الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياة محمد كرد علي
مؤلف خطط الشام
ترجمته بنفسه
أصل أسرتنا من السليمانية تنسب إلى الأكراد الأيوبية، جاء جدي إلى دمشق في التجارة وكان من أهل اليسار فراقته وسكن فيها. ثم ذهب في بعض السنين إلى الحجاز متجراً، واتفق له أن انتقد ذات يوم عملاً من أعمال محافظ الحج، وكان ظالماً جباراً، فشق ذلك عليه، وأمر بمصادرته في كل ما يملك، فاضطر أن يذهب إلى الآستانة مستعدياً. وما زال يعمل الوسائط حتى اجتمع بالسلطان، واقترح عليه هذا أن يصرف النظر عن دعواه على محافظ الحج، ويأخذ مقابل ماله قريتين في الشام إقطاعاً له ولأولاده من بعده، فأبى وقال للسلطان: ما جئت لآخذ صدقة بل جئت أطلب عدلاً وأنصافاً.
وهكذا رجع إلى دمشق مجرداً من ثروته وهلك قهراً بعد قليل. وخلف والدي يتيماً فقيراً فاشتغل لأول أمره في صناعة الخياطة ثم بالتجارة، فأثرى مرات وخسر مرات، وابتاع في آخر أمره مزرعة صغيرة في الغوطة تمززتها أنا واخوتي منذ صغاراً وإلى الآن.
ولدت في دمشق أواخر صفر سنة 1293هـ 1876م، من أم شركسية، ولما بلغت السادسة في العمر أخذت بتلقي القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الإسلامية والحساب والطبيعيات في مدرسة كافل سيباي الأميرية، وتلت شهادتها من الدرجة الأولى. ثم دخلت المكتب الرشدي العسكري فدرست مبادئ التركية، وكانت دروس الفرنسية ناقصة فأتاني والدي بمعلم إلى الدار أخذت عنه نحو هذه اللغة وصرفها على الأصول مدة ثلاث سنين،
وبرعت بالترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس. ولما أحرزت شهادة المدرسة الرشدية من درجة متوسطة، لأني لم
أتمكن على ما يجب من الرياضيات لإصابتي بالحسر وضعف البصر - بحيث لم أكد أتبين عن بعد ما يرسم الأستاذ من أشكالها وخطوطها في اللوحة، ففاتني التبحر فيها مع الأسف - عينت مدة ست سنين موظفاً في قلم الأمور الأجنبية، فأخذت في خلالها أتقن آداب التركية. وشرعت أنشئ فيها كما أنشئ بالفرنسية، وقد اختلفت حولين كاملين إلى مدرسة اللعازاريين للاضطلاع بآداب اللغة الفرنسية، ودرست الطبيعيات ودروس الكيمياء بهذه اللغة لأزيد تمكناً منها.
وقد اقتطعت مع ذلك جانباً من الوقت لدرس الآداب العربية والعلوم الإسلامية، وتلقيت اللغة الفارسية حتى حذقتها ثم أُنسيتها. وفي خلال تلك المدة اتصلت بالأساتذة الشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد المبارك والشيخ سليم البخاري وأخذت عنهم وعن غيرهم من مشايخ الطبقة الطبعة الثانية كل ما وسعتني قراءته، من كتب اللغة والأدب والبيان والاجتماع والتاريخ والفقه والتفسير والفلسفة. وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التأليف والنشر، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثرهم، والحرص على تراث حضاراتهم، أُستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة 1338هـ حميد الأثر، وكنت بدأت بنظم الشعر فنهاني عن تعاطيه أُستاذي المبارك، وأرادني على إتقان الإنشاد فقط، وما ينبغي له من الأدوات، لئلا يشغلني الشعر بلذته عن طلب العلم. فصعدت بأمره، كما كنت قبلت نصيحة والدي، وأنا يافع، بترك الإنشاد بصوت رخيم. لأن ذلك كان يعدّ في نظره شيئاً وضيعاً كما روى ذلك عن شيخه. وهكذا حرمني والدي الموسيقى، وحرمني شيخي الشعر. ولولا نصيحتهما لعنيت بهذين الفنين، وكانا لي سلوى وأي سلوى. ولكن أُستاذي المبارك خرجني بالغة والإنشاء. ووالدي، وكان عامياً يقرب من الأمية، أنفق عن سعة ليعلمني. فكان مدة سنين يدر الرواتب على
أساتذتي، وقد ابتاع لي خزانة كتب كانت تعد في ذلك العهد شيئاً في بلدتي.
وأهم ما أُولعت بمطالعته - بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه - كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وأصول الشعوب ومدنياتهم. وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر وفوليه وتين ورنان وسيمون ولاقيس وهانوتو وبوترو ولوبون وبرونتيروبثي دي جولفيل ولمتر وسانت بوف، وتدارست المجلات الفلسفية الاجتماعية والتاريخية والأدبية بالغة الفرنجية.
وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر، وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلما دونّت موضوعاً لم أدرسه في الجملة ولم تتسربه نفسي. وعهد إليّ سنة 1315هـ. بتحرير جريدة الشام الأسبوعية فحررتها ثلاث سنين كانت مدرستي الأولى في الصحافة. وساعدتني فيها معرفة التركية والفرنسية. ثم دعيت إلى المؤازرة في مجلة المقتطف المصرية أكبر مجلاتنا العربية. فنشرت فيها أبحاثاً جمة في التاريخ والاجتماع والأدب مدة خمس سنين فبدأت لي شهرة في عالم الأدب العربي لمنزلة هذه المجلة إذ ذاك بين أبناء اللغة العربية، وكثرة من تقع تحت أنظارهم من العلماء والأدباء والباحثين. وفي عام 1901م هبطت مصر للسياحة بقصد الذهاب إلى باريز للدرس، فعرض علّي صاحب جريدة الرائد المصري نصف الأسبوعية أن أُحرز في جريدته، فلبيت الطلب متكارهاً، إذ كانت عاقتني عن العودة إلى الشام أمور قام بها المشاغبون المتجسسة في دمشق. واتهموني تشفياً بأمور هي من المحرمات في عرف الحكومة العثمانية، ثم رجعت إلى بعد عشرة أشهر. ومن أعظم ما استفدته من رحلتي هذه الأخذ عن عالم الإسلام والإصلاح الشيخ محمد عبده وحضور مجالسه الخاصة والعامة.
وفي شتاء سنة 1323 فتشت الحكومة العثمانية داري في دمشق بحجة أنه علقت
مناشير في شوارع البلدة مكتوبة بلغة سلسة، وفيها مطاعن في أحد الأعيان والوالي، ومثل هذه العبارة وهذه الأفكار لا يحسنها ولا يعرفها غيري! فظهر للحكومة افتراء المفترين واكتفت بأن شردتني أياماً عن داري. وفي هذه الوقعة نظم صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان قصيدة ارتجالية يداعبني بها، ويصف ما حل بي مجسماً قال سامحه الله:
ألا قل لمن في الدجى لم ينمْ
…
طلاب المعالي سمير الألمْ
ومن أرّقته دواعي الهوى
…
فدون الذي أرقته الحكم
فكم في الزوايا تخبى فتىً
…
طريد الكتاب شريد القلم
يرى الأرض ضيقاً كشق اليراع
…
ويهوى على ذا الوجود العدم
وكم ذا بجسرين من ليلة
…
على مثل جمر الغضا في الضرم
تمنى الأديب بها ندحة
…
ولو بات يرعى هناك الغنم
وكم سروة تحت جنح الظلام
…
كسرًّ بصدر الأريب انكتم
يخاف بها حركات الغصون
…
ويخشى النسيم إذا ما نسم
وإن تشدُ ورقاء في أيكة
…
تؤرقه في صوتها والنغم
وكم بات للنجم يرعة إذا
…
أديم السما بالنجوم اتسم
وطال به الليل حتى غدا
…
يظن عمود الصبح انحطم
ومن ذعره خال أن النجوم
…
لتهدي إلى مسكه عن أمم
إذا ما السمك بدا رامحاً
…
توهمه نحوه قد هجم
ولولا الدجى لم يتم النجا
…
وقد أمكن الظلم لولا الظلم
ولله در القرى إذ خفته
…
فما بالسهولة يخفى العلم
فجسرين زبدين والأشعريّ
…
ديار بها قد أوى واعتصم
ونحو المليحة رام الخفا
…
وكم بالمليحة من متهم
ديار أبي أهلها غدره
…
وآواه فيها الوفا والكرم
ولا شك رقوا لأحواله
…
طريداًيعاني الجوى والسقم
ليالي كانون في الأربعين
…
وبرد العسيات أغلى الفحم
بأرض تراها سماءً وماءً
…
ففوقالسواني وتحت الديم
يجول وقد صار مثل الخيال
…
ودقّ فلو لاح لم يقتحم
فوق الخدود كلون البهار
…
وتحت المىقي كلون العتم
وفي كل يوم سؤال وبحث
…
وأنّي تولي وكيف انهزم
وقد كان في كسبهم بيته
…
بجلق قال وقيل عمم
فكانت على كتبه غارة
…
كغارات عرب الصفا بالنعم
وقالوا سينفى إلى رودس
…
وقالوا سيجزى بما قد جرم
وقالوا سيحمله أدهم
…
وقد فيل فزان من دونه=وتلك السموم وتلك الحمم
وبعض بسجن عليه قضى
…
وبعض بضرب عليه حكم
وكرد علي غدا عبرة
…
ففات ومنه الرجاء انصرم
فيا كرد لا تحزننك الخطوب
…
فإن الهموم بقدر الهمم
ومن رام أن يتعاطى البيان
…
توقًّع أن يبلى بالنفم
فذي حرفة القول حرّيفة
…
وكم أدركت من لبيب وكم
وكم نكتة أعقبت نكبة
…
وكم من كلام لقلب كلم
ومن بالكتابة أبدى هوىً
…
فإن الكآبة منها القسم
فيا كرد صبراً على محنة
…
فكم محنة شيبت من لمم
وصبراً على ورقات لها
…
عيون المعاني يُبًكذين دم
وواهباً لباقات زهر غدوت
…
لها جامعاً يا أخي من قدم
أزاهر تسهر في جمعها
…
فلا غرو إن فاح عرف فنم
وما نمَّ إلا بنشر ذكي
…
وطيب يفوق عرار الأكم
فقولوا لواش بكرد علي
…
نشرت الثنا حين حاولت ذم الخ
كان التضييق علي في الشام يزيد كما استفاضت شهرتي، والشهرة حقيقة كانت على صاحبها آفة في الدور الحميدي، فرأيت بعد طول التأمل أن المقام فيه عبثاً، فأخذت بالاستعداد للهجرة إلى مصر لأصدر مجلة المقتبس، فأصدرتها في أول سنة 1324هـ، وتوليت معها رئاسة تحرير جريدة الظاهر اليومية، وبعد سنة عينت أمير سر تحرير جريدة المؤيد. والجرائد ثلاث التي توليتها في مصر هي الرائد المصري والظاهر والمؤيد وكانت من الصحف التي تصدع بالوطنية المصرية، وتنتقد سياسة المحتلين، ولذلك كثر أصدقائي من الوطنيين لالمصريين، فعددت بهم مصر وطني الثاني، وكادوا هم يعدونني منهم. وقد آزرت في مجلة العالم الإسلامي الباريزية التي ما زالت تصدر في باريز باللغة الفرنسية إلى عهد قريب. حتى إذا حدث الانقلاب العثماني 1908م رجعت إلى دمشق وأصدرت في 17 كانون الأول
1908 جريدة المقتبس يومية سياسية، بعد أن صدر المقتبس ثلاث سنين في القاهرة مجلة شهرية علمية، وعدت إلى إصدار المجلة أيضاً.
وكان المقتبس السياسي معتدلاً بلهجته، وطنياً بمسلكه، ينتقد ما يمكنه نقده من مواطن الخلل في الإدارة العثمانية، وما رمى إلى وما رمى إلى الانفصال عن الترك قط، بل كان يرمي إلى استحصال حقوق العرب ضمن الجامعة العثمانية الكبرى، فلم يرق هذا أيضاً بعد رجال الدور الحميدي، وأخذوا يقاومون المقتبس وصاحبه، ويقيمون عليه الدعاوى المزورة، يصدرها الظالمون المرتشون من الموظفين، ممن دأبنا على الكيد لهم، والعمل على تنحيتهم، حتى جاء زمن وعلى المقتبس عشرات من الدعاوى، يطلب فيها أصحابها جزاء المفتري على الأكثر، لأنهم أبرياء بزعمهم مما نسب إليهم.
ومن أغرب دعوى الوالي الحميدي على في السنة الأولى اتهامه إياي بالارتجاح، أي أرجاء عهد عبد الحميد الاستبدادي، وهو الدور الذي بكيت من أهواله، وقد هجرت الأهل والوطن فراراً من كابوسه، ولكن أعمالي في خدمة الحرية سنين طويلة، كذبته وأشياعه من الحميديين الاتحاديين.
وقد اضطررت في هذه الدعوى إلى مغادرة الشام، فركبت البحر إلى فرنسا، وأخذوا الوالي يهدد القضاء بالعزل إذا لم يحكموا علي بالجباية، وصرفت الوقت في باريز أدرس مدنيتها وأستفيد من لقاء علمائها وساستها، ووقفت وقوفاً حسناً على حركتها العلمية والسياسية، وذلك بواسطة جماعة من أصدقائي علماء المشرقيات، عرفوني إلى الطبقة العليا التي أردت التعرف إليها في عاصمة الفرنسيس، وفي مقدمتهم فيلسوف فرنسا المرحوم إميل بوترو. وقد سألته أن يكتب لي جريدة بأمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، فتفضل وكتب لي ما أردت، فابتعته وطالعته كما مطالعة درس، ولا أزال إلى اليوم أجل تلك المجموعة المختارة سلوتي في خلوتي وجلوتي.
كتبت خمساً وثلاثين مقالة ومحاضرة في وصف سياحتي، ولا سيما في وصف عاصمة فرنسا، وطبعت هذه المقامات في كتاب سميته غرائب الغرب وما كان في الحقيقة إلى غرائب باريز ليس إلا. وبعد أن أقمت ثلاثة أشهر في كارتيه لاتين بباريز عدت إلى الآستانة عن طريق فينا
مبرأ مما نسب إلي. وفي سنة 1912 أقام نفس الوالي الحميدي دعوى على المقتبس وقبض على مديره المسؤول المرحوم أخي أحمد، وأخذ عالماً من علماء المدينة اسمه الشيخ إبراهيم الأسكوبي، وأرسلهما إلى الآستانة فسجنا مدة، وذلك بتهمة أن المقتبس نشر قصيدة لهذا العالم تمس الآل السلطاني.
