الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمصالح الكلية والجزئية، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة، وهم في ذلك مفترون، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه، الكلي والجزئي، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة، وغير قاصر من جميع الوجوه.
الموضوع الرابع: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم
ووجوب تكريمهم ورعاية حرمتهم:
إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد، عليم بما كان وما سيكون، وأنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعلها قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن يتبين لبحث علماء الإسلام عنها أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها، ومسألة تشريح جثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة، وراجعة لمقصد عام من مقاصدها العالية: (ضرورة كمال الشريعة وشمولها، وصلاحيتها لجميع الخلق، وختمها
بمن أرسل رحمة للعالمين) قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وثبت في الحديث «لا أحد أحب إليه العذر من الله (4) » .
من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وبالبحث عن مسألة التشريح تبين أنها مندرجة تحت قواعد الشريعة العامة، وراجعة إلى المصالح المعتبرة شرعا، وأن لها نظائر من المسائل التي حكم فيها الفقهاء مع اختلاف نظرهم واجتهادهم فيها، وهذا مما ينير الطريق، ويهدي الباحث في مسألة التشريح ويساعده على الوصول إلى ما قد يكون صوابا إن شاء الله.
إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة: أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت مسلما كان أو ذميا تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه، فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه، وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت، وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن، وردع لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه
(1) سورة مريم الآية 64
(2)
سورة النساء الآية 165
(3)
سورة المائدة الآية 3
(4)
صحيح البخاري التوحيد (7416) ، صحيح مسلم اللعان (1499) ، مسند أحمد بن حنبل (4/248) ، سنن الدارمي النكاح (2227) .
الجريمة خفية، وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتا عاديا، وفي ذلك براءة المتهم، كما أن في التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء، ومعرفة نوعه، فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة، وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض، وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جريا على ما اقتضت به سنة الله شرعا وقدرا.
وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة، وتدريبهم على ذلك عمليا وتعريفهم بإصاباتها وطرق علاجها - في هذا وغيره مما تقدم بيانه في الموضوع الثاني، وما ذكر في فتوى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف وما ذكره الأطباء - مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم، فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعا أو إباحة، وقد يقال: إن مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كلية عامة، ولكونها قطعية، كما دل على ذلك الواقع والتجربة، وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس وحفظها من الضروريات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء، وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام، منها: المسائل الخمس التي تقدم ذكرها، فقد بحثوها وبينوا الحكم فيها على ما ظهر لهم، فمسألة تترس الكفار بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب رجح كثير منهم رمي الترس إيثارا للمصلحة العامة، وكذا رجح كثير منهم شق بطن
من ماتت وفي بطنها جنين حي، وأكل المضطر لحم آدمي ميت؛ إبقاء على حياته، وإيثار الجانب الحي على الجانب الميت، وبإلقاء أحد ركاب سفينة خيف عليهم الغرق ولا نجاة لهم إلا بإلقاء واحد منهم، إيثارا لمصلحة الجماعة على مصلحة الواحد، وقد سبق تفصيل ذلك، فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقا له بهذه النظائر في الحكم.
وقد يقال: إن الحوادث كانت منذ كان الناس، والطب قديم، والحاجة إلى تشخيص الأمراض ومعرفة أسبابها وطرق علاجها كان في العهود الأولى، ولم يتوقف شيء من ذلك على التشريح؛ ولهذا لم يقدم الأطباء قديما على التشريح، فلم نقدم عليه اليوم؟ وقد أورد فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف هذا السؤال على نفسه وأوضحه ثم أجاب عنه في فتواه التي سبق ذكرها.
وقد يقال أيضا: إن اقتضت المصلحة - ولا بد - تشريح إنسان ميت فليقتصر على تشريح المحاربين فإن دمهم هدر، ويستثنى منهم من نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم كنسائهم وصبيانهم، ولا ينافي ذلك ما ورد عنه من النهي عن التمثيل بقتلاهم فإن نهيه عنه مقيد بما إذا لم يوجد ما يقتضي التمثيل بهم، وهنا قد وجدت الضرورة، وبهذا يجمع بين مصلحة حرمة الميت المسلم والذمي ومصلحة الخدمات الطبية. وربما نوقش ذلك باحتمال عدم الكفاية بتشريح المحاربين أو عدم تيسر الحصول عليهم فيعود الأمر إلى البحث في تشريح جثث موتى المسلمين ومن في حكمهم، قد يقال: لا ضرورة تلجئ إلى تشريح جثث الموتى مطلقا، إذا يمكن أن يستغنى عن ذلك بتشريح الحيوانات بعد ذبح ما يذبح منها ذبحا شرعيا محافظة على المال.
ففي ذلك غنية عن تشريح جثث بني آدم وجمع بين مصلحة موتى الآدميين ومصلحة الخدمات الطبية، فإن لم يتيسر الاكتفاء بتشريحها فلا أقل من أن لا تشرح جثث بني آدم، إلا فيما لا يمكن الاكتفاء فيه بتشريح جثث الحيوانات، تقليلا للمفسدة ومحافظة على حرمة الموتى بقدر الإمكان.
وللدكتور محمد عبد الفتاح هدارة كلمة بين فيها أوجه الشبه والخلاف بين جسم الإنسان وجسم الحيوانات الأخرى القريبة الشبه به قد تعتبر جوابا عن ذلك من مختص في علم التشريح المقارن وفيما يلي نصها:
أوجه الشبه والخلاف
يستلزم تدريب الطبيب للممارسة الصحيحة للطب والجراحة أن يعرف حجم وشكل ومكان وتركيب كل عضو وما يجاوره من الأعضاء الأخرى في الجسم السليم، إذ يمكنه بعدئذ أن يعرف ما قد يطرأ من تغييرات على حجم وشكل ومكان وتركيب أي من هذه الأعضاء بسبب المرض.
فالمعرفة المذكورة المطلوبة معرفة تفصيلية دقيقة يصعب تصورها أو الحصول عليها دون تشريح الأجسام البشرية، ولا يمكن الاستعاضة في هذا المضمار عن الجسم البشري بجسم حيوان آخر.
فأقرب الحيوانات إلى شكل الإنسان هي مجموعة الأنواع التي تعرف بذوات الثدي أو الثدييات، وهي التي تلد وترضع أولادها، والشبه بينها وبين الإنسان عام، ولكن هناك الاختلافات الكثيرة، ولا تفيد دراسة تفاصيل جسم حيوان ثديي في فهم تفاصيل الجسم البشري التي تعين على تشخيص الأمراض في أحوال كثيرة.
فالاعتماد على تشريح الحيوانات الثديية وحدها، حتى أقربها إلى الإنسان شكلا لا يعطي فكرة صادقة عن تفاصيل الجسم البشري، وقد يزرع في ذهن الأطباء عامة صورة غير صادقة عن تركيب الجسم البشري تكون سببا في ارتكاب الأطباء للأخطاء الفنية. وخير ما يدل هو إبراز بعض أوجه الخلاف.
الهيكل العظمي وما يتصل به من مفاصل وعضلات:
يختلف هيكل الإنسان عن هيكل الثدييات الأخرى في مقاييس العظام المكونة له واعتداله، وتقوسات العمود الفقري، وشكل الحوض والقفص الصدري، كما تختلف نسب وأشكال عظام الأطراف والمفاصل التي بينها وخاصة اليد والقدم، وعظام العضوين المذكورين تختلف في عددها وطرق تفصيلها والعضلات المتصلة بها، وأما اليد فعضو إنساني بلغ في الإنسان مبلغا من الدقة لا يوجد في سائر الثدييات.
أما الرأس فنسب الأعضاء فيه مختلفة اختلافا كبيرا في سائر الثدييات فهيكل الفكين في الثدييات يكون جزءا كبيرا من الجمجمة في حين أن صندوق الدماغ فيها صغير نسبيا، ووضع تجاويف الأنف وحجاج العين يختلف في الثدييات عن الإنسان.
الأحشاء الداخلية: الأحشاء الداخلية سواء كانت في الصدر أم في البطن - تختلف في نسبها وشكلها العام في الإنسان عن سائر الثدييات، فمعدة الإنسان بسيطة، وقد تكون متعددة الأجزاء في الحيوانات المجترة، وأمعاؤه تخالف في الطول وفي الوضع أمعاء الثدييات الأخرى.
ورحم الإنسان بسيط، وقد يكون ذا قرنين معقدين في كثير من
الثدييات.
وكلية الإنسان ذات سطح ناعم لا أخاديد به رغم تعدد ما بها من الفصوص، وكلى الثدييات تختلف، فبعضها ذات فص واحد، وبعضها متعدد الفصوص، ولكن يفصل بين فصوصها أخاديد تبدو على سطحها.
ودماغ الإنسان أكبر بكثير من أدمغة الحيوانات الثديية التي تماثله حجما، بل والتي تكبره بكثير مع اختلاف شكل دماغ الإنسان ونسب أجزائه عن أدمغة الثدييات الأخرى.
وهناك فروق كثيرة في التركيب الميكروسكوبي لأعضاء الإنسان وأعضاء الثدييات، وإن كان الشبه بين أعضاء الثدييات عاما، بالإضافة إلى أن هناك فروقا في التركيب الميكروسكوبي للأعضاء السليمة والأعضاء المريضة في جسم الإنسان لا بد من معرفتها حتى يعرف طبيعة المرض.
هذا ما تيسر إعداده، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
حرر في 21 \ 7 \ 1396 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (47) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396هـ
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ - جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم (3231 \ 2 \ خ) المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم (34 \ 1 \ 2 \ 13446 \ 3) وتاريخ 6 \ 8 \ 1395 هـ المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة - المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم، وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية.
كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه - قرر المجلس ما يلي:
بالنسبة للقسمين الأول والثاني: فإن المجلس يرى: أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع: إجازة التشريح لهذين الغرضين، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث: وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها.
وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان.
وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة: فإن المجلس يرى: جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا؛ وذلك لما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » . ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة: فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .
والحال ما ذكر.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
محمد بن علي الحركان
عبد الله بن محمد بن حميد
…
عبد الله بن خياط
…
عبد الرزاق عفيفي
عبد المجيد حسن
…
عبد العزيز بن صالح
…
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن غصون
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
…
سليمان بن عبيد
محمد بن جبير
…
عبد الله بن غديان
…
راشد بن خنين
…
صالح بن لحيدان
…
عبد الله بن منيع