الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصائب الكتب ودورها:
ما برحت خزائن الكتب تزيد على الزمن بازدياد الحضارة في الإسلام وتنتقل الكتب من مصر إلى الشام، ومن الشام إلى العراق، ومن الحجاز إلى الشام مثلاً، ويعني بها العلماء والأدباء، ويتنافس في اقتنائها الملوك والأمراء، ويضعف الغرام بها يوم تضعف الحركة العلمية ويرغب عن الفضائل، ما برحت الحال على ذلك حتى دخل الروم حلب وأحرقوها سنة 351 ثم أحرقوا حمص وغيرها من المدن. ثم وقع الحريق الأعظم الذي في الجامع الأموي سنة 461 ودثر ما كان فيه من الكتب والمصاحف. وربما حرق فيه المصحف العثماني القديم. ومن أهم النكبات التي أصيبت بها الكتب نكبة طرابلس لما فتحها الصليبيون وإحراق صنجيل أحد أمرائهم كتب دار العلم فيها، وأخذ الصليبيون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها وكتب خاصة في بيوتهم. واختلفت الروايات في عدد المجلدات التي كانت في خزانة بني عمار أو دار حكمتهم في طرابلس، وعلى أصح الروايات أنها ما كانت تقل عن مائة ألف مجلد، وأوصلها بعضهم إلى ألف ألف وبعضهم إلى أكثر. وقفها الحسن بن عمار وجاء بعده علي بن محمد بن عمار الذي جدد دار العلم سنة 472 ثم عمار بن محمد حتى صارت طرابلس كما قال ابن الفرات في زمن آل عمار جميعها دار علم، وكان في تلك الدار مائة وثمانون ناسخاً ينسخون لها الكتب بالجراية والجامكية، فضلاً عما يشتري لها من كتب المنتخبة من الأقطار. وابن الفرات هو ممن يقول بأن عدد ما كان في دار العلم هذه من الكتب نحو ثلاثة ملايين كتاب عندما أحرقها الصليبيون سنة 503. والغالب أنه كان في طرابلس من الكتب الموقوفة غير دار العلم وقفت قبل بني عمار، وأراد ابن الفرات بهذه الثلاثة آلاف الألف عدد الكتب التي كانت في مكاتب طرابلس كلها.
ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أن ما كانوا يسمونه جزءاً أو مجلدا أو مجلدة لا يتجاوز بضع كراريس من كراساتنا، والكراسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف
بمعنى أن ألف المجلدة أو المجلد لا تبلغ في مصطلحنا
أكثر من خمسين كتاباً أو ستين أو سبعين كتاباً، فكان المجلد في تلك العصور قليل الأوراق، لأن الورق أو الرق غليظ فإذا جعل كل مجلد مئتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله ولا يصح ما قاله ابن الفرات من انه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها إلا على هذه الصورة، أي إن كتبها كانت بين المائتين وثلاثمائة ألف ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالة من مقالاتنا أو إملاءة من أمالينا أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامرتنا.
فالمصيبة الأولى العظمى التي أصابت الكتب في الشام كانت على عهد الصليبين والمصيبة الثانية ما حمله منها التتر في نوبة هولاكو وما أحرق في مدارس دمشق وجوامعها من أمهاتها، فقد ذكر المؤرخون أنه امتلأت خزانة الكتب بمراغة بما نهبه هذا الطاغية من الشام والعراق وغيرهما. وقدر ما حمله بأربعمائة ألف مجلد، ومنها ما حرق في فتنة غازان سنة 699 وفي وقعة تيمور سنة 803 فان النار ظلت تحرق دور دمشق ودارسها وجوامعها في الفتنة التيمورية ثلاثة أيام، فذهب في هذين الحريقين وغيرهما كتب المدرسة الضيائية والمدرسة العادلية وغيرهما من المدارس.
ومن الخزائن التي دمرت في الحروب الصليبية خزانة أسامة بن منقذ أحد أصحاب قلعة شيرز فإنها كانت أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة أرسل بها بعد أن أخذ عهداً من الصليبين من دمياط إلى عكا في بطسة فنهيت ونهب معها ثلاثون ألف دينار قال: إن ذهابها حزازة في قلبه ما عاش. ومن مصائب الكتب ما وقع من حريق في دار صاحب حماة سنة 687 ذهب فيه من الكتب مقدار عظيم.
ومنذ دخل الصليبيون الشام أخذوا على ما يظهر يقتنون الكتب العربية ولكن على صورة ضعيفة لأن العلم بها كان معدوماً عندهم، يبتاعونها على أنها عاديات قديمة غريبة الشكل، ولما لمعت في القرن السادس عشر شعلة النهضة في إيطاليا أراد البابوات اقتناء الكتب العربية، فندبوا لذلك بعض العارفين من رهاب الموارنة وحملوا إلى رومية من أديار لبنان ما كان محفوظاً فيها
من كتب الدين والعلم بالعربية والسريانية. وحمل يوسف السمعاني من لبنان سنة 1768م كتباً في ثلاثة مراكب إلى رومية ملأها بالمخطوطات العربية وغيرها فغرق منها مركبان.
ومن المصائب التي أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوربا ومنها فرنسا وجرمانيا وبريطانيا العظمى وهولندا وروسيا أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتباً تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وكان بلغ الجهل ببعض من اتسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع أن يفضلوا درهماً على أنفس كتاب فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم والتصرف به تصرفهم بملكهم. حدثني الثقة أن أحد سماسرة الكتب في القرن الماضي كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها في غير علوم الفقه والحديث، من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض، وبقي هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام حتى اجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة في خزانة الأمة في برلين هي من هذا القطر. وفهرس هذه الخزانة فقط في عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. يتألف من فهارس الكتب العربية في خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها.
وإن بعيداً يحسن القيام على هذا التراث الوافر لأحرى به من قريب يبدده جزافاً. وإن أمماً عرفتنا أكثر مما عرفنا أنفسنا حتى قال أحد علمائهم: إن العرب وضعوا من المصنفات ما لا يستطيع أحدنا أن يقرأه طول عمره، لجديرون بإرث الشرق في مادياته ومعنوياته كما قلنا في فصل في مجلة المقتطف منذ أربع وأربعين سنة. نعم أن كتباً تترك للأرضة تعيث فيها، والعفن يعبث بجمال جسمها ورسمها، وتحرم النور ويعفى أثرها الغبار والأوساخ، ويحرم النظر فيها على من يحسن الاستفادة منها، أو تفضل عليها دريهمات معدودة حرية بأن تكون في ملك من يستفيد منها ويفيد.
ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا ولم نعرف متى جمعت خزانة قبة صحن الجامع الأموي، وكانت مملوءة برقوق نفيسة فتحت سنة 1317هـ بأمر السلطان عبد الحميد الثاني إجابة لمقترح الإمبراطور غليوم الثاني الألماني فعثروا فيها قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات دينية وقصص رهبانية ومزامير عربية مكتوبة بالحرف اليوناني ومقاطع شعرية لأوميروس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية، وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامرييين وصلوات وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج وبينها مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة وقصائد شعرية يرتقي عهدها إلى أيام الصليبين ونسخ إنجيل برقوق. فأهدى السلطان بعضها لعاهل ألمانيا ووزع قسم منها على بعض رجال الآستانة ورجال دمشق واستخلصت بعض قطع منها حفظت الآن في دار الآثار في دمشق وأهمها تلك القطعة الكوفية المكتوبة على ورق شريفة وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة 298 وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها. ورأى
شيخنا طاهر الجزائري في تلك القبة جزءاً مكتوباً عليه أنه حبس على مشهد زين العابدين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأئمة سنة نيف وسبعين وأربعمائة.
وكانت في دير صيدنايا من جبل قلمون خزانة كتب حافلة بالمخطوطات النادرة ولا سيما السريانبة، فحاذر وكلاء الدير من كثرتها المشرق2 ص588 أن تكون حجة بيد السريان يتقوون بها على إثبات حقوقهم في الدير، فأجمع رأيهم على إخراجها وإتلافها تخلصاً منها، فجمعوها ومعظمها من النفائس المخطوطة على رق وبدءوا يحرقونها وقوداً للفرن خبزوا عليها خبزتين وكان هذا من نحو عشر سنين ومائة سنة. وهو عمل مثل الجهل المطبق والتعصب الممقوت. وكم وقع من حوادث إفرادية من مثل هذه فضاعت فيها الكتب ولم تبلغنا تفاصيلها. ومما أعان على تشتت الكتب أن بعض من أولعوا في العهد