المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، وَلَا مَزِيَّةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِذَا - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١٠

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْإِمَامَةِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الرِّدَّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ حَدِّ الزِّنَا

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ حَدِّ الْقَذْفِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ السَّرِقَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فْصِلَ

- ‌بَابُ قُطَّاعِ الطُّرُقِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ التَّعْزِيرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ ضَمَانِ إِتْلَافِ الْإِمَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ السِّيَرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْهُدْنَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْأَطْعِمَةِ

- ‌كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

الفصل: كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، وَلَا مَزِيَّةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِذَا

كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، وَلَا مَزِيَّةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ جَمْعٌ، ثُمَّ آخَرُونَ، كَانَتْ صَلَاةُ الْآخَرِينَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْأَوَّلِينَ.

قُلْتُ: لِلْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ «الْغَيَاثِي» : الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمُتَعَيِّنَ، اخْتَصَّ هُوَ بِالْإِثْمِ، وَلَوْ فَعَلَهُ، اخْتَصَّ بِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ لَوْ تَرَكَهُ، أَثِمَ الْجَمِيعُ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ لَوْ فَعَلَهُ، سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَفَاعِلُهُ سَاعٍ فِي صِيَانَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْمَأْثَمِ، وَلَا يُشَكُّ فِي رُجْحَانِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي الْقِيَامِ بِمُهِمٍّ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌فَصْلٌ

فِي السَّلَامِ فِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ، كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ، أَثِمُوا، وَلَوْ رَدَّ غَيْرُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْقِطِ الْفَرْضُ عَمَّنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَيْضًا سُنَّةً عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا لَقِيَ جَمَاعَةٌ آخَرِينَ، فَسَلَّمَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، كَفَى ذَلِكَ فِي إِقَامَةِ أَصْلِ السُّنَّةِ.

الثَّانِيَةُ: لَا بُدَّ مِنَ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ وَرَدِّهُ مَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مُتَّصِلًا بِالسَّلَامِ الِاتِّصَالَ

ص: 226

الْمُشْتَرِطَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ نَادَاهُ مِنْ وَرَاءِ حَائِطٍ أَوْ سِتْرٍ، وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ، أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ: سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَالرِّسَالَةُ، لَزِمَهُ الرَّدُّ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَصَمٍّ، أَتَى بِاللَّفْظِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ لِيَحْصُلَ الْإِفْهَامُ، فَإِنْ لَمْ يَضُمَّ الْإِشَارَةَ إِلَى اللَّفْظِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، وَكَذَا فِي جَوَابِ سَلَامِ الْأَصَمِّ، يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، وَسَلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَكَذَا رَدُّهُ.

الثَّالِثَةُ: صِيغَتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الْإِمَامُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ، وَمِمَّنْ قَالَ أَيْضًا إِنَّهُ تَسْلِيمٌ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ الِابْتِدَاءُ بِهِ، نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي جُرَيٍّ بِضَمِّ الْجِيمِ تَصْغِيرُ جَرْوٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُسْتَحَبُّ مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا خِطَابًا وَلِمَلَائِكَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَتَرَكَ صِيغَةَ الْجَمْعِ، حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ، وَصِيغَةُ الْجَوَابِ، وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ لِلْوَاحِدِ، فَلَوْ تَرَكَ حَرْفَ الْعَطْفِ فَقَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، قَالَ الْإِمَامُ: يَكْفِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ جَوَابًا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُدْخِلَ الْوَاوَ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَيْسَ بِجَوَابٍ.

ص: 227

قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ جَوَابٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَ الْإِمَامُ: الرَّأْيُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ جَوَابًا لِلْعَطْفِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَلَيْسَ بِجَوَابٍ قَطْعًا، وَكَمَالُ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَكَمَالُ الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.

قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْأَفْضَلَ فِي الِابْتِدَاءِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، كَانَ جَوَابًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ أَفْضَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ تَلَاقَى رَجُلَانِ فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ، وَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِالسَّلَامِ، وَإِنْ تَرَتَّبَ السِّلَامَانِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي.

قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لَكِنْ أَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ فَقَالَ: هَذَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ كَانَ جَوَابًا، وَإِنْ كَانَا دُفْعَةً، لَمْ يَكُنْ جَوَابًا، هَذَا كَلَامُ الشَّاشِيِّ، وَتَفْصِيلُهُ حَسَنٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، جَازَ، وَسَقَطَ الْفَرْضُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ صَلَاةً وَاحِدَةً.

الْخَامِسَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى

ص: 228

الْجَالِسِ، وَالطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ عَلَى الْكَثِيرَةِ، وَلَا يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْمَاشِي وَالْجَالِسِ.

قُلْتُ: وَكَذَا لَا يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْكَثِيرِينَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، ثُمَّ هَذَا الْأَدَبُ فِيمَا إِذَا تَلَاقَيَا، أَوْ تَلَاقُوا فِي الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قَاعِدٍ، أَوْ قُعُودٍ، فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ، سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّادِسَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَمْعِ بِالسَّلَامِ.

السَّابِعَةُ: لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ جَوَابُ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ، لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِجَوَابِهِ.

قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي، وَقَالَ الشَّاشِيُّ: يَسْقُطُ، كَمَا يَصِحُّ أَذَانُهُ لِلرِّجَالِ وَيَتَأَدَّى بِهِ الشِّعَارُ، وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ بِصَلَاتِهِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ سَلَّمَ صَبِيٌّ عَلَى بَالِغٍ، فَفِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ.

قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الرَّدِّ، قَالَ الشَّاشِيُّ: هَذَا الْبِنَاءُ فَاسِدٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الصِّبْيَانِ سُنَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّامِنَةُ: سَلَامُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، كَسَلَامِ الرِّجَالِ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَوْ سَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ

ص: 229

أَوْ مَحْرَمِيَّةٌ، جَازَ وَوَجَبَ الرَّدُّ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا خَارِجَةً عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ.

قُلْتُ: وَجَارِيَتُهُ كَزَوْجَتِهِ، وَقَوْلُهُ: جَازَ، نَاقِصٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَسَلَامِ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى شَابَّةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهَا الرَّدُّ، وَلَوْ سَلَّمَتْ، كُرِهَ لَهُ الرَّدُّ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ جَمْعًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ الرَّجُلُ، جَازَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

التَّاسِعَةُ: فِي السَّلَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ صِحَّةُ سَلَامِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهَا، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَا، وَيَجِبُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى تَحِيَّةً وَسَلَامًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَنْ لَا يَسْتَقِيمُ نُطْقُهُ بِالسَّلَامِ، يُسَلِّمُ كَيْفَ أَمْكَنَهُ.

الْعَاشِرَةُ: فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الْفُسَّاقِ، وَوُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا سَلَّمَا، وَجْهَانِ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ، فَلَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَبَانَ ذِمِّيًّا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَرِدَّ سَلَامَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي، تَحْقِيرًا لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُحْيِيَ الذِّمِّيَّ بِغَيْرِ السَّلَامِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَدَاكَ اللَّهُ، أَوْ أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ، لَمْ يَزِدْ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكَ.

قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنَ اسْتِحْبَابِ اسْتِرْدَادِ السَّلَامِ مِنَ الذِّمِّيِّ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُحْيِيَ الذِّمِّيَّ بِغَيْرِ السَّلَامِ، ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي، وَهَذَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِكْرَامِ أَصْلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ بَسْطٌ

ص: 230

لَهُ وَإِينَاسٌ وَمُلَاطَفَةٌ وَإِظْهَارُ وِدٍّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِسَلَامٍ إِلَّا لِعُذْرٍ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَفْسَدَةٍ، وَلَوْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ مُسْلِمٌ وَكُفَّارٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْصِدَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمَ، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُشْرِكٍ، وَكَتَبَ فِيهِ سَلَامًا، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ:«سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنَ السَّلَامِ عِنْدَ الْقِيَامِ وَمُفَارَقَةِ الْقَوْمِ دُعَاءً وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ، فَيُسْتَحَبُّ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُتَوَلِّي قَالَهُ شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، كَمَا هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْقُدُومِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقِّ مِنَ الْآخِرَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ، وَلِمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا أَوْ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.

قُلْتُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ دُخُولِهِ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ: مَنْ سَلَّمَ فِي حَالٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ، لَمْ

ص: 231

يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، فَمِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ، وَلَا عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْمُتَوَلِّي: لَا يُسَلِّمُ عَلَى مُشْتَغِلٍ بِالْأَكْلِ، وَرَأَى الْإِمَامُ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ اللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ وَكَانَ يَمْضِي زَمَانٌ فِي الْمَضْغِ وَالِابْتِلَاعِ، وَيَعْسُرُ الْجَوَابُ فِي الْحَالِ، أَمَّا إِذَا سَلَّمَ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ وَقَبْلَ وَضْعِ لُقْمَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي، فَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْمُتَوَلِّي لَكِنْ قَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمْ يَرُدْ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: يَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُبِ الرَّدُّ مُطْلَقًا، فَإِنْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، بَطَلَتْ، وَإِنْ قَالَ: عليهم السلام، لَمْ تَبْطُلْ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ السَّلَامِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مُسَاوَمَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ.

قُلْتُ: وَمِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا يُسَلَّمُ فِيهَا حَالَةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ فِيهَا، وَأَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِنْ سَلَّمَ، كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ، اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةِ، ثُمَّ يَقْرَأُ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الْإِحْرَامِ فَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَ، رَدَّ عَلَيْهِ لَفْظًا، نُصَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجِّ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا جَوَابًا، هَلْ يَشْرَعُ الرَّدُّ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ، أَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُكْرَهُ لَهُ الرَّدُّ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الِاسْتِطَابَةِ، وَأَمَّا الْأَكْلُ وَمَنْ فِي الْحَمَّامِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّدُّ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي، فَيُسَنُّ لَهُ الرَّدُّ إِشَارَةً كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 232

الرَّابِعَةَ عَشَرَةَ: التَّحِيَّةُ بِالطَّلْبَقَةِ وَهِيَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاكَ، وَحَنْيُ الظَّهْرِ، وَتَقْبِيلُ الْيَدِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسَلِّمِ بِهَا، وَلَا يُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْيَدِ لِزُهْدٍ وَعِلْمٍ وَكِبَرِ سِنٍّ، وَتُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ، وَيُكْرَهُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَطْمَعَ فِي قِيَامِ الْقَوْمِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُكْرِمُوهُ، وَيُسَنُّ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا سَبَقَ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ إِذَا قَالَ الْعَاطِسُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالتَّشْمِيتُ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَوْ يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، وَيُكَرِّرُ التَّشْمِيتَ إِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ، فَيَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَيُسَنُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يُجِيبَ الْمُشَمِّتَ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتُسَنُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَزِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ.

قُلْتُ: قَدِ اخْتَصَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي السَّلَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» جُمَلًا نَفِيسَةً مُوَضَّحَةً بِدَلَائِلِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَعَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَضَمَمْتُ إِلَيْهَا مُهِمَّاتٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا لَا يَسْتَغْنِي رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ عَنْ مَعْرِفَةِ مِثْلِهَا، وَقَدْ خَلَّلْتُ بَعْضَهَا فِيمَا سَبَقَ، وَأَنَا أَرْمُزُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْبَاقِي إِنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَمِنْ ذَلِكَ، السُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ رَفْعًا يَسْمَعُهُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ سَمَاعًا مُحَقَّقًا، وَلَا يَزِيدُ رَفْعُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا شَكَّ فِي سَمَاعِهِمْ، زَادَ فِي الرَّفْعِ وَاسْتَظْهَرَ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى أَيْقَاظٍ عِنْدَهُمْ نِيَامٌ، خَفَضَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْأَيْقَاظَ وَلَا يُوقِظُ النِّيَامَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْإِشَارَةُ بِالسَّلَامِ بِالْيَدِ وَنَحْوِهَا بِلَا لَفْظٍ خِلَافُ الْأُولَى، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَاللَّفْظِ، فَحَسَنٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلَوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْسِلَ سَلَامَهُ إِلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ، وَيُلْزِمُ

ص: 233

الرَّسُولَ أَنْ يَبَلِّغَهُ، فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْفَوْرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبْلِغِ أَيْضًا، فَيَقُولُ: وَعَلَيْهِ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ عَلَى قُرْبٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا وَأَكْثَرَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ قَبْلَ كُلِّ كَلَامٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَعَمَلُ الْأُمَّةِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ فَضَعِيفٌ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَلَاقِينَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ:«أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَلَوْ مَشَى فِي سُوقٍ، أَوْ شَارِعٍ يَطْرُقُ كَثِيرًا، وَنَحْوُهُ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهِ الْمُتَلَاقَوْنَ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنَّمَا يُسَلِّمُ هُنَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْجَمِيعِ، تَعَطَّلَ عَنْ كُلِّ مُهِمٍّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ، قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ يَعُمُّهُمْ سَلَامٌ، اقْتَصَرَ عَلَى سَلَامٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِمْ، وَمَا زَادَ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ أَدَبٌ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ زَادُوا، فَأَفْضَلُ، فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ، كَالْجَامِعِ وَالْمَجْلِسِ الْحَفْلِ، فَسُنَّةُ السَّلَامِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ، وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا سُنَّةَ السَّلَامِ فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ، وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي الرَّدِّ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ، فَإِنْ جَلَسَ فِيهِمْ، سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ حَصَلَتْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَوَّلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَعَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ، كَانَ أَدَبًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تَحْصُلْ، قَالَ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنِ الْأَوَّلِينَ بَرْدِ وَاحِدٍ مِنَ الْآخِرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَسْقُطُ، وَلَعَلَّ الثَّانِي أَصَحُّ، وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ لِكَوْنِهِ يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ.

قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَأَمَّا التَّحِيَّةُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَمَّامِ بِقَوْلِ: طَابَ

ص: 234

حَمَّامُكَ وَنَحْوِهِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا شَيْءٌ، لَكِنْ لَوْ قَالَ لِصَاحِبِهِ حِفْظًا لِوِدِّهِ: أَدَامَ اللَّهُ لَكَ هَذَا النَّعِيمَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا ابْتَدَأَ الْمَارُّ فَقَالَ: صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، أَوْ بِالسَّعَادَةِ، أَوْ قَوَّاكَ اللَّهُ، أَوْ لَا أَوْحَشَ اللَّهُ مِنْكَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْعُرْفِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، لَكِنْ لَوْ دَعَا لَهُ قُبَالَتَهُ كَانَ حَسَنًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَأْدِيبَهُ وَتَأْدِيبَ غَيْرِهِ لِتَخَلُّفِهِ وَإِهْمَالِهِ السَّلَامَ.

وَإِذَا قَصَدَ بَابَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مُغْلَقٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يَسْتَأْذِنَ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، انْصَرَفَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» خِلَافًا فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ وَعَكْسِهِ، وَاخْتَارَ مَذْهَبًا ثَالِثًا، فَقَالَ: إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ، قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ عَيْنُهُ، قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ، وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ تَقْدِيمُ السَّلَامِ، فَقَدْ صَحَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ، وَإِذَا اسْتَأْذَنَ بِدَقِّ الْبَابِ وَنَحْوِهِ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَلْيَقُلْ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ الْفُلَانِيُّ، أَوِ الْمَعْرُوفُ بِكَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفٌ تَامٌّ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَا، أَوِ الْخَادِمُ، أَوِ الْمُحِبُّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ وَإِنْ تَضَمَّنَ تَبْجِيلًا لَهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ إِلَّا بِهِ، بِأَنْ يُكَنِّيَ نَفْسَهُ، أَوْ يَقُولَ: الْقَاضِي فُلَانٌ، أَوِ الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ نَحْوُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ إِلَى آخِرِهِ، فَيُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَتِمَاتٍ، فَأَمَّا أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، فَقَدْ نَصَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَأَمَّا حَنْيُ الظَّهْرِ فَمَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ وَصَلَاحٍ.

ص: 235

وَأَمَّا الْقِيَامُ، فَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ وِلَادَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ مَصْحُوبَةٍ بِصِيَانَةٍ، وَيَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَدْ جَمَعْتُ جُزْءًا فِي ذَلِكَ ضَمَّنْتُهُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً وَآثَارًا وَأَفْعَالَ السَّلَفِ وَأَقْوَالَهُمُ الدَّالَّةَ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجَبْتُ عَمَّا خَالَفَهَا، وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَهُمْ لَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ أَوْضَحْتُهَا مَعَ مَعْنَاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي جُزْءِ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسَلِّمِ بِهَا، فَلَا نُوَافِقُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَدِ، فَإِنْ كَانَ لِزُهْدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَصَلَاحِهِ، أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ وَصِيَانَتِهِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَمُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ لِدُنْيَاهُ وَثَرْوَتِهِ وَشَوْكَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يَجُوزُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَأَمَّا تَقْبِيلُهُ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَبِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ وَسَائِرَ أَطْرَافِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ وَمَحَبَّةِ الْقَرَابَةِ، فَسُنَّةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَذَا قُبْلَةُ وَلَدِ صَدِيقِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا يَشْتَهُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَالِدُ وَغَيْرُهُ، بَلِ النَّظَرُ إِلَيْهِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْقَرِيبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِلتَّبَرُّكِ.

وَسُنَّ تَقْبِيلُ وَجْهِ صَاحِبِهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، وَمُعَانَقَتُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْوَجْهِ لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، فَمَكْرُوهَانِ، صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

ص: 236

فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ، فَسُنَّةٌ عِنْدَ التَّلَاقِي، سَوَاءٌ فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِيهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَلَا أَصْلَ لِتَخْصِيصِهِ، لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، وَجَعَلَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ، وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْمُصَافَحَةِ الْبَشَاشَةُ بِالْوَجْهِ وَالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا.

وَيُسَنُّ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَالْإِخْوَانِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْأَقَارِبِ وَإِكْرَامُهُمْ وَبِرُّهُمْ وَصِلَتُهُمْ، وَضَبْطُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ وَفَرَاغِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَضُونَهُ وَفِي وَقْتٍ لَا يَكْرَهُونَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَخِيهِ الصَّالِحِ أَنْ يَزُورَهُ، وَأَنْ يُكْثِرَ زِيَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَشُقَّ، وَأَمَّا الْعَاطِسُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ قَالَهُ وَأَسْمَعُ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَانَ أَفْضَلَ، فَفِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَيُسَنُّ بِمَنْ جَاءَهُ الْعُطَاسُ، أَنْ يَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ وَنَحْوَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ، وَتَشْمِيتُهُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَإِنْ زَادَ، دَعَا لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَلَا يُشَمِّتُهُ حَتَّى يَسْمَعَ تَحْمِيدَهُ، وَأَقَلُّ التَّشْمِيتِ وَجَوَابُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ، وَلَوْ قَالَ لَفْظًا آخَرَ غَيْرَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، لَمْ يُشَمَّتْ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَا تُشَمِّتُوهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَإِشَاعَتُهُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى، يُسْتَحَبُّ لِمَنْ عِنْدَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ، وَلَوْ سَمِعَ حَمْدَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ، يُشَمِّتُهُ السَّامِعُونَ فَقَطْ، وَلَوْ عَطَسَ يَهُودِيٌّ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَلَا يَقُلَّ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَفِيهِ

ص: 237

حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَوْ تَثَاءَبَ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَسَوَاءً كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ إِجَابَةُ مَنْ نَادَاهُ، بِلَبَّيْكَ، وَأَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ: مَرْحَبًا، وَأَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ حَفِظَكَ اللَّهُ وَنَحْوُهُمَا، وَيُسَنُّ لِمَنْ أَحَبَّ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَهَذَا الْبَابُ وَاسِعٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ مُقْنِعٌ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» وَفِيهِ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْكَامٌ وَسُنَنٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِهَا، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ التَّوْفِيقَ لِلْخَيِّرَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فِيهِ أَطْرَافٌ

الْأَوَّلُ: فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يُكْرَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ أَوِ الْأَمِيرِ الْمَنْصُوبِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَحْرُمُ، وَإِذَا بَعَثَ سَرِّيَّةً، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، وَيَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَيُوصِيهِ بِهِمْ، وَيُسَنُّ أَنْ يَأْخُذَ الْبَيْعَةَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَأَنْ يَبْعَثَ الطَّلَائِعَ، وَيَتَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْكُفَّارِ، وَيُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَأَنْ يَعْقِدَ الرَّايَاتِ، وَيَجْعَلَ كُلَّ فَرِيقٍ تَحْتَ رَايَةٍ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شِعَارًا حَتَّى لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَيَاتًا، وَأَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ بِتَعْيِينِهِ الْحَرْبَ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَهْيَبُ، وَأَنْ يَسْتَنْصِرَ بِالضُّعَفَاءِ، وَأَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَأَنْ يُكِبِّرَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَأَنْ يُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ.

ص: 238

الثَّانِيَةُ: لَا يُقَاتِلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَيَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجُوزَ بَيَاتُهُمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ، ثُمَّ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، يُقَاتَلُونَ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَالَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ.

الثَّالِثَةُ: تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْمُشْرِكِينَ فِي الْغَزْوِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسَنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، وَشَرَطَ الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ، لَأَمْكَنَنَا مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا. وَفِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَتَمُسُّ الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ كَالْمُتَنَافِيَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَلُّوا حَتَّى احْتَاجُوا لِمُقَاوَمَةِ فَرْقَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْأُخْرَى، فَكَيْفَ يُقَاوِمُونَهُمَا؟

قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ، فَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ فِرْقَةً لَا يَكْثُرُ الْعَدِوُّ بِهِمْ كَثْرَةً ظَاهِرَةً، وَشَرَطَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدِوِّ، كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، قَالَ: وَإِذَا خَرَجُوا بِشُرُوطِهِ، اجْتَهَدَ الْأَمِيرُ فِيهِمْ، فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَمِيِزِهِمْ لِيَعْلَمَ نِكَايَتَهُمْ، أَفْرَدَهُمْ فِي جَانِبِ الْجَيْشِ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَصْلَحَ، وَإِنْ رَآهَا فِي اخْتِلَاطِهِمْ بِالْجَيْشِ لِئَلَّا تَقْوَى شَوْكَتُهُمْ، فَرَّقَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إِنْ حَضَرَ الذِّمِّيُّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُضُورِ، فَحَضَرَ،

ص: 239

فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلِلْإِمَامِ تَعْزِيزُهُ إِذَا رَآهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، لَمْ يَرْضَخْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْعَبْدِ إِذَا أَذِنَ سَيِّدُهُ، وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمُرَاهِقِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ جَلَادَةٌ وَغَنَاءٌ فِي الْقِتَالِ، وَكَذَا لِمَصْلَحَةِ سَقْيِ الْمَاءِ، وَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى، وَيَسْتَصْحِبُ النِّسَاءَ لِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ. وَفِي جَوَازِ إِحْضَارِ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِبْيَانِهِمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: لَا، إِذَا كَانَ لَا قِتَالَ فِيهِمْ وَلَا رَأْيَ وَلَا يُتَبَرَّكُ بِحُضُورِهِمْ.

الْخَامِسَةُ: يَمْنَعُ الْمُخَذِّلَ مِنَ الْخُرُوجِ فِي الْجَيْشِ، فَإِنْ خَرَجَ، رَدَّهُ، فَلَوْ قَاتَلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ قَتَلَ كَافِرًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، وَالْمُخَذِّلُ مَنْ يُخَوِّفُ النَّاسَ، بِأَنْ يَقُولَ: عَدُوُّنَا كَثِيرٌ، وَخُيُولُنَا ضَعِيفَةٌ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ، فَالْمُرْجِفُ: مَنْ يُكْثِرُ الْأَرَاجِيفَ، بِأَنْ يَقُولَ: قُتِلَتْ سَرِيَّةُ كَذَا، أَوْ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ لِلْعَدُوِّ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ لَهُمْ كَمِينٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا. وَالْخَائِنُ: مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُمْ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى الْعَوْرَاتِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ يُسْهِمُ لِلْمُخَذِّلِ إِذَا لَمْ يَنْهَهُ الْإِمَامُ، وَوَجْهًا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ مُطْلَقًا.

السَّادِسَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْإِمَامُ وَلَا أَحَدُ الرَّعِيَّةِ مُسْلِمًا لِلْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ، فَمَتَى حَضَرَ الصَّفَّ، تَعِيَّنَ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ، وَعَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ، وَيُعْطِيَهُ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لَكِنِ الْإِمَامُ يَرْغَبُ فِي الْجِهَادِ بِبَذْلِ الْأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَيَنَالُ ثَوَابَ الْإِعَانَةِ، وَيَقَعُ الْجِهَادُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، وَكَذَا إِذَا بَذَلَ أُهْبَتَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ مَالِهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَزِقَةِ

ص: 240

مِنَ الْفَيْءِ، وَإِلَى الْمُطَّوِّعَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ حُقُوقُهُمُ الْمُرَتَّبَةَ، وَلَيْسَ أُجْرَةً، وَجِهَادُهُمْ وَاقِعٌ عَنْهُمْ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ جَمَاعَةً عَلَى الْخُرُوجِ وَالْجِهَادِ، لَمْ يَسْتَحِقُّوا أُجْرَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ، وَامْتِنَاعِ اسْتِئْجَارِهِمْ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَهُمُ الْأُجْرَةُ مِنْ حِينِ أَخْرَجَهُمْ إِلَى أَنْ حَضَرُوا الْوَقْعَةَ. وَأَطْلَقَ مُطَلِقُونَ أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْإِمَامُ رَجُلًا، وَأَلْزَمَهُ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ، وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ اتِّسَاعٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، فَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِلَّا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ إِنِ اتَّسَعَ، فَيَسْتَحِقُّ الْمُكْرَهُ الْأُجْرَةَ، وَالتَّفْصِيلَانِ حَسَنَانِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِمَا الْإِطْلَاقَانِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ جَوَّزْنَا اسْتِئْجَارَ الْحُرِّ، فَكَذَا الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْكُفَّارُ دَارَ الْمُسْلِمِينَ هَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَبِيدِ الْجِهَادُ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، فَإِذَا وَافَوُا الصَّفَّ، وَقَعَ الْجِهَادُ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ اسْتِئْجَارُهُمْ كَالْأَحْرَارِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمْ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْعَبِيدَ قَهْرًا، لَزِمَتْ أُجْرَتُهُمْ مِنْ يَوْمِ الْإِخْرَاجِ إِلَى أَنْ يَعُودَ كُلُّ عَبْدٍ إِلَى يَدِ سَيِّدِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، فَكَالْأَحْرَارِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ لِلْجِهَادِ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهُ، وَهَلْ طَرِيقُهُ الْإِجَارَةُ أَمِ الْجَعَالَةُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْجَعَالَةُ، لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْإِجَارَةُ، وَتَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقِتَالُ، وَلَوْ كَانَ جَعَالَةً لَجَازَ لِلذِّمِّيِّ الِانْصِرَافُ مَتَى شَاءَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنَّ يَبْلُغَ بِالْأُجْرَةِ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الْحُكْمَ بِالِانْفِسَاخِ وَالرَّدِّ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِنْ بَانَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ عَلَى سَهْمٍ، وَإِلَّا فَفِي الِابْتِدَاءِ لَا يُعْلَمُ سَهْمَ الرَّاجِلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالصَّحِيحُ

ص: 241

أَنَّهُ لَا حَجْرَ فِي قَدَرِ الْأُجْرَةِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَهَلْ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْجِهَادِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْآحَادَ لَا يَتَوