المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء: - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌حكم تشريح جثة المسلم

- ‌الموضوع الأول: بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا

- ‌الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها

- ‌تمهيد:

- ‌المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين

- ‌المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي:

- ‌المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره:

- ‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

- ‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء:

- ‌الموضوع الرابع: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم

- ‌القسامة

- ‌المراد بالقسامة في اللغة:

- ‌المراد بالقسامة عند الفقهاء:

- ‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها

- ‌اختلاف العلماء فيها:

- ‌الصورة الأولى: التدمية

- ‌الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل:

- ‌الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح، وعدل بالقتل:

- ‌الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره:

- ‌الصورة الخامسة: قتيل الصفين:

- ‌الصورة السادسة: قتيل الزحام:

- ‌الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة:

- ‌تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف:

- ‌ من يحلف من المدعين:

- ‌ من يحلف من المدعى عليهم:

- ‌هدي التمتع والقران

- ‌أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

- ‌ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌ثالثا: ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة:

- ‌رابعا: مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:

- ‌خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى:

- ‌وجهة نظرلصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع

- ‌حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد

- ‌المسألة الأولى: حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد

- ‌القول الأول: اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها:

- ‌القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها

- ‌القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس

- ‌المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر

- ‌المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها

- ‌المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال

- ‌المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة:

- ‌المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة

- ‌المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا:

- ‌المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل

- ‌المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها:

- ‌المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي:

- ‌مصادر البحث وملحقاته

- ‌الطلاق المعلق

- ‌أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار:

- ‌ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة:

- ‌ مذهب الحنفية:

- ‌ مذهب المالكية:

- ‌ مذهب الشافعية:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد المهور

- ‌أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم:

- ‌ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور:

- ‌رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور:

- ‌خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور:

- ‌سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه:

- ‌سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج:

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد النسل

- ‌ الترغيب في النكاح وبيان مقاصده:

- ‌ الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

- ‌ بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة:

- ‌ وسائل تحديد النسل وبيان مضارها:

- ‌ الحكم مع الدليل:

- ‌حكم التسعير

- ‌معنى التسعير:

- ‌المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه:

- ‌المسألة الثانية: من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس

- ‌المسألة الثالثة: في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير:

- ‌المسألة الرابعة: بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات

- ‌الخلاصة

- ‌حكم الذبائح المستوردة

- ‌أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع

- ‌ثانيا: ذكر طريقة الذبح الشرعية، وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة:

- ‌الصفة المشروعة في الذبح والنحر

- ‌فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم:

- ‌مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب:

- ‌حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية:

- ‌مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب:

- ‌مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة:

- ‌صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب

- ‌بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى:

- ‌ثالثا: ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية:

- ‌خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة:

الفصل: ‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء:

تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل فهو قياس أولوي فيما نراه. انتهى.

غير أنا نرى أنه لا بد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة، وليتق الله الأطباء وأولو الأمر الذين يتولون ذلك، وليعلموا أن الناقد بصير، والمهيمن قدير، والله يتولى هدى الجميع، والله أعلم.

ص: 65

ثم كتبت‌

‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء:

قامت بمصر مؤسسة علمية اجتماعية تسمى: دار الإبصار تأسست في شهر يناير سنة 1951م، ومن أغراضها إيجاد مركز لجمع العيون التي تصلح لعملية ترقيع القرنية وتوفيرها وإيجاد المواد الأخرى اللازمة لهذه العملية الخاصة باسترداد البصر وتحسينه وتوزيع العيون الواردة إلى الدار على الأعضاء، وطلبت الدار من مصلحة الطب الشرعي بتاريخ 31 أكتوبر 1951 م السماح لها بالحصول على العيون اللازمة لهذه العملية من دار فحص الموتى الملحقة بمصلحة الطب الشرعي، ونظرا إلى أن الجثث التي تنقل إلى دار فحص الموتى للتشريح لمعرفة أسباب الوفاة كلها خاصة بحوادث جنائية - طلبت المصلحة بكتابها المؤرخ 18 \ 2 \ 1952 م من قسم الرأي المختص إبداء الرأي في هذا الطلب من الوجهة القانونية، فأرسل إلينا مستشار الدولة كتاب القسم المؤرخ 3 أبريل 1952م برقم (103) المتضمن طلب بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع وأضاف إلى ذلك أن بالولايات المتحدة معاهد مؤسسة دار الإبصار المصرية تقوم بجمع

ص: 65

عيون الموتى وتوزيعها على من يطلبها من الأطباء بعد التأكد من صلاحيتها فنيا لعملية الترقيع القرني، وكذلك في إنجلترا وفرنسا وجنوب إفريقيا وبعض بلدان أوربا تشريعات خاصة لتسهيل الحصول على هذه العيون، وقد اطلعنا على قانون دار الإبصار، وعلى الكتب المشار إليها، وعلى بحث ضاف في هذا الموضوع لسعادة الدكتور محمد صبحي باشا طبيب العيون الشهير.

الجواب: إنه واضح مما ذكر أن الباعث على طلب هذه المؤسسة للحصول على عيون بعض الموتى إنما هو التوصل بها فنيا إلى دفع الضرر الفادح عن الأحياء المصابين في أبصارهم وذلك مقصد عظيم تقره الشريعة الإسلامية، بل تحث عليه، فإذن المحافظة على النفس من المقاصد الكلية الضرورية للشريعة الغراء، فإذا ثبت علميا أن ترقيع القرنية لهذه العيون هو الوسيلة الفنية لدرء خطر العمى أو ضعف البصر عند الإنسان - يجوز شرعا نزع عيون بعض الموتى لذلك بقدر ما تستدعيه الضرورة؛ لوجوب المحافظة على النفس؛ ولذا تقررت مشروعية التداوي من الأمراض؛ محافظة على النفس من الآفات، فقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألم به من الأمراض، وأمر الناس بالتداوي لإزالة العلل والآلام فيما هو أقل شأنا مما نحن بصدده، وذلك يستلزم مشروعية وسائله وجواز استعمال ما تقتضيه ضرورة التداوي والعلاج، ولو كان محظورا شرعا إذا لم يقم غيره مما ليس بمحظور مقامه في نفعه، بأن تعين التداوي به، على أن الواجب شرعا على الأمة أن تختص منها طائفة بالطب والعلاج بقدر ما تستدعيه حاجتها، وبحسب تنوع أمراضها، فيجب أن يكون فيها أطباء في كل فروع الطب،

ص: 66

ومنهم أطباء العيون، سدا لحاجة الأمة في هذا الفرع بحيث إذا قصرت الأمة في ذلك كانت آثمة شرعا، وهذا الواجب هو المعروف في الأصول بالواجب الكفائي أو الفرض الكفائي، ويجب عليهم أن يحذقوا الفن حتى يؤدوا وظائفهم أكمل أداء، فإذا هدوا إلى علاج نافع لأمراض العيون يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقدان وجب عليهم أن ينفعوا الناس به، ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة، وللوسائل في الشرع حكم المقاصد؛ ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به، وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر، بل لا يعد طبيبا من لا يعرف فن التشريح علما وعملا، كما قرر ذلك جميع الأطباء.

فيجب أن يمكن أطباء هذه المؤسسة من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك كشفا للضر عنهم، ولا يمنع من ذلك ما يرى فيه من انتهاك حرمة الموتى، فإن علاج الأحياء من الضروريات التي يباح فيها شرعا بارتكاب هذا المحظور، هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى، ولكن من القواعد الشرعية أن الضروريات تبيح المحظورات؛ ولذا أبيح عند المخمصة أكل الميتة المحرمة، وعند الغصة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يحل، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله، وجاز شق بطن الميتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته ترجى، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره، وإباحة المحظورات تقديرا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع، وفي الحديث: «لا ضرر ولا

ص: 67

ضرار (1) » وقد بني عليها كثير من الأحكام؛ ولذا قال الفقهاء: الضرر يزال، فعملا بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى - مع ما فيه من المساس بحرمتهم - لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد.

ومن القواعد العامة: أن الحاجة تنزل منزل الضرورة عامة كانت أو خاصة؛ ولذا أجاز الفقهاء بيع السلم مع كونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفلسين، وأجازوا بيع الوفاء دفعا لحاجة المدينين، ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعا، والدين يسر لا حرج فيه، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)

على أنه إذا قارنا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حرمة الموتى - نجد الثانية أخف ضررا من الأولى، ومن المبادئ الشرعية: أنه (إذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ضررا، ولا شك أن الإضرار بالميت أخف من الإضرار بالحي، ويجب أن يعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيدة بقدر ما تستدعيه الضرورة؛ لما تقرر شرعا أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها فقط؛ ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قدر ما يسد الرمق، وللمضطر لإزالة الغصة بالخمر إلا الجرعة المزيلة لها فقط، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية، وغير خاف أن ابتناء الأحكام

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .

(2)

سورة الحج الآية 78

ص: 68

على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تعريف الأحكام الجزئية للحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعا بحادث جديد، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة.

وإذ قد علم من هذا: أنه يجوز شرعا، بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني بقدر ما تستدعيه الضرورة - يعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك بقانون عام يخضع له جميع الموتى على السواء؛ لأن ذلك - فضلا عن أنه لا تقتضيه الضرورة كما هو ظاهر - مفض إلى مفسدة عامة لا وزن بجانبها لمصلحة علاج مريض أو مرضى، مظهرها ثورة أولياء الموتى وأهليهم إذا أريد انتزاع عيون موتاهم قهرا ثورة جامحة عامة، فيجب أن يقتصر في ذلك على عيون بعض الموتى ممن ليس لهم أولياء ولا يعرف لهم أهل، ومن الجناة الذين يحكم عليهم بالإعدام قصاصا، والتحديد بهذا واف بالغرض دون اعتراض أحد أو مساس بحقه. والله أعلم.

ص: 69

ولفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي فتوى تتعلق بالموضوع رأينا إثباتها. وفيما يلي نصها (1) :

سؤال: هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضا من أخذ منه؟ .

جواب: جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، سواء حدثت

(1)[الفتاوى السعدية] للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ص 143 - 148.

ص: 69

أجناسها أو أفرادها - يجب أن تتصور قبل كل شيء، فإذا عرفت حقيقتها، وشخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها - طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية، فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية، فنحن في هذه المسألة قبل كل شيء نقف على الحياد، حتى يتضح لنا اتضاحا تاما للجزم بأحد القولين.

فنقول: من الناس من يقول: هذه الأشياء لا تجوز؛ لأن الأصل أن الإنسان ليس له التصرف في بدنه بإتلاف أو قطع شيء منه أو التمثيل به؛ لأنه أمانة عنده لله؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1)

والمسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه.

أما المال: فإنه يباح بإباحة صاحبه، وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات.

وأما الدم: فلا يباح بوجه من الوجوه، ولو أباحه صاحبه لغيره، سواء كان نفسا أو عضوا أو دما أو غيره، إلا على وجه القصاص بشروطه، أو في الحالة التي أباحها الشارع، وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسئول عنه.

ثم إن ما زعموه من المصالح للغير، معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء، فكم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل.

(1) سورة البقرة الآية 195

ص: 70

ويؤيد هذا قول الفقهاء: من ماتت وهي حامل بحمل حي لم يحل شق بطنها لإخراجه، ولو غلب الظن، أو لو تيقنا خروجه حيا، إلا إذا خرج بعضه حيا فيشق للباقي، فإذا كان هذا في الميتة فكيف حال الحي؛ فالمؤمن بدنه محترم حيا وميتا.

ويؤخذ من هذا أيضا أن الدم نجس خبيث، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به، مع ما يخشى عند أخذ دم الإنسان من هلاك أو مرض، فهذا من حجج هذا القول.

ومن الناس من يقول: لا بأس بذلك؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي - صارت من أوائل ما يدخل فيه، وأن ذلك مباح، بل ربما يكون مستحبا، وذلك أن الأصل: إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه، وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المصالح، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة. وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة، ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة.

ويؤيد هذا: أن حجة القول الأول، وهي: أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة، متى اعتبرنا فيه هذا الأصل، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به، فإنه يباح لمن وقعت فيه الآكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه، يجوز قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره؛ للتمكن من علاج

ص: 71

المرض، ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير، وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة. وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها، يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث، فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه، ومنه قوله عن الخمر والميسر:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1)

فمفهوم الآية: أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه، فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء، وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون، بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف، بل ولا مرض، وربما كان في ذلك نفع له، إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا، أو صاحب حق كبير، أو أخذ عليه نفعا دنيويا ينفعه، أو ينفع من بعده.

ويؤيد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات، وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار.

(1) سورة البقرة الآية 219

ص: 72

ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور، كما هو معلوم مشاهد، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا، ووضعه في الآخر، من غير ضرر يلحق المأخوذ منه - فهو داخل فيما أباحه الشارع، وإن كان قبل ذلك، وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر، فيراعى كل وقت بحسبه؛ ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين: بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها، وتحريم التمثيل بها، فيقال: هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا، أو ربما أدى إلى الهلاك، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته، فأما في هذا الوقت، فالأمران مفقودان: الضرر مفقود، وانتهاك الحرمة مفقود، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك، واختاره مطمئنا مختارا، لا ضرر عليه، ولا يسقط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة.

ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر، فبهذا يزول المحذور.

ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه إذا أشكل عليك شيء، هل هو حلال أم حرام، أو مأمور به أو منهي عنه؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة، كان من قسم المباح أو المأمور به، وإذا كان بالعكس، كانت بعكس ذلك.

طبق هذه المسألة على هذا الأصل، وانظر أسبابها وثمراتها، تجدها

ص: 73

أسبابا لا محذور فيها، وثمراتها خير الثمرات.

وإذ قال الأولون: أما ثمراتها - (غير متيقنة) فنحن نوافق عليها، ولا يمكننا إلا الاعتراف بها، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي: التحريم، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي، ودفع الانتهاك الفظيع، وهذا مفقود هنا.

وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول: إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة، وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه، وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه، فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه، وإنما هو إيثار لغيره، وبذل من قوته لقوة مخيره، وبهذا يخف خبثه في ذاته، وتلطفه في آثاره الحميدة؛ ولهذا حرم الله الدم المسفوح، وجعله خبيثا، فيدل (هذا) على أن الدماء في اللحم والعروق، وفي معدنها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث.

فقال الأولون: هذا من الدم المسفوح، فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم، فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث، فكيف تجيزونه، ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان، أو سفحه لأكل، أو سفحه للتداوي به، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل.

فقال هؤلاء المجيزون: هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة

ص: 74

أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره، إذا لم يكن فيه ضرر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » و «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد (2) » .

فعموم هذا يدل على هذه المسألة، وأن ذلك جائز.

فإذا قلتم: إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف، كما ذكره النبي لا في وصل أعضائه بأعضائه.

قلنا: إذا لم يكن ضرر، ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا، وهل هذا إلا فرد من أفراده؛ كما أنه داخل في الإيثار، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله - فهذه المسألة من باب أولى وأحرى، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه، وإن طالت المشقة، وعظمت الشقة، فهذه كذلك وأولى.

ونهاية الأمر: أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر، فلم لا يجوز؛ ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة.

ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل، ومجاراة الأحوال، إذا لم تخالف نصا شرعيا؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزم.

فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر، ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك؛ لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس: أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة، بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع

(1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .

(2)

صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .

ص: 75