والحقيقة أنها تأوهات ونصائح، وكان نشأت في جريدة من جرائد الشام قبل أن
تنتشر في المقتبس بعشرين يوماً. أما أنا فتمكنت من الفرار كالمرة الأولى، وهبطت مصر عن طريق البر مع تجار الجمال. ودخلت الإسماعيلية بعد سير أربعة عشر يوماً، قطعن فيها الشام من الوسط إلى أقصى تخومها الجنوبية. ثم برأت مما نسب إلي كالمرة الأولى، وعدت إلى دمشق بعد ستة أشهر، وعاد المقتبس إلى الصدور. إلا أن الوالي كان تمكن من إجبار أحد أخوتي على بيع مربعتن، فاباعها بثمن بخس، فأضيفت الخسارة بها إلى ما خسرناه في إغلاق صحيفتنا السياسية مرتين. ولم يعوض علينا أحد شيئاً مما خسرناه. واكتفى المقتبس إلى ذاك حين باشتراكاته وإعلاناته ومطبوعاته فقط. وقد استقبلت يوم عودتي إلى دمشق وكما يستقبل العظماء، فضحكت من تبدل الرأي العام، وبالغ بعض من استقبلوني بالحفاوة، وهم يزيدون على ألفين، كانوا يوم وقعت في الدعوة ينكرون عملي في انتقاد الحكومة، ومن قبل كانوا يصفقون ويستحسنون، وينحنون ويدعون، فلم أدر وجهاً برضاهم ولا لغضبهم، فكتبت إلى صديقي المرحوم العلامة رفيق بك العظم أقول له: إن القوم لا قوني في دمشق في هذه المرة كما يلاقون الملك. فلم أفرح لهذا الإقبال، ولا ساءني ذلك الإدبار، وعجبت لجنون من ينخدع بالجماعات الذين لا يثبتون بحال على أفكارهم.
وفي سنة 1913 زرت إيطاليا وسويسرا وفرنسا والمجر والآستانة، وكتبت 33 في وصف مدينة تلك المماليك. وكان الداعي إلى هذه الرحلة الثانية البحث عن المخطوطات التاريخية التي نقل عنها بالتصوير الشمسي صوراً، الأمير ليوني كايتاني من علماء إيطاليا وعظمائها. وقبل نشوب الحرب العامة ببضعة أشهر وقف والي دمشق المقتبس، بدعوى أنه نشر عبارة في كشف الحجاب، وهي منقولة عن الصحف التركية، والحقيقة أن المقتبس
كان توفر على كشف حجاب الاتحاديين، وأصلاهم حرباً عواناً هو وأنصاره من رجال البلاد وحملة الأقلام
فيها، فأخذوا يخلقون له هذه التهم أو يكف عنهم. ولطالما تقاضوه ذلك، وله أن يتحكم في مطالبه الخاصة ما شاء فأبى، وربما كان رده لهم غير جميل لا يخلو من بعض خشونة، ثم ورد الأمر من نظارة الداخلية بعود المقتبس إلى الصدور، فأبيت إصداره، لما الحاكمين المتحكمين في السلطنة العثمانية بلا منازع. وألح أرباب الشأن بإعادة المقتبس إلى الصدور، فكان جوابي أنني زهدت في هذه الصناعة صناعة الصحافة، ما دامت أحكامهم غاشمة ظالمة. إلا أن الحكومة بقيت تحاذرني مدة أشهر. وأقامت شرطياً أمام داري يكتب كل يوم أسماء من يدخل علي من أربابا الطبقات المختلفة، حتى إذا خرجت إلى منتزه أو زيارة أحد يتبعني الجواسيس حيث سرت. أما كتبي وجرائدي وبرقياتي فإنها كانت تراقب أشد مراقبة، بل أضحكها وأبكاها.
وبينا كان حالي كذلك أعلنت الحومة العثمانية النفير العام، وجاء الشام وال عاقل عادل اسمه خلوصي بك فنشأت بيني وبينه صداقة، ولا سيما عقب أن ظهر من تفتيش أوراق قنصل فرنسا أنني كنت دائماً إلى جانب خدمة العرب، ولم أمل إلى الخروج على الترك، ولا أسففت إلى خدمة غيرهم، مع أني أردت على ذلك مرات، وأغلوا لي الثمن والجعالة، فاحتقرت كل نفيس في سبيل خدمة المصلحة العامة، وهذا سر نجاتي من مخالف قتلة الاتحاديين الذي لم يراعوا عظيماً ولا غيره في الحرب، وصلبوا من صلبوا على أعواد المشانق بلا رحمة في مدن دمشق وبيروت وحلب.
أرادني خلوصي بك ست مرات على إصدار المقتبس وأنا أحاوله وأطاوله، لكن قنصل ألمانيا كان يلح على الحكومة المحلية بإقناعي لإصداره، لما أيقن من تأثيره في أفكار الشاميين بل في بلاد العرب، فصحت بعد حين عزيمتي على أصداره، خصوصاً بعد أن أوحى ألي خلص أصدقائي، بأن القوم يتربصون بي الشر إذا لم
أجبهم إلى إصدار المقتبس، ولم أخدم الحكومة في تلك الحالة الحرجة. وأنني إذا طلبت على إبائي يخشى أن يحاسبوني
عما اجترحته في الماضي حساباً غير يسير، وتكون حياتي في تهلكة، فاعتذرت بأن على المقتبس مبلغاً من الديون بسبب توقفه ثمانية أشهر وبيع مطبعته فقالوا إنهم يسددونها عني ففعلوا. وفي خلال ذلك جاء أحد أساطين الاتحاديين أحمد جمال باشاً قائداً للجيش الرابع، وحثي على التعجيل بإصدار المقتبس، وكان كلامه رجاءً في الصورة الظاهرة، وتهديداً في الحقيقة، فبادرت إلى امتثال الأمر فأصدرته، وبقيت سنة لا أكتب فيه إلا نادراً، ويتولى أخي سياسته، حتى تنبه جمال باشا للأمر وأرادني على كتابة مقالات افتتاحية باسمي ففعلت، وكثيراً ما كانت أفكاري ترشح اضطراراً من أفكار القائد العام مباشرة أو بالواسطة، فكانت إرادتي مسلوبة لتهديدي كل ساعة بنشر الحسابات القديمة مع الاتحاديين، وفي أواخر السنة الأولى للحرب أرسلي جمال باشا مع البعثة العلمية من علماء الشام إلى الآستانة فجناق قلعة، وأوعز إلى بإنشاء رحلة هذه البعثة، ووضع كتاب في رحلة أنور باشا، وكيل القائد العام وناظر الحربية، إلى الشام والحجاز. ففعلت مضطراً. وظهر هذان الكتابان الأول باسمي واسم ثلاثة من أرباب الصحف في الشام، والثاني باسمي فقط. وهما من كتب الدعاية السمجة في الحرب الممقوتة. وفي هذه السنة أيضاً أنشأت الدولة بإيعاز ألمانيا وترتيبها في مدينة دمشق جريدة يومية عربية أسمتها الشرق عهدت إلي برئاسة تحريرها فوليته مدة، واضطرني أحمد جمال باشا إلى رفع اسمي من جريدة المقتبس لتروج جريدة الشرق التي ظهرت إلى أواخر الحرب. وكانت جريدة ألمانية تركية بحتة يقصد بها الدعاية والتأثير في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة.
ولما بدأت جيوش الحلفاء تتقدم في جنوبي الشام غادر أحمد جمال باشا البلاد،
فأردني خلفه جمال باشا المرسيني أن أظل على ما كنت في جريدة الشرق فقلت له: لم يستعبدني أحد في حياتي غير سلفك العالي ولا أريد أن أستعبد مرة أخرى. وقصدت إلى الآستانة للتجارة فمنعي الاتحاديون هناك بإيعاز من أحمد جمال باشا، ومنعوني من معاطاة أعمال لا أعرفها في الحقيقة. وبينا كنت أفاوضهم بذلك سقطت دمشق بأيدي الحلفاء، وانقطعت الطريق بين الشام والاستانة، إلى دمشق بعد ثلاثة أشهر
من سقوطها، لأعاود إصدار المقتبس، لكن الحاكم العسكري العام وكان من أصدقائي، ألح عليّ أن أتولى رئاسة ديوان المعارف فقبلت متكارهاً، وأخذت في درس حالة المدارس لإصلاحها على ما يلائم روح الأمة العربية، وبدأت بإنشاء دار للآثار وتجهيز دار الكتب الظاهرية بجهاز حديث. ثم حصل خلاف بيني وبين الحكومة فأردت التنحي عن رئاسة ديوان المعارف، فألحت علي الحكومة بالبقاء، إن كان ولا بد فينقلب ديوان المعارف بأعضائه ورئيسه إلى مجمع علمي، وتكون علاقته مع رئيس الحكومة مباشرةً، فقبل هذا الاقتراح وشرعت في تأسيس المجمع العلمي العربي في 8 حزيران سنة 1919.
