الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى:
ورد إلى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر سابقا أسئلة من شاب مسلم مقيم بالولايات المتحدة عن حكم أكل الدم وذبائح أهل الكتاب.
نصها: أنه يجد في لحوم البقر التي تقدم إليه للغذاء شيئا من الدم، فهل يحل أكلها مع ذلك؟ ثم هو لا يدري أذكر على الذبيحة اسم الله أم لا، والقوم في تلك البلاد أهل كتاب، فهل يحل أكل ذبائحهم مع ذلك؟
وقد يكون الذبح عندهم ببتر الرأس مرة واحدة بآلات حادة دون مراعاة الذبح المعروفة عندنا بمصر، فهل يحل أكل الذبيحة مع ذلك؟
(الجواب) نقصر الكلام في هذه الفتيا على ما أباح الله تعالى أكله من الحيوان البري المقدور عليه، فنقول:
1 -
تحريم الدم: قد جعل الله تعالى الذكاة شرطا لحل الأكل من هذا الحيوان ـ كالإبل والبقر والغنم والأوز والبط ونحوها ـ والذكاة الاختيارية إنما تكون بالذبح فيما يذبح من الغنم والبقر ونحوهما، وبالنحر فيما ينحر وهو الإبل، وبها يطيب اللحم ويحل لخروج الدم بها من الحيوان، وهو مادة مستقذرة بالطبع حرمها الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقال الله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وفي سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وفي سورة النحل:
(1) سورة البقرة الآية 173
(2)
سورة المائدة الآية 3
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وقال في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2)
فنفى سبحانه في هذه الآية حرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحا، والمسفوح هو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبح أو النحر ونحوه وكان العرب في الجاهلية يضعونه في أمعاء الحيوان ويشوونه ثم يأكلونه، فحرم الله أكله والانتفاع به، روي عن قتادة أنه قال: حرم الله من الدم ما كان مسفوحا، وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به، وعن عكرمة أنه قال: لولا آية الأنعام لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود، وسئلت عائشة عن الدم يكون في اللحم المذبوح؟ فقالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح، وسئلت عن الدم في أعلى القدر فلم تر به بأسا، وقرأت آية الأنعام حتى بلغت (مسفوحا) ولتخصيص التحريم بالمسفوح أحل الله دمين غير مسفوحين، وهما: الكبد والطحال، كما في الحديث المشهور، وأحل أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق؛ لأنه غير مسفوح، وقال الإمام الجصاص: لا خلاف بين الفقهاء في جوازه. ا. هـ.
وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة، فقالوا: إن الدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم، فيحمل الدم المطلق في الآيات السابقة على
(1) سورة النحل الآية 115
(2)
سورة الأنعام الآية 145
المقيد في آية الأنعام.
وذهب ابن حزم إلى أن جملة الدم محرم مسفوحا وغير مسفوح، وأن الله تعالى حرم المسفوح منه في مكة بآية الأنعام، ثم حرم بالمدينة الدم جملة بآية المائدة وهي آخر سور القرآن نزولا، ومع هذا وافق الجمهور في أن ما يبقى من الدم في الحيوان المذكى في عروقه وفي خلال لحمه ليس من الدم المحرم، وقال: إنه حلال. ا. هـ. ولولا ذلك لوجب تتبعه في العروق واللحم لاستئصاله، وفي ذلك عسر يأباه يسر الشريعة السمحة، فلا جناح في أكل اللحم المذكى مع وجود بقايا الدم فيه؛ لأن ذلك معفو عنه شرعا. والله أعلم.
2 -
التسمية على الذبيحة: وحرم الله تعالى من الذبائح في الآيات السابقة {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وهو ما ذكر عليه غير اسمه تعالى ـ وأصل الإهلال رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مهل، وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم، فذلك هو الإهلال، والمراد من الغير في الآية: الصنم والوثن وغيرهما كالعزير والمسيح والصليب والكعبة، فلا يحل شيء من الذبائح التي أهل بها لغير الله تعالى، ومنه {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (2) وهي أحجار كانت لهم منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة؛ لكونه للأصنام ونحوها، وقيل: هي الأصنام تنصب فتعبد من دون الله تعالى.
وقد روي عن عمر وابنه وعلي وعائشة كراهة ما أهل به لغير الله (والمراد حرمته) وعن النخعي والحسن والثوري مثله، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل ما سمي المسيح عليه، وقال الشافعي وأحمد: لا يحل ما ذبح لغير
(1) سورة البقرة الآية 173
(2)
سورة المائدة الآية 3
الله ولا ما ذبح للأصنام. اهـ، وقد سمى الله ذلك فسقا أي: خروجا من الحلال إلى الحرام، قال الله تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وكما حرم الله ما أهل به لغير الله حرم ما لم يذكر اسم الله عليه، وجعل ذكر اسمه تعالى وحده على الذبيحة شرطا في حل أكلها، سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا، إليه ذهب الحنفية وأحمد والثوري والحسن بن صالح؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) فنهى عن الأكل من متروك التسمية وعن تركها، وأخبر بأنه فسق، وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدا لا سهوا؛ لأن الناسي لا تلحقه سمة الفسق، كما ذكره الجصاص وغيره، وذهب داود والشعبي، وهو مروي عن مالك وأبي ثور إلى أن التسمية شرط مطلق؛ لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمد والسهو، وإليه ذهب ابن حزم في [المحلى] ، وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي أيضا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطا لحل الأكل، بل هي سنة، فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح ذلك في حل أكل ذبيحته؛ لحديث عائشة:«أن قوما قالوا يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا وكانوا حديثي عهد بكفر (3) » ، رواه البخاري والنسائي وابن ماجه، كما في [المنتقى] ؛ وذلك لأن التسمية على الأكل سنة، فلو كانت التسمية على الذبيحة فرضا لم تنب السنة عن الفرض؛ لأن السنة لا تنوب عن الفرض كما في الشوكاني.
