الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستدلوا على ذلك بأدلة:
منها: حديث: «المؤمنون عند شروطهم» .
ومنها: قياس الطلاق على العتق بجامع ما لكل منهما من قوة وسراية.
ومنها: اعتبار الكتاب والسنة للتعليقات مطلقا من القطع بحصول المشروع فيها عند وجود شرطه.
ومنها: ما نقله الأئمة من إجماع الأمة على إيقاع الطلاق المعلق عند وجود المعلق محليه سواء كان التعليق على وجه اليمين أم لا. . . إلى آخر الوجوه التي ذكرها تقي الدين السبكي في الاستدلال على ما تقدم، ويناقش ذلك بما يأتي نقله عن ابن تيمية وابن القيم.
الأمر الثاني: أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على نكاحها فتعليقه لغو، ولا يقع طلاقه عند زواجه بها بناء على أنها أجنبية منه وقت التعليق، وأن التعليق إيقاع لا يمين، كما تقدم بيانه نقلا عن ابن الهمام عند ذكر مذهب الحنفية. وما وراء هذا من اقتضاء صيغ التعليق للفور أو التكرار وعدم اقتضائها لذلك، ومن وقوع المعلق على نفي الفعل عند اليأس منه أو عند مضي زمن يمكن فيه الفعل فلا تعلق له بأصل البحث المطلوب إعداده.
د-
المذهب الحنبلي:
1 -
قال شيخ الإسلام (1) : قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: (إن كلمتك فامرأتي طالق، وعبدي حر) قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا.
(1)[القواعد النورانية] ص 258، تحقيق\ محمد حامد الفقي- ط \ مكتبة المعارف.
2 -
وقال (1) أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد، فقال المروزي: قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر، فيعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة، وقال: ليس يقول: كل مملوك لها حر- في حديث ليلى بنت العجماء - حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب، وذكرت العتق، فأمروها بالكفارة إلا التيمي، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق، قال: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع - قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته، وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين - قلت: فيها شيء؟ قال: نعم، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين، قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي، قلت: فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث؟ قال: يعتق، كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا:(الجارية تعتق) ثم قال: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر. قلت: فإيش إسناده؟ قال: معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس، وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى: وهما مكيان، وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق، والحلف بالنذر؟ لأنهما لا يكفران، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة، وقال صالح بن أحمد: قال أبي: وإذا قال: جاريتي حرة إن كان كذا وكذا، قال: قال ابن عمر وابن عباس: تعتق، وإذا قال: كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته، فإن هذا لا يشبه هذا، ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما: العتق والطلاق لا يكفران.
(1) المرجع السابق ص 259، 260.
3 -
وقال (1) أيضا: وأما قول القائل: إن العتق انفرد به التيمي فعنده جوابان:
أحدهما: أنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه أشعث، وجسر بن الحسن، وأحمد ذكر أنه لم يبلغه العتق إلا من طريق التيمي وقد بلغ غيره من طريق أخرى ثانية، ومن طريق ثالثة أيضا شاهدة وعاضدة.
الثاني: أن التيمي أجل من روى هذا الأثر عن بكر وأفقههم فانفراده به لا يقدح فيه، ألا ترى أن منهم من ذكر فيه ما لم يذكره الآخرون، ومنهم من بسطه، ومنهم من استوفاه، وقد روى عن التيمي مثل يحيى بن سعيد القطان، ومثل ابنه المعتمر وغيرهما، واتفقوا عنه على لفظ واحد، فدل على ضبطه وإتقانه.
4 -
وقال (2) أيضا: وأما أحمد فبلغه أثر في الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء، لكن لم يبلغه إلا من وجه واحد، فظن أن التيمي انفرد به، فكان ذلك علة فيه عنده، وعارضه بأثر آخر روي عن ابن عمر وابن عباس.
وقد ذكرت في غير هذا الموضع حديث ليلى بنت العجماء، وأنه روي من ثلاثة أوجه، وأنه على شرط [الصحيحين] ، وممن رواه أبو بكر الأثرم في [مسائله] عن أحمد. . . إلخ.
5 -
وقال (3) أيضا: وأما معارضة ذلك بما روي عن ابن عمر وابن
(1)[نظرية العقد] ص 136، 137.
(2)
المرجع السابق ص 118.
(3)
نفس المرجع ص 137- 139.
عباس فعنه أجوبة- هذا ملخصها:
أحدها: أن ذلك المنقول ليس فيه حجة، فإن فيه: أنها حلفت بالعتق وأيمان أخرى فأفتيت في الجميع باللزوم ليس فيه أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بالفرق بين العتق وبين غيره من الأيمان، بل فيه أنهم سووا بين ذلك، وفي بعض طرقه: أنه كان معهم ابن الزبير. . . إلخ.
الثاني: أن هذا الحديث هو الذي ذكره الهندواني من الحنفية. أن لزوم نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة. ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وأنكر الناس ذلك عليه، وطعنوا في ذلك، فإن كان هذا الحديث صحيحا ثبت ما نقله الهندواني، وإن لم يكن صحيحا لم يكن لأحد أن يحتج به.
الثالث: أنه- بتقدير ثبوته- يكون الصحابة متنازعين في جنس هذه التعليقات التي هي من جنس نذر اللجاج والغضب. . . إلخ.
الرابع: أن هؤلاء الذين نقل عنهم في هذا الجواب: أنهم ألزموا الحالف ما حلف به. قد ثبت عنهم نقيض ذلك، فثبت عن ابن عباس من غير وجه. أنه أفتى بكفارة يمين في هذه الأيمان، وكذلك ابن عمر فغاية الأمر أن يكون عنهما روايتان، وأما عائشة وحفصة وزينب وعمر بن الخطاب فلم ينقل عنهم إلا أنها أيمان مكفرة، فمن اختلف عنه سقط قوله، ويبقى الذين لم يختلف عنهم.
الخامس: أن هذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن راويه لم يعلم أنه حافظ وإنما كان قاصا، وإذا لم يثبت حفظ الناقل لم يؤمن غلطه، فلا يقبل ما ينفرد به، لا سيما إذا خالف الثقات.
السادس: أنه قد ثبت عن هؤلاء الصحابة بنقل الثقات من الطرق
المتعددة: ما يخالف نقل عثمان بن حاضر، فدل ذلك على أنه غلط فيما رواه.
السابع: أن غاية هذا: أنه نقل عن بعض الصحابة الفرق بين العتق وغيره، وقد نقل عن هذا وعن غيره التسوية بينهما، فلو كان النقلان ثابتين لكان مسألة نزاع بين الصحابة، فكيف إذا كان هذا النقل؟ ! أثبت والصحابة الذين فيه أكثر وأفضل؟ ! والذين في ذلك هم هذا وزيادة.
الثامن: أن فيه من الخطأ ما يدل على أنه لم يحفظ، فلفظ حديث عبد الرزاق. . . وساقه إلى آخره.
وقال بعد ذلك: وهذا اللفظ فيه: (أنهما أفتيا بلزوم ما حلفت به) فأوقعا العتق، وقالا في المال بإجزاء زكاته لا بكفارة يمين.
وهذا القول لا يعرف عن أحد قبل ربيعة بن أبي عبد الرحمن، بل أهل العلم بأقوال العلماء كالمتفقين على أنه لم يقله أحد قبل ربيعة.
وقد ثبت بالنقول الصحيحة عن ابن عباس: أنه كان يأمر في ذلك بكفارة يمين، وكذلك عن ابن عمر.
6 -
قال ابن قدامة (1) : اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق: فقال القاضي في [الجامع] وأبو الخطاب هو تعليقه على شرط، أي شرط كان، إلا قوله: إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك، وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة، وهذا قول أبي حنيفة؟ لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق به الحكم، كما لو قال: إن دخلت
(1)[المغني ومعه الشرح](8\ 334) .
الدار فأنت طالق، ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في [المجرد] : هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إن لم تدخلي فأنت طالق، أو على تصديق خبره مثل قوله: أنت طالق قدم زيد أو لم يقدم، فأما التعليق على غير ذلك، كقوله: أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان- فهو شرط محض ليس بحلف؛ لأن حقيقة الحلف القسم، وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور، وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر، نحو قوله: والله لأفعلن أو لا أفعل أو قد فعلت أو لم أفعل، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي، فإذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني؛ لأنه ليس بحلف، وتطلق على الأولى؛ لأنه حلف، وإن قال: كلما كلمت أباك فأنت طالق طلقت على القولين جميعا؛ لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد ذلك طلقت واحدة كلما أعاد مرة طلقت حتى تكمل الثلاث؛ لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة أخرى، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور: ليس ذلك بحلف، ولا يقع الطلاق بتكرار؛ لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا حلفا. . . ولنا: أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وقوله:
إنه تكرار للكلام حجة عليه، فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى، فإذا كان في الأولى حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى، وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده، وهاهنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء، كما لو قال. أنت طالق أنت طالق، يعني بالثانية إفهامها، فأما إن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة، ولم يقع أكثر منها، فإذا قال لها ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة، فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها، أو قال لها: إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك -لم تطلق بذلك؛ لأن شرط طلاقها إنما كان بعد بينونتها.
7 -
وقال أيضا: باب تعليق الطلاق بالشروط. يصح ذلك من الزوج، ولا يصح من الأجنبي فلو قال: إن تزوجت فلانة، أو إن تزوجت امرأة فهي طالق- لم تطلق إذا تزوجها، وعنه تطلق، وإن قال لأجنبية: إن قمت فأنت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق، رواية واحدة.
8 -
ومن [حاشية المقنع] ما نصه (1) : قوله: ولا يصح من الأجنبي، فلو قال. . . إلخ، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في هذه المسألة، فالمشهور عنه أنه لا يقع، وهو المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وبه قال عطاء والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، وسوار القاضي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين وشريح، وروي عن أحمد ما يدل على وقوع الطلاق، قال في
(1)[المقتع وحاشيته] بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (3\ 177)
الفروع،: وعنه صحة قوله لزوجته: من تزوجت عليك فهي طالق أو قوله لعتيقته: إن تزوجتك فأنت طالق، أو قال لرجعيته: إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا أراد التغليظ عليها، وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية، والأول أصح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا طلاق ولا عتاق لابن آدم فيما لا يملك (1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب، قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء في الباب، ورواه الدارقطني وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وزاد:«وإن عينها» ، وعن المسور مرفوعا قال:«لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك (2) » رواه ابن ماجه بإسناد حسن، قال أحمد رحمه الله تعالى: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أصحابه.
9 -
وقال علي بن سليمان المرداوي على قول الموفق: (ولا يصح من الأجنبي إلخ)(3) قال: هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ونص عليه ثم ساق ما يدل على الوقوع.
10 -
وقال عبد الله بن محمد بن مفلح (4) : (يصح مع تقدم الشرط) و (كعتق على وجه النذر)(5) أولا، وكذا إن تأخر، وعنه يتنجز. ونقله ابن هانئ في العتق، قال شيخنا: وتأخر القسم، كأنت طالق لأفعلن كالشرط، وأولى بأن لا يلحق، وذكر ابن عقيل في أنت طالق وكرره أربعا ثم قال عقب الرابعة: إن قمت طلقت ثلاثا؛ لأنه لا يجوز تعليق ما لم يملك
(1) سنن الترمذي الطلاق (1181) ، سنن أبو داود الطلاق (2190) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2047) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .
(2)
سنن ابن ماجه الطلاق (2048) .
(3)
[الإنصاف](9\ 59) .
(4)
[الفروع](5\ 424) وما بعدها.
(5)
أشار بها صاحب كتاب [الفروع] إلى أنها علامة ما أجمع عليه.
بشرط، ويصح بصريحه وبكنايته، مع قصده من زوج، وتعليقه من أجنبي كتعليقه عتقا بملك والمذهب لا يصح مطلقا، قاله القاضي وغيره، وعنه صحة قوله لزوجته: من تزوجت عليك فهي طالق، أو لعتيقته: إن تزوجتك فأنت طالق، أو لرجعيته: إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا وأراد التغليظ عليها، وجزم به في [الرعاية] وغيرها في الأوليين، قال أحمد في العتيقة قد وطئها والمطلق قبل الملك لم يطأ، وظاهر أكثر كلام أصحابه التسوية، ويقع بوجود شرطه نص عليه، وقال: الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، واحتج بابن عمر وابن عباس، وأن حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع لم يقل فيه: وكل مملوك لها حر، وأنهم أمروها بكفارة يمين، إلا سليمان التيمي انفرد به، واحتج في رواية أبي طالب بهذا الأثر على أن من حلف بالمشي إلى بيت الله، وهو محرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة يكفر واحدة، وأن فيه اعتقي جاريتك، ولا أعلم أحدا قال فيه: يجزئ عنه في العتق والطلاق كفارة يمين، ورواه أيضا الأثرم من حديث أشعث الحمراني بإسناد صحيح، وذكر ابن عبد البر أنهما تفردا به، وذكر ابن حزم وغيره: أنه صحيح فيه، وذكر البيهقي وغيره: أنه روى عنهما فيه: أما الجارية فتعتق. فكأن الراوي اختصر. واختار شيخنا إن أراد الجزاء بتعليقه كره الشرط أولا، وكذا عنده الحلف به، وبعتق، وظهار، وتحريم، وأن عليه دل كلام أحمد، وقال: نقل حرب أنه توقف عن وقوع العتق، وما توقف فيه يخرجه أصحابه على وجهين، قال: ومنهم من يجعله رواية، قال شيخنا: كما سلم الجمهور أن الحالف بالنذر ليس ناذرا، ولأنه لو علق إسلامه أو كفره لم يلزمه، وإن قصد الكفر تنجز وما لزم
منجزا مع تعليقه أبلغ، فإذا كان هذا إذا قصد اليمين به معلقا لا يلزم فذاك أولى، فعلى هذا إذا حنث فإنه في العتق إن لم يختره لزمه كفارة يمين، وفي غيره مبني على نذره فيكفر وإلا التزم ذلك بما يحدثه من قول أو فعل يكون موفيا لموجب عقده، ولا يجيء التخيير بينه وبين الكفارة عند من يوجب الكفارة عينا في الحلف بنذر الطاعة، وأما إنه لا شيء عليه ولا تطلق قبله (1) ذهب أحمد إلى قول أبي ذر: أنت حر إلى الحول، وعنه: بلى مع تيقن وجوده، وخصها شيخنا بالثلاث؛ لأنه الذي يصير كمتعة، ونقل مهنا في هذه الصورة تطلق إذن، قيل له فتتزوج في: قبل موتي بشهر؟ قال: لا، ولكن يمسك عن الوطء حتى يموت وذكر في [الرعاية] تحريمه وجها. انتهى المقصود.
(1) في الهامش بعد قوله: (قبله) في مخطوط الدار: (وإن قال) .
11 -
قال شيخ الإسلام (1) : وأما صيغة القسم، فهو أن يقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره، أو منع لنفسه أو لغيره، أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم، وهو يمين أيضا في عرف الفقهاء، لم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا في حكمها، فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث، ومنهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق، بل قال: عليه كفارة يمين، أو قال: لا شيء عليه بحال.
(1)[مجموع الفتاوى](33\ 45) .
12 -
وقال (1) أيضا: والثالث صيغة تعليق، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة، فإما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة، وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة.
فالأول: حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء، ولو قال: إن حلفت يمينا فعلي عتق رقبة، وحلف بالطلاق- حنث، بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين، وكذلك ما يعلق بالشرط لقصد اليمين، كقوله: إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة، أو فعبيدي أحرار، أو فعلي الحج، أو علي صوم شهر، أو فمالي صدقة، أو هدي ونحو ذلك- فإن هذا بمنزلة أن يقول: العتق يلزمني لأفعل كذا، أو علي الحج لا أفعل كذا، أو نحو ذلك، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة.
وقال أيضا: والثاني: وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة، كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله: أنت طالق عند رأس الشهر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق، ولم يعلم فيه خلاف قديم، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق، وهو قول الإمامية، مع أن ابن حزم ذكر في [كتاب الإجماع] إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين،
(1)[مجموع الفتاوى](33\45)
هل يقع الطلاق أو لا يقع أو لا شيء عليه؟ أو يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال، كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة، وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض أو المنع كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين؟ فيه قولان: أحدهما: هو يمين، كقول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، والثاني: أنه ليس بيمين، كقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد، وهذا القول أصح شرعا ولغة، وأما العرف فيختلف.
ثم ذكر (1) أنواع الأيمان جملة، وتكلم على كل نوع منها تفصيلا قال: والثاني: أن يكون مقصوده الحض أو المنع، أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج، وصوم سنة، ومالي صدقة، وعبيدي أحرار، ونسائي طوالق - فهذا الصنف يدخل في مسائل (الأيمان) ويدخل في مسائل (الطلاق والعتاق والنذر والظهار) وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط، وقد وجد الشرط، فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط.
والقول الثاني: هذه يمين غير منعقدة، فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت (2) » وفي رواية في الصحيح: «لا تحلفوا إلا بالله (3) » .
والقول الثالث: إن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان
(1)[مجموع الفتاوى](33\ 49) وما بعدها.
(2)
صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3)
سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا في الأول: عليه كفارة يمين إذا حنث، وقالوا في الثاني: يلزمه ما علقه، وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة، وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة.
والقول الثالث: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، كما بسط ذلك في موضعه، وذلك أن الله تعالى قال في كتابه:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) إلى قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (2) وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3)
وثبت في [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (4) » .
وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى: أما اللفظ: فلقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (5) وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} (6)
وهذا خطاب للمؤمنين، فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا، والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد أشرك (7) » رواه أهل [السنن] أبو داود وغيره، فلا تدخل هذه في أيمان
(1) سورة المائدة الآية 89
(2)
سورة المائدة الآية 89
(3)
سورة التحريم الآية 2
(4)
صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(5)
سورة التحريم الآية 2
(6)
سورة المائدة الآية 89
(7)
سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
المسلمين، وأما ما عقده بالله والله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك؛ ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق - دخل في ذلك، كما ذكر ذلك الفقهاء، ولا أعلم فيها نزاعا، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب.
أما من جهة المعنى: فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم، لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أو ل الإسلام قبل أن تشرع الكفارة، لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت المفسدة موجودة.
وأيضا: فقد قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (1) نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها، فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به.
وأيضا: فقد قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2){وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3)(والإيلاء) هو الحلف والقسم، والمراد بالإيلاء هنا: أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا، وإن حلف بما عقده
(1) سورة البقرة الآية 224
(2)
سورة البقرة الآية 226
(3)
سورة البقرة الآية 227
لله؛ كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق- كان موليا عند جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي - في قوله الجديد- وأحمد.
ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا، كابن المنذر وغيره، وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق، والفيئة: هي الوطء، خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، فإن فاء فوطئها حصل مقصودها، وقد أمسك بمعروف، وقد قال تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقا امرأته، ولا تسقط الكفارة، كما في قوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2){قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3)
فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين وإن كان المولي لا يفيء، بل قد عزم على الطلاق فإن الله سميع عليم، فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء، وإما أن يعزم الطلاق، فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
وأما اليمين بالطلاق فمن قال: إنه يقع به الطلاق فلا يكفر، فإنه يقول:
(1) سورة البقرة الآية 226
(2)
سورة التحريم الآية 1
(3)
سورة التحريم الآية 2
إن فاء المولي بالطلاق وقع به الطلاق، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به الطلاق، فالطلاق على قوله لازم، سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان، والقرآن يدل على أن المولي مخير: إما أن يفيء، وإما أن يطلق، فإذا فاء لم يلزمه الطلاق، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل: بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء، وفيه قول شاذ: أنه لا شيء عليه بحال، وقول الجمهور أصح، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (1) » .
فإن قيل: المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة، وإن وقع به الطلاق، ورحمه بذلك.
قيل: هذا لا يصح، فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل: أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال، فإنه إذا أولج حنث، وكان النزاع في أجنبية، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين في مذهب مالك.
والثاني: يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها، وتحرم بها عليه امرأته، ومعلوم: أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذا الفيئة.
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا فائدة في التأجيل، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره، فإن كان لا بد لها من الطلاق على
(1) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة لا لضرها.
وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس، فأفتوا من حلف فقال: إن فعلت كذا فمالي هدي، وعبيدي أحرار، ونحو ذلك- بأن يكفر عن يمينه، فجعلوا هذا يمينا مكفرة، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت، وقد ظن طائفة من العلماء: أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان، وليس كذلك، بل هذه أيمان محضة.
وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر، ولكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيئين:
أحدهما: فعل المحلوف عليه.
الثاني: عدم إيقاع المحلوف به.
فقول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج هذا العام بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام، كذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أعتق عبدي أو أطلق امرأتي- فإنه لا تلزمه الكفارة إلا فعله ولم يطلق ولم يعتق، ولو قال: والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي
ولأعتقن عبدي، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبدي حر- هو بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق، ولأوقعن الطلاق والعتاق، وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة وإلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق، وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث؛ لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا، وقد يكون وقوعا، فإذا قال: إن فعلت كذا فعلي صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم، وإذا قال: فعبدي حر وامرأتي طالق، فالمعلق وقوع العتاق والطلاق، وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق فقال: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق.
وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط فهذا حالف، كما لو قال: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا.
وأما قول القائل: إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه:
أحدها: أن الحالف بالكفر والإسلام- كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، وقول الذمي: إن فعلت كذا فأنا مسلم- هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط، ولا يلزمه ذلك بالاتفاق؛ لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به، وهذا المعنى موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق.
الثاني: أنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله.
الثالث: أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين:
أحدهما: أن يكون الملتزم قربة.
الثاني. أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه، ولو التزم قربة كالصلاة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم يلزمه، بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول المحققين من أصحاب مالك.
وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها.
وأما قول القائل: إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة.
فيقال. النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات، ولهذا جعله شركا؛ لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين، فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله.
13 -
وقال أيضا (1) : فصل: في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين.
فالأول: أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط، وإن كان الشرط مكروها له، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق، فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط، لكن إذا وجد الشرط
(1)[مجموع الفتاوى](33\64)
فإنه يختار طلاقها: مثل: أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها، لكن إذا فعلت هذه الأمور اختار طلاقها، فيقول: إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق، ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها: إما عقوبة لها، وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر، وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا: أنه لا يقع به الطلاق، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة، وطائفة من الظاهرية، وهذا ليس بحالف، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع، ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة.
وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول، فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم، وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء، وهو أكره إليه من الشرط فيكون كارها للشرط، وهو للجزاء أكره، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين، فيقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار أو علي الحج، ونحو ذلك، أو يقول لامرأته: إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق، يقصد: زجرها أو تخويفها باليمين، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت؛ لأنه يكون مريدا لها، وإن يقصد ذلك لكون
طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع، لا لقصد الإيقاع، فهذا حالف ليس بموقع، وهذا الحالف في الكتاب والسنة، وهو الذي تجزئه الكفارة، والناس يحلفون بصيغة القسم، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء.
14 -
وقال أيضا (1) : إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة- ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، ولكن القول الراجح: أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه، حتى لو قال: أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده، ولو قال: أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى، وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر- فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، كذلك قال كثير من السلف والخلف- إنه إذا كان متزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا، وهذا مذهب أحمد، وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته
(1)[مجموع الفتاوى](33\ 74)
الكفارة في مذهبه، لكن قيل: إن الواجب كفارة ظهار، سواء حلف أو أوقع، وهو المنقول عن أحمد، وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره، فالحلف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك، بل معناه يوافقه، فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين.
15 -
وقال ابن القيم (1) : ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في [صحيح البخاري] عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا، وأما من يفصل بين القسم المحض،
(1)[إعلام الموقعين] لابن قيم الجوزية - تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل (3\ 69- 80) .
والتعلق الذي يقصد به الوقوع، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وقد صح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب: ما أفتوا به في النوعين، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم، ويترك بعضها. فأما الوقوع: فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر، وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ففعلته، قال: هي واحدة، وهو أحق بها على أنه منقطع (1) .
وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته، وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر، فقال: إن عدت سألتيني فأنت طالق.
فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق.
وأما الآثار عنهم في خلافه: فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها، ولا تفرق بينهما.
قال الأثرم في [سننه]،: ثنا عارم بن الفضل، ثنا معمر بن سليمان، قال أبي: ثنا بكر بن عبد الله، قال: أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية،
(1) في سنده الجراح بن المنهال، ضعفه غير واحد، وقال ابن حبان: كان يكذب في الحديث، ويشرب الخمر.
وهي نصرانية، إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال. فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها، فجاءت معي إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت: إن كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، فقالت:(يهودية ونصرانية! خلي بين الرجل وامرأته) فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها، فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية! ؟ ، فقالت:(يهودية ونصرانية! ؟ خلي بين الرجل وامرأته)، قالت: فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معي إليها، فقام معي على الباب، فسلم فقالت. بأبي أنت وبأبي أبوك، فقال:(أمن حجارة أنت، أم من حديد أنت، أم أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياهما) فقالت: يا أبا عبد الرحمن - جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال. (يهودية ونصرانية! ؟ كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته) .
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له: ثنا صفوان بن صالح، ثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، قال: حدتني حسن بن الحسن قال: حدثني بكر بن عبد الله المزني، قال: حدثني رفيع، قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فحلفت بالهدي والعتاقة: أن تفرق بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت لها ذلك، فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك، فأبت، ثم أتيت زينب وأم سلمة، فذكرت ذلك
لهما، فأرسلتا إليها. أن كفري عن يمينك، فأبت، فأتيت ابن عمر، فذكرت ذلك له، فأرسل إليها ابن عمر: أن كفري عن يمينك، فأبت، فقام ابن عمر فأتاها، فقال: أرسلت إليك فلانة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزينب أن تكفري عن يمينك، فأبيت، قالت: يا أبا عبد الرحمن، إني حلفت بالهدي والعتاقة. قال: وإن كنت قد حلفت بهما.
وقال الدارقطني. ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث، ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع: أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت؟ فأمروها أن تكفر عن يمينها، وتخلي بينهما.
وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري: ثنا أشعث، ثنا بكر، عن أبي رافع: أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها في سبيل الله، وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. رواه روح والأنصاري واللفظ له، وحديث روح مختصر.
وقال النضر بن شميل: ثنا أشعث، عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا: تكفر يمينها.
وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي: ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع: أن ليلى بنت العجماء مولاته، قالت: هي يهودية وهي نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة، وقال: فأتيت ابن عمر، فجاء معي، فقام بالباب، فلما سلم قالت: بأبي أنت وأبوك، قال: أمن حجارة أنت أم من حديد؟ أتتك زينب، وأرسلت إليك حفصة، قالت: قد حلفت بكذا وكذا. قال: كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته.
فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق، كذا قال الإمام أحمد: لم يقل: (وكل مملوك لها حر) إلا التيمي، وبرئ التيمي من عهدة التفرد.
وقاعدة الإمام أحمد: أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر؛ لصحته وانتفاء علته.
فإن قيل: للحديث علة أخرى، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به، وقد أشار إليها في رواية الأثرم، فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا، وكل مملوك لها حر، فأفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته، وأيمان، فقال: أما الجارية فتعتق.
قلت: يريد بهما: ما رواه معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال: حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت: مالها في سبيل الله، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها، فحلف زوجها
أن لا تفعله، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر، فقالا: أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها، فقيل: لا ريب أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان.
هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان، فإن رواته حفاظ أئمة، وقد خالفوا عثمان، وأما ابن عباس فقد روي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله، قال: يكفر يمينه، وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان، ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة.
قال أبو محمد بن حزم: وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين، وعن ابن عمر: أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك- كفارة يمين واحدة. فإذا صح هذا عن الصحابة، ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر في قول الحالف: عبده حر إن فعل، أنه يجزيه كفارة يمين، وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى، فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى، وكيف وقد أفتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق: أنه لا شيء عليه، ولم يعرف له في الصحابة مخالف.
قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزه في شرحه لأحكام عبد الحق: (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه) وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال أمير المؤمنين علي كرم
الله وجهه وشريح وطاوس: لا يلزمه من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظه بعينه، فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق.
وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط، ولا تعارض بين ذلك، فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق، وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه، فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر، فإن كراهته لذلك كله، وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه، وهذه علة صحيحة، فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة، والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم، بل لزوم الإعتاق، والتطليق، بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى، أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين، وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق، فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء: وهي: وجوب التطليق، وفعله، وحصول أثره، وهو الطلاق، فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى.
أما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة، وبالقول تارة، وبالشك تارة، ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه، فلأن يمنع من
وقوع الطلاق أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله، ويسري في ملك الغير، وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره، ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه، كما أفتى به الصحابة، فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف:(أيمان المسلمين تلزمني) عند من ألزمها بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) أولى وأحرى.
وإذا دخلت في قول الحالف: إن حلفت يمينا فعبدي حر، فدخولها في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير (2) » أولى وأحرى.
وإذا دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك (3) » فدخولها في قوله: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (4) » أولى وأحرى، فإن الحديث أصح وأصرح.
وإذا دخلت في قوله: «من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان (5) » فدخولها في قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (6) أولى وأحرى بالدخول أو مثله.
(1) سورة التحريم الآية 2
(2)
صحيح مسلم الأيمان (1651) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3786) ، سنن ابن ماجه كتاب الكفارات (2108) ، مسند أحمد بن حنبل (4/378) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2345) .
(3)
سنن الترمذي النذور والأيمان (1532) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2104) .
(4)
صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(5)
صحيح البخاري المساقاة (2357) ، صحيح مسلم الإيمان (138) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3243) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2323) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(6)
سورة المائدة الآية 89
وإذا دخلت في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (1)
فلو حلف بالطلاق كان موليا، فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى؛ لأن الإيلاء نوع من اليمين، فإذا دخل في الحلف في الطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس.
وإذا دخلت في قوله: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك (2) » فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان، وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص؟! وإذا دخلت في قوله:«إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق (3) » فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (4) فهلا دخلت في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (5)
وإذا دخلت في قول الحالف: (أيمان البيعة تلزمني) وهي الأيمان التي رتبها الحجاج، فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله؟! فإذا كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى: أن الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الأيمان، وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع، فلا يلزم الحالف بها شيئا، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه:(ليس الحلف بالطلاق شيئا)
(1) سورة البقرة الآية 226
(2)
صحيح مسلم الأيمان (1653) ، سنن الترمذي الأحكام (1354) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2349) .
(3)
صحيح مسلم المساقاة (1607) ، سنن النسائي البيوع (4460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2209) ، مسند أحمد بن حنبل (5/297) .
(4)
سورة المائدة الآية 89
(5)
سورة المائدة الآية 89
وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه: أنها من خطوات الشيطان، لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود: أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إن كلمت فلانا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت، وإن شاءت أمسكت، وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية.
الوجه الثاني: أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته، وهذا اختيار الروياني، ووجهه: أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية.
الوجه الثالث: أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القفال في [فتاويه] .
ووجهه: أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة، كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو قد طلقتك، أو يقول: امرأتي طالق أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني؛ ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاقا، وقال عطاء: الله بوأها، وتبعه على ذلك الأئمة، فإذا قال: الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله، وإن لم يضفه فلا
يقع، والموقعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم، ولمن نصر قول القفال: أن يقول: إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه؛ لأنه نذر أن يطلق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع.
وقوله: الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق، وقوله:(الطلاق يلزمني) لا يصلح أن يكون سببا (إذ) لم يضف فيه الطلاق إلى محله (فهو كما لو قال: (العتق يلزمني) ولم يضف فيه العتق إلى محله) (1) بوجه، ونظير هذا أن يقول له: بعني أو أجرني، فيقول: البيع يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الإجارة حتى يضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: الظهار يلزمني لم يكن ذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله، كما لو قال: العتق يلزمني، ولم يضف فيه العتق إلى محله، وهذا بخلاف ما لو قال: الصوم يلزمني أو الحج، أو الصدقة، فإن محله الذمة، وقد أضافه إليها.
فإن قيل: وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة؟
قيل: هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك، وهو التطليق والإعتاق، وحينئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا: أنه لو
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة دار الفكر 1397 هـ (الناشر) .
قال: أنا منك طالق، لم تطلق بذلك؛ لإضافة الطلاق إلى غير محله.
وقيل: تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك؛ تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات، فهذا كشف سر هذه المسألة.
وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في [شرح التنبيه] . انتهى المقصود.
وقال ابن القيم (1) أيضا: قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان:
إحداهما: إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق.
والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وإن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا.
(1)[إعلام الموقعين](3\83) .
16 -
قال السبكي: ردا على استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الفصل الثالث في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل:
أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (1) وساق الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) ثم قال: وإنما الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (3) ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه، والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة، قال الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (4) وساق الآية إلى قوله تعالى: {عَلِيمٌ} (5) ثم قال: وللمفسرين في معنى قوله تعالى:
(1) سورة المائدة الآية 89
(2)
سورة المائدة الآية 89
(3)
سورة المائدة الآية 89
(4)
سورة البقرة الآية 224
(5)
سورة البقرة الآية 224
{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} (1) قولان:
أحدهما: أن المراد: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى عرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا، لا تفعلوا فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى، فنهاهم الله عن اليمين على ذلك، ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع ليكون طريقا للحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2) » .
والقول الثاني: أن المراد: لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء، وقوله:{أَنْ تَبَرُّوا} (3) معناها: إرادة أن تبروا، يعني: إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم، ولا شك أن اليمين بالله تعالى مرادة في الآيتين، وهي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا، فإذا قال:(والله لا أفعل) أو (والله لأفعلن) فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم؛ ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء: أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها.
ومن هنا قال أهل الظاهر: لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك، وممن قال بهذا القول: الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، نقله ابن عبد البر وقال: هو الصواب عندنا والحمد لله.
(1) سورة البقرة الآية 224
(2)
صحيح البخاري كتاب كفارات الأيمان (6721) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3780) .
(3)
سورة البقرة الآية 224
وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل الإلحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم، هذه أقوال المعتبرين من العلماء. . . هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:
أحدهما: أن يمين الطلاق لا كفارة فيها، ولو قلنا: هي يمين.
والثاني: أن عموم الآية مخصوص، فلا تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه اسم اليمين لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء، فإذا كان للفظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه، ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع، فإن تعذر حملناه على معناه في اللغة والعرف، وهاهنا في الآية زيادة وهي: أن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به، أو لم يكره ولم يحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من
كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (1) » وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (2) » وفي [سنن النسائي] من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون (3) » فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى عنه لم يكن شرعيا، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا، والكل شرعي ينعقد، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول:"لا، ومقلب القلوب (4) » «وفي حديث صفة الجنة: أن جبريل قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها (5) » «ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ورب الكعبة (6) » فكل أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله: أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى، فإذا كانت اليمين الشرعية: هي اليمين بالله عز وجل أو صفاته كانت الآية محمولة على ذلك، فدلت الآية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي، فيحمل على المعنى الشرعي، وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية، فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية، وهي: الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته، ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك.
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2)
صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3)
سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
(4)
صحيح البخاري القدر (6617) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1540) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3761) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2092) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2350) .
(5)
سنن النسائي الأيمان والنذور (3763) ، سنن أبو داود السنة (4744) ، مسند أحمد بن حنبل (2/333) .
(6)
سنن النسائي الأيمان والنذور (3773) .
ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك؛ لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله، وعند هذا اختلف نظرهم: فمنهم من يلحق أنواعا كثيرة، ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف بالصحابة والتابعين ومن بعدهم...... ومضى إلى أن قال: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة، فلا معدل عن الإجماع، إذ لا يعارض الإجماع بدليل غيره، هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين، ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها تسمى أيمانا، قال ابن عبد البر: وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر، وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء كل على أصله، وقول المتقدمين: الأيمان بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل، فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة.
وأما الآية الثانية: وهي: قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فإن المستدل تعلق بها بناء على أن الكفارة وجبت في التحريم، خاصة وأن الله سبحانه جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين في الكفارة، ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك، فإن هذه الواقعة قد قيل: إنها في قصة مارية، وقيل: في قصة العسل، ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى، وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب مما تقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما قال، فلو كان الحرام يسمى حقيقة لعلم دخوله في الآية الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء، وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق، فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريما.
وأما من لم يقل بذلك فيقول: الكفارة ليمين بالله اقترنت بالتحريم، وقد قال بعض من استدل بالآية على أن التحريم يمين:(من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد) وقد روى البيهقي بإسناده إلى
(1) سورة التحريم الآية 2
عائشة رضي الله عنها قالت: «آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة (1) » . وروى أبو داود مرسلا عن قتادة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فدخلت فرأت معه جاريته فقالت: في بيتي وفي يومي، فقال: أسكتي، فوالله لا أقربها وهي علي حرام» وروى البيهقي مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: "هي علي حرام " فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله (2) » .
وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية، فروى البيهقي: «أن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة تخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند
(1) الاستدلال بهذا الحديث على اقتران التحريم في هذه القصة بيمين - مردود لأمور: أ- أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة إما العسل وإما مارية القبطية، والذي في هذا الحديث أنه حرم نساءه، ومارية ليست من زوجاته ولا هي جماعة. ب- أن الواقعة التي آلى فيها من نسائه شهرا قد أعتزل فيها نساءه شهرا وأمضى ما حلف عليه وعلى هذا لم يكن فرضا عليه أن يتحلل من يمينه بكفارة. ج- أن هذا الحديث من رواية مسلمة بن علقمة المازني عن داود بن علي عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعا، وقد خالفه في ذلك علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي مرسلا، وعلي بن مسهر ومن شاركه في رواية هذا الحديث عن داود أوثق، فكان وصل مسلمة له شاذا، قال أبو عيسى الترمذي: حديث مسلمة بن علقمة عن داود رواه علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وليس فيه: وهذا أصح عن مسروق عن عائشة من حديث مسلمة بن علقمة. د- مسلمة بن علقمة المازني ضعفه غير واحد، ذكره العقيلي في [الضعفاء] وقال: له عن داود مناكير، وما لا يتابع عليه من حديثه كثير. وذكر له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابع عليه، وبذلك يكون وصله لهذا الحديث منكرا؛ لمخالفته من أرسله من الثقات.
(2)
ما ذكره من مرسل قتادة ومسروق لا حجة فيهما لمطلوبه؛ لما فيهما من الإرسال.
زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له، فقال:"بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له " فنزلت: إلى لعائشة وحفصة لقوله: " بل شربت عسلا (4) » قال البيهقي: رواه البخاري في [الصحيح] عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء في هذا الحديث «ولن أعود له، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا (5) » قال ابن عبد البر: وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (6)«والله لا أشرب العسل بعدها،» فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة، «فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة، (7) » فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية، انتهى المقصود.
(1) صحيح البخاري الطلاق (5267) ، صحيح مسلم الطلاق (1474) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3795) ، سنن أبو داود الأشربة (3714) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .
(2)
سورة التحريم الآية 1 (1){لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
(3)
سورة التحريم الآية 4 (2){إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}
(4)
سورة التحريم الآية 3 (3){وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا}
(5)
صحيح البخاري الأيمان والنذور (6691) .
(6)
سورة التحريم الآية 1
(7)
سنن الترمذي الطلاق (1201) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2072) .
يتلخص المقصود مما تقدم في أمور:
الأول: الاختلاف في ضابط ما يسمى حلفا بالطلاق، فقيل: هو كل طلاق علق على شرط أيا كان هذا الشرط، وقيل: كل طلاق علق على شرط، وقصد به الحث على الفعل أو المنع منه، أو قصد به تصديق خبر أو تكذيبه، مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإلا كان شرطا محضا، مثل: إن طلعت الشمس فأنت طالق، والحلف بالطلاق على الأول أعم منه على الثاني، وذكر ابن تيمية أن الضابط الثاني أصح لغة وشرعا، وأما العرف
فيختلف.
الثاني: أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء اعتبر تعليقه، ووقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، ولو كان قاصدا الحث على فعل أو المنع منه أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولا كفارة عليه في ذلك، واستدل الإمام أحمد لذلك: بما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اعتبار التعليق ووقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، ورد ما زاده سليمان بن طرخان التيمي في روايته لقصة ليلى بنت العجماء من قوله فيها:(كل مملوك لها حر) لتفرده بهذه الزيادة، وعارضه بما رواه عبد الرزاق من طريق عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعلى ذلك لا يتم لمن جعل الطلاق المعلق يمينا تلزم فيها الكفارة قياسه على ما جاء من الفتوى في قصة ليلى بنت العجماء في لزومه الكفارة دون وقوع الطلاق.
ونوقش: بأن سليمان لم ينفرد بالزيادة، وبأنه على تقدير تفرده فهو ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض رواية من هو أوثق منه معارضة لا يمكن معها الجمع، ونوقشت المعارضة بإمكان الجمع، وعلى تقدير عدم إمكانه فرواية سليمان أرجح من رواية عثمان بن حاضر؛ لما سبق من النقل عن ابن تيمية وابن القيم من مبررات الترجيح.
الثالث: أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على زواجه بها كان تعليقه لغوا، ولا تطلق بذلك إذا تزوجها؛ إما لأنها أجنبية منه وقت التعليق كما علل به الشافعية، وإما لمقارنة وقوع الطلاق عقد الزواج، كما علل به محمد بن الحسن من الحنفية.
وروي عن الإمام أحمد: أنه يصح تعليق طلاق الأجنبية على الزواج
بها؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار فيصح تعليقه على الملك كالوصية، وهذه الرواية موافقة لمذهب المالكية والحنفية سوى محمد بن الحسن.
هذا وجملة القول: أنه لم يثبت نص صريح لا في الكتاب ولا في السنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، فكانت المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال، من أجل هذا اختلفت الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في حكمها، فمن قائل: إن تعليق الطلاق على شرط لغو؛ لأنه حلف خالف ما جاءت به الأحاديث من النهي عن الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، ومن قائل: إنه معتبر، ويقع به الطلاق عند حصول المعلق عليه؛ لقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ولحديث «المسلمون عند شروطهم» وللآثار الواردة في اعتباره طلاقا، بل ادعى أنه مجمع عليه، وقد سبقت مناقشته، ومن قائل: إنه داخل في جنس الأيمان إن قصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه دون إيقاع الطلاق، فتلزم فيه الكفارة عند الحنث، كما تلزم في سائر الأيمان، واستندوا إلى القياس على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، ورأوا أن الإلزام بالكفارة فيه جمع بين ما ورد عن السلف من الآثار المختلفة، فكان أولى من إلغائه أو اعتباره طلاقا، إلى آخر ما تقدم من الاستدلال ومناقشة كل فريق لمخالفه. هذا ما تيسر جمعه.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
(1) سورة المائدة الآية 1
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (16) وتاريخ 12\11\1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14) الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1\4\1393 هـ و 17\4\1393 هـ القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة- فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة الرابعة المنعقد فيما بين 29\10\1393 هـ و12\11\1393 هـ، وفي هذه الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال- بعد ذلك توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد من علق طلاقه على شرط الطلاق المحض، أو كان قصده الحث أو المنع، أو تصديق خبر أو تكذيبه؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:
1 -
ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في [صحيحه] معلقا بصيغة الجزم من أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق. فتفعله، قال: هي واحدة وهو أحق بها، وما رواه أيضا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه: أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت طلقت امرأته، إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضا.
2 -
لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل مع القطع بأنه لم يقصد الطلاق، وذلك استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول من أن «ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق (1) » . فإن كلا من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذكر الطلاق وإن لم يقصده، فلا وجه للتفريق بينهما بإيقاعه على الهازل به وعدم إيقاعه على الحالف به.
3 -
لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) ووجه الاستدلال بها: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقديم الكذب.
4 -
إن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع.
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .
(2)
سورة النور الآية 7
5 -
إن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم، قال تقي الدين السبكي في رسالته [الدرة المضيئة] : وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به. وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهم، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه:[التمهيد] و [الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى] . . . إلى أن قال: وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأئمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة. اهـ.
وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي رحمه الله من الإجماع بأنه خاص فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط.
وفي [القواعد النورانية] لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. اهـ.
وقال أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد. فقال المروزي: قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. اهـ.
أما المشايخ: عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان - فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلق على شرط يقصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق يمينا مكفرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.
…
.
…
رئيس الدورة
.
…
.
…
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط
…
محمد الأمين الشنقيطي
…
عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح
…
عبد المجيد حسن
…
عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
…
سليمان العبيد
…
محمد الحركان
عبد الله بن غديان
…
راشد بن خنين
…
صالح بن غصون
صالح بن لحيدان
…
عبد الله بن منيع
…
محمد بن جبير