وفي آخر تشرين الثاني سنة 1919 صدر الأمر بدعوى الضيق المالي بصرف رئيس المجمع العلمي وأعضائه، إلا عضوين فقط للأشراف على داري الكتب والآثار. وكان ذلك تشفياً من بعض الأحزاب التي لم أشأ أن أسايرها على العمياء. ودمت منعزلاً في داري إلى ان عهدت إلي وزارة المعارف في 7 أيلول سنة 1920 أول دخول السلطة الفرنسية إلى المدن الربع، وهي الوزارة التي غيروا اسمها بعد مع سائر الوزارات باسممديرية عامة. وفي خلال ذلك أخذت عشرة من الطلاب للإخصاء في العلوم العالية في جامعات فرنسا. وزرتها للمرة الثالثة، كما زرت بلجيكيا وهولندا وإنكلترا وإسبانيا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا، وكتبت الرحلة الثالثة في إحدى وخمسين مقالة، وأعدت طبع غرائب الغرب وأدخلت فيه
الرحلات الثلاث، فجاء في مجلدين. وكان أحد أعوان الجنرال غورو أول مفوض سام للجمهورية الفرنسية ولبنان نشر على لساني وبدون اطلاعي في إحدى المجلات الباريزية عبارة يقصد منها مدح الانتداب الفرنسي إلى التي ليس بعدها وتقريظ غورو وأعوانه. فكذبت ما عزي إلي في الصحف. وكان أحد موظفي البعثة الفرنسية في دمشق دس أيضاً على لساني في خطبة أردت على إلقائها باللغة الفرنسية في معرض بيروت التجاري على جماعة من الفرنسيس جملاً بخصوص العهد الفيصلي لم تخطر لي في بال. فامتعضت مما وقع في المرة الأولى والمرة الثالثة، ولما لم يرق عملي من التكذيب في نظر وكيل المفوض
استقلت من المعارف، وبقيت في رئاسة المجمع، وكنت أديره أثناء وزارة المعارف وبعدها. وكان في ذلك الخير لأني حصرت وكدي في خدمة المجمع وتأسيسه على ما يجب وبقدر ما يساعد المحيط المالية. وعرضت عليّ وزارة المعارف في الحكومة المؤقتة خلال ثورة سنة 1344هـ فاعتذرت وآثرت الانقطاع إلى المجمع وإتمام كتابي خطط الشام.
وفي 15 شباط سنة 1928م أسندت إلي وزارة المعارف في حكومة صاحب الفخامة الشيخ تاج الدين الحسني وبقيت أدير شؤون المجمع العلمي إلى الآن. وفي أواسط شهر تموز سنة 1928 ندبتني دولة سورية والمجمع العلمي لتمثيلها في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة اكسفورد فرحلت إلى بلاد الإنكليز وزرت بلجيكيا وفرنسا. وقد اغتنمت فرصة وجودي في وزارة المعارف فأنشأت مدرسة العلوم الأدبية العليا جعلتها من فروع الجامعة السورية، كما هيأت جميع افتتاح أسباب كلية الإلهيات تضاف أيضاً إلى الجامعة وبذلك تمت لها أربع شعب، شعبة الطب، وشعبة الحقوق، وشعبة الآداب، وشعبة الإلهيات. وإذا انفسح الزمن للعمل ففي النية إضافة الفرع الأخير من فروع الجامعة وهو الفنون والعلوم.
كان المقتبس عقب الهدنة قد عاد إلى الصدور وظل يطرد نشره، حتى ألفت العصابات لغزو الساحل الشامي وأصبح القول الفصل لأناس من صعاليك العامة وأغرار الشباب، ممن أخذوا يهدوننا سراً وجهراً إن لم نمالئهم على رغائبهم، في هيج الأفكار ودعوتها إلى الثورة، فآثرت توقيف المقتبس على إصداره آلة للفتنة بين الناس، وإهراق دماء الأبرياء ليربح المستعبدون. على حين كنت على مثل اليقين أن الانتداب الفرنسي واقع لا محالة. وقد شق عليّ بعد أن بلوت من السياسة حلوها ومرها، وكرعت خلها وخمرها، أن آتي ما يكون وباله عليّ قبل غيري من رجال الصحافة، في أمر لا فائدة منه إلا لمن يستثمرون الثورات لمصحتهم الخاصة. وبقيت جريدتنا معطلة سنة كاملة، حتى دخل الجيش الفرنسي فعادت إلى الظهور. وظهرت جريدة المقتبس بتحرير المرحوم شقيقي أحمد كرد علي تصدر حرة في الجملة، وطنية الصفة والمنزع، فلما هلك أصبح تحريرها ألعوبة في أيدي أناس أرادوا
تسخيرها في خدمة أحزابهم، فاضطررت إلى إغلاقها في صيف سنة 1928 بعد أن خدمت البلاد عشرين سنة.
كان مذهب المقتبس السياسي معاونة الحكومة بالمعقول، وانتقادها عند الاقتضاء. وتحبيذها إذا أتت ما تحبذ عليه. ينزع أبداً إلى إنارة الأفكار، وبث الملكات الصحيحة وتقوية روح القومية العربية، وسياسته وطنية ليس فيها شيء من روح الكراهة للأجانب، ويرمي إلى فتح صدر الأمة لمعظم ما في المدينة الغربية من أسباب الرقي. ولا يتحزب المقتبس لحزب إلا إذا تجلى له غناؤه وبلاؤه في خدمة الأمة. فقد دخلت في جمعية الاتحاد والترقي قبيل الانقلاب العثماني بنحو اثنتي عشرة سنة، وخدمت ما استطعت وساعدت البيئة، ولم أجدد في الانقلاب للاتحاديين عهداً مع كثرة إلحاحهم علي. إذا رأيت وتناقضاً في الخطة، لأن مرامي الاتحاديين تجلت بأنها تقصد إلى تتريك العناصر، ومن أول مقاصدنا الدعوة إلى
القومية العربية، وإنهاض العرب من كبوتهم.
ولما عبث الاتحاديون بالمقصد الذي رسموه لأنفسهم يوم نشأتهم الجديدة، تألفنا في الشام والآستانة كتلة من العرب والترك، وألفنا حزب الحرية والائتلاف اشتغلنا به مدة، ثم رأينا من المصلحة حله فحللناه. وأقترح عليّ زمن الحومة العربية غير مرة الدخول في الأحزاب فأبيد. ولكن لما تفاقم الشر، وأصبحت دمشق عاصمة في الصورة، والمدبرون لها أغمارنا غرباء في الأكثر، صحت عزيمتنا مع جماعة من أهل الطبقة العالية مسلمين ومسيحيين وألفنا الحزب الوطني معدلاً لأمزجة الأحزاب الأخرى. فكان حاجزناً دون انبعاث ما يندر من العوم.
وفي شباط 1924 عهد إلي تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق، فرأيت تفاوتاً في عربية الطلبة، وكان منهم المقتدر الذي يصلح للكتابة والخطابة، ومنهم الضعاف في مبادئ النحو والصرف، لأن مدرستي الحقوق والطب كانتا تحاولان تكثير سواد الطلبة وتقبل منهم حتى المقصرين في الفروع المهمة، ولا سيما اللغة العربية التي يعدونها ثانوية! فاضطرت إلى إلقاء بعض دروس نحوية مختصرة على التلاميذ ريثما يستعدون لتلقي
الآداب، فحاولت تعليمهم الإنشاء والخطابة بالعمل أكثر من النظر. ولم ترق بعض الطلبة العلامات التي نالوها في الفحص العام، وكان بعض أساتذتهم يشوقونهم من طرف خفي على رفع أصواتهم بالشكوى من المدرس ليظموا درسه إلى دروسهم، ورأى رئيس الجامعة الطبيب الكحال السيد رضى سعيد الايتوني استثمار هذه الحركة لمصلحته، ومصلحته أبداً في إقصاء الأكفياء أرباب الإرادات المستقلة من تدريس الجامعة، فقام مدفوعاً أيضاً بيد رئيس الحكومة إذ ذاك السيد صبحي بركات. وكان هذا مغيظاً محنقاً من صاحب الترجمة لأن جريدة المقتبس لم تمالئه على خطبته، وصعب علي أن أترضاه، ولو بأن أذكر له على الأقل أن لا علاقة لي بالمقتبس منذ مدة طويلة،
وأنني لا أديره ولا أحرره ولا ينطق بلساني.
وكانت المؤامرة فاستكتب رئيس الجامعة عض الصحف للنيل مني، وأعطاها فيما قيل دراهم لتكتب له المطاعن على علي بما يفيد في تنحيتي. ومن الرسائل ما كتبه له بعض مستخدميه ممن كان يغطي عن سراقته في مدرسة الطب مقابل هذا التطوع في خدمة أغراضه، ومنهم طلبة مقصرون في دروسهم كافئهم على ما نشروه له من الطعن بي بأن منحهم شهادة الطب، ومعذرته أنه في حاجة إلى من يحسن من جماعته كتابة سطرين بالعربية، لأنه هو ورئيس الحكومة ابن بركات لا يحسنان كتابة سطر واحد، وإذا قرأ أو قرئ عليهما كلام عربي لا يفهمانه بحال. وهكذا جمع رئيس الجامعة بعض الطلبة المقصرين في دروسهم في دار أحد من يدهنون له من أطباء مدرسته، ولقنوهم كيف يجرئون على الشكوى من الدرس ويكتبون محضراً بهذا الطب، ومن لم يوقعه من الطلبة يهدد بما يخاف منه على مستقبله. وأخيراً تقرر إرسال بضعة من طلبة مدرسة الطب إلى درس الخطابة في دار الحقوق لينادوا بإسقاط خمسة من الأساتذة من جملتهم مدرس الآداب العربية، وخطب بحضوري أحد الطلبة، وهو أبن أحد أخصاء رئيس الحكومة خطبة لقنها، وكوفئ عليها بعد هو ووالده، فخرجت من المدرسة على أن لا أعود إليها، وتم لبعض الأساتيذ ما أرادوه، فاستأثروا بأكثر الدروس الشاغرة، ولم يعد من المخطوب فيهم إلا واحد وهو مدير المعهد السيد عبد القادر العظم الذي
أسترضى الطلبة وصانع رئيس الجامعة مع أنه أضعف الأساتذة المشتكي منهم ولا صلة له بالعلم.
أهم المطبوع منة كتبي مجلة المقتبس ثمانية مجلدات وجزآن صدر منها ثلاث سنين في مصر وخمس في الشام وهي تبحث في الاجتماع والأدب والتربية والتعليم والتاريخ ومنها رسائل البلغاء وغرائب الغرب وغابر الأندلس وحاضرها
وتاريخ الحضارة والقديم والحديث ورواية المجرم البريء وقصة الفضيلة والرذيلة. وأول ما نشرت رواية يتيمة الزمان سنة 1312هـ. وآخره خطط الشام وهو كتاب في مدينة الشام وتاريخه صرفت في تأليفه ثلاثين عاماً، وطالعت لأجله زهاء ألف ومائتي مجلد بالغات الثلاثة العربية والتركية والإفرنسية، وأنفقت في سبيل تأليفه نحو ألف وخمسمائة جنيه، ويدخل في ستة مجلدات وربما كان معجمه في أربعة. وعندي من التأليف التي لم تطبع حرية الوجدان والحرية المدنية والحرية السياسية معربة من جول سيمون الفيلسوف الفرنسي. ومنها كنوز الأجداد ومكتشفات الأحفاد وأمراء الإنشاء وأخلاق المعاصرين إلى غير ذلك من المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات والصحف وآخرها مقالاتي وانتقاداتي في مجلة المجمع العلمي العربي خلال تسع سنين.
خلقت عصبي المزاج دموية، مغرماً بالموسيقى العربية، محباً للطرب والأنس والدعابة، عاشقاً للطبيعة والساحة. وقد كان للمزرعة الصغيرة التي أورثنا إياها المرحوم والدنا في قرية جسرين ومن قرى الغوطة أثر ظاهر في تربية ملكتي. وبها استغنيت أنا واخوتي لأول أمرنا عن طرق الأبواب للتحيل أو التسفل للمعاش.
ولم أخل منذ اشتغلت بسياسة البلاد وحتى بعد أن تجردت العلم المحض، من جرائد كان من جملة أغراضها ثلبي، وكثير من كتاب الذين عرفوا بالسفاهة كانوا يرزقون الجنيهات الكثيرة على حساب النيل مني، والتطاول علي، وما زالت حتى الساعة لا أخلو من أناس يتطاولون علي حب الشهرة، ينالونها من طريق الطعن بمن اشتهروا، ولم يحدث لي أن أجبت أحد هؤلاء
الطاعنين في وقت من الأوقات. اللهم إلا إذا كان هناك تحريف لحقيقة وطنية أو قضية علمية، فأذكر الواقع بدون اسم المتحامل المخالف. وقد وقع مرة لمجلة ألبسها أصحابها ثوب الدين، أن
سجلت نحو ثلاث سنين تكتب في المقالات والقطع الصغيرة فلم أجبها، ولم أقرأ أكثر ما كتبت، حتى إذا نضبت مادتها من المال والقول، أجبتها بمقالة نشرت في كتاب القديم والحديث باسم الإصلاح وهي من المقالات التي لم تخل من حدة.
أعشق النظام والتدقيق، وأحب الحرية والصراحة، وقد أولعت بالتجدد، ومن عادتي أن اقف بمعالجته عند حد لا أتعداه إلى هدم أصل من الأصول المقدسة، وأدور من الإصلاح التدريجي العلمي في دائرة لا تتعدى الثروة في الأفكار، أجاهر في الحق، وأطعن في المنافقين وأتجهم لهم، وأجبت المرتشدين والمخربين، لذلك يكثر أعدائي من أهل هذه الطبقة. ولطالما كادوا لي وآذوني في مادياتي فلذ لي عملي تسؤني نتائجه. أخلص للصاحب وأخدمه خدمة خالصة، وأغار من مصلحته. وربما أرفعه فوق قدريه، حتى إذا بدرت منه بادرة سوء نحوي أو نحو المجتمع، ألوي وجهي عنه آخر الدهر. ولطالما آخذني بعض أصحابي على إسداء المعروف إلى من هم أول من ينكرونه، وإسراعي إلى التصديق من حولي، في زمن يكذب فيه معظم أهله، دعاني إلى الإحسان إلى أناس ليسوا أحرياء به، وألي الأخذ بأيدي فئة كان الأولى لهم أن يظلموا مغمورين، ومعظمهم كانوا لمقاصد لهم يتخيلونها أول من حملوا علي وعادوني، فكان الجواب، أني أحمل الناس على محمل الخير، فإذا ظهرت تربيتهم الحقيقية، وتبين أني كنت مغروراً بهم كان جزاؤهم الإعراض، وهل يجوز العقل أن تعض الكلب الذي يعضك، والحيوان المفترس الذي يحاول إهلاكك ولو أطعمته وسقيته.
أكره الفوضى وأتألم للظلم، وأحارب التعصب، وأمقت الرياء، وإذا حاربت لأجل المظلومين، وهاجمت طغمة المتعصبين، فإنما أحارب وأهجم بذوق وفهم على الأغلب، وأميل إلى الشدة، وقد تكون إلى الإفراط أحياناً، لتفعل البلاغة فعلها في عقول من يراد إرشادهم أو إسقاطهم. وتنقبض نفسي منذ الصغر من غشيان
المجالس والمجتمعات الغاصة بأنواع الناس، وأحرص على الوقت فلا أكاد أنفقه إلا لمنفعة عامة أو خاصة اهـ.