ولعل حكمة تحريم ما أهل به لغير الله، وما لم يذكر اسم الله عليه أن الحيوان مملوك لله تعالى كسائر المخلوقات، وليس للعبد أن يتصرف في ملك سيده بغير إذنه وإباحته، وإذ قد أذن الله تعالى للإنسان أن يقتات ببعض
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2)
سورة الأنعام الآية 121
(3)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
الحيوان، أوجب عليه إذا أراد الانتفاع به على الوجه الأكمل أن يذكيه ليكون له منه قوت طيب خالص من شوائب القذر والدنس، وتلك نعمة يجب عليه أن يشكر المنعم المتفضل بها، وهو إنما يكون بتمجيد الله تعالى وذكر اسمه وحده عند الذبح، والإعلام بأنه إنما أقدم عليه بإذن الله وإباحته.
وروي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة الترخيص في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم غير الله، وإليه ذهب عطاء والشعبي والليث وفقهاء الشام: الأوزاعي ومكحول وسعيد بن عبد العزيز، وقالوا: إن التحريم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) مقصور على ذبائح عبدة الأوثان الذين يهلون عند الذبح بأوثانهم، كما كان يفعله العرب، أما أهل الكتاب فإن الله سبحانه أحل ذبائحهم بقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) والمراد: ذبائحهم، كما ذهب إليه ابن عباس وجمهور المفسرين، مع علمه تعالى بأنهم يهلون على ذبائحهم باسم المسيح وأنهم لا يزالون يقولون ذلك.
فعلى هذا القول تحل ذبيحة الكتابي، سواء سمى المسيح أو الصليب، ذبحها لعيد أو كنيسة؛ لأنه كتابي قد ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلها في كتابه. اهـ. من [العمدة] للعيني، و [أحكام القرآن] للجصاص، و [المغني] لابن قدامة، و [المحلى] لابن حزم، و [روح المعاني] للألوسي المفسر، وغيرهم.
وقد رجح مذهب الجمهور بأن حل ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة مشروط بالإهلال عليها باسم الله وحده جمعا بين الآيتين، فإذا أهل باسمه تعالى حلت ذبيحته كالمسلم سواء، وإذا أهل بغيره تعالى حرمت كالمسلم
(1) سورة البقرة الآية 173
(2)
سورة المائدة الآية 5
سواء، وإذا لم يعلم هل سمى الله وحده أو سمى الله مع غيره أو سمى غير الله فقط حلت ذبيحته، ففي الألوسي: قال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله ذلك لك. اهـ، أي: بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وفي [صحيح البخاري] عن الزهري قال: «لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وإن سمعته يسمي غير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله وعلم كفرهم» اهـ. رواه مالك في [الموطأ] مرفوعا، وعن النخعي: إذا توارى عنك فكل، وعن حماد: كل ما لم تسمعه أهل به لغير الله، وفي [البدائع] للكاساني من أئمة الحنفية: وتؤكل ذبيحة الكتابي، لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) والمراد: ذبائحهم، وإنما تؤكل ذبيحته إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء، أو سمع وشهد تسمية الله تعالى وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيء، يحمل على أنه سمى الله تعالى وجرد التسمية تحسينا للظن به كما بالمسلم، فأما إذا سمع منه أنه سمى المسيح وحده أو مع الله فإنه لا تؤكل ذبيحته؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (3) اهـ. ملخصا.
وفي [المغني] لابن قدامة: فإن لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا، فذبيحته حلال؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي، وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح. اهـ. وفي [المحلى] لابن حزم: وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله؛ لما أخرجه البخاري عن عائشة: أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة المائدة الآية 5
(3)
سورة البقرة الآية 173
والسلام: سموا الله أنتم وكلوا (1) » قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر اهـ. حيث أباح لهم أكله بدون اهتمام بالسؤال عنه، والتحقق من حصول التسمية وندبهم إلى التسمية عند الأكل إقامة للسنة، كما أشار إليه الطيبي.
وجملة القول في ذبيحة الكتابي: أنها تحل، ولو علم أنه سمى عليها غير الله فيما ذهب إليه بعض الأئمة، وتحل عند الجمهور إذا لم يسمع وهو يهل بها لغير الله، بخلاف ما إذا سمع فإنها تحرم، فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذكر اسم الله عليه أو لم يذكره حلال باتفاق، والله أعلم.
3 -
كيفية الذبح: وقد اختلفت أقوال الأئمة والفقهاء في كيفية الذبح وآلته اختلافا كثيرا.
وللإمام ابن حزم في ذلك قول حقيق بالقبول مؤيد بالدليل القوي من السنة الصحيحة.
قال: إن كمال الذبح باتفاق هو: أن يقطع الودجان (عرقان في جانبي ثغرة النحر) والحلقوم والمريء (مجرى الطعام والشراب من الحلق) فإن قطع بعض من هذه الأراب، فأسرع الموت كما يسرع في قطع كلها فأكلها حلال، فإن لم يسرع الموت فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئا، وأكله حلال سواء ذبح من الحلق أعلاه وأسفله سواء، وسواء رميت العقدة إلى فوق أو أسفل أو قطع كل ذلك من العنق، وسواء أبين الرأس أم لم يبن، كل ذلك حلال، وممن ذهب إلى حل الذبيحة إذا أبين رأسها: ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين وأنس وابن عباس وعطاء ومجاهد وطاوس والحسن والنخعي والشعبي والزهري والضحاك، وبعضهم أكل ما لم يقطع أوداجه وما ذبح من قفاه.
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
وأما آلة التذكية فهي كل شيء يقطع قطع السكين، أو ينفذ نفاذ الرمح، سواء في ذلك كله العود المحدود والحجر الحاد والقصب الحاد، وكل شيء سوى السن والظفر، وما عمل منها إلى آخر ما ذكره في [المحلى] ج 7 فالذبح بآلة حادة تقطع العنق وتفصل الرأس، ولو كان من القفا جائز شرعا عنده، والله أعلم.
وسئل سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية: الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن حكم اللحوم المستوردة من الخارج معلبة وغير معلبة والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها فلا يكاد بيت يسلم منها، هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر، نرجو بيان ذلك مفصلا ولكم الأجر؟
فأجاب حفظه الله: الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن أهل للتذكية، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي، فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم، وهو: مجرى النفس، والمريء، وهو: مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم، فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيرادها من بلاد إسلامية أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل الكتاب وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله، وإن كانت تلك اللحوم المستوردة تستورد من بلاد جرت عادتهم
أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصاعقة الكهربائية ونحو ذلك فلا شك في تحريمها، وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم فلا يباح ما ذكوه؛ لأن التذكية المبيحة لأكل ما ذكي لا بد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم.
أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم هل يذبحون بالطريقة الشرعية أو بغيرها، ولم يعلم حالة المذكين وجهل الأمر - فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح؛ تغليبا لجانب الحظر، وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر، سواء أكان في الذبائح أو الصيد، ومثله النكاح، كما قرره أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي، وغيرهم كثير مستدلين بما في [الصحيحين] وغيرهما من حديث عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل (1) » ، فالحديث يدل على أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلبا آخر أنه لا يأكله تغليبا لجانب الحظر، فقد اجتمع في هذا الصيد: مبيح وهو: إرسال الكلب المعلم إليه، وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر؛ لهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكله، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:«إذا أصبته بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل (2) » متفق عليه، وفي رواية عند الترمذي:«إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل (3) » وقال: حسن صحيح عن عدي بن حاتم.
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن أبو داود الصيد (2848) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) .
(2)
سنن الترمذي الصيد (1469) .
(3)
سنن الترمذي الصيد (1468) .
قال ابن حجر في الصيد: إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام وآخر، أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقال أيضا عند قوله (وإن وقع في الماء فلا تأكل) ؛ لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء، فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله.
قال النووي في [شرح مسلم] : إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق. اهـ، وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:«فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك (1) » فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل، انتهى ملخصا من [فتح الباري]، وقال الخطابي: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء قد أغرقه، فيكون هلاكه من الماء لا من قبل الكلب الذي هو آلة الذكاة.
وكذلك إذا وجد فيه أثرا لغير سهمه، والأصل: أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي: اهـ.
مما تقدم: يتضح تحريم اللحوم المستوردة من الخارج على الصفة التي سبق بيانها؛ وأن مقتضى قواعد الشرع يدل على تحريمها، كما في حديث عدي وغيره في اشتراك الكلب المعلم مع غيره، وفيما رماه الصائد بسهمه فوق في الماء لاحتمال أن الماء قتله، وفيما رواه الترمذي وصححه:«إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع (2) » أنه لا يأكله، فإنك ترى من هذا أنه إذا تردد الأمر بين شيئين مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر، وليس في
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1469) .
(2)
سنن الترمذي الصيد (1468) .
حديث عائشة في [الصحيحين] وغيرهما: «أن قوما حديثي عهد بإسلام يأتوننا باللحوم فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا الله أنتم وكلوا (1) » ؛ لأن الحديث في قوم مسلمين إلا أنهم حديثو عهد بكفر بخلاف تلك اللحوم المستوردة من الخارج فإن الذابح لها ليس بمسلم ولا كتابي، بل مجهول الحال.
كما بينا فيما تقدم من أهل البلد إذا كانت حالتهم أو معظمهم يذبحون بالطريقة الشرعية وهم مسلمون أو أهل كتاب فيباح لنا ما ذبحوه وإن كانوا يذبحون بغير الطريقة الشرعية، بل بخنق أو بضرب رأس أو بصاعقة كهربائية فهو محرم، وإن جهل أمرهم ولم تعلم حالتهم بما يذبحونه فلا يحل ما ذبحوه تغليبا لجانب الحظر، ولا عبرة بما عليه أكثر الناس اليوم من أكلهم لتلك اللحوم من غير مبالاة بتذكيتها من عدمها، والله المستعان.
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
ولفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى تحت عنوان:
حكم ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الكفار
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم. . سلمه الله وتولاه آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد.
فقد وصلني كتابكم المؤرخ 5 / 3 / 1386 هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه السؤال عن حكم اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية
وما يعانيه موظفو السفارات الإسلامية والطلبة المسلمون من المشقة في هذا الباب (وما تضمنه من السؤال) كان معلوما.
والجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار:
فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها، إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب، وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب، وهذا قول ضعيف جدا، بل باطل.
والصواب: ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين، لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم من سورة المائدة:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبائحهم، كما قال ابن عباس وغيره من أهل العلم، ومفهوم الآية: أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا، وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس.
إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم
(1) سورة المائدة الآية 5
أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها، أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، «إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا عليه أنتم وكلوا (1) » رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، وبذلك يعلم أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة؛ لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان، لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل أكل لحم الدجاج ونحوه - فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة، ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين، فينبغي التنبه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له.
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي قد عمت بها البلوى.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يعمر قلوبهم بخشيته وتعظيم حرماته، والحذر مما يخالف شرعه، إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولفضيلته فتوى أخرى في الموضوع نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم. . . زاده الله من العلم النافع والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . أما بعد:
فقد وصلني كتابكم في 5 / 11 / 1387 هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال كان معلوما.
وقد تضمن خطابكم المذكور السؤال عن مسألتين:
إحداهما: عما يتعلق بذبح الغنم والدجاج ونحوهما في المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية، وقد ذكرتم: أنها درجت في ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة.
والثانية: عن حكم شحم الخنزير، وذكرتم أنه بلغكم عن بعض علماء العصر حل ذلك.
والجواب عن المسألة الأولى: أن يقال: قد دل كتاب الله العزيز وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه:
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية، هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب، والمراد من ذلك: ذبائحهم، وهم بذلك ليسوا أعلى من المسلمين، بل هم في هذا الباب كالمسلمين فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت، كما لو فعل ذلك المسلم لقول الله عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (2) الآية.
فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة أو الموقوذة أو المتردية أو النطيحة فهو ذبح يحرم البهيمة ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة، وهذه الآية يخص بها عموم سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه الذبح على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة.
أما قولكم: إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف؛ لأنكم لم توضحوا معناها، فأجابنا المسئول: بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي.
وأما القصف فهو قطع الرقبة مرة واحدة، فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة؛ لكونها لم تذبح الذبح الشرعي
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة المائدة الآية 3
(3)
سورة المائدة الآية 5
الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء، وإسالة الدم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر (1) » .
وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة؛ لأنه مشتمل على الذبح الشرعي، وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين، وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه، أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا، فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك، وفق الله الجميع لإصابة الحق.
المسألة الثانية: وهي الخنزير، فالجواب عن ذلك أن الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم: هو تحريم شحمه تبعا للحمه، وحكاه الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم، ولأن الشحم تابع للحم عند الإطلاق، فيعمه النهي والتحريم، ولأنه متصل به اتصال خلقة فيحصل به الضرر ما يحصل بملاصقه وهو اللحم، ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه، والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه، ولم يخالف في هذا أحد فيما نعلم، ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس، فهو خلاف شاذ، مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله، فلا يلتفت إليه، ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن جابر رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم عليكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (2) » الحديث، فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة لم يستثن شحمه، بل أطلق تحريم بيعه، كما أطلق تحريم الخمر
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) .
(2)
صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .
والميتة، وذلك نص ظاهر في تحريمه كله، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد كتبنا جوابا في حكمة تحريم الخنزير نرسل لكم نسخة منه مع نسختين من كتابين آخرين في الموضوع للاطلاع عليها.
والله المسئول أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والنصح له ولعباده والدعوة إليه على بصيرة، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جاء إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء الآتي:
س: ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج، هل يجوز الأكل منه أو لا؟
ج: فأجابت عنه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما نصه في الفتوى رقم (1216) وتاريخ 20 / 1396 هـ:
إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي، ككفار روسيا وبلغاريا وما شابههم في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص، وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى؛ فإن كانت تذكيته إياها بذبح في رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا؛ لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره، ففي جواز أكلها خلاف.
وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة،
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة الأنعام الآية 121
ولو قطع رقبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله في قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (1) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة أما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق، وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أو عند أكله، أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سموا الله وكلوا (3) » فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا لكنهم حديثو عهد بجاهلية ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
س: وجاء أيضا في استفسار آخر مضمونه: أن جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير اسم الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله إذا ذكروا عليها اسم الله، مستدلين بعموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (4) الآية، وقوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (5) ويرون من يحرم ذلك من المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير علم، ويقولون: إن الله
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة المائدة الآية 3
(3)
صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
(4)
سورة الأنعام الآية 118
(5)
سورة الأنعام الآية 119
فصل لنا ما حرم علينا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) الآية، وقوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) الآية
…
إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه، ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا، ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا اسم الله، فهل قولهم هذا صحيح؟ وما نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين؟ وما هو الحق في ذلك مع الدليل؟
ج: وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالفتوى رقم (1423) وتاريخ 28 / 12 1396 هـ بما يلي:
يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين، فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه وذكر اسم الله على ذبيحته أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا فذبيحته حلال بإجماع المسلمين، ولعموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (3){وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) الآية.
وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بالإجماع، ولقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) وإن
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة النحل الآية 115
(3)
سورة الأنعام الآية 118
(4)
سورة الأنعام الآية 119
(5)
سورة المائدة الآية 5
لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره ففي حل ذبيحته خلاف، فمن أحلها استدل بعموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) الآية، وهذا هو الظاهر، وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها كأن يقول: باسم العزير أو باسم المسيح أو الصليب لم يحل الأكل منها؛ لدخولها في عموم قوله تعالى في آية ما حرم من الطعام {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3) إذ هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4)
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا بلا خلاف فيما نعلم، إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«سنوا بهم سنة أهل الكتاب (5) » ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية، كأهل الكتاب، فيباح صيدهم وذبائحهم، وقد أنكر عليه العلماء ذلك واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف، قال ابن قدامة في [المغني] : قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا يعرف بأبي ثور، وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم: ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومرة الهمذاني ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، قال أحمد: ولا أعلم أحدا قال بخلافه، إلا أن يكون صاحب بدعة، ولأن الله تعالى قال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (6) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة الأنعام الآية 121
(3)
سورة المائدة الآية 3
(4)
سورة المائدة الآية 5
(5)
موطأ مالك الزكاة (617) .
(6)
سورة المائدة الآية 5
كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان. . ثم قال: (وإنما أخذت منهم الجزية؛ لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم؛ احتياطا للتحريم في الموضعين، وأنه إجماع فإنه قول من سمينا، ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم، إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها) انتهى من [المغني] .
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم، سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا، ودل قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار، وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة، وكذا من انتسب إلى الإسلام وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار والوثنيين والزنادقة فلا تحل ذبائحهم، ولأدلة مفهوم الآية على ذلك، كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) الآية.
فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم بعد البيان له وإقامة الدليل عليه بأن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى، كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم واستنجد بغيره فيما هو من اختصاص الله إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية:
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة الأنعام الآية 118
(3)
سورة الأنعام الآية 119
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة، فإن ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة؛ لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينافي أصل إيمانهم وإصرارهم على ذلك بعد البيان، ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين، ومجرد دعوى لا يشهد لها نقل عنه رحمه الله، بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله، من ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد لله صالح فيما لا يقدر عليه إلا الله، بأنه مشرك مرتد عن الإسلام بل شركه أشد من شرك أهل الجاهلية، فالحكم فيه وفي ذبائحه كالحكم فيهم أو أشد، وقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، وإن ذكروا عليها اسم الله؛ لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله سبحانه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
(1) سورة النحل الآية 115
(2)
سورة الأنعام الآية 88
ونشرت مجلة الدعوة في عددها (697) يوم الاثنين الموافق 26 من جمادى الأولى عام 1399 هـ مقالا حول (اللحوم المستوردة) بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد رئيس هيئة التمييز. نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه. . . أما بعد:
فقد وردت عدة أسئلة عن اللحوم التي ترد في علب ونحوها من
الخارج، فأقدمت على الإجابة، وإن كنت لست أهلا لذلك لقصر باعي، وقلة اطلاعي، فأقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وهذه الآية العظيمة من آخر ما نزل. . تدل على إحاطة الشريعة وكمالها، فلم تحدث حادثة ولن تحدث إلا والشريعة المحمدية قد أوضحت حكمها وبينته، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بين البيان المبين، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (2) » . . . وقال أبو ذر: (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما. . .) وقال العباس: (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا) فهذه اللحوم المستوردة من الخارج، والمحفوظة في علب أو نحوها قد بينت الشريعة الإسلامية حكمها غاية البيان، فإن اللحوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتحقق أنها من ذبائح أهل الكتاب، فهذه حلال بنص الكتاب والسنة والإجماع، ولم يقل بتحريمها أحد يعتد بخلافه، قال سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3)
قال ابن عباس وغيره: طعامهم ذبائحهم، وهذا دون باقي الكفار فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين؛ لأن أهل الكتاب يتدينون بتحريم الذبح لغير الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم، وروى سعيد عن ابن مسعود
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3)
سورة المائدة الآية 5
رضي الله عنه قال: (لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب)، وفي حديث أنس:«أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير، وإهالة سنخة (1) » . رواه أحمد، والإهالة: الودك، والسنخة: المتغيرة، وحديث اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم الشاة المصلية، وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال:«أدلي جراب يوم خيبر فاحتضنته، وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم (2) » ، وقد صح «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة» وتوضأ عمر من جرة نصرانية.
القسم الثاني: أن تكون هذه اللحوم من ذبائح غير أهل الكتاب؛ كالمجوس، والهندوس، وعبدة الأوثان، ونحوهم فهذه اللحوم حرام، ولم يقل بإباحتها أحد يعتد به، ولما اشتهر قول أبي ثور بإباحتها أنكره عليه العلماء، فقال الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وكل قول لا يؤيده الدليل لا يعتبر، وليس كل خلاف جاء معتبرا حتى يكون له حظ من النظر.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) مفهومه: أن غير أهل الكتاب لا تباح ذبائحهم، وروى أحمد بإسناده عن قيس بن السكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النبط، فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا» ، ولأن أهل الكتاب يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، كما ذكره ابن كثير وغيره بخلاف غيرهم، والمجوس وإن أخذت منهم الجزية تبعا لأهل الكتاب وإلحاقا بهم فإنهم لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، وأما ما يروى «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (4) » فلم يثبت
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/211) .
(2)
صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، سنن الدارمي السير (2500) .
(3)
سورة المائدة الآية 5
(4)
موطأ مالك الزكاة (617) .
بهذا اللفظ، على أنه لا دليل فيه، إذ المراد: سنوا بهم سنة أهل الكتاب فيما ذكر من أخذ الجزية منهم، ولو سلم بصحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1)
القسم الثالث: أن لا يعلم هل هي من ذبائح أهل الكتاب أو غيرهم: فالقواعد الشرعية تقضي بالتحريم، فإن القاعدة الشرعية: أنه إذا اشتبه مباح بمحرم حرم أحدهما بالأصالة والآخر بالاشتباه، والقاعدة الأخرى: إذا اجتمع مبيح وحاظر قدم الحاظر؛ لأنه أحوط وأبعد من الشبهة. والأدلة دلت على البعد عن مواضع الشبهة، كما في الحديث:«الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه (2) » ، وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » رواه النسائي والترمذي وصححه، ومما استدلوا به على التحريم في موضع الاشتباه: حديث عدي رضي الله عنه: «وإذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلبا آخر فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره (4) » وفي رواية: «إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله (5) » متفق عليه.
أما هذه اللحوم فإنها وإن كانت تستورد من بلاد تدعي أنها كتابية فإنها حرام وميتة ونجسة، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتحرم قيمتها، كما في الحديث «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه (6) » وذلك لوجوه عديدة:
أولا: أن هذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان وخرجت
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3)
سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5476) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4269) ، سنن أبو داود الصيد (2854) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(5)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/257) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(6)
سنن أبو داود البيوع (3488) ، مسند أحمد بن حنبل (1/247) .
عليها، وكون الشخص يهوديا أو نصرانيا هو بتمسكه بأحكام ذلك الدين، أما إذا تركه ونبذه وراء ظهره فلا يعد كتابيا، والانتساب فقط دون العمل لا ينفع، كما أن المسلم مسلم بتمسكه بدين الإسلام، فإذا تركه فليس بمسلم، ولو كان أبواه مسلمين، فإن مجرد الانتساب لا يفيد. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في نصارى بني تغلب: إنهم لم يأخذوا من دين النصرانية سوى شرب الخمر.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله بعد كلام: وكون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم يستفيد بنفسه لا بنسبه، فكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد وكان بين أصحابه خلاف، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم، وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم.
الثاني: أن ذبائح المذكورين الآن إما موقوذة أو مختنقة، والمختنقة التي تخنق فتموت والموقوذة التي تضرب فتموت، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (1) وقد تحقق أن هذه الدول الآن تقتل البهيمة إما بواسطة تسليط الكهرباء فتموت خنقا، وإما بضربها بمطرقة في مكان معروف لديهم فتموت حالا وهذا محقق عنهم لا يمتري فيه أحد فقد كتبت عنهم عدة كتابات في هذا الصدد.
(1) سورة المائدة الآية 3
فتحقق أن ذبائحهم ما بين منخنقة وموقوذة، وهذه لا يمتري أحد بتحريمها، فقد حرمها الله في كتابه، وقرن تحريمها بتحريم الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله، وهذا غاية في التنفير والتحريم فلا يبيحها كون خانقها أو واقذها منتسبا لدين أهل الكتاب.
وقد صرح العلماء: أن من شروط صحة الذبح الآلة، وللآلة شرطان:
أحدهما: أن تكون محددة تقطع، أو تخرق بحدها، لا بثقلها، وفي حديث عدي قال:«سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال: ما أصاب بحده فكله، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ (1) » .
والثاني: أن لا تكون سنا ولا ظفرا، فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر (2) » متفق عليه.
وقال في [المغني] : وأما (المحل) أي: محل الذبح فالحلق واللبة، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع.
الثالث: أن الله أباح ذبائح أهل الكتاب؛ لأنهم يذكرون اسم الله عليها، كما ذكره ابن كثير وغيره، أما الآن فقد تغيرت الحال، فهم ما بين مهمل لذكر الله، فلا يذكرون اسم الله ولا اسم غيره، أو ذاكر لاسم غيره؛ كاسم المسيح، أو العزير، أو مريم، ولا يخفى حكم ما أهل لغير الله به في سياق المحرمات {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (3) وفي حديث علي «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » الحديث. رواه مسلم والنسائي، أو ذاكر عليه اسم الله واسم غيره، أو ذابح لغير الله كالذي يذبح للمسيح أو عزير أو باسمهما، فهذا
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5475) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1471) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن ابن ماجه الصيد (3214) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .
(2)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) .
(3)
سورة البقرة الآية 173
(4)
صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
لا يشك مسلم بتحريمه، وأنه مما أهل به لغير الله، وذكر إبراهيم المروذي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل لغير الله. اهـ. فمن ذبح للصنم أو لموسى أو لعيسى أو غيرهما فكل هذا حرام، ولا تحل الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أو كافرا، وبعضهم أباح هذه الذبائح مستدلا بقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وهذه ذبائحهم، والصحيح: ما ذكرنا؛ لما أشرنا إليه من الأدلة، ولا مخالفة حتى يطلب الجمع، إذ ذبيحة الكتابي مباحة، فلا تباح المنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله؛ لأن خانقها وواقذها وذابحها من أهل الكتاب.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية بعد كلام في الجمع بين قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) قال: والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن قوله:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} (4) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشرط له الذكاة المبيحة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله وذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (5) سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله، فليس كل ما استحلوه يحل لنا، ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح، فالحاظر أولى أن يقدم، ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي قد
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة البقرة الآية 173
(3)
سورة المائدة الآية 5
(4)
سورة البقرة الآية 173
(5)
سورة المائدة الآية 5
أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا، والله أعلم. اهـ.
وأما حكم متروك التسمية فقط عمدا أو سهوا فهذه المسألة الخلاف فيها شهير والحكم ولله الحمد واضح.
الرابع: أن موضوع الذبح الاختياري معروف، وهو في الحلق واللبة، ولا يجوز في غير ذلك إجماعا، وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال:«بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء يصيح في فجاج مكة: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» رواه الدارقطني بإسناد جيد، وروي عن أبي هريرة قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج (1) » . رواه أبو داود. وروى سعيد في [سننه] عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل. إسناده حسن، والودجان: عرقان بالحلقوم، وهذا معدوم في ذبائح المذكورين كما ذكرناه سابقا فلا تحل، قال في [مغني ذوي الأفهام] : الثالث: أن يقطع الحلقوم والمريء بالآلة، فإن خنقها أو عصر رأسها بيده أو ضربها بحجر أو عصا على محل الذبح - لم يحل أكلها.
الخامس: لو فرضنا أنه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحا شرعيا، ويوجد من يذبح ذبحا آخر كالخنق والوقذ، فلا تحل للاشتباه، كما هي قاعدة الشرع المعروفة، ولحديث عدي المتقدم، قال ابن رجب بعد كلام: وما أصله الحظر؛ كالأبضاع، ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لسبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فما أصله الحرمة بني على التحريم؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم أو كلب غير كلبه. اهـ.
(1) سنن أبو داود الضحايا (2826) ، مسند أحمد بن حنبل (1/289) .
أما حديث عائشة: أن أناسا يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سموا الله أنتم وكلوا (1) » أخرجه البخاري.
فالجواب: أن هؤلاء مسلمون ولكنهم في الحديث حديث عهدهم بالإسلام، وإنما أشكل هل يسمون أم لا والتسمية سهلة بالنسبة إلى غيرها فإن المذكورين في حديث عائشة مسلمون، والأصل في ذبحهم الإباحة، وكذلك فيما جلب من بلاد المسلمين كان هو معروفا ومصرحا به في كلام أهل العلم.
وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذه العجالة.
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم أكل اللحوم الواردة من الخارج.
فقال: هذا سؤال كثر التساؤل فيه وعمت البلوى به وحكمه يتبين بتحرير ثلاث مقامات:
المقام الأول: حل ذبيحة أهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى.
المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل.
المقام الثالث: الحكم على هذا اللحم الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته.
فأما المقام الأول: فإن ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حلال دل على حلها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) قال ابن عباس رضي الله عنهما:
(1) سورة المائدة الآية 5
طعامهم: ذبائحهم، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم النخعي، ولا يمكن أن يكون المراد بطعامهم التمر والحب ونحوهما فقط؛ لأن قوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (1) لفظ عام فتخصيصه بالتمر والحب ونحوهما خروج عن الظاهر بلا دليل، ولأن التمر ونحوه من الطعام حلال لنا من أهل الكتاب وغيرهم، فلو حملت الآية عليه لم يكن لتخصيصه بأهل الكتاب فائدة.
وأما السنة: فقد ثبت في [صحيح مسلم](2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة وأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك فقال: ما كان الله ليسلطك على ذاك (3) » وفي [مسند الإمام أحمد] عن أنس أيضا: «أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه (4) » ، والإهالة السنخة: ما أذيب من الشحم والإلية وتغيرت رائحته، وفي [صحيح البخاري] عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال:«كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه (5) » ، وفي رواية لمسلم عنه قال:«أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما» . فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره في حل ذبائح أهل الكتاب.
وأما الإجماع: فقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
[صحيح مسلم](7\14) ط \ صبيح.
(3)
صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2617) ، صحيح مسلم السلام (2190) ، سنن أبو داود الديات (4508) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(4)
مسند أحمد بن حنبل (3/211) .
(5)
صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي السير (2500) .
غير واحد من أهل العلم منهم: صاحب [المغني](1)، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية قال (2) : ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وقال: مازال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن خالف ذلك فقد أنكر إجماع المسلمين. اهـ.
ونقل الإجماع ابن كثير في [تفسيره](3) المطبوع مع [تفسير البغوي]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا (4) : بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده داخلا في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد - وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف - وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا أعلم في ذلك بين الصحابة نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم. اهـ. كلامه رحمه الله.
وبهذا تحدد المقام الأول: وهو حل ذبيحة أهل الكتاب: (اليهود والنصارى) بالكتاب والسنة والإجماع، فأما غيرهم من المجوس والمشركين وسائر أصناف الكفار - فلا تحل ذبيحتهم؛ لمفهوم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) فإن مفهومها: أن غير أهل الكتاب لا يحل لنا
(1)[المغني](8\ 567) ط \ دار المنار.
(2)
[مجموع الفتاوى](35\ 232) .
(3)
[تفسير ابن كثير](3\ 8) .
(4)
[مجموع الفتاوى](35\ 223، 224) .
(5)
سورة المائدة الآية 5
طعامهم، أي: ذبائحهم؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا الأمصار امتنعوا عن ذبائح المجوس، وقال في [المغني] (1) : أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له؛ كالسمك والجراد، وقال: وأبو ثور أباح صيده وذبيحته، وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به، ثم نقل عن أحمد أنه قال: لا أعلم أحدا قال بخلافه أي بخلاف تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا أن يكون صاحب بدعة. اهـ. قال: وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان، والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم، لكن ما لا يشترط لحله الذكاة كالسمك والجراد فهو حلال من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل.
وهذا المقام له ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن نعلم أن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية: بأن يكون ذبحه في محل الذبح، وهو الحلق، وأن ينهر الدم بمحدد غير العظم والظفر، وأن يذكر اسم الله عليه، فيقول الذابح عند الذبح: بسم الله، ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك؛ لأنه ذبح وقع من أهله على الطريقة التي أحل النبي صلى الله عليه وسلم المذبوح بها حيث قال صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدي الحبشة (2) » رواه الجماعة، واللفظ للبخاري، وفي رواية له:«غير السن والظفر، فإن السن عظم، والظفر مدي الحبشة (3) » وطريق
(1)[المغني](8\ 570) .
(2)
صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
(3)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5544) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
العلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية: أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من حصل العلم بخبره.
الحال الثانية: أن نعلم أن ذبحه على غير الطريقة الإسلامية، مثل: أن يقتل بالخنق، أو بالصعق، أو بالصدم، أو يضرب الرأس ونحوه، أو يذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه - ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) ولمفهوم ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (3) » وطريق العلم بأنه ذبح على غير الطريقة الإسلامية أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من يحصل العلم بخبره.
الحال الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس، ولا نعلم على أي صفة ذبحوها، ولا هل سموا الله عليها أم لا؟ .
ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد، ولكن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي حله، وأنه لا يجب السؤال تيسيرا على العباد، وبناء على أصل الحل، فقد سبق: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية، وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة، وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الذبح، ولا هل ذكر اسم الله عليه أم
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة الأنعام الآية 121
(3)
صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
لا؟ وفي [صحيح البخاري] عن عائشة رضي الله عنها: «أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (1) » ، فقد أحل النبي صلى الله عليه وسلم أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه وهو شرط لحله، وقرينة الشك موجودة وهي كونهم حديثي عهد بالكفر، فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام، وإحلال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مع الشك في وجود شرط الحل (وهي التسمية) وقيام قرينة على هذا الشك (وهي كونهم حديثي عهد بالكفر) دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل؛ لأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة، قال في [المنتقى] بعد أن ذكر حديث عائشة السابق: وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد. اهـ.
وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أوالنصارى غالبه ما جهل كيف وقع ذبحه، فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه.
المقام الثالث: الحكم على هذا الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته.
وهذا المقام له ثلاث حالات أيضا.
الحال الأول: أن نعلم أن من ذبحه تحل ذبيحته وهم المسلمون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لوقوع الذبح الشرعي من أهله، وطريق العلم بذلك أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحا في محل ليس
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
فيه إلا من تحل ذبيحته.
الحال الثانية: أن نعلم أن من ذبحه لا تحل ذبيحته كالمجوس وسائر الكفار غير أهل الكتاب، ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لوقوع الذبح من غير أهله، وطريق العلم بذلك: أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحا في محل ليس فيه من تحل ذبيحته.
الحال الثالثة: أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أو لا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج، فالأصل هنا التحريم فلا يحل الأكل منه؛ لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله.
ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثاني، حيث حكمنا هناك بالحل مع الشك؛ لأننا هناك عملنا بصدور الفعل من أهله، وشككنا في شرط حله، والظاهر صدوره على وجه الصحة والسلامة حتى يوجد ما ينافي ذلك، بخلاف ما هنا: فإننا لم نعلم صدور الفعل من أهله، والأصل التحريم، لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها.
فمن القرائن:
أولا: أن يكون مورده مسلما ظاهره العدالة، ويقول: إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية فيحكم بالحل هنا؛ لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية.
ثانيا: أن يرد من بلاد أكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم فيحكم ظاهرا بحل الذبيحة تبعا للأكثر، إلا أن يعلم أن المتولي الذبح ممن لا تحل ذبيحته فلا