المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم تشريح جثة المسلم

- ‌الموضوع الأول: بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا

- ‌الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها

- ‌تمهيد:

- ‌المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين

- ‌المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي:

- ‌المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره:

- ‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

- ‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء:

- ‌الموضوع الرابع: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم

- ‌القسامة

- ‌المراد بالقسامة في اللغة:

- ‌المراد بالقسامة عند الفقهاء:

- ‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها

- ‌اختلاف العلماء فيها:

- ‌الصورة الأولى: التدمية

- ‌الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل:

- ‌الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح، وعدل بالقتل:

- ‌الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره:

- ‌الصورة الخامسة: قتيل الصفين:

- ‌الصورة السادسة: قتيل الزحام:

- ‌الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة:

- ‌تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف:

- ‌ من يحلف من المدعين:

- ‌ من يحلف من المدعى عليهم:

- ‌هدي التمتع والقران

- ‌أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

- ‌ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌ثالثا: ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة:

- ‌رابعا: مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى:

- ‌وجهة نظرلصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع

- ‌حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد

- ‌المسألة الأولى: حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد

- ‌القول الأول: اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها:

- ‌القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها

- ‌القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس

- ‌المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر

- ‌المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها

- ‌المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال

- ‌المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة:

- ‌المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة

- ‌المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا:

- ‌المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل

- ‌المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها:

- ‌المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي:

- ‌مصادر البحث وملحقاته

- ‌الطلاق المعلق

- ‌أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار:

- ‌ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة:

- ‌ مذهب الحنفية:

- ‌ مذهب المالكية:

- ‌ مذهب الشافعية:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد المهور

- ‌أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم:

- ‌ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور:

- ‌رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور:

- ‌خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور:

- ‌سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه:

- ‌سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد النسل

- ‌ الترغيب في النكاح وبيان مقاصده:

- ‌ الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

- ‌ بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة:

- ‌ وسائل تحديد النسل وبيان مضارها:

- ‌ الحكم مع الدليل:

- ‌حكم التسعير

- ‌معنى التسعير:

- ‌المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه:

- ‌المسألة الثانية: من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس

- ‌المسألة الثالثة: في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير:

- ‌المسألة الرابعة: بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الذبائح المستوردة

- ‌أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع

- ‌ثانيا: ذكر طريقة الذبح الشرعية، وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة:

- ‌الصفة المشروعة في الذبح والنحر

- ‌فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم:

- ‌مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب:

- ‌حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية:

- ‌مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب:

- ‌مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة:

- ‌صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب

- ‌بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى:

- ‌ثالثا: ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية:

- ‌خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة:

الفصل: ‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها

واحدا أو امرأة ولو أختا لأم وتوزع على قدر الميراث؛ لأنها سبب في حصوله (1) .

د - وقال ابن حجر: وصفتها: أن يحلف أولياء الدم خمسين يمينا في المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس أن هذا قتله (2) .

هـ - وقال ابن حجر: وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم وخص القسم على الدم بلفظ القسامة (3) .

وقال الرملي: واصطلاحا: اسم لأيمانهم، وقد تطلق على الأيمان مطلقا إذ القسم اليمين (4) .

ووقال أبو محمد بن قدامة: والمراد بالقسامة هاهنا: الأيمان المكررة في دعوى القتل.

(1)[مختصر خليل والشرح الكبير] ، وعليها [حاشية الدسوقي](4 \ 260 - 261) .

(2)

[قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية] ص 377.

(3)

[فتح الباري] ، (12 \ 231) .

(4)

[نهاية المحتاج](7 \ 387) .

ص: 93

الثاني:‌

‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها

ومناقشة كل منهما:

اختلف أهل العلم في حكم القسامة:

فمنهم من عمل بها، ومنهم من لم يعمل بها.

وفيما يلي نذكر طائفة من كلام من عمل بالقسامة مع المناقشة، ثم نذكر طائفة من كلام من لم يعمل بها وأدلتهم مع المناقشة:

ص: 93

أ - قال السمرقندي: القسامة مشروعة في القتيل الذي يوجد به علامة القتل من الجراح وغيرها، ولم يعلم له قاتل بالأحاديث الصحيحة، وقضاء عمر رضي الله عنه، إجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

ب - وقال القاضي عياض: وهذه الإيمان هي أيمان القسامة، وهي أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد أحكامه، وركن من أركان مصالح العباد، أخذ به علماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. بواسطة الأبي.

وقال محمد بن رشد: أما وجوب الحكم بها على الجملة: فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الأمصار (1) .

ج - وقال الشافعي بعد ذكره لحديث محيصة وحويصة: وبهذا نقول (2) .

د - وقال البعلي: نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا

(1)[بداية المجتهد ونهاية المقتصد](2 \ 304) .

(2)

[الأم](6 \ 78) .

ص: 94

كان مثل المدعى عليه يفعل هذا (1) .

(1)[الاختيارات الفقهية] ص 295.

ص: 95

مستند القائلين بعدم العمل بالقسامة مع المناقشة:

استدلوا بالسنة والإجماع والأثر: أما السنة فدليلان: أحدهما: ما رواه مسلم في [الصحيح] بالسند المتصل إلى سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (1) » .

وفي رواية له أيضا عن ابن شهاب، وزاد - أي: عن رواية سليمان بن يسار -: «وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود (2) » .

والقسامة التي وقعت في الجاهلية أخرج البخاري صفتها في [الصحيح] بالسند المتصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؛ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؛ قال: فحذفه بعصا كان فيها أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؛ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم

(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4707) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .

(2)

صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .

ص: 95

قال: فكنت: إذا أنت شهدت الموسم فناد: يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فاسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال، ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة: أن فلانا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس:(فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف)(1) .

وقد أجاب الصنعاني عن الاستدلال بذلك فقال: هو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة، وقد عرفت أنه صلى الله عليه وسلم: لم يقض بها فيه

(1)[صحيح البخاري](4 \ 236، 237) .

ص: 96

كما قررناه (1) . . . ثم قال:

(وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة، كما قال أبو طالب: إما أن تؤدي مائة من الإبل. فإنه ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته، أو يحلف خمسون من قومك، أو تقتل، وهاهنا في قصة خيبر لم يقع شيء من ذلك، فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف، وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة، بل في استنباطه؛ لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة من قصة أهل خيبر، وليس في تلك القصة قضاء، وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا، وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه هي التي يتعين قبولها) اهـ. وقد استشعر الصنعاني إيرادا على قوله: (وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا، فأجاب عنه بقوله:

وأما قول أبي الزناد: (قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان) .

فإنه قال في [فتح الباري] : (إنما نقله أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه روى عن عشرة من الصحابة فضلا عن ألف) .

قلت: لا يخفى أن تقريره لما رواه أبو الزناد؛ لثبوت ما رواه عن خارجة

(1) سيأتي ما قرره جوابا عن الاستدلال بالدليل الثاني

ص: 97

ابن زيد الفقيه الثقة، وإنما دلس بقوله:(قتلنا) وكأنه يريد قتل معشر المسلمين وإن لم يحضرهم.

ثم لا يخفى أن غايته بعد ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة، ولا شك في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل، وإنما نزاعنا في ثبوت فعل عمر وإن اختلف عنه في القتل، وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه صلى الله عليه وسلم بها فإنه لم يثبت (1) .

ويمكن أن يجاب عن قول الصنعاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقض بالقسامة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في القسامة، ووجه كونه صلى الله عليه وسلم قضى بها أنه طلب من الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن لهم على اليهود خمسين يمينا وتبرأ اليهود من دم الأنصاري فلم يقبل الأنصار أيمان اليهود، فلم يكن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم لأولياء الدم لكون القسامة غير مشروعة، بل لإبائهم أن يحلفوا؛ لأنهم لم يشاهدوا الحدث ولم يقبلوا أيمان اليهود؛ لأنهم قوم كفار.

الثاني: قصة عبد الله بن سهل، فأخرج البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: «انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال:" كبر كبر " - وهو أحدث القوم

(1)[سبل السلام](3 \ 257) .

ص: 98

- فسكت، فتكلما فقال:" أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ ! قال: " فتبرئكم يهود بخمسين "، قالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار؛ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (1) » .

وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم " قالوا: يا رسول الله، (2) » . . . . وذكر الحديث نحوه.

وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بأمرين:

الأمر الأول: ما ذكره الصنعاني بقوله: أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الإسلام، وبيان أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا: وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد؟ لم يبين لهم أن هذا الحلف في القسامة من شأنه ذلك بأنه حكم الله فيها وشرعه، بل عدل إلى قوله:«يحلف لكم يهود (3) » فقالوا: ليسوا بمسلمين، فلم يوجب صلى الله عليه وسلم عليهم، ويبين لهم أن ليس لكم إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم، بل عدل إلى إعطاء الدية من عنده صلى الله عليه وسلم، ولو كان الحكم ثابتا لبين لهم وجهه، بل تقريره صلى الله عليه وسلم على أنه لا حلف إلا على شيء مشاهد مرئي - دليل على أنه لا حلف في القسامة، ولأنه لم يطلب اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم، فالقصة منادية بأنها لم تخرج مخرج الحكم الشرعي، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذا أقوى دليل بأنها ليست حكما شرعيا، وإنما تلطف صلى الله عليه وسلم في بيان أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا، وأقرهم صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه

(1) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

(2)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

(3)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

ص: 99

ولا حضروه، ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم. انتهى المقصود (1) .

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم عرض على الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا، ثم بين لهم أن لهم على اليهود خمسين يمينا يحلفها خمسون منهم، فبينوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقبلون أيمانهم، وهذا يدل على مشروعيتها، إذ لا يصح أن يحمل هذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم على العبث والألغاز التي لا يرشد إليها الكلام، وإنما يحمل عليها الكلام بمجرد الظنون والأوهام.

الأمر الثاني: أن هذا الدليل مضطرب، والاضطراب علة مانعة عن العمل به فيكون مردودا، ويمكن أن نبين وجوه الاضطراب والجواب عن كل وجه بعده.

الوجه الأول: الاضطراب بالزيادة والنقص وفي البدء بتوجيه الأيمان، فإن هذا الحديث ليس فيه طلب البينة أولا من المدعين، كما أنه يدل على البدء بتوجيه الأيمان إلى المدعين، وقد جاء ما يخالف ذلك: فروى البخاري في الصحيح بسنده المتصل إلى بشير بن يسار، زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة - وذكر الحديث وفيه - فقال لهم: «تأتون بالبينة على من قتله " قالوا: ما لنا بينة، قال: " فيحلفون "، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود (2) » . . . . الحديث.

وقد أجاب ابن حجر عن ذلك بقوله: وطريق الجمع أن يقال: حفظ

(1)[سبل السلام](3 \ 257) .

(2)

صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

ص: 100

أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان، فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا.

وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين، لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهدا من وجه آخر، أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:«أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول صلى الله عليه وسلم: أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته قال: يا رسول الله، أنى أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم (1) » . . . الحديث، وهذا السند صحيح حسن، وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه.

وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: «أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم " قال: لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا (2) » .

(1) سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) .

(2)

[فتح الباري](12 \ 234) .

ص: 101

الوجه الثاني: أن الحديث مضطرب لاختلاف العبارات، وقد وقع هذا في كثير من روايات الحديث لمن تأملها.

ويمكن أن يجاب عنه: بأن الرواية بالمعنى جائزة، وما دام أن اختلاف الألفاظ لا يترتب عليه اختلاف تضاد في الحكم - فلا أثر له.

الوجه الثالث: أن الحديث مضطرب؛ لوجود الاختلاف في دفع الدية، ففي رواية البخاري:«فوداه مائة من إبل الصدقة (1) » ، وفي رواية مسلم:«فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده (2) » ، وفي رواية النسائي:«فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها (3) » .

ويجاب عن هذا: أولا بما قاله ابن حجر: قوله: (من إبل الصدقة) زعم بعضهم: أنه غلط من سعيد بن عبيد؛ لتصريح يحيى بن سعيد بقوله: (من عنده) وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أو المراد بقوله: من عنده، أي: بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا؛ لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره، قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت

(1) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

(2)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

(3)

سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) .

ص: 102

أمره وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم.

قال القرطبي في [المفهم] : فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته، وجلبا للمصلحة، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، ورواية من قال:" من عنده " أصح من رواية من قال: " من إبل الصدقة ". وقد قيل: إنها غلط، والأولى: أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أوجها منها، فذكر ما تقدم وزاد: أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم، واستجلابا لليهود. انتهى (1) .

ويجاب ثانيا عن رواية النسائي بأمرين:

أحدهما: من جهة السند والثاني: من جهة الدلالة.

أما من جهة السند: فإن النسائي رحمه الله تعالى ذكر هذه الترجمة (ذكر اختلاف الناقلين لخبر سهل فيه) وساق عدة روايات، وقال بعد ذلك:(خالفهم عمرو بن شعيب أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . . وذكر الحديث، وقال في آخره: «فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها (2) » .

وقال ابن القيم: قال النسائي: لا نعلم أحدا تابع عمرو بن شعيب على

(1)[فتح الباري](12 \ 235) .

(2)

[سنن النسائي](8 \ 12) .

ص: 103

هذه الرواية.

ويمكن أن يقال: إن عمرو بن شعيب انفرد بهذه الزيادة وهو مختلف في الاحتجاج به، فتكون هذه الزيادة مردودة.

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه سبق ما ذكر عن بعض العلماء كالإمام أحمد وابن المديني وغيرهما أنهم يحتجون به.

وبناء على أنه حجة فيقال من جهة دلالته: يمكن الجمع بينه وبين ما جاء دالا على أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده، ووجه الجمع أن يقال: إن قول الراوي (فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم) أي: على اليهود، أي: على تقدير: أن يقروا بذلك، كأنه أرسل إلى يهود أن يقسم الدية عليهم ويعينهم بالنصف إن أقروا فلما لم يقروا وداه من عنده (1) .

الوجه الرابع: أن الحديث مضطرب؛ لوجود ذكر الحلف دون عدد الأيمان والحالفين في بعض الروايات، ففي رواية البخاري " أتحلفون؟ " فذكر الحلف ولم يذكر عدد الأيمان ولا عدد الحالفين، وفي رواية البخاري " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ "، ففيها بيان عدد الحالفين، وفي رواية مالك في [الموطأ]" أتحلفون خمسين يمينا؟ " ففي هذا عدد الأيمان.

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الروايات التي لم يذكر فيها عدد الأيمان وعدد الحالفين مجملة، والروايات التي جاء فيها عدد الحالفين

(1)[شرح السيوطي لسنن النسائي](8 \ 13) .

ص: 104

وعدد الأيمان مفسرة لهذا الإجمال، وذلك أن القصة واحدة فيكون المفسر مبينا للمجمل فيحدد معناه، وبهذا تجتمع الروايات وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه.

وأما الإجماع: فقد سبق ما نقل عن السمرقندي وهو قوله: وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (1) .

وقول خارجة بن زيد: فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم ليقتلوه (2) .

قال ابن حجر: وقد تمسك مالك بقول خارجة المذكور، فأجمع أن القود إجماع (3) .

وقد تقدم ما نقله أبو الزناد عن خارجة من قوله: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان، وسبقت مناقشته.

ويرد دعوى الإجماع في عهد عمر بن عبد العزيز ما نقل عنه: أنه كان لا يرى القسامة؛ ولهذا نصب أبو قلابة للناس ليعلن أبو قلابة رأيه في عدم مشروعية القسامة.

ويرد على دعوى إجماع أهل المدينة: ما ذكره ابن حجر بقوله: وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر فأخرج ابن المنذر عنه أنه كان يقول: (يا لقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه،

(1) انظر ص94 الحاشية رقم (1) .

(2)

[الفتح](12 \ 231) .

(3)

[الفتح](12 \ 232) .

ص: 105

لو كان لي من أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة) وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة، فإن سالما من أجل فقهاء المدينة (1) .

وأما الآثار: فقد وردت آثار عن الخلفاء الأربعة وغيرهم تدل على مشروعية القسامة، وبعضها لا يخلو من مقال

(1) يرجع إلى [نصب الراية](4 \ 393) وما بعدها، و [المحلى](11 \ 65) .

ص: 106

القائلون بعدم العمل بالقسامة:

قال الأبي نقلا عن القاضي عياض: وأبطل الأخذ به - أي: بهذا الركن - فلم يثبت للقسامة حكما في الشرع سالم بن عبد الله، والحكم بن عيينة، وسليمان بن يسار، وقتادة، وابن علية، ومسلم بن خالد، وأبو قلابة، والمكيون، وإليه نحا البخاري، واختلف قول مالك في الأخذ به في قتل الخطأ.

ط - والشهير عنه إثباتها فيه، وعنه: أنه لا قسامة فيه (1) .

ونسبة البخاري إلى معاوية وعمر بن عبد العزيز، وستأتي مناقشة ما نسبه إليهما.

مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة:

احتجوا بالسنة والاستصحاب والأثر.

أما السنة: فقال ابن حزم: نظرنا فيما يمكن أن يحتج به فوجدناه من

(1)[إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم](4 \ 394) .

ص: 106

طريق نا طاهر نا ابن وهب عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك (3) » .

قالوا: فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال، وبين الدعوى في الدماء والأموال، وأبطل كل ذلك، ولم يجعله إلا بالبينة واليمين على المدعى عليه، فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا، لا فيمن يحلف ولا في عدد يمين ولا في إسقاط الغرامة إلا بالبينة ولا مزيد.

وهذا كله حق، إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا، وهو أن الذي حكم بما ذكروا وهو المرسل إلينا من الله تعالى - هو الذي حكم بالقسامة، وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها، إذ كلها من عند الله تعالى وكلها حق، وفرض الوقوف عنده والعمل به، وليس بعض أحكامه علمه السلام أولى بالطاعة من بعض، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية وتحت قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) ولا فرق بين من ترك حديث «بينتك أو يمينه (5) » لحديث القسامة وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث (6) .

(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) .

(2)

صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .

(3)

صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) .

(4)

سورة البقرة الآية 85

(5)

صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) .

(6)

[المحلى](11 \ 77) .

ص: 107

ومما يوضح جواب ابن حزم رحمه الله ما قاله الخطابي رحمه الله، قال: هذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام، وللشريعة أن تخص كما لها أن تعم، ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة، كما لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول (1) .

وجاء معنى ذلك عن ابن المنذر (2) وابن حجر (3) .

وقد أورد ابن حزم: رحمه الله اعتراضا على جوابه:

وأجاب عنه فقال: فإن قالوا: الدماء حدود ولا يمين في الحدود. قيل لهم: ما هي الحدود؟ لأن الحدود ليست بموكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها، بل هي واجبة لله تعالى وحده، لا خيار فيها لأحد ولا حكم، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي؛ إن شاء استقاد، وإن شاء عفا، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس، وفسد قول من فرق بينهما وبين حقوق الناس من أموال وغيرها إلا حيث فرق الله تعالى ورسوله بين الدماء والحقوق وغيرها وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط (4) .

وقد أجاب شيخ الإسلام: بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق، فقال: وهذه الأمور - أي: أمثلة منها القسامة - من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة، وقال: فلولا القسامة في الدماء لأفضى

(1)[معالم السنن](6 \ 315) .

(2)

[الجامع لأحكام القرآن](1 \ 458) .

(3)

[فتح الباري](12 \ 197) .

(4)

[المحلى](11 \ 77) .

ص: 108

إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين (1) .

وقد أجاب ابن القيم: رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال: وأما حديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (2) » فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى. وظهور اللوث وحلف خمسين بينة بمنزلة الشهادة أو أقوى، وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين؛ ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا نكل المدعى عليه كما حكم به الصحابة؛ لقوة جانبه بنكول الخصم المدعى عليه؛ ولهذا يحكم له بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى (3) . انتهى المقصود.

وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذا الجواب في موضع آخر (4) .

وجواب ثالث عن مالك بن أنس رحمه الله قال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق: أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما

(1)[الفتاوى المصرية](4 \ 291) .

(2)

صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) .

(3)

[تهذيب سنن أبي داود](6 \ 235، 326) .

(4)

[إعلام الموقعين](2 \ 331، 332) .

ص: 109

يلتمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق - هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها فيها؛ ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك (1) .

أما الاستصحاب: فقال ابن رشد: وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها:

فمنها: أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا، أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل، بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر؛ ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه.

فقال: ما تقولون في القسامة؟

فأضب القوم وقالوا: نقول: القسامة القود بها الحق، قد أقاد بها الخلفاء.

فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ - ونصبني للناس - فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ !

قال: لا.

قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق

(1)[المنتقى شرح موطأ الإمام مالك] للإمام الباجي (7 \ 61) .

ص: 110

بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟

قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أخذت بشهادتهم؟

قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: أنهم إذا أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا، قالوا: ومنها: أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء، ومنها: أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (1) .

والجواب عن هذا الدليل من وجوه:

أحدها: بأن التعليق في عدم اعتبار القسامة بأنها من قبيل الحلف على ما لا يعلمه الحالف وهو غير مشروع قد أجيب عنه بما يلي:

أ- قال الإمام الشافعي: (واحتج - أي: القائل بهذا - بأن قال: أحلفتهم على ما لا يعلمون؟ قلت: فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم، وإقرار القاتل عندهم بلا بينة، ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير ذلك، قال: العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم، قلت: ولا علم ثالث؛ قال: لا. قلت: فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولف بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه؟ قال: على البينة، قلت: يقول لك: تظلمني؛ فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البينة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما، قال: يسأل، قلت: يقول لك: فأنت تحلفني على ما تعلم

(1)[بداية المجتهد](2 \ 427، 428) .

ص: 111

أني لا أبر فيه؟ قال: وإذا سئلت فقد وسعك أن تحلف، قلت: أفرجل قتل أبوه فغبي من ساعته فسأل أولى أن يعلم؟ قال: نعم، قال بعض من حضره: بل من قتل أبوه؟ فقلت: فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم، والعلم يمكنه واليمين على القسامة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت. اهـ.

وقال الشافعي أيضا: وإذا وجبت القسامة فلأهل القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل؛ لأنه قد يمكن أن يعلموا باعتراف القتيل أو بينة تقوم عندهم لا يقبل الحاكم منهم ومن غيرهم غير ذلك من وجوه العلم التي لا تكون شهادة بقطع، وينبغي للحاكم أن يقول: اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات ويقبل أيمانهم متى حلفوا. اهـ (1) .

ب - وقال ابن قدامة: (قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (2) » وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر، ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه، كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه، وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده - كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي أن

(1)[الأم]] (6 \ 79) .

(2)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

ص: 112

يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة الظن (1) .

ج - ويمكن أن يقال: لا يلزم أن تكون اليمين على اليقين مطلقا، وتقرير ذلك أن شريعة الإسلام تبنى أحكامها على الظاهر، لا على الباطن. وعلى الظن لا على اليقين، وهذا جار في أسانيد الأدلة ودلالاتها وبقائها، وفي الجزئيات التطبيقية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبار الآحاد ظنية الثبوت، ودلالة العموم على جميع أفراده مع احتمال مخصص، ودلالة المطلق على بعض ما يتناوله مع احتمال مقيد، ودلالة النص على مقتضاه مع احتمال ناسخ، ودلالة الظاهر على معناه مع احتمال دليل صارف له عن ظاهره إلى التأويل. هذه الأمور كلها ظنية ومع ذلك يعمل بها، ولو ترك العمل بهذا الباب فقيل: لا يعمل إلا باليقينيات لتعطل كثير من مواضع تطبيق الشريعة. وأما من الناحية التطبيقية في حياته صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قضية اللعان، فبعدما انتهى المتلاعنان قال صلى الله عليه وسلم:«الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ (2) » ثلاثا فهو صلى الله عليه وسلم قضى بمقتضى اللعان مع أن أحدهما كاذب يقينا، وهذا الاحتمال لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الحكم على الظاهر.

د - ويمكن أن يقال أيضا: إذا حلف أنه لم يقتل ولا يعلم قاتلا فهذا يقين في الظاهر من الجهتين، فإن قوله:(لم يقتله) هذا نفي لصدور القتل منه، وقوله: (ولا يعلم له قاتلا، هذا نفي لعلمه بالقاتل ومورد النفي في الصورتين مختلف، لكن كل منهما يقين في الظاهر بحسبه، وتحقق مطابقة الظاهر للباطن لا يتوقف عليه ربط الحكم الشرعي بالظاهر وإن كان مخالفا

(1)[المغني](8 \ 91 - 94) .

(2)

صحيح البخاري تفسير القرآن (4747) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3179) ، سنن أبو داود الطلاق (2256) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2067) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) .

ص: 113

للباطن.

ثانيها: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة: يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا وكذا فيحلفون، قال: فقلت له: ليس ذلك لك، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. وإنك إن تتركها أوشك الرجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه فإن للناس في القسامة حياة (1) .

ثالثها: يمكن أن يقال: إن قصة أبي قلابة أكثر ما يقال فيها: إنها أثر تابعي فهل يصح أن يكون معارضا لقول معصوم؛ كلا، فلا عبرة بقول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم.

رابعها: ويمكن أن يقال: إن قولهم: (الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء) غير صحيح؛ لأن المشرع هو الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة ومتنوعة وكل طريق منها أصل بنفسه والمشرع هو الذي جعله أصلا، فلا يصح أن تعارض هذه الأصول بعضها ببعض، بل كل أصل منها يعمل في موضعه، ومن ذلك القسامة الثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم:«يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (2) » ، وفي رواية مسلم «فيسلم إليكم» .

خامسها: قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قد سبق الجواب عنه في معرض الإجابة عن الدليل الأول من أدلة القائلين بعدم العمل بالقسامة.

(1)[المصنف](10 \ 39) .

(2)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

ص: 114

قال الممانعون من العمل بالقسامة: ومما يؤيد دليل الاستصحاب أن ما ورد من الأحاديث في الحكم بالقسامة ليس نصا في ذلك، بل هي محتملة يتطرق إليها التأويل، فلم تنهض لمقاومة الاستصحاب فوجب تأويلها لتتفق مع الأصول الأخرى.

قال ابن رشد: ومن حجتهم: أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام.

ولذلك قال لهم: «أتحلفون خمسين يمينا (1) » أعني: لولاة الدم وهم الأنصار، «قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: " فيحلف لكم اليهود " قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ (2) »

قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة.

قالوا: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (3) .

وأما الأثر فمن ذلك: ما قال البخاري في [صحيحه] : قال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية.

قال ابن حجر: وقد وصله حماد بن سلمة في [مصنفه] ، ومن طريقه ابن المنذر، قال حماد عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة، فأخبرته: أن عبد الله بن الزبير أقاد بها، وأن معاوية - يعني: ابن أبي سفيان

(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1631) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

(2)

صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4716) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

(3)

[بداية المجتهد](2 \420) .

ص: 115

- لم يقد بها، وهذا المسند صحيح.

واعترض عليه بما نسبه ابن حجر إلى ابن بطال قال: وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها، ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قلت - القائل ابن حجر -: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان، ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا.

وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بثلاثة أجوبة ذكرها بقوله: ويمكن الجمع: بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه، ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك، ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك، أو بالعكس (1) .

وقد أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة، لكن لم يصرح فيها بالقتل.

(1)[فتح الباري](12 \ 231، 232) .

ص: 116

ويمكن أن يجاب عن هذا الأثر بالأجوبة السابقة.

وقال البخاري في [صحيحه] : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وكان أمره على البصرة - في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة.

قال ابن حجر: وصله سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا حميد الطويل قال: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. . . . وذكر الأثر، وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال: وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا صحيح. وقد اعترض على هذا الأثر بقول ابن حجر: وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة، كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطال أن في [مصنف حماد بن سلمة]، عن ابن أبي مليكة: أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة (1) .

وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بقوله: ويجمع بأنه كان يرى ذلك لما كان أميرا على المدينة، ثم رجع لما ولي الخلافة، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة، حيث احتج على عدم القود بها فكأنه وافقه على ذلك (2) .

والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما رواها البخاري في [الصحيح]

(1)[فتح الباري](12 \ 231، 232) .

(2)

فتح الباري (12 \ 232) .

ص: 117

من حديث أبي قلابة الطويل وفيه: قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ - أي: في القسامة، ونصبني للناس - فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. قلت: فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام (1) .

ومما يدل على أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يرى العمل بها ثم رجع: ما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري قال: قال لي عمر بن عبد العزيز إني أريد أن أدع العمل بالقسامة، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة (2) .

هذا وقد ذكر ابن حزم رحمه الله مجموعة من الآثار الدالة على أنه لا يقاد بالقسامة ولا يحكم بها، وناقشها، وقد تركنا ذكرها اختصارا واكتفاء بما سبق من الأدلة.

(1)[فتح الباري](12 \ 230) .

(2)

[فتح الباري](12 \ 232) ، و [المحلى](11 \ 65 ـ 70) .

ص: 118

الثالث: ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيها ومنشأ ذلك مع المناقشة:

ضابط اللوث

(أ) ضابط اللوث في اللغة:

قال الفيروزآبادي: اللوث: القوة، وعصبة العمامة، والشر، واللوذ، والجراحات والمطالبات بالأحقاد، وشبه الدلالة، واللوث بالضم: الاسترخاء والضعف، والالتياث: الاختلاط والالتفاف، والإبطاء، والقوة، والتلويث: التلطيخ والخلط والمرس كاللوث (1) .

قال الرملي: لوث بمثلثة من اللوث بمعنى القوة لقوة تحويله اليمين لجانب المدعي أو الضعف، لأن الأيمان حجة ضعيفة (2) .

(ب) ضابط اللوث عند الفقهاء:

ا- قال أحمد الشلبي: وسببها وجود قتيل لا يدرى قاتله في محلة أو دار أو موضع يقرب إلى القرية بحيث يسمع الصوت منه.

2 -

وقال الأبي: واللوث: هي القرائن الظاهرة الدالة على قتل القاتل.

(1)[القاموس المحيط](1 \ 173، 174) ، وجاء ما يوافق ذلك في [لسان العرب](2 \ 185، 186) .

(2)

[نهاية المحتاج شرح المنهاج](7 \ 379) .

ص: 119