الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ «الْغَيَاثِي» : يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُوَاسَاةُ بِمَا زَادَ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ.
وَأَمَّا الْحِرْفُ وَالصِّنَاعَاتُ وَمَا بِهِ قَوَامُ الْمَعَايِشِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحِرَاثَةِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى الْحِجَامَةِ وَالْكُنَّسِ، فَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا، لَكِنْ لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهَا، أَثِمُوا وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ، فَهِيَ إِذَنْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
فَصْلٌ
وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَبِصَلَاحِ الْمَعِيشَةِ، كَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِعَانَةِ الْقُضَاةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى غُسْلًا وَتَكْفِينًا وَصَلَاةً وَدَفْنًا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
مِنَ الْعُلُومِ مَا يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ، وَمِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ.
فَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ مَفْرُوضَاتِ الدِّينِ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَشُرُوطَهَا لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَتَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الدَّقَائِقِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَعُمُّ بِهَا بَلْوَى، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَكَوِيٌّ، لَزِمَهُ تَعَلُّمُ
ظَوَاهِرِ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَاعٍ يَكْفِيهِ الْأَمْرَ.
قُلْتُ: الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّعَلُّمُ بِالسَّاعِي، إِذْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ السَّاعِي.
وَمَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَتَّجِرُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التِّجَارَاتِ، وَكَذَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُ كُلِّ حِرْفَةٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُهُ، وَالْمُرَادُ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ الْغَالِبَةُ دُونَ الْفُرُوعِ النَّادِرَةِ وَالْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ. وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ، فَالْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: التَّفْسِيرُ وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَنْتَهِيَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى حَيْثُ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُنَاكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا يُفْتِي، وَأَنَّ الْمُتَبَحِّرَ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُفْتِي أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ فِي الْإِقْلِيمِ مُفْتٍ وَاحِدٌ، لِعُسْرِ مُرَاجَعَتِهِ، وَاعْتَبَرَ الْأَصْحَابُ فِيهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَ كُلِّ مُفْتِيَيْنِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمَّا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ، فَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يُسْتَبْعَدُ عَدُّ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ الْحِرْفَ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي مَعَايِشِهِمْ، كَالْفِلَاحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَالطِّبُّ وَالْحِسَابُ أَوْلَى، وَأَمَّا أُصُولُ الْعَقَائِدِ، فَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُسَمَّى عِلْمَ الْكَلَامِ، فَلَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَشْتَغِلُونَ بِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ بَقِيَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي صَفْوَةِ الْإِسْلَامِ لَمَا أَوْجَبْنَا التَّشَاغُلَ بِهِ، وَرُبَّمَا نَهَيْنَا عَنْهُ، فَأَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ ثَارَتِ الْبِدَعُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِهَا
تَلْتَطِمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِعْدَادِ مَا يُدْعَى بِهِ إِلَى الْمَسْلَكِ الْحَقِّ، وَتُزَالُ بِهِ الشُّبَهُ، فَصَارَ الِاشْتِغَالُ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَرَابَ فِي أَصْلٍ مِنْ أَصُولِ الِاعْتِقَادِ، فَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ فِي إِزَاحَتِهِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ عَقِيدَتُهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَشِبْهُهُمَا إِلَّا بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ صَبَرَ إِلَى دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ تَعَلُّمِهَا مَعَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ؟ تَرَدَّدَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ، وَالْأَصَحُّ: مَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَلْزَمُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمْعَةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لِمَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ، وَإِذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ، كَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّتِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْحَجِّ، فَتَعَلًّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا عِلْمُ الْقَلْبِ، كَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَشِبْهِهَا، فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَعْرِفَةُ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَطِبِّهَا وَعِلَاجِهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَمْنَ رُزِقَ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسَلَمْ وَتَمَكَّنَ مِنْ تَطْهِيرِ قَلْبِهِ بِغَيْرِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ، وَجَبَ تَطْهِيرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إِلَّا بِتَعَلُّمٍ، وَجَبَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وُجُوبُ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَمِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَسْمَاءِ الرُّوَاةِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعِلْمِ مُسْتَحَبٌّ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَكَتَعَلُّمِ الْعَامِّيِّ نَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَلِ، لَا لِمَا يَقُومُ بِهِ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَمِمَّنْ يَتَقَلَّدُ الْقَضَاءَ، لَا عَبْدًا وَلَا امْرَأَةً، وَأَنْ يَكُونَ بَلِيدًا، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ، وَيَدْخُلُ الْفَاسِقُ فِي الْفَرْضِ وَلَا
يَسْقُطُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ لِلْمُسْتَفْتِينَ، وَفِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيمَ الطَّالِبِينَ، وَإِفْتَاءَ الْمُسْتَفْتِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ إِلَّا وَاحِدًا وَكَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ، وَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إِلَّا بِكُلِّهِمْ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي، هَلْ يَأْثَمُ بِالرَّدِّ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ كَذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقَ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي، فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَوَرَاءُهَا أَشْيَاءٌ تُسَمَّى عُلُومًا، مِنْهَا: مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُحَرَّمُ، كَالْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَكَذَا السِّحْرُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَتَتَفَاوَتُ دَرَكَاتُ تَحْرِيمِهِ. وَالْمَكْرُوهُ: كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْغَزَلِ وَالْبَطَالَةِ. وَالْمُبَاحُ: كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يُكَرَهُ، وَلَا يُنْشَطُ إِلَى الشَّرِّ أَوْ يُثَبَّطُ عَنِ الْخَيْرِ وَلَا يُحَثُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
إِذَا تَعَطَّلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَثِمَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ، وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْضِعِ يَلِيقُ بِهِ الْبَحْثُ وَالْمُرَاقَبَةُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَخْتَلِفُ هَذَا بِكِبَرِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ، وَقَدْ يَبْلُغُ التَّعَطُّلُ مَبْلَغًا يَنْتَهِي خَبَرُهُ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِي التَّدَارُكِ، وَفِي الصُّورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِهْمَالُ، وَيَجِبُ الْبَحْثُ وَالْمُرَاقَبَةُ عَلَى مَا يَلِيقُ الْحَالَ.
فَرْعٌ
إِذَا قَامَ بِالْفَرْضِ جَمْعٌ لَوْ قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ،