الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه وغيرها هي الدواعي التي دعت المسئولين عامة وعلماء الطب خاصة إلى الإقدام على تشريح جثث الموتى، وترخص للمسلمين منهم في ذلك مع اعتقادهم حرمة المسلم ومن في حكمه ووجوب تكريمه، لكن هل يكفي ذلك مبررا للتشريح ومرخصا فيه أو موجبا له؟ هذا مما يتبين إن شاء الله بعد بحث الموضوعات التالية.
الموضوع الثالث: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق جسمه حيا أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا:
تمهيد:
نظرا إلى أن من أقدم على التشريح من علماء الطب والمسئولين في الأمم قد بنوا ذلك على ما شعروا به من الحاجة إليه، وما اعتقدوه من المصالح الخاصة والعامة المترتبة عليه، ونظرا إلى أن علماء الإسلام قد بنوا ما استثنوه من القاعدة العامة في عصمة دم المسلم ومن في حكمه، ووجوب رعاية حرمته على الحاجة والمصلحة - كان لزاما علينا أن نمهد بكلمة في أنواع المصلحة ومراتبها، ثم نتبع ذلك بأقوال علماء الإسلام في المسائل المستثناة؛ ليتبين بذلك ما ينهض من المصالح للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما ينزل منها عن درجة الاعتبار، فلا تبنى عليه الأحكام. فسر العلماء المصلحة: بجلب المنفعة أو دفع المضرة.
وقسموها من حيث شهادة نص معين لها بالاعتبار، أو عليها بالإلغاء،
أو عدم شهادته لها أو عليها ثلاثة أقسام:
الأول: مصلحة شهد لها نص معين بالاعتبار: كالحدود التي شرعت نصا لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهذه مصلحة معتبرة شرعا.
والثاني: مصلحة شهد النص المعين بإلغائها: كإيجاب صيام شهرين متتابعين كفارة على من جامع من الملوك ومن في حكمهم عمدا في نهار رمضان وهو صائم، ولم ير العتق مجزئا، لكونه غير رادع لمثله؛ لسهولته بالنسبة له، فهذه مصلحة ملغاة.
والثالث: مصلحة لم يشهد نص معين باعتبارها ولا بإلغائها: ومثلوا لها بإلزام الولاة رعيتهم بدفع ضرائب عند شدة الحاجة إليها، ويسمى هذا القسم بـ:(المصلحة المرسلة)، وفي الاحتجاج بها خلاف مشهور بين أئمة الفقهاء: فمنهم من اعتبرها، ومنهم من ألغاها، ومنهم من اعتبرها إذا كانت واقعة في رتبة الضرورات دون الحاجات والتحسينات.
وذلك أنها تقسم من حيث القوة إلى ثلاث مراتب: واقعة في رتبة الضرورات، وواقعة في رتبة الحاجات، وواقعة في رتبة التحسينات. فأقواها الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة.
وقد ذكر الغزالي تفصيل ذلك، وفيما يلي نصه:
الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح:
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها، فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:
(أ) قسم شهد الشرع لاعتبارها.
(ب) وقسم شهد لبطلانها.
(ج) وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
القسم الأول: أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو: اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع (1) ، فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة، ومثاله: حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة (2) اهـ.
القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها، مثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.
(1) انظر [المستصفى] 02\101) .
(2)
[المستصفى](1\139) .
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات، وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها.
ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها:
أما المصلحة فهي: عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال
التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة: فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر إنما حرم؛ لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول؛ ولذلك اختلفت فيه الشرائع، أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة؛ لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد.
الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه يحتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكتفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المأكل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر، والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها.
أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا: لا تزوج الصغيرة إلا من كفء بمهر مثل، فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح؛ ولهذا اختلف العلماء فيه.
الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع
التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث إن العبد نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة.
أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات؛ لأن ذلك مناسب للمصلحة، إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل: سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله: سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا، وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع.
ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك، أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء، فهو في الرتبة الثالثة؛ لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد؛ لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج.
وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة. وعلى الجملة فيلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه
الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، كأن يجري مجرى الضرورات فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس.
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال.
فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذ بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف كلها ضرورية قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة وفينا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها؛ لأنها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا
بجملتهم؛ لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين؛ لأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها. وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع لسبب ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه؛ لأنه ليس فيه يقين الخلاص، فلا تكون المصلحة قطعية.
وبعد أن ذكر حكم الضرب في التهمة وقتل الزنديق ولو تاب، والساعي في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة وإغراء الظلمة بالناس وأموالهم وحرماتهم ودمائهم وإثارة الفتن
…
قال: (فإن قيل) : فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس، بل يدرك ذلك بغلبة الظن (قلنا) : لا جرم، ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو الظن القريب من القطع (1) ، والظن القريب من القطع إذا صار كليا، وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه. (فإن قيل) : إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من
(1) والظن: القريب من القطع.
طبيعته وعادته المجربة طول عمره (قلنا) : لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية؛ لما عرف من طبيعته وسجيته (فإن قيل) : كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس، وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (2) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر؟
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها حظر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى (قلنا) : لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمسألة السفينة، وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة؛ إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا، وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ
(1) سورة النساء الآية 93
(2)
سورة الأنعام الآية 151
هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم، وإن كان التحريم عاما، ولكن نخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك هاهنا التخصيص ممكن.
وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل. اهـ.
وبعد ما تقدم من التهميد بالحديث عن المصالح، وبيان ما يصلح منها للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما لا يصلح لذلك نذكر مسائل فقهية لا تعدو أن تكون نظرية اجتهادية، وقد بنى الفقهاء حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصلحة.
ومن هذه المسائل ضرب من تترس به الكفار من أسارى المسلمين مثلا في الحرب، وشق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي بالأمارات، ورمي أحد ركاب سفينة خشي عليهم الغرق، فيرمى أحدهم بقرعة لينجو الباقون، وأكل مضطر من جثة إنسان ميت إنقاذا لنفسه من الهلاك، وتبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والصبيان.
وفيما يلي بيان أقوال فقهاء الإسلام في هذه المسائل، وما بنوه عليه من الدليل والمصلحة.