المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأي في الأخلاق الشامية: - خطط الشام - جـ ٦

[محمد كرد علي]

فهرس الكتاب

- ‌البيع والكنائس والأديرة

- ‌بيوت العبادة عند الأقدمين:

- ‌منشأ الأديار والبيع:

- ‌أعظم الكنائس وأقدمها:

- ‌مبدأ هدم الكنائس:

- ‌كنائس دمشق:

- ‌كنائس حلب:

- ‌الكنائس والبيع في القدس:

- ‌كنائس فلسطين:

- ‌كنائس الأردن:

- ‌كنائس لبنان:

- ‌عمل الرهبان والراهبات العظيم:

- ‌الأديار القديمة في الشام:

- ‌المساجد والجوامع

- ‌في أول الفتح:

- ‌مساجد حلب:

- ‌جوامع عمالة حلب:

- ‌مساجد الساحل وجوامعه:

- ‌جوامع المدن الداخلية:

- ‌جوامع العاصمة وضواحيها:

- ‌المدارس

- ‌نشأة المدارس

- ‌دور القرآن بدمشق:

- ‌دور الحديث بدمشق:

- ‌مدارس الشافعية بدمشق:

- ‌مدارس الحنفية بدمشق:

- ‌مدارس المالكية بدمشق:

- ‌مدارس الحنابلة بدمشق:

- ‌المدارس الحديثة:

- ‌مدارس الطب بدمشق:

- ‌مدارس حلب:

- ‌مدارس القدس:

- ‌بقية مدارس القطر:

- ‌الخوانق والربط والزوايا

- ‌خوانق دمشق:

- ‌رباطات دمشق:

- ‌زوايا دمشق:

- ‌خوانق حلب وربطها وزواياها:

- ‌ربط القدس وزواياها:

- ‌الربط والزوايا في المدن الصغرى:

- ‌مراقد العظماء وخوانق:

- ‌المستشفيات والبيمارستانات

- ‌مستشفيات دمشق:

- ‌مستشفيات حلب:

- ‌بقيه المستشفيات:

- ‌لهفة على المدارس وغيرها:

- ‌دور الآثار

- ‌المتاحف والعرب:

- ‌نشأة علم الآثار:

- ‌البعثات الأثرية الغربية:

- ‌آثارنا وآثار جيراننا:

- ‌تأسيس دور الآثار:

- ‌متحف دمشق:

- ‌متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس

- ‌وعمان:

- ‌دور الكتب

- ‌نشأة الكتب:

- ‌نشأة الخزائن والعناية بحفظها:

- ‌مصائب الكتب ودورها:

- ‌خزائن اليوم وأهم ما حوت:

- ‌الأديان والمذاهب

- ‌أديان القدماء:

- ‌اليهودية:

- ‌السامرة:

- ‌الأرثوذكسية:

- ‌الكثلكة:

- ‌المارونية:

- ‌البروتستانتية:

- ‌أصل السنة:

- ‌الشيعة:

- ‌الباطنية:

- ‌الإسماعيلية:

- ‌النصيرية أو العلوية:

- ‌الدروز:

- ‌البابية:

- ‌الأخلاق والعادات

- ‌عادات الدمشقيين:

- ‌عادات الحلبيين:

- ‌عادات لبنان وأخلاقه:

- ‌العادات في الأرجاء الأخرى:

- ‌عادات القبائل وأخلاقها:

- ‌رأي في الأخلاق الشامية:

- ‌حياة محمد كرد علي

- ‌مؤلف خطط الشام

الفصل: ‌رأي في الأخلاق الشامية:

الضيف والقاصد وحماية الضعيف والملتجئ، حتى إذا وقع أحد أفراد قبيلتهم بمثل هذا الأمر الذي يكثر حدوثه لديهم يتقاضى ما أسلفه. وقد قويت هذه المزية فيهم حتى ضرب بكرمهم المثل، وفاقوا به سائر الأمم. وإن مطاوي التاريخ العربي مستفيضة بأقاصيص كرماء العرب وكرمهم العجيب. والبدوي يعتقد أنه لا ذكر له ولا إرث أفضل من سمعة الكرم والجود. وإن هذه المزية لا تزال عند بدو الشرق العربي على ما كانت عليه في زمن أجدادهم الجاهليين فلا يحل ضيف بيت أحدهم غنياً كان أو معدماً، إلا ويسرع لتهيئة كل ما يرضيه ويسره، وإن الكثيرين منهم يضطرون إلى تحمل أعباء الدين الثقيلة لإرضاء قاصدهم. وإذا استأمنهم مستأمن على أمانة فدوا لحفظها أموالهم وأولادهم وأنفسهم، وكذلك إذا التجأ إليهم خائف، أو استجار بهم مظلوم، أو نزل عليهم موتور مطرود.

‌رأي في الأخلاق الشامية:

تمثل الأمم في العادة طبقتان من أبنائها الوسطى والعليا. والطبقة الدنيا وهي طبقة العامة مستتبعة لا متبوعة، لأن ما هي فيه من تأخر أسباب الحياة، لا يترك لها مجالا للتفكير في شئ، غير ما يقع تحت حسها مباشرة، تشتد حاجتها الطبيعية إليه. وقد تقلد الطبقة السفلى الطبقة الوسطى تقليدا خفيفا لا يكاد يشعر به، وتقليد الطبقة الوسطى الطبقة العليا أشد ظهورا من تقليد الدنيا للوسطى. وتتجلى في الطبقة العليا مظاهر السعة في العيش، والبسطة في العلم أو الحضارة، وهي أبدا

حريصة على مكانتها، تحاذر سقوط شأنها من أنظار الطبقتين التاليين، وتعد السؤود كل السؤود، ما هي فيه من جاه ومال ومجد وعلم.

يعد من الطبقة العليا العلماء والعظماء والقواد وأرباب الأموال، ممن يسيرون الجماعات إلى حياتها أو موتها، وينفثون في روعها ما يرقع مستواها العقلي، ويطهرون نفوسها من الآثام والآلام، وبأيديهم ربدة ثروة الأمة وجهودها، وإليهم منتهى ما بلغته قرائح أبنائها يمثلون التسلسل في الفكر، وتتجسم فيهم الإرادة الثابتة والعزيمة الصحيحة، وهم صورة البيوت الخالدة

ص: 316

ومنعكس التأثيرات الطريفة والتالدة، ومثال الشعب ورقيه ووجهه الوضاح الجميل، وفي قبضتهم مفاتيح المفاخر ومغاليق المآثر وهم المذكورون وهم المشهورون، ومصير غيرهم إلى الخمول والعفاء.

من أجل هذا كان على تلك الطبقة أن تتحلى بحلي الفضيلة والشرف وأن تكون عفيفة الطعمة حسنة الأحدوثة، بعيدة عن الموبقات والبذخ والسرف، بأيدي العاثرين والبائسين، وتلقن أبناء أمتها علماً ينتج الثروة ويحفظ المجد، ويولي الكرامة. وإذا جُنت بالظهور من دون استعداد له وحاولت الاحتفاظ بمكانتها دون أن تتذرع بأسباب البقاء، وبتجديد مواد حياتها الحين بعد الآخر، فإن عزها لا يلبث أن يزول، وسعادتها توشك أن تضمحل، ومن العبث أن تعيش هذه الطبقة بشهرة أجدادها من الحكام وأهل الشرف وأرباب المظاهر، وأن تعتقد أن جماع المفاخر وقف على أحسابها وأنسابها، وتطلب من كل إنسان أن يرفع مقامها لأن من أجدادها من كان على شيء من الفهم أو الظهور، أو أنه كان يسفك الدماء ويستحيل أكل أموال الناس حتى أثرى وخلف عقاراً وقرى وصامتاً وناطقاً. ورب صعلوك في نظر المتمجدين كبير في عيون الخلق. والكبير من كبرت أخلاقه، ونفع الناس وانتفع بهم.

وإذا جئنا نحاسب مثلاً بعض من انتسبوا إلى الدين، وهم أشرف الفئات في العرف نراهم أقرب الناس إلى امتهانه بأعمالهم، يأتون ما لا ينطبق على جلال منزلهم. فقد فشت المطامع فيهم واستحلوا الأموال مهما كان لونها وطعمها ورائحتها، وأتوا للاحتفاظ بمظاهرهم القديمة من الأعمال ما بدت به مقاتلهم، فقضوا بفساد ذممهم على أوضاع الأمة، وركبوا مراكب الهوى واستمرأوا لأنفسهم أكل ما اعتقدوه حلالاً طيباً فأضاعت الأمة مشخصاتها ومقوماتها، وأصبحت مزيجاً غريباً لا تعرف كيف تكيفه. وليس في المجتمع من يناقشهم الحساب، وكيف يناقشون وهم المرجع وهم الهادون. وكان المشار إليهم بالبنان من أهل هذه الطبقة في الدهر الغابر، يدلون بشممهم على الخلفاء والسلاطين، ويسيطرون بإخلاصهم على القضاء والحاكمين، ومن هانت عليه عزة نفسه يوشك أن يستهين بكل محمدة. ولقد أدركنا أحد كبار الشيوخ

ص: 317

العلم، لما شاهد هذا التسفل في طبقة العلماء يشير على طلاب العلم الديني أن يتقن كل واحد منهم صناعة حتى لا يسفّ لأحد يستجدي نواله، ولا يمسي عالة على أبواب الحكومات وأرباب السلطات، أن احتاج إلى صناعته احترف بها. وإلا كان لمناصب الدين والدنيا مخطوباً لا خاطباً.

ولي سويد بن عبد العزيز قضاء بعلبك سنة 167هـ وكان محتاجاً، فلقيه داود ابن أبي شيبان الدمشقي فقال له: يا أبا محمد وليت القضاء بعلم العلم والحديث. قال: نشدتك الله أتحت جبتك شعار؟ فقال داود: نعم. فرفع سويد جبته وقال: لكن جبتي ليس تحتها شعار. وقال: أنشدك الله هل هذا الطيلسان لك؟ قال داود: نعم. قال سويد: فوالله ما هذا الطيلسان الذي ترى علي لي، وإنه لعارية، أفلا ألي القضاء بعد هذا، فوالله لو ولوني بيت المال فإنه شر من القضاء لوليته اه هذا قول عالم في زمن كان صاحب السلطان يطلب الأكفياء إلى القضاء فيفرون منه فرار السليم من الأجرب. ومنهم من ضرب لأنه لم يقبل أن يلي القضاء، وكان محتماً عليه

قبوله لانتهاء الرياسة في العلم والعمل إليه. كان هذا في ذاك العصر الذهبي فما بالك بالعصر الأخير، والجهال يتطلبون مناصب الدين إلا في الندر، ويقدمون لتوليتها الرشي والهدايا وقل فيهم النزيه الذي يستحق أن يطلق عليه اسم العالم، أفلا تسقط بجدك هيبة هذه الطبقة من النفوس بعد هذا؟

وبينا تجد بعض القائمين على الدين من أهل السواد الأعظم لا يهتمون لغير إملاء جيوبهم وبطونهم، تشاهد بعض رجال الدين من أبناء الطوائف الصغيرة يجمعون شمل من التفوا حولهم، يقودونهم إلى محجة سعادتهم، ويؤسسون لهم دور التعليم والقربات، وينشلونهم من السقوط الذي صاروا إليه بحكم الأيام. فلا بدع إن جاء مجموع الطوائف المسيحية على قتله في الشام، أرقى من مجموع الطوائف الإسلامية على وفرة عدده وسعة ثروته. وكان من أثر الرياسة الدينية المنتفية من الإسلام أن استخدمها أهل النصرانية في المصالح المهمة، فكان لهم فيها عموم النفع. وكانت هذه الرياسة على ما فيها ناجعة في تهذيب الشعب عندهم، فأخرجوه من تيه الفوضى إلى باحة النظام. وهذا هو سر الترتيب الذي تراه ماثلاً في المجتمع النصراني وهو على

ص: 318

حصة ضئيلة في المجتمع الإسلامي ولا يؤاخذ الإسلام بانحطاط أهله وما المؤاخذ إلا من أخذوا على أنفسهم عهداً بأن يطبقوا مفاصله فأهملوا واجبهم، ولو كان الدين عاملاً من عوامل سقوط أمة ما كانت اليابان وهي تدين بالبوذية في مقدمة أمم الأرض علماً وعمراناً.

ولا مشاحة في أن من طبقة الدينيين فئة صالحة، ولكنها كانت في كل عصر تلقي الحبل على الغارب لغلبة اليأس عليها، وهناك فئة أشد تأثيراً وظهوراً وهي التي طالما قدمت وأخرت وباعت من هذه الأمة المسكينة ما شاءت وشاءت منافعها ودارت في كل دور مع مطامعها كيف دارت. إلا أن الدهر عاقب هذه الطبقة بما احتقبته من الكبائر، فضربها ضربة آذنت بانقراضها لأنها لم تجار الزمن في

نشوانه، كأن تكون مثال الفضائل تربأ بأنفسها عن الغيبة والنميمة وتتشرب أفئدتها حب الصدق والصدع بالحق وتتحامى مزالق التغرير والتضليل وتحضر وكدها في واجبها من إرشاد العامة من طريق العلم الصحيح، في زمن أشتد فيه النزاع بين القديم والحديث، أو بين الدين والإلحاد، وتجلى الانتقال في كل مظاهر الحياة. وما زالت هذه الفئة تحاول أن تسترد بالثرثرة والتبجح مجداً زائلاً، وهي في حالة المحتضر ولا تبدئ ولا تعيد. وما تحدثت أن تخرج من جهالتها، وتتطور بطور العصر، وتأخذ بحظ من العلم الديني والمدني، وتتحلى بشيء كثير من مكارم الأخلاق.

كان أحد أفراد هذه الطبقة أبلى في الدعوة الدينية بلاء حسناً، ورزق قلماً ماضياً، وعزماً مؤاتياً، واستعد للنزول والنزال في ميدان دعوته، يحمل أكثر أدواتها. وما عتم أن ترك ما هيأته الفطرة له وأكسبته إياه التجربة وطول المدة وحاول بلوغ مظهر جديد اعتقد أنه جماع المظاهر، وهو لم يتمرس بآدابه، ولا يعرف مداخله ومخارجه، وغلبه حب الشهرة فادعى ما لم يخلق له ولا تخلق به ونسي الغرض الذي يضطلع به، وراح يستغل موضع الضعف من فطرته ولا يعمل فيما يرجى فيه كماله، ترك سيرته الأولى وهام بمظهرة الثاني، زهد فيما يحسن وحاول التلبس فيما لا يحسن. وغريب من إنسان لم يقنع بمنزلة طيبة وضعته فيها بيئته وتربيته، ويجاهد جهاداً آخر في ساحة الوغى ولا سلاح معه يستخدمه، ولا آلة من أدوات الحرب يتقنها، الذكاء

ص: 319

وحده ينفع إلى حد معين، وأدوات النجاح في طريقة تحتاج إلى علم وفطرة. والعلم بالتعليم والتريض، والفطرة هبة لا تباع ولا تشترى.

أنت يا هذا إذا حفظت قواعد علم من العلوم، يتعذر عليك إن تدعي الكيمياء والطبيعة أو السياسة والاجتماع، علوم مختلفة طويلة الذيل لا ينفع معها التخليط.

القواعد المجملة التي تحفظ من كتاب في موضوع تحتاج في إتقانها إلى صرف طائفة طويلة من عمرك فلا تعطيك القريحة قياد كل أمر ولا تسير في سبيلك كل دعوى. ولذلك ترى من هذه شأنه صاعداً متدلياً، ينفي اليوم ما أثبت أمس ويحارب حيناً من سالمه زمناً يصانع أرباب القوة طوراً ثم يقلب لهم ظهر المجن تارة، إذا لم يستمرئ ما أطعموه ولم يستقبل من أمره ما استدبر في وضع الخطط التي خطها لهم، والناس كلهم في نظره صغار عقول وأرباب فضول وهو لا يرى غير نفسه استجمعت ضروب المحامد، ولذلك لا يضن عليها بما يمجدها، ويضع الألقاب الضخمة لها وينوه أبداً بما انطوى عليه من شرف وعلم وعمل، ومن رضي عنه من الناس ينيله من عطفه ما لو وزن أيضاً في ميزان القسط لشالت كفته. والعاقل من أنصف نفسه قبل أن ينصف الناس منه، ومن ظلم نفسه كان حرياً بأن يظلم غيره، ولهذا أمثال غير قليلة فيمن يلقبونهم بالبارزين والخواص أي النابهين.

نموذج آخر. بينا تجد الأول يجرع دعوته كما يجرع الصاب والعلقم ويستعلي ويستطيل ويحاول أن يثبت أنه مصدر كل خير، لو استمع الناس له لتمت سعادتهم الدنيوية والأخروية، ترى أخاه قد أتخذ في الحياة غير طريقته وخالفه في سيره وسيرته، فقد لقن في صباه مجملات يحكم فيها بالجزيئات على الكليات حكماً مسمطاً ويتلطف ويتطرف ليجد السبيل إلى قلوب العامة والسوقة لأنهم كثير سوادهم يستميلهم بالدعابة والفكاهة، وماذا يهمه من الخاصة وهم قليل عديدهم، وما يناله من غضبهم ورضاهم ما دام الجمهور عنه راضياً. وأحسن ما يراه للوصول إلى قلوب العامة أن يرضي كل صاحب سلطان، لأن في رضي القوي تنطوي المظاهر والدنيا وهو عبدها وغايته من الحياة السجود على أبواب سدنتها، لا يبالي أن يصعق

ص: 320

كل من لم يمالئوه، ويتوهم أن النقاد لا يفرقون بين الزيف

والبهرج، ولا بين الهازل الماجن والمجد المجاهد، والعلم الحقيقي يولي صاحبه عزوفاً، وإذا قرن بالتهذيب لا يحاول صاحبه درجة إذا تخطاها أدركه العثار.

عرفت عالمين دينيين أريدا على أن تفتح لهما أبواب الرزق، وتغدق عليهما المظاهر على أن يسفا إسفافاً خفيفاً يكون في السكوت عن رجل كان لهما صاحباً قديماً فحاز مظهراً كبيراً من مظاهر الدنيا حسده عليه عبيد المطامع والشهوات، وكان جوابهما كل مرة أن من لا يعمل للمصلحة العامة لا يستحق صداقتنا ليأت ما استطاع من الخير ونحن بالطبع له الأخلاء الأوفياء لا نريد منه جزاء. وهكذا قاطعاه وهو الحاكم المتحكم في الدولة، وهكذا عزفت نفسهما عن أن يرقصا للقرد في دولته ويزينا للظالم ظلمه وهو في أوج عزته. زهدا في الجاه العريض لزهد صاحبه في الفضائل وشدة هيامه بدرهمه وديناره. رجلان يأكلان اللقمة بالتسفل والرياء وآخران جاهرا بأنها تؤكل بدون هذا. وهذا مثال من أخلاق بعض المعاصرين، وعبرة للأعقاب في الغابرين.

ظهر التعطيل في الإسلام منذ قرون، بما قام به المبتدعة من أهل الطرق وسخفاء الدجالين والقصاصين، فانحطت العقول وضعف مستوى العلم والتهذيب في الناس فمن تصدى يا ترى لمحاربة هذه الضلالات التي لم ينزل بها سلطان؟ قشت أخلاق سيئة تخالف هدي الدين فتغافل الموكل إليهم هداية الخلق عن انتشار سمومها كأنهم يقرونها، وتركوا رعيتهم هملاً كالسائمة. وكانت دروس العلم مباحة مورودة إلى أوائل هذا القرن، وبتساهلهم كاد العلم الإسلامي ينقرض. وجاء كثير من مرتزقة الوعاظ والخطباء والأئمة والقضاة جهلاء يفتون بغير علم، ويخطبون بالمبتذل الساقط، ويلهون الجمهور بالقشور، ويبيعونه من سلعهم الكاسدة ما لو ائتمر العوام بأوامرهم لرجعوا ألف سنة إلى الوراء. وإذا اجتمع هؤلاء الدينيون إلى أكثر زعماء الأديان الأخرى، ظهر الفرق بين التقصير والعناية وتجلت المباينة

بين من ساروا مع الزمن، ومن عاندوا الحقائق وحاربوا العقل وجمدوا في الفكر، ومالوا إلى الكسل عن عمل. وفوق هذا تراهم يجمعون أموالهم بخرق حرمة كل

ص: 321

قانون وشريعة، وهم متخاذلون متفاشلون لا يكاد واحد منهم يزكي أخاه، ولا تجد خمسة منهم اتفقوا على مقصد واحد من مقاصد الخير. والعاقل يرجح الأمية على هذا العلم الذي لم ينتج خيراً لأهله ولا لغيرهم، والأميون لا تصدر منهم هذه الجرأة على العبث بناموس الكمال. ومن تفلتوا من حدود الشرائع على فربهم منه، كانوا أشد انتقاضاً عليها من الجاهلين والغافلين.

وتتصرف على هذه الطبقة، طبقة تلتحم بالخاصة أو العليا أيضاً، من جماعة المتعلمين على الأصول المدنية الحديثة، فقد دب في بعض هذه الطبقة سوس الفساد ولما تزل في بدء تأسيسها، وظهر لأرباب البصائر أن الدروس الطبيعية والرياضية والاجتماعية والفلسفية والحقوقية تنير العقل، ولكنها لا تحسن الأخلاق، إذا كانت منحطة من أصلها. وربما كان العلم في بعض هذه الطبقة أداء شر تستخدمه حبائل لصيد ما يسد المطامع. والأخلاق مغروسة في الدم والأسرة، والعلم صناعة يتعلمه الذكي الدائب.

وقد تلونت صبغة هذه الفئة في هذه الأرض الطيبة، بألوان أهوية الأقاليم وجوائها، بل بألوان المدارس التي تخرجت بأساتيذها، فمن تعلم منها في مدارس التبشير التي بها أهل أوروبة وأميركا على آسية وإفريقية، جاءت إلا قليلاً منحلة من ربقة حب الوطن وعهدة حب الجماعة، واستحكمت في كثير من أفرادها الأنانية والأثرة استحكاماً هون عليها كسرة قيود الحكمة والخروج على الأدب الصحيح.

وقد اشتهر بعض هذه الطائفة بمعاداة الدينيين والأعيان، والإزراء بسائر الطبقات وأكل الحسد والحقد قلوبها، فهي لا تتحاب بينها ولا تحب غيرها، ولا تعرف من محيطها أكثر مما يعرف الدخلاء. شمخت بأنوفها، واحتقرت كل من لم يجر على

مثالها، ولا تثقف تثقيفها. ومنهم من دفعه ما لقفه من تربية وحصله من تعليم ناقص، إلى خدمة الغريب، والفناء في محبته والدهشة بكل ما يأتي على يده وقبول كل ما حمله من خلق وثقافة والتغني بتاريخه ومجده والتغزل بجمال بلده والإعجاب بأوضاعه، أخذ كل ما أعطاه شاكراً مغتبطاً، فخرج بذلك عن قوميته، وكثير منهم هجر بلده، إلى مكان ينبت بزعمه العز ويدر أخلاف الرزق.

ص: 322

ومنهم من تعلموا في مدارس الدولة المنقطعة وتخلقوا بغير أخلاقهم، وانحلوا زمناً من قوميتهم فلا يفكرون ولا يتكلمون إلا بالتركية، ولا يكتبون إن كانوا ممن يحسبون الكتابة إلا بالتركية. فلما تبدلت الحالة السياسية بعد الحرب العامة دفعتهم الضرورة إلى ادعاء العربية وكانوا من قبل يعقونها وهم من أبنائها، زاعمين أنهم تبدلت أخلاقهم بمجرد الانتقال من دور إلى دور.

وليست الأخلاق بدلت تنزعها، ولا طلاء تزيله وتستبدل غيره به. ولما كان معظم من تعلموا هذه العلوم في العهد السابق من أهل الطبقات النازلة في أصولهم، كان الموروث ولهم والمائل فيهم من الأخلاق مثلاً من أخلاق أهل جرثومتهم، ولذلك هان عليهم ويهون في كل دور أن ينزلوا عن مشخصاتهم لأول طارئ. وهذه الفئة مضرة بأخلاقها أكثر من الجهال لأنها تعلمت تعليماً ممسوخاً ظنته كل شيء. ومذ فارقت المدارس التي تفاخر بأنها تحمل شهاداتها، وكثيراً ما نال شهاداتها المتوسط الغبي، ظنت أنها قبضت على قياد العلوم وودعت الكتب فصارت ترجح القهقري في معارفها الأولية وتجلت أخلاقها في كل ما عانته من الأعمال، فكانت إذا وسد إليها أمر تلتهم الأخضر واليابس، وإذا بدا لها طمع تهزأ بالفضائل إذا لم تجلب لها السعادة التي تتصورها.

رأى المجتمع من سقوط الأخلاق في بعض أهل هذه الطبقة ما تندى الجباة من تسجيله: رأى منهم من يقول ولا يخجل أنه إذا قيل لهم: إن الحالة الحاضرة

ستتبدل بعد عشرين سنة يفكر مذ الآن في أمر راتبه الذي قبضه من سلك ما كان يحلم أن يحشر في جمله أهله، ويقول أبداً: اعذروني إذا خدمت أغراض كل صاحب قوة كما يشتهي، وإذا كنت آله في كل ما يحب.

هو غني الجيب فقير النفس. جاهل يحشر نفسه في العلماء، والطبيعة تضعه حيث تريد.

ومنهم من جعل رأس ماله في مصانعه ولاة الأمر مهما كانوا والتقرب إليهم بكل حيلة، لينال مظهراً يظهر به، لاعتقاده واعتقاد كثيرين أن الشرف كل الشرف في التقرب من الحكام، وأن كل مجد جاء من غير طريقهم لا وزن له إذا نصبت الموازين، وهؤلاء المتصدرون أسوأ مثال لمن حولهم.

ص: 323

يحبون إليهم الاتكال وضعة النفوس، وكأنهم يقولون: إن سبيلهم لا غيرها في سبيل الفلاح والتمجد، وأن الفضائل لا شأن لها أمام المغانم. وأن العلم لا ينفع بغير تدليس، والطريق المسلوك عندهم طريق المداجاة والمحاباة، وإتقان المؤامرات والسعايات.

ومنهم أناس ظنوا وبالسوء ما ظنوا، أن السعادة مناط القحة، والسعادة هي المال، والمال محلل أخذه من كل وجه، فتراهم يرتكبون كل شأئن من العمل ليجمعوا مالاً ويعددوه ويستمتعوا بمتع الحياة، فهم حراص على كل ما يوصلهم إلى غايتهم، سلاط في التسور على مقامات أهل الفضل، يصمونهم بكل كبيرة وينبزونهم بالخفة والرعونة. جوزوا لأنفسهم السرقة، لأنهم لا مأرب لهم في غير الإثراء، وجمع المال جماع المزايا في نظرهم. احتقروا الشرائع عليهم بتبديل مذهبهم والتقرب إلى أهل كل دين وطريقة بدينهم وطريقتهم. ولو أنصفوا لعدوا لصوصاً عارفين باللصوصية، واللص يسرق خفية من طريق واحدة قد يكون فيها مكرهاً ليطعم نفسه وعياله، وهذا يسرق جهرة من كل طريق ويزيد على لؤم طباعة

تبجحاً بالمبادئ والشرف والأمانة، ومن الغريب أن يرى حتى من الأذكياء من يجلونه أو يغالطون أنفسهم في انحطاط أخلاقه وهم يعرفونها، ورحم الله شاعر مصر إسماعيل صبري حيث قال:

غاض ماء الحياة من كل وجه

فغدا كالح الجوانب قفرا

وتفشى العقوق في الناس حتى

كاد رد السلام يحسب برا

أوجه مثلما نثرت على الأج

داث ورداً إن هن أبدين بشرا

وشفاه يقلن أهلاً ولوأد

ين في الحشا لما قلن خيرا

ومنهم أناس ورثوا عن آبائهم استحلال آكل السحت والعبث بحقوق العباد. فلما تلقفوا القشور اللازمة لهم في المدارس التي سموها بالعليا ومرنوا على النفاق والباطل ومردوا على آداب الأديان وخرجوا عن أوضاع المجتمعات، جاءوا سراقاً يسكنون القصور، وعاشوا طول حياتهم في ذل النفوس، يجمعون بين المنازع المختلفة في وقت واحد علماً بأن إحدها لابد أن تكتب له الغلبة، فإذا نجح كان لهم حظ من نجاح أهله، وإذا أثمر الآخر لم تفهم خيراته، جعلوا

ص: 324

بيوتهم للخمر والقمر أندية ومسارح، وفطموا نفوسهم إلا عن إشباعها المال الحرام. وهم بأصحاب الملاعب أشبه منهم بالمتعلمين أصحاب المراتب، وإذا دخل الغر حانتهم وفيها كل مفعول جائز هلن عليه انتهالك الحرمات، وإذا عاشرتهم تعلم في بؤرتهم من التزوير والتغرير ما يعاب به الحيوان فضلاً عن الإنسان.

ومنهم من ورثوا التذبذب من بيوتهم وأخذوا الدس والوقيعة بالسند المتصل بآبائهم، وكان قصارهم أن يحزوا مناصب تمكنهم من المتاجرة بحقوق الناس ودمائهم، ليتأثلوا وينفقوا في السفه ما تألثوه، فهم لا يستنكفون عن التقرب من أصحاب الشأن بكل ما لديهم من الوسائط، ويبسمون لعامة أصناف الناس بل ويصانعونهم على الجملة يعرف كذب مصانعه، ومع هذا يمضون في طريقهم وهم لا يحبون

أحداً ولا يحبهم أحد. ونزع عقيدة عرفوا بها أمس، لتقلد غيرها اليوم، أسهل عليهم من نزع أحذيتهم وقمصانهم. قضوا أعمارهم في نصب الحيل والمكايد، لا يلذهم من دنياهم غيرها، وأكبر أفراحهم يوم يغشون ويسري في الناس غشهم، كأن المدرسة التي تعلموا فيها لم تعلمهم غير ذلك.

ولكن هي الفطرة إذا فسدت فكل خير يأتيها يكون عارضاً عليها، تنبذه ولا تسيغه.

ومنهم أناس عرفوا منذ قبضوا على زمام أعمالهم بسلب نعمة الضعيف ومحاولة التقرب من القوي نبذتهم الطبيعة أولاً، ثم عمي الدهر عنهم فبلغوا مأربهم من المراتب، ولم تسعهم جلودهم يوم شاهدوا العز بعد الذل، فظهروا في مظاهر من الكبرياء والعظمة، ومن أين للسافل بأصله أن يكون في فرعه عالياً. حصروا هممهم في العبث بالمصالح العامة، يفكرون بغير إملاء جيوبهم، والدهان لسادتهم مهما كانوا، وتوفير المنافع لمن يحف من حول عروشهم، وإن كانوا من أحد الطبقات معرفة وأخلاقاً. وقد رأينا من هذه الطائفة من يغير سيرته في السنة الواحدة مرتين، ويدخل في آن واحد في عدة أحزاب وجمعيات سرية وجهرية، يقسم لكل واحد منها اليمين الغموس، معاهداً طائفة على الإخلاص لطائفتها وحزبها وطريقتها دون غيرها، وهو لا يتوقع من هذه المرونة المستغربة إلا أن يكون له شأن مع كل

ص: 325

حزب إذا كتب له الظهور.

ومن هذه الفئة أُناس لا يهنأُ لهم بال إلا إذا اغتنوا، فلما انتفخت صناديقهم بالوًرَث والوَرِق، ضيقوا حتى بنيهم وبناتهم لئلا يسرفوا في أموالهم، فاضطروهم إلى ارتكاب كل شنعاء، أما هم فعادوا يدعون الفاقة، فتراهم لا ينفقون إلا ما يحفظ عليهم مظهرهم، ويوصلون إلى مراميهم، كأن الدينار جعل للخزن فقط، والسعيد من يجمعه ولو لم يستمتع بع حياته. ويخلفه لمن هم عليه أشداء الأعداء، ويصرفونه في العهر والخمر والزمر والقمر. ولو أنصف هذا الظهور له أيضاً إن

تاقت نفسه إلى الظهور.

ومنهم طائفة تصلي وتصوم، وتلزم المساجد ودروس الوعظ، وتتظاهر بالدين، وتتقرب إلى حملة الشرع وأرباب الصلاح لا تُفلت السبح من أيديها، تتظاهر بأنها تذكر اسم الله في غدوها ورواحها، وهي في باطنها من أشد الخلائق عداوة للإنسانية، تقول بألسنتها ما ليس في قلوبهم، ولو كشفت عنها الغطاء لأيقنت أنها نمن الشفقة بحيث لو شاهدت صغاراً يتضورون جوعاً ما أطعمتهم فتات موائدها، ولو بَصُرت ببائسين يرتعدون دنقاً وعرياً ما كستهم بلاس بلاط ولا زودتهم حثالة مطابخها وأهرائها، وإذا وقع لها أن أكرهت على نجدة بائس نؤوف تبجحت بما أتت، وقامت تومئ بلسان الحال إلى أنه لولاها لنهار بناء الأمة وتداعت صروح مجدها، وتوهم أساليب غريبة مضحكة.

ومنهم أناس إذا عرفتهم في العهد الماضي عرفتهم بعجمتهم التي لا غبار عليها، وهم ما كانوا يجوزون لأنفسهم التكلم بلغتهم الأصلية، فلما تبدلت السياسة تبدلوا لساعتهم، وصاروا لغير ما سبب معقول حرباً على من كانوا بالأمس يتمنون رضاهم، وأخذوا أنفسهم وأبنائهم بتعلم لغة من جاءوهم، وغيروا عاداتهم ولهجاتهم، وأنشئوا يستخدمون كل الطرق للاحتفاظ بكراسيهم، حتى إذا جلسوا عليها نسوا فضل المفضلين عليهم، وقد عاهدوا أنفسهم أن يخدموا كل صاحب قوة بالصورة التي تروقه مع

ص: 326

ذكاء فيهم وتجربة أحرزوها فهان عليهم أن يبيعوها مقابل عرض قليل ومظهر ضئيل. التجسس فيهم فطرة والإزراء بالقومية والوطنية من مألوفاتهم ما أساءوا استعمال ما ائتمنوا عليه إلا ليغتنوا بطرق عرفوها، ويغنوا أبناءهم ولو كان في ذلك هلاك مئات من الناس.

ومنهم أُناس كانوا في أخذ المال كالعلقة يمتصون الطاهر وغير الطاهر ثم يفيضون منه على القانع والمعتر، ويطعمون الطعام ويكسون الأيتام. ومنهم من

جمعوا العشرات الألوف ومئات الألوف ولا تجود أنفسهم بدانق لتعليم أطفال الفقراء وإنجاد البائسين وإكساء العراة. وإذا تصفحت جرائد الجمعيات الخيرية التي قامت في العهد الأخير لتعليم اليتامى وإغاثة المحاويج، ولا تسقط فيها إلا نادراً على أسماء بعض أرباب السعة، بمعنى أن هذه الطبقة كانت أقل الناس في معاونتها. والطبقتان الوسطى والنازلة هما اللتان جمعتا الدرهم فوق الدرهم، اقتطعتاه من رزق عيالها، لتطعما به من هم أجوع منها، وتنشل من السقطة من هم أكثر سقوطاً من بينها.

وفي هذه الديار عشرات من الأغنياء يدمجون في سلك الأعيان يعتزون بأموالهم، ويضنون بها كل الضنانة، اللهم إلا إذا كان في صرفها إرضاء شهواتهم، وتوفير أنواع رفاهيتهم. وإذا أشير إليهم أن يشاركوا في المصالح الوطنية لووا وجوههم، وهزءوا في باطنهم بهذه الأعمال التافهة، حتى إذا حلت بهم مصيبة أخذوا يستنجدون ولا ينجدون، ويطاقون ألسنتهم في رجال كانوا بالأمس يقدسونهم، وأنهّى للأمة أن تعرفهم أيام شقائهم، وهم لم يتعرفوا إليها أيام سعادتهم. وهذا وهم أنصار كل حكومة تسوغهم أكل حقوقها وحقوق الضعفاء، وتطلق أيديهم في ظلم الفلاحين والمغفلين، وتعاونهم في محاكمها على فض قضاياهم بما يتفق مع رغائبهم، وتوسد إليهم أمورها المنتجة لهم مالاً وجاهاً.

في هؤلاء الأعيان رجل كان عنده من أدوات الزينة والتبرج ما يساوي المئات من الدنانير، وربما كان ثمن ربطات رقبته المعمولة من الحرير لا يقل عن ألف جنيه، لأن عددها كان ألفي ربطة معروضة في قاعة كبيرة وكنت إذا أردته على أن يبتاع جريدة ليقرأها شكا إليك ضيق ذات يده،

ص: 327

وأظهر أن القراءة مما لا تسمح له به أوقاته الثمينة، وكان يدفن أمواله في الأرض حتى لا يظهر عليها الناس إذا وضعت في المصرف، فظهر ألوف بعد أن أصيب بنكبة اضطرته إلى نبشها.

وبلغ الشح ببعضهم أنه كان يطعم خدامه وأولاده طعاماً غير ما يطعمه نفسه وزوجه، ويدعى مع كل من يجتمع إليه أنه فقير مملق، لا طاقة له على تحمل شيء، فلما اضطر إلى الكشف عن دفائنه كانت ألوفاً عدا ما يسلفه بالربا الممقوت أضعافاً مضاعفة وعدا مزارعه وحدائقه. ومن الغريب أن يتطوع مثل هذا الرجل الذي رد إلى أرذل العمر في الجاسوسية وهو يتظاهر بالتقوى. وأكثر هؤلاء الأشحة يظهرون في العامة بمظهر المتصدقين والمحسنين، وكأن تجود نفوسهم ببعض دريهمات لبعض المستكدين على رؤوس الأشهاد، ليقال عنهم إنهم أهل خير وصلاح. وهناك رجل يكذب على قومه طول حياته الطويلة، بنسبه وعلمه وتقواه، فلم يعدم ضعاف العقول من صدقوه في دعاويه، وعاش بمداهنة الناس وبلغ من ثقة القوم به أنه إذا حانت منية أحدهم، يلوب على من يأتمنه على أولاده بعده، فلا يجد غير هذا المزوّر يقيمه وصياً على عياله لما اشتهاه من أمانته بين السذج في كل دور، فلا يلبث مال الموصي أن يمزق بيد الوصي. وهكذا كان هذا الدعي بعد نصف قرن من المشار إليهم المجمع على تكريمهم، وقد عرف أيام تنولي القضاء بتبرئة المجرم وتجريم البريء. ومن العجب أنه لم يسأله أحد من أين جاء بثروته، والعادة على الأكثر أن لا يسأل الغني عن طرق غناه بل يتمسح به ويتبرك بأنفاسه، ولو كان لا ينزل منه عن قطمير لأحد.

ظهر الكثير من العامة في حوادث وقعت بمظهر الغيراء على المصالح الوطنية، وأبانوا عن حمية وأريحية ما كان يرجى صدور مثلما من أرباب الطبقة العليا، ولا ممن اعتادوا أن يجعلوا من الأديان سلماً إلى درك شهواتهم، وقام من صفوف الأميين وأهل المتربة أُناس جعلوا هدفهم ما اعتقدوه حقاً نافعاً مخلصين في أقوالهم وأفعالهم، معتقدين الخير فيما بذلوا أنفسهم ونفائسهم في سبيله. وتجلى النبوغ في أفراد منهم بحكم قانون الرجعة، فأثبتوا في الشدائد بهذا الشرف المغيب أنهم ربما

كانوا من سلالة عظماء أكارم. وهناك أُناس ظاهرهم مهذب براق أثروا

ص: 328

امتهان النفس في أخس الأعمال مقابل عرض ينالونه أو إقبال يتخيلونه، فارتكبوا كل ما يورثهم عار الأبد، فكان ظاهرهم مجملاً، وباطنهم خبثاً وخديعة، يفادون بكل ما ليس لهم فيه مصلحة، ويداجون كل من يلقاهم بما يريد، ولعلك على حق إذا قلت إن صيغ الكلام تضيق عن وصف أفعالهم. فهم ممن حُبب إليهم من دنُياهم أذى القريب لا ينامون ملء جفونهم إلا يوم يوقعون بأصحاب الشرف والمروءات.

وما لنا والإكثار من ضرب الأمثلة بفئة هي معقد الآمال في الإصلاح وهي لم تكد تحقق رجاء إلى الآن، وليست في أخلاقها مما يرغب المرء كثيراُ في تكثير سوادها، لأن منها من تجرد من معنى الحق والصدق. ولو حللت نفوس أكثرهم تحليلاً دقيقاً لرأيتهم أعرف الناس بالمدخل والمخرج وأعراهم من أكثر الفضائل الكسبية واللدنية. ضعف عطفهم على جنسهم وهان عليهم أن يبيعوا وجداناتهم لمن يضمن لهم مظاهرهم. فهم أبداً سلاح الغريب على القريب، وهم يده الباطشة وأظافره الخادشة.

ولطالما نضب حلم أرباب الحلوم من تلاعب أُناس استناروا بقبس العلم الحديث، يتهارشون على أبواب جمعية مدنية وهم في الحقيقة لا يهمهم من دعوتها إلا أن يحموا بسلطانها سلطانهم، ويستروا في حمى كهفها معايبهم، ومن الغريب أنه لا يكاد يرقى في درجاتها إلا من عرفوا بالاسترسال في حظوظهم، وكانوا من الممقوتين في العرف والعادة، وهذا وقانون الجمعية شديد في التسامح مه أمثالهم، ولكن كل قانون ينصبغ بصبغة محيطه، وما دام المحيط على ما ترى فلا بدع إن بعد هذا أعظم قانون سماوي أو أرضي في حكم العدم.

ولا يفوتنك أن الطبقة الوسطى في ديارنا هي التي تتمثل فيها الأمة حقيقة لا مجازاً ويكثر فيها الخير ويقّل فيها الشر، وهي التي تقوم بجلب المنافع ودرء

المضار، وتعيش في خوف الديان، وتهتم لسعادة الأوطان، وهي في الغالب محدودة بعقول أبنائها، وكثير بما يتم على أيديها من الخيرات باجتماعها، وهي التي تفكر وتقدر وقد قام كثير من الأعمال النافعة بصنيعها ومن وضعها. فيهم الصبر وفيهم الأناة وفيهم الرحمة، وخسيسهم أقل من رفيعهم، هم قوة الظهر

ص: 329

في جيش الأمة بل في طليعته المتيقظة. السخاء مغروس في أكثرهم والمروءة والوفاء غريزتان يورثهما الآباء لأبنائهم، وهم يبعدون عن أرباب السلطات دأبهم التوفر على صناعتهم وزراعتهم، وقلما تحدثهم أنفسهم أن يتخذوا بديلاً عن عمل عاناه آباؤهم وأجدادهم.

الأخلاق التي تعبث بالفضائل هي التي رسخت في بعض العلية من أهله وشهد الله أن هذه الأمة لا تشكو قلة علمها بقدر ما تشكو ضعف أخلاقها، وإذا أخذت المطامع البشعة من قلوب دعاة الإصلاح وحماة الحوزة كيف يوجه اللوم على من كان دون طبقتهم؟ ومما يسوء أن كان أقرب الناس إلى إدراك معنى الفضائل أسرعهم إلى عقولها وانتهاك حرماتها. وإذا كانت في الطبقة الوسطى هناك لا تخلو منها إنسان فهي كالعوذة يتقي بها شر الحاسد، ويصان بها جمال المكرمات والمحامد، وقلما يخلو بشر من عيوب صغيرة ضررها على صاحبها وحده. أكثر ما تعاب به هذه الأمة عصيانها على الأنظمة والشرائع لا تُطبق منها إلا ما لا يمس بمصالحها الخاصة، فإذا كان في بعضها ما يخالف الشهوات والأغراض خرجت عليها وحاربتها والمهيمنين عليها. ولذلك صعبت هنا في كل قرن مهمة المصلحين في إصلاحهم لقلة الثبات وونى تاهمهم. فقد يسرع بعضهم في التصديق خصوصاً إذا أحسنت الدعاية بادئ بدء ولكنهم سرعان ما ينقضون العهد. ومن أضّر ما يضر هذا الشعب أنه قلما يخضع للزعيم خضوعاً حقيقياً تقرأُ معانيه في حركاته وسكناته ولو كان الزعيم في الغاية من حسن الأخلاق وإرادة الخير لها.

وهذه أخلاق العرب بعينها أفرطوا في حب حريتهم فحاول الصعلوك فيهم أن يكون وجيهاً فسارع الانحلال إلى دولهم بالطبيعة وظهر التخبط في إحرازهم الرياسات منذ فجر الإسلام.

وظلت هذه الأخلاق متسلسلة في دمائهم. وقد يريد الطامع في شيء أن تنقلب الدولة رأساً على عقب، وتنتقل ولو إلى عدوه، على أن يتولاها قريبه الذي لا يحبه وأن يهلك في الحمم والنيران المستعرة فريق عظيم من قومه إذا كان له من هذا الحريق ما يشوي به سمكته.

وأنت إذا حللت روح الشاميين تراهم فرادى لا يقلون كثيراً عن

ص: 330

غيرهم من الراقين، وإذا جئت تحللهم جماعات فهنالك التفسيخ في القوى والانحلال في الروابط. والشاميون إذا اجتمعوا تخالفوا عادة على الرياسة والتصدر، وتباينوا في الفكر والاجتهاد، لأن الذكاء غالب عليهم، وحب الذات مستحكم في شغاف قلوبهم، وكل واحد يريد أن ينفذ قوله ولو كان مغلطاً، وإذا لم يوافقه رفقاؤه على ما ارتأى عاداهم وربما آذاهم، كأن الاختلاف في الاجتهاد يستلزم العدواة والسخيمة. فلا تستغرب بعد هذا إن أصيبت أكثر أعمال الجماعات عندهم بالشلل والفشل ومنها ما يموت كالجنين في بطن أمه قبل أن يتمثل بشراً سوياً. وقد ينشئ غير المسلمين الجمعيات والمجامع ويحالفهم النجاح أكثر من غيرهم لأنهم على تربية متقاربة وعلى تكافل ودؤوب في الجملة. وما ندري لعل العامل في هذا النجح الضرورة التي دعا إليها تماسك الصغير أمام قوة الكبير، على حين ترى أن هذا الكبير لا يحسن على الأغلب إلا الإدلال بقوته الموهومة والإعجاب بماضيه يقف عند حده، ولا يعرف أن يبرهن على العظمة الغابرة بسداد أعماله الحاضرة.

ومن عيوب السواد الأعظم أن الهزل يغلب عليهم، والجد قليل فيهم، يحبون المداعبة والهزل واللهو، ويسوء بعض اللئام أن يروا في قربهم من يجد. يهزءون

بمن يعملون وهم لا يعملون ولا يعرفون كيف يعملون، فسبيلهم سبيل العاطل والمعطل. ومن عيوبهم أنهم لا يصدقون صاحبهم لأن سوء الظن غالب عليهم، وهذا ولو جاءهم مستنصحاً مسترشداً، لأنهم أميل إلى المصانعة لا إلى الصدع بالحق، وأقرب إلى أن يرضوا جليسهم ويسكتوا أمامه عن هفواته، وربما التمسوا له في حضرته المعاذير حتى إذا غاب عن عيونهم نحتوا أثلته وعابوه بما قد لا تلزمه تبعته. ومن أجل هذا تأصلت في القوم عادات وأخلاق كان يتأتى نزعها لو كتب لها من ينقدها وينكرها غير مدالس ولا موالس. فالنعومة الظاهرة التي تشاهد في بعض الشاميين يحتاجون معها إلى شيء من الخشونة والقسوة.

كانوا في الأيام الماضية إذا أرادوا الحط من شخص سلبوه صفاته واتهموه بالمروق من الدين وربما أوصلوه بهذه التهمة الشنعاء إلى ضرب عنقه، وهذا من بعض الأسباب في قلة النوابغ في القرون المتأخرة. واليوم

ص: 331

نشأ لهم زي جديد من أزياء التهمات يلبسونها من لا ترضيهم حاله، أضافوا إلى من يحاولون النيل منهم تهمة المروق من الوطنية كأن الوطنية ما هم فيه من الختل والتخاذل وطلب الظهور بقاصمة الظهور. ويا لشقاء الدين والوطن كم اتجر بهما متاجرون في الغابر والحاضر. ومن تدبر أحوال هذه الطائفة بأدنى نظر أدرك أن كل من يتبجحون بهذه الدعاوى هم أول من يدوس كل مقدس لبلوغ غرض حقير.

والدواء الناجع في مداواة هذه الأخلاق هو أن يكون للصغار مدارس وطنية متقنة تلقنهم العلم الصحيح والأخلاق الصحيحة والقومية الصحيحة. أما الكبار الذين اشتهروا بسوء القالة فيقاطعون ويتجهم لهم العقلاء في كل أفق، لا يدنونهم من مجالسهم مهما بلغ من سلطانهم وجاههم ومالهم. فأن من السخف التلطف مع الأشرار في المحضر، والتهامس في قبيح سيرتهم في المغيب. يجب أن يناقشوا الحساب ولا يؤمن لهم على خطاب والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً.

سيقول فريق ممن يقرءون هذه الصفحات: أنها أغرقت في وصف أخلاق الطبقات وفضحت ما كان مكنوناً لا يعرفه إلا أرباب البصيرة، ونحن في زمن أحوج ما نكون إلى السكوت عن المعايب حتى لا يبدو عوارنا لغيرنا، كأن غيرنا لا يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. وكان الأولى في عرفهم أن نجامل ونجمجم، بيد أن السكوت عن العيوب عيب كبير، وكتمان العلة مدرجة إلى الهلكة، والتاريخ لا يكتب على الهوى ولا يملئ لإرضاء الناس. وما نخال منصفاً بصيراً إلا ويعترف وهو مثلنا جد آسف أن ما أصاب هذه الديار من المصائب منذ عهد طويل لم يكن إلا بسوء أخلاق من تولوا من أبنائها أمرها، وأنه من المستحيل بعد أن صرح الحق عن محضه أن تؤلف الشام كياناً يذكر وتقوم في ساحة الحضارة البشرية بعمل يشكر، ولو أوتيت علم الجرمانيين واللاتينيين، ورزقت غنى الإنكليز السكسونيين، ما دامت أخلاق أهل الحل والعقد فيها لا تعالج بالتقويم، ولا يحاول القضاء على مواطن الضعف من نفوسهم وعقولهم. والساكت عن الحق شيطان أخرس.

فصلته لكن على عقلي فما

مقياس عقلك كان لي معروفا

ص: 332