلى أواخر القرن الماضي، قبل أن يبدأ أهله بالهجرة إلى أميركا، كعادات معظم جبال الشام، تغلب عليها السذاجة والفطرة السليمة، وفي مضاء ووفاء وإباء. يقل الكرم ويكثر الحرص في أهل القسم الشمالي منه وهم الموازنة والروم، وكان العكس في حال أهل القسم الجنوبي وهم الدروز والسنة والشيعة والنصارى الذين كانوا من أصول عربية، فإن أخلاقهم ظلت عربية بحتة، ولهم في باب الكرم وحفظ العهد فصول. وقد يكون الشماليون ألين عريكة وأقرب إلى السكون في الأحايين. والجنوبيون

ص: 291

أشد بأساً وأقوى شكيمة. ودخل تبدل كبير في العادات بانتشار المدارس الأجنبية في الجبل منذ نيف وستين سنة، واستبدلت العادات الإفرنجية ببعض العادات الوطنية إلا قليلاً. وحمل الذين عادوا من المهاجر بعض عادات من نزلوا عليهم، فأصبحت عادات الجبلين مزيجاً من الغربية والشرقية. ويكثر التقليد في سكان الشمال أكثر منه في سكان الجنوب. وهناك فروق ليست بقليلة بين سكان الجرود الشمالية والجنوبية.

كانوا اللبنانيون من أول من نفخ في ديارهم بوق الهجرة إلى أمريكا، ولبوا دعواتها سراعاً قبل غيرهم من الشاميين، لأن حاصلات أرضهم قليلة لا تكفي لعوائلهم. وكانوا من قبل مولعين بمواطنهم، لا يحبون أن ينتقلوا ولو في أرجاء هذا القطر، وكان من يسافر من إحدى قرى الجبل إلى دمشق يضرب به المثل في بعد الهمة وكثرة الشجاعة. وكثير ما كانوا يتغنون بقولهم:

جوزك يا مليحة

راح عالشام وحده

وكان أقصى ما يبلغه تصورهم من البعد إنطاكية شمالي الشام دنقلة في السودان، ويقال إلى اليوم أوصلك إلى دنقلة. وكان إذا نشط أحدهم للسفر إلى مصر أو الآستانة، بعد كمن وصل إلى المريخ، يقصدونه من القاصية ليسمعوا ما يقص عليهم من عجائب رحلته. فلما بدءوا بالهجرة وكثر عديدهم، واستسهلوا ركوب

المخاطر في بلاد المهجر، ونجحوا وارتاشوا، تبدلت عقليتهم بعض الشيء، وهم كأكثر من يهاجرون في طلب الرزق يعتمدون على أنفسهم ومضائهم وتضامنهم، لا علم يحميهم ولا دولة يهمها أمرهم. حملوا في جنوبهم عزماً وحزماً، وحملوا أيضاً روح التحزب والفرقة الذي امتازوا به لما نشأهم عليه رؤساؤهم. وكان المتعلمون منهم في هذه السبيل أشد مراساً من العوام. ولما كان العائدون من طبقة الفلاحين والعاملين إلى قرارهم من ديار المهجر، أكثر من الراجعين من أصحاب المعامل والمزارع والتجارات، وبعبارة ثانية أن عدد الفلاحين الأميين كان أوفر من عدد الآيبين من المتعلمين والمغتنين أصبح تسرب العادات الغربية لا يكاد يشعر به بين العامة على كثرتهم، وهو ظاهر محسوس بين الخاصة على قلتهم.

وقصارى ما يقال في هذا الباب أن أهل لبنان أخذوا مدينة الغرب من

ص: 292

مدارسه هنا وبالاختلاط بأهله وراء البحار بلا قيد ولا شرط، على حين كان غيرهم ولا يزالون يأخذونها ببعض الحذر والحيطة. ولبنان منذ عهد متطاول كانت علائقه بالغرب أكثر من غيره من أهل هذه الديار. والروح اللاتيني ترفرف عليه. يحمله إلى ربوعه الرهبان الموارنة من رومية وغيرهم من دعاة النصرانية والاستعمار. ولو مكنت طبيعة الجبل من إنشاء مدن كبرى فيه، لظهرت هذه الفروق على جليتها في أهله، كما تتجلى مثلاً في أهل المدن الداخلية.

لم يبرح الدروز يعدون في المحافظين على عادتهم القديمة وأخلاقهم العربية من إباء ووفاء وحسن عشرة وكرم وحسن وفادة، يعظمون رؤساءهم ولو كانوا في سن صغير جداً. والدروز، ما خلا الطبقة المتمدنة منهم التي تلبس السراويل والمعاطف والسترات والأقمصة الإفرنجية على الأساليب الغريبة، ما زال جمهورهم يلبس لباساً واحداً في جميع البلاد التي ينزلونها: عمائم بيضاء وقفاطين من الأقمشة الغليظة القطنية وأعبئة قصيرة مخططة وأحذية بلدية ساذجة. كأن

لباسهم لم يتبدل منذ حلو هذه الأرض، ونساؤهم محجبات قليلاً يسبلن على رؤوسهن شاشاً أبيض فإذا رأين غريباً أظهرن إحدى عينيهن فقط أي أن حجابهن الحجاب الشرعي.

كان أهل لبنان قبل حادثة سنة 1860 يقسمون إلى خاصة وعامة، فالخاصة هم الأمراء والمقدمون والمشايخ. والمشايخ على ثلاث طبقات، مشايخ الإقطاع، والمشايخ الذين يدلون إلى مشايخ الإقطاع بنسب، وكانوا يعرفون بمشايخ الطبق، ثم مشايخ الطبقة الثالثة. وتختلف مصطلحات هذه الطبقات باختلاف العصور، وكلامنا هذا يتناول الأخيرة منها التي ثبتت إلى ظهور الجبل بمظهر الاستقلال الداخلي بعد حادثة الستين. ولهم عادات راسخة في خطابهم وكتابهم ومجالسهم وأفراحهم وأتراحهم، أمست عندهم بمثابة القواعد العامة، وتختلف عن مجموع ما هو من نوعها في سائر الأقطار، والسر في ذلك أن لبنان مدين بظهوره بمظهر المنعزل المستقل منذ عهد المماليك والعثمانيين لأمراء كانوا يتلون جباية الجبل على سبيل الإقطاع مقابل مال يؤدونه، وهم ينصرفون إلى توظيف طبقات الناس، وتصنيف أهلها على

ص: 293

ما يرون. ومما أثبت هذه الأصول بين الأشراف لبنان أن الأرستقراطية فيهم كانت ثابتة لا تتحول عنهم لفقر أو غيره. ويغلب على الظن أنهم جمعوا في عاداتهم بين العادات العربية، وشيء من العادات الغربية اكتسبوها في مخالطتهم الصليبيين.

وفي الحق أن لبنان القديم وليد أمرائه من المعينين والتنوخيين والشهابيين واللمعيين والأرسلانيين وآل علم الدين. وقد أقر هذه العادات المشايخ الجنبلاطية والعمادية والنكدية والتلاحقة والملكية وبنو العيد، وفي المسيحيين آل الخازن والحداح والضاهر وحبيش وغيرهم. وأخذت تحتفظ كل طبقة بأصولها وعاداتها، لا يباح لأهل طبقة أن يتزوجوا من أهل طبقة أخرى، ولا أن يختلطوا بهم الاختلاط

اللازم. وكان الجلال الوقار يغلبان على أهل كل طبقة. ويعدون من أسباب السقوط أن يسف ابن أسرة من أسر الأمراء أو المقدمين أو المشايخ فيصهر إلى غير أهل طبقته، ولذلك غلب ضعف الأجسام على بعض هذه الطبقات، وتأصلت فيها بالوراثة الأمراص العضالة لخروجهم عن الطبيعة في الزواج.

وكانت لهم عادات نشأهم عليها حكامهم في الإسلام والجلوس والخطاب. وهم يغالبون في الحرص على كرامتهم، ويعد أكبر أعيانهم من الشرف أن يكتب إليه الحاكم ويلقيه الأخ العزيز ويوقع له بالمحب المخلص. ويكتب الأمير إلى الطبقة الثانية من الشعب وهي طبقة المشايخ عزيزنا أو أعز المحبين أو حضرة عزيزنا أو جناب بدل حضرة. وإذا كان طبق الورق صغيراً أو كبيراً، أو كان توقيع الحاكم في أسفل الكتابة أو في أعلاه فإن لكل ذلك معاني عندهم. والغالب أن القوم كانوا لقلة أشغالهم يتسلون بمثل هذه التفاهات، ويضعون لها قواعد من عند أنفسهم، ويتنافسون في رضا الحاكم والوصول إلى مجلسه وتقبيل يده وثوبه، تأصل هذا الداء فيهم إلى العصر الأخير، فكان من كتب له هذا الشرف تنافل خبره أهل بيته خلفاً عن سلف وعدوه في مفاخرهم. وقد كثر فيهم حب الظهور حتى أن المرء ليبيع وداره ويبذل مال ينال عملاً صغيراً في الحكومة أو ليكتسي الحرير هو وعياله ويتعاظم على أهل قريته. ومنه من ابتعدوا

ص: 294

عن مواطن الشرف ليتزلفوا إلى من اعتقدوا أن في أيديهم إسعادهم. وكم من بيوت خربت بسبب هذا التمجد بالباطل والتقرب من أصحاب السلطان بفساد الأخلاق.

وكانوا إلى عهد قريب يقدمون الرجال على النساء في إعطاء القهوة أو الخمر، يرفعون مقام الرجل فوق مقام المرأة، ولا يزال أثر ذلك ظاهراً في الطوائف الإسلامية. فلما اقتبسوا المدينة الحديثة أصبح الرجل عند المسيحيين لا شيء تقريباً في بيته، والحكم لامرأته تصرفه على هواها، خصوصاً إذا كانت تعلماً منه، أو

كانت أسرتها أغنى من أسرته وجاءته ببائنة أو جهاز. وهذه الأخلاق ماثلة في بيروت وفي بعض الأقاليم المكتظة بالسكان.

ويحترم الأولاد آباءهم كما كان ذلك في سائر أرجاء القطر، على صورة فيها التشدد الزائد، حتى إن الولد لا يكاد بجالس أباه ولا يقعد أمامه، ولا يؤاكله ولا يدخلن أمامه ولا يرفع صوته، ولو تزوج وولد، ولا سيما في البيوت التي احتفظت بتقاليدها. وكانت العادة أن لا يتفرق أهل البيت الواحد مهما كثر أفراده، يسكنون في دار واحدة، وإذا كانت الأسرة فقيرة ففي غرفة واحدة. وكثيراً ما يخصون الولد الأكبر في الأرض بشيء من العقار وحفظ كرامة إلى أسرة أخرى، شأن كثيرين من المحنطين، بل شأن من يعدون أنفسهم في الراقين أيضاً.

كان البناني يتزوج في الثامنة عشرة أو العشرين من عمره ولا سيما في الطوائف الإسلامية، والمسيحيون قد يتأخرون إلى الثلاثين وبعضهم إلى الأربعين، وقد يخطف العروس عروسه في بعض الطبقات، إذا كانت من طبقة غير طبقته، وتظاهر أهلها بأنهم يأبون زواجه، أو لعداء بين أهل الخاطب والمخطوبة، أو لعدم الكفاءة في النسب أو المال، وكانوا يحبون كثرة النسل بخلاف ما نراهم اليوم بعد الهجرة، فإنهم أصبحوا على مثال الأمم التي تريد تقليل الذرية في البيت ما أمكن حتى لا يدخله الفقر. وكانوا يعدون كثيرة العيال من اليسر والبركة، ويقلقون لمن يتأخر حملها من نسائهم، ويشرعون

ص: 295

بمداولتها أو وضع التعاويذ المصطلح عليها بينهم، وينذرون النذور إن رزقت ولداً، يقدمونها إلى قديسهم وأوليائهم. ولهم كغيرهم خرافات كثيرة منها تخزيف الأولاد في صغرهم بخيالات، ينشأ الولد عند بعض المسيحيين جباناً، والدروز منذ القدم في هذا الجيل على قلة عددهم يخاف جيرانهم باسمهم. وقد زاد هذا الجبن كثيراً من انتشار التعليم ومعروف قدرة الحياة، فأصبح يجبن من لم يكن يجبن، ونزعت الأخلاق الحربية إلا من الدروز،

وأصبح القوم يؤثرون الراحة ويتطلبونها جيثما وجدوها، ويزهدون في سكنى جبالهم على كثرة غرامهم بها، وتمجيدهم لهوائها ومائها ومناظرها وهنائها. وربما كان أهل لبنان من أكثر الشاميين اقتداراً على الإعلان عن أرضهم، والإعجاب بجبلهم، والتبجح بثروتهم وأثاث بيوتهم، وتمجيد رؤسائهم وعلمائهم وأُدبائهم. وهذا مما ساعد على إعمار الجبل بما جلبه المهاجر اللبناني من المال إلى أرضه، وسمت الهمم بأهله أن يعمروه هذا العمران الواسع بالنسبة إلى البقاع الأخرى، ولذلك لكان كسائر جبال الشام انحطاطاً وفاقة.

تسربت العادات الغربية إلى لبنان أكثر من غيره، فبعد أن كان اللبناني يأكل وأهله وضيوفه على سفرة في الأرض أو على خشبة مستديرة من صفحة واحدة، بأدوات منها الخوف ومنها ملاعق من الخشب من صنع أرضه، أصبح يجلس إلى خوان وأمامه صحاف وملاعق وشوكات وسكاكين ومائدته مغطاة بثوب أبيض، وعلى يده منديل الغمر أبيض، وألوان الطعام تأتيه إرسالاً. وأكثر هذا محسوس الأثر بين المسيحيين ولا سيما سكان الساحل. وقد بلغ ببعضهم حب التقليد أن أصبحوا لا يكتفون بخمر أرضهم، ويتغالى بعض أغنيائهم المترفين فيجلب خمور الغرب يسقيها ضيوفه على مائدته. وغدا لا يطيب له الزجل والمواليا والمعنّى والقراديات والغناء العربي والقصائد العربية، وكانت تنبسط أرواح أجداده إلى سماعها، بل يحاول أن يسمع النغمات الإفرنجية لأنها أجمل وهو تفرنج وتأورب ويحب أن يقطع صلاته مع آبائه.

ص: 296

وهكذا يقال في الرقص والألعاب كلها فإنها أصبحت بين الطبقات المتعلمين إفرنجية محضة في بيروت وفنادق لبنان الكبرى. وقد ولع بعض النساء في بيوت الراقية على الطراز الحديث بالرقص والمخاصرة والمقامرة ولا سيما في بيروت، ولوعاً لا تكاد تجد له مثيلاً فيما بلغنا وعرفنا من أخبار الأقطار الغربية. فقد ترى

البيروتية ولا سيما من المسيحيات ترقص المتقدمة في السن منهن تجلس إلى منضدة القمار تقضي الساعات الطويلة، وقد يكون بناتها الفتيات واقفات ينتظرنها ليذهبن إلى النوم وهي مستغرقة. وكثير عدد النساء اللاتي فقدن صحتهن وشرفهن لشدة ولوعهن بالقمار والرقص، وإذا رأيت أزياءهن، حسبتهن أوربيات وزيادة إفراطه في التقليد، وغرتهن الظواهر من مدنية الغرب فاجتزان بها، وكانت المرأة المسيحية في جنوبي لبنان في القرن الماضي تتجنب وتتجافى عن غشيان مجالس الرجال من غير محارمها.

وفي أندية بيروت في الشتاء والفنادق الكبرى في جبل مدة الصيف نموذج من الحياة البيروتية التي أصبحت مزيجاً غربياً من الأخرق والعادات، يبدو فيها التكلف والتصنيع، ويفقد منها الروح العربي، وليس المسلمون فيها على المستوى جيرانهم في النهوض الاجتماعي حتى ترسم لهم الآن صورة بعينهم. وقد أخذت بعض البيوت التي أخذت المدنية الحديثة لا تتكلم في بيوتها أو مجالسها واجتماعاتها إلا بالفرنسية وقليل منها بالإنكليزية، أو يمزجون لغتهم الأصلية باللغة التي تعلموها بعضها في المدارس، وأصبحت معظم عادات السكان إفرنجية مقتبسة منقولة لا أصلية.

وأنت إذا دخلت اليوم دار لبناني متعلم ممن كتب له السفر كثيراً، ورأيت العادات القديمة محفوظة يأخذك العجب، لأن اللبناني يحاول أن يقلد، ولطالما عولج في هذه السبيل حتى تنزع منه عاداته وتقاليده، ويلحق بالإفرنج في مناحية منازعه. ومن أبشع ضروب التقليد أنه أخذ بعد أن تعلم بعضهم في المدارس تعليماً ناقصاً أبتر يستعمل في سلامه وحديثة بعض ألفاظ إفرنجية، تساوي في ذلك البحري الجاهل والتاجر المتمول، فصارت أحاديثهم مزيجاً

ص: 297

من العربية والإفرنجية كعاداتهم وأخلاقهم. وأثبت ابن هذا الصقع أنه ما استطاع أن يتخلى عن القديم برمته، ولا

استعد لأن يقتبس الجميل من الجديد بجملته.

واللبناني أكثر من غيره من سكان هذا القطر اقتصاداً وتؤدة، ومعرفة بأساليب الحياة، وبعَد هِمم، وشدة حذر. وهو نظيف لا كابن الجبال الأخرى، وفي مسكنه وزراعته وصناعته شيء من النظام. وقد تبيت في بيت الفقير منهم في إحدى المزارع الحقيرة، ولا تستنكف من مؤاكلته، ولا تأنف من النوم في فراشه، والجلوس على مقاعده، والاتكاء إلى وسادته. فالزعامة الزمنية من قبلُ عند غير المسيحيين، والرياسة الدينية عند المسيحيين، كانتا بين اللبنانيين على أتمهما لسهولة تسلط الزعيم أو الرئيس الروحي على رعاياه، لضيق الرقعة التي يمتد عليها نفوذه. وقد استفاد ابن الجبل من هذه الزعامة ترتيباً ونظاماً على الجملة، وولد فيه حب التضامن والصدق بما يلقنه إياه الشيخ أو الكاعن، ورُبط الناس بقيود يصعب التفلت منها بعض الصعوبة وهذا أقرب إلى النفع من الفوضى تضرب أطنابها بين سكان الجبال الأخرى، وجهالة ممتدة الرواق على الكبار والصغار لا تدري متى ينقشع ظلامها. وقد اضطر السكان أن يقلد بعضهم بعضاً في باب الأخذ بأسباب الترقي والتعليم. وكان للموازنة التقدم ثم لمن يليهم من الروم والكاثوليك، ثم يأتي الدروز فالسنة فالشيعة.

فقدت عادات ليست بقليلة من الجبل ومما فقد أو كاد لباس الفلاحين وهي العمائم والسراويل والعباءات، ولا سيما من القرى التي هي مصطاف البروتين والطرابلسيين والمصريين، ولباس جمهور عظيم منهم الآ، هو اللباس الغربي، والقبعة الإفرنجية شائعة الاستعمال في النساء والرجال، ولا سيما عند من تعلموا التعليم الغربي في مدارس التبشير في بيروت وما إليها من القرى والمدن. والقبعة اليوم تهزم الطربوش والعمامة والكوفية والعقال أمامها، كما تنهزم المدنية الشرقية أمام المدنية الغربية طوعاً أو كراهاً، وربما كان لحالة لبنان السياسية مؤخراً دخل

كبير في هذا التمثل السريع. والمغلوب أبداً مولع بشعار الغالب. وكل ما قام به اللبناني من اقتباس التمدن فبل هذا العهد كان مقدمة إلى هذه النتيجة. ولولا أن الهجرة نخرت عظام اللبنانيين،

ص: 298