المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم تشريح جثة المسلم

- ‌الموضوع الأول: بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا

- ‌الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها

- ‌تمهيد:

- ‌المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين

- ‌المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي:

- ‌المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره:

- ‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

- ‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء:

- ‌الموضوع الرابع: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم

- ‌القسامة

- ‌المراد بالقسامة في اللغة:

- ‌المراد بالقسامة عند الفقهاء:

- ‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها

- ‌اختلاف العلماء فيها:

- ‌الصورة الأولى: التدمية

- ‌الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل:

- ‌الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح، وعدل بالقتل:

- ‌الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره:

- ‌الصورة الخامسة: قتيل الصفين:

- ‌الصورة السادسة: قتيل الزحام:

- ‌الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة:

- ‌تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف:

- ‌ من يحلف من المدعين:

- ‌ من يحلف من المدعى عليهم:

- ‌هدي التمتع والقران

- ‌أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

- ‌ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌ثالثا: ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة:

- ‌رابعا: مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى:

- ‌وجهة نظرلصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع

- ‌حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد

- ‌المسألة الأولى: حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد

- ‌القول الأول: اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها:

- ‌القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها

- ‌القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس

- ‌المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر

- ‌المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها

- ‌المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال

- ‌المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة:

- ‌المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة

- ‌المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا:

- ‌المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل

- ‌المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها:

- ‌المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي:

- ‌مصادر البحث وملحقاته

- ‌الطلاق المعلق

- ‌أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار:

- ‌ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة:

- ‌ مذهب الحنفية:

- ‌ مذهب المالكية:

- ‌ مذهب الشافعية:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد المهور

- ‌أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم:

- ‌ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور:

- ‌رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور:

- ‌خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور:

- ‌سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه:

- ‌سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد النسل

- ‌ الترغيب في النكاح وبيان مقاصده:

- ‌ الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

- ‌ بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة:

- ‌ وسائل تحديد النسل وبيان مضارها:

- ‌ الحكم مع الدليل:

- ‌حكم التسعير

- ‌معنى التسعير:

- ‌المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه:

- ‌المسألة الثانية: من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس

- ‌المسألة الثالثة: في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير:

- ‌المسألة الرابعة: بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الذبائح المستوردة

- ‌أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع

- ‌ثانيا: ذكر طريقة الذبح الشرعية، وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة:

- ‌الصفة المشروعة في الذبح والنحر

- ‌فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم:

- ‌مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب:

- ‌حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية:

- ‌مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب:

- ‌مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة:

- ‌صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب

- ‌بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى:

- ‌ثالثا: ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية:

- ‌خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة:

الفصل: ‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

لحوم بني آدم وما يقتل من تناوله، فلا يحل شيء من ذلك أصلا، لا بضرورة ولا بغيرها. . . وبعد أن ذكر وجه حل ذلك للمضطر قال: وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها فلا يحل غير ذلك. اهـ (1) .

(1)[المحلى](5 \ 426) .

ص: 46

‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

بقرعة لينجو الباقون:

الأصل في المسلمين أنهم سواء في عصمة الدم ووجوب المحافظة على حياتهم، فإذا ركب منهم جماعة سفينة ثم أحدق بها الخطر وخشي من فيها على أنفسهم الغرق وعلموا أو غلب على ظنهم أن لا نجاة لهم إلا بتخفيف السفينة بإلقاء واحد منهم بالقرعة، فهل يجوز لهم ذلك أو لا؟

هذا محل نظر واجتهاد:

لذا اختلف فيه العلماء: فبعضهم لا يرى القرعة في مثل هذه المسألة؛ لاستواء الركاب في عصمة الدم، ووجوب محافظة كل منهم على حياته، فيحرم على كل منهم أن يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين، ويحرم عليهم جميعا أن يلقوا واحدا منهم بقرعة أو بدونها؛ لأن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية، وبعضهم يرى إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين؛ لأن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى المصلحتين، وهو إنقاذ الجماعة التي لم تلق في اليم بتفويت مصلحة من ألقي فيه، وهذا مستلزم لارتكاب أخف المفسدتين وهو إلقاء أحدهم في اليم تفاديا لأشدهما، وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة، وكون نجاة

ص: 46

من بقي ظنية لا تأثير له في منع إلقاء واحد ما دام ظنا غالبا لا وهما، فإن الظن الغالب تبنى عليه الأحكام، فإن القتل العمد العدوان يثبت به حق القصاص بشهادة عدلين، وشهادتهما إنما تفيد غلبة الظن، وكذا شهادة عدلين بالسرقة، وأربعة بزنا البكر والمحصن إلى غير هذا مما يفيد غلبة الظن وتثبت به الأحكام في الضروريات الخمس المعروفة.

أما اعتبار القرعة أصلا تبنى عليه الأحكام فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه بعد ثبوته وبناء الأحكام عليه في الكتاب والسنة في مسائل كثيرة متنوعة، قد يفيد استقراؤها القطع بثبوت هذا الأصل.

وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في العمل بالقرعة في مواضع كثيرة منها هذه المسألة.

أ - وقال في [نتائج الأفكار] : قوله: والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل. قال الشراح: هذا جواب الاستحسان، والقياس يأباها؛ لأن استعمال القرعة تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وهو في معنى القمار، والقمار حرام؛ ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق أو المطلقة، ولكنا تركنا القياس ههنا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وليس هذا في معنى القمار؛ لأن أصل الاستحقاق في القمار، يتعلق بما يستعمل فيه، أو فيما نحن فيه لا يتعلق أصل الاستحقاق بخروج القرعة؛ لأن القاسم لو قال: أنا عدلت في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت ذاك الجانب كان مستقيما، إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه، وذلك جائز، ألا يرى أن يونس

ص: 47

عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة، كما قال الله تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (1) ؛ وذلك لأنه علم أنه هو المقصود، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق بالأنبياء، فاستعمل القرعة، كذلك زكريا عليه السلام، استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم؛ لكون خالتها عنده تطييبا لقلوبهم، كما قال الله تعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد السفر تطييبا لقلوبهن. انتهى كلامهم.

وعزى في [النهاية] و [معراج الدراية] هذا التفصيل إلى [المبسوط] .

أقول: بين أول كلامهم هذا وآخره تدافع؛ لأنهم صرحوا أولا بأن مشروعية استعمال القرعة ههنا جواب الاستحسان، والقياس يأبى ذلك؛ لكونه في معنى القمار، وقالوا آخرا: إن هذا ليس في معنى القمار، وبينوا الفرق بينه وبين القمار، وذكروا: ورود نظائر له في الكتاب والسنة فقد دل ذلك على أنه ليس مما يأباه القياس أصلا، بل هو مما يقتضيه القياس أيضا فتدافعا. اهـ.

ب - وقال في [كتاب الأم](كتاب القرعة) : أخبرنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (3) إلى قوله: {يَخْتَصِمُونَ} (4) وقال الله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (5){إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (6){فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (7)(قال الشافعي) رحمه الله تعالى:

(1) سورة الصافات الآية 141

(2)

سورة آل عمران الآية 44

(3)

سورة آل عمران الآية 44

(4)

سورة آل عمران الآية 44

(5)

سورة الصافات الآية 139

(6)

سورة الصافات الآية 140

(7)

سورة الصافات الآية 141

ص: 48

فأصل القرعة في كتاب الله في قصة المقترعين على مريم والمقارعي يونس مجتمعة، فلا تكون القرعة - والله أعلم - إلا بين قوم مستوين في الحجة ولا يعدو - والله تعالى أعلم - المقترعون على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها. ثم قال: فالقرعة تلزم أحدهما ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه وتقطع ذلك عن غيره ممن هو مثل حاله، (قال) : وهكذا معنى قرعة يونس لما وقفت بهم السفينة فقالوا: ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها فتعالوا نقترع، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأخرجوه منها وأقاموا فيها، وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم؛ لأن حال الركبان كانت مستوية وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزم قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم، (قال الشافعي) : وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا فجعل العتق تاما لثلثهم وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها ولم يحسب عليها أيام

ص: 49

سفرها، وكذلك قسم خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره وانقطع حقه عن غيره. أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب، «أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت ليس لها مال غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة (1) » . أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: «أن رجلا من الأنصار إما قال: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم، وإما قال: أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة (2) » . إلى أن قال: (أخبرنا) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير، فاستشار عمر رجالا منهم خارجة بن زيد بن ثابت فأقرع بينهم. ثم قال أبو الزناد: حدثني رجل عن الحسن: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم (3) » . . . ثم ساق كلاما، وقال بعده:(قال الشافعي) وبهذا كله نأخذ. وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم، وإن كان أعتقهم عتق بتات في حياته فهكذا فيما أرى الحديث، فقد دلت السنة على معاني منها: إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت، فلما أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق الثلث وأرق الثلثين، استدللنا

(1) سنن أبو داود العتق (3958) ، مسند أحمد بن حنبل (5/341) .

(2)

صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/428) .

(3)

صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/446) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) .

ص: 50

على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ماله ورد مال غيره. اهـ المقصود (1) .

ج - وقال ابن حجر في [فتح الباري](2) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (3) الآية: أشار البخاري بذكر هذه الآية إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله، وهذا منه. اهـ.

وقال في تفسير قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (4) والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. اهـ.

وقال (5) : والمشهور عند الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عند مالك وأصحابه؛ لأنه من باب الخطر والقمار،

(1)[الأم] للشافعي (8 \ 3، 4) الطبعة الأولى 1381هـ

(2)

[فتح الباري](5\292) .

(3)

سورة آل عمران الآية 44

(4)

سورة الصافات الآية 141

(5)

[فتح الباري](9 \ 311)

ص: 51

وحكي عن الحنفية إجازتها. اهـ. وقد قالوا به في مسألة الباب، واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها، فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح. اهـ. وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.

ص: 52

وقال ابن حجر في [فتح الباري] : مشروعية القرعة مما اختلف فيه: والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع، وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق، كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا، فيضم في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه، لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة ألا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الآخر فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية، وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات

ص: 52

والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصى بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا، وهو تعيين الملك، ومن صور تعيين الملك: الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. اهـ (1) .

د - قال ابن القيم في [الطرق الحكمية] فصل القرعة: ومن طرق الأحكام الحكم بالقرعة، قال تعالى:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (2) قال قتادة: (كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها، فقرع زكريا، وكان زوج خالتها، فضمها إليه) ، وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس:(لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها) وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.

وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3){إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (4){فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (5)

(1)[فتح الباري](5 \ 293، 294) .

(2)

سورة آل عمران الآية 44

(3)

سورة الصافات الآية 139

(4)

سورة الصافات الآية 140

(5)

سورة الصافات الآية 141

ص: 53

أي: (فقارع فكان من المغلوبين) .

فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم.

وفي [الصحيحين] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا (1) » .

وفي [الصحيحين] أيضا عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (2) » .

وفي [صحيح مسلم] عن عمران بن حصين: «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (3) » .

وفي [صحيح البخاري] عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين، فسارعوا إليه، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين: أيهم يحلف (4) » . وفي سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها، فليستهما عليها (5) » ، وفي رواية أحمد:«إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها (6) » ، وفيه أيضا «أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لواحد منهما بينة، فقال: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها (7) » .

وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، يختصمان في مواريث لهما، لم تكن

(1) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، سنن أبو داود الأدب (5245) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) .

(2)

صحيح البخاري كتاب المغازي (4141) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3180) ، سنن أبو داود الأدب (5219) ، سنن ابن ماجه الحدود (2567) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي النكاح (2208) .

(3)

صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) .

(4)

صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) .

(5)

صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .

(6)

صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .

(7)

صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .

ص: 54

لهما بينة إلا دعواهما، فقال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار (1) » رواه أبو داود في السنن، وفيه:«فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالا (2) » .

فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها الكتاب، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. قال البخاري في [صحيحه] :(ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد) وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة، وهو في جامعه، فذكر مقاصده. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد: القرعة جائزة. وقال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله عن القرعة ومن قال: إنها قمار؟ قال: إن كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل له خبر يزعم أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار.

وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن ابن أكثم يقول: إن القرعة قمار، قال: هذا قول رديء خبيث، ثم قال: كيف؛ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار ولم يرضوا قالوا: يقرع بينهم، وهو يقول: لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن وتزوج الخامسة ولم يدر أيتهن التي طلق، قال: يورثهن جميعا، ويأمرهن أن يعتددن جميعا، وقد ورث من لا ميراث لها. وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها، والقرعة تصيب الحق، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله، فقلت: إن بعض الناس ينكر القرعة ويقول: هي قمار اليوم، ويقول: هي

(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

(2)

صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

ص: 55

منسوخة؟ فقال أبو عبد الله: من ادعى أنها منسوخة فقد كذب، وقال الزور، القرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع في ثلاثة مواضع: أقرع بين الأعبد الستة، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر، وأقرع بين رجلين تدارأا في دابة، وهي في القرآن في موضعين.

قلت: يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع، وإلا فأحاديث القرعة أكثر، وقد تقدم ذكرها. قال: وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين أقرع بين القوم، فأيهم أصابته القرعة كان له ما أصاب من ذلك يجبر عليه.

وقال الأثرم. إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها وبينها وقال: إن قوما يقولون: القرعة قمار، ثم قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم جهلوا، فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن، قال الأثرم: وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن فقال: حديث أبي الزناد؛ فقلت: نعم، قال أبو عبد الله: قال أبو الزناد يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (1) أي: أقرع فوقعت القرعة عليه، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القرعة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءه وفعله، ثم قال: سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) قال حنبل: وقال عبد الله بن الزبير

(1) سورة الصافات الآية 141

(2)

سورة الحشر الآية 7

(3)

سورة المائدة الآية 92

ص: 56

الحميدي: من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته التي قضى بها، وقضى بها أصحابه بعده. وقال في رواية الميموني: في القرعة خمس سنن: حديث أم سلمة: «أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء درست بينهم فأقرع بينهم (1) » ، وحديث أبي هريرة حين تدارأا في دابة فأقرع بينهما، وحديث الأعبد الستة، وحديث: أقرع بين نسائه، وحديث علي، وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ابن الزبير وابن المسيب، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك.

قال الميموني: وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة - فقال: أرى أنها من أمر النبوة، وذكر قوله تعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (2) وقوله: {فَسَاهَمَ} (3)

وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد: القرعة في كتاب الله، والذين يقولون: القرعة قمار قوم جهال، ثم ذكر أنها في السنة، وكذلك قال في رواية ابنه صالح: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع، وهي في القرآن في موضعين.

وقال أحمد في رواية المروزي: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عروة، قال: أخبرني ابن الزبير: «أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة، المرأة

(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

(2)

سورة آل عمران الآية 44

(3)

سورة الصافات الآية 141

ص: 57

قال الزبير: فتوهمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلهدت في صدري وكانت امرأة جلدة، وقالت: إليك عني لا أم لك، قال: فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك، فرجعت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، قال: فجئت بالثوبين ليكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، قلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فقدرناهما، فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد في الثوب الذي صار له (1) » . وقال في رواية صالح وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم: وهو مختلف فيه. اهـ. وقد ذكر كيفية القرعة ومواضعها.

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/165) .

ص: 58

المسألة الخامسة: تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والأطفال

الكفار بالنسبة للمسلمين، إما أهل حرب، أو أهل ذمة، فأهل الذمة يعاملون في الجملة معاملة المسلمين في عصمة الدم ورعاية حرمتهم أحياء وأمواتا، وإن كان ذلك في المسلمين للإسلام وفي الذميين للوفاء بالعهد. وقد سبق الكلام عنهم في المسألة الأولى والثانية والثالثة تبعا للحديث عن المسلمين.

أما الكفار المحاربون فدمهم هدر، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل من لا

ص: 58

شأن لهم في الحرب منهم كالنساء والصبيان، وقد سبق الكلام على تبييت المحاربين من الكفار وقتالهم بما يعم إهلاكه وفيهم نساؤهم وصبيانهم في المسألة الأولى تبعا لقتالهم بما يعم وفيهم مسلمون أسارى أو تجار فأغنى عن إعادته هنا.

ص: 59

وقد كتب إلى فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا سؤال عن حكم الطب المرضي: فأجاب بجوازه بناء على المصلحة.

وفيما يلي نص السؤال والجواب.

السؤال: ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية الشرقية لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر واكتشاف سبب الموت حتى لا يدفن الإنسان حيا، ولا يخفى المرض المعدي، وفي ذلك مما يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز مطلقا، ولو كان الحكيم مسلما ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة، أو يسوغ مطلقا أم المقام فيه تفصيل، أفيدونا تؤجروا وترحموا؟ .

الجواب: ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية التي تتبع فيها قاعدة: درء المفاسد وجلب المصالح، وحينئذ يختلف الحكم باختلاف الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى وعلم أن الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه - فإن الكشف عليه يكون متعينا، ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقائه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي يوثق به للعلم ببراعته وأمانته

ص: 59

على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يوثق به ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير موثوق به وطبيب غير مسلم موثوق به بتكرار التجربة يرجح الاعتماد على الثاني؛ لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن من اشترط من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل والوضوء إلى التيمم ليس لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة، وقد صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن الماء يؤذيه في مرضه كان له أن يعمل بقوله، وإذا كان من اشتبه في موته امرأة ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتما، فإن لم توجد كشف عليها الطبيب، كما هو الشأن في جميع الأمراض، ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة ما تفعله (مصلحة الصحة) بمصر وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية، ومن أعمالهم ما هو مفيد قطعا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت لمعرفة سبب مرضه مصلحة عامة - لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعا من ذلك، نعم، إن إهانة الميت محظورة، ولكن الإهانة تكون بالقصد، وهو منتف هنا على أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات، والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم أولو الأمر ذلك عملوا به والشرع عون لهم عليه.

ص: 60

وقد سئل فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف عن حكم إحراق جثث الموتى وتشريحهم؟ فأجاب جوابا مستفيضا بين فيه المصالح التي تدعو إلى

ص: 60

التشريح وتبرره.

وفيما يلي نص السؤال والجواب:

السؤال: طلبت إحدى المصالح الحكومية بيان حكم الشريعة الغراء في إحراق جثث الموتى من المسلمين في زمن الأوبئة وفي حالة الوصية بذلك من المتوفى؟ .

الجواب: اعلم أن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع حفظا للنوع الإنساني حتى يبقى إلى الأمد المقدر له، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، وأمر به من أصابه مرض من أهله وأصحابه، وقال:«تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام:«إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله (2) » ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج.

فكان الطب تعلما وتعليما مشروعا بقول الرسول وفعله، بل بدلالة الآيات الواردة بالترخيص للمريض بالفطر تمكينا له من العلاج، وبعدا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك، والترخيص لمن به أذى في رأسه في الإحرام، وهو علاج للعلة وسبب للبرء، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده، في ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذي الإنسان من الداخل أو الخارج، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في زاد المعاد، فكان فن الطب علما وعملا من فروض الكفاية التي يجب على الأمة قيام طائفة منها بها، وتأثم الأمة جميعها بتركه وعدم النهوض به، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من

(1) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) .

(2)

سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .

ص: 61

فروض الكفاية التي أمر بها الشارع، وحث عليها، وحذر من التهاون فيها. ومن مقدمات فن الطب، بل من مقوماته تشريح الأجسام، فلا يمكن الطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرا بتشريح جسم الإنسان علما وعملا، وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك، فهو من الأمور التي لا بد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضى وعلاج الأمراض، ولا يمتري في ذلك أحد، ولا يقال: قد كان فيما سلف طب، ولم يكن هناك تشريح؛ لأنه كان طبا بدائيا لعلل ظاهرة، وكلامنا في طب واف لشتى الأمراض والعلل، والعلوم تتزايد، والوسائل تنمو وتكثر.

وإذا كان شأن التشريح ما ذكر كان واجبا بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وتعليمه ومباشرته بالعمل على الأمة لتقوم طائفة منها به، فإن من القواعد الأصولية: أن الشارع إذا أوجب شيئا يتضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء، فإذا أوجب الصلاة كان ذلك إيجابا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها، وإذا أوجب بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة تعلم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته، فقد أوجب بذلك عليهم تعلم التشريح وتعليمه ومزاولته عملا.

هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يدرس وعملا يمارس، بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض، أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها، والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل

ص: 62

أو نفيها عن متهم - فلا شبهة في جوازه أيضا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية؛ للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يظلم بريء، ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم.

وكم كان التشريح فيصلا بين حق وباطل، وعدل وظلم، فقد يتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السم له في الطعام، ويشهد شهود الزور بذلك، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسم في الجسم، وإنما مات الميت بسبب طبيعي فيبرأ المتهم، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين، وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير، فيثبت التشريح: أن الموت جنائي، والإحراق إنما كان ستارا أسدل على الجريمة فيقتص من المجرم، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد. وهنا قد يثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كانت بواعثه، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح والمفاسد، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به وما كان فيه مفسدة راجحة ينهى عنه، فلا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من مصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة، وإنقاذ البريء من العقاب، وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادي برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة.

ص: 63

ثم أتبع فتواه بفتوى في موضوع التشريح لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي: قال: وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله قال فيها ما نصه:

ص: 63

وليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات - يعلم أنها توازن دائما بين المصلحة والمفسدة فتجعل الحكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح، فيجب إذا أن يكون نظرنا بعيدا متمشيا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة.

وإذن نقول: من نظر إلى أن التشريح قد يكون ضروريا في بعض الظروف؛ كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريع أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يجنى على رجل ثم يلقى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه فهو يأتيه الموت في كل مكان وما هو بميت إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه - نقول: من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديما للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيا لإكرامه، على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم من أن الميت إذا ابتلع مالا شق بطنه لإخراجه منه ولو كان مالا قليلا، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة، أي: ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في

ص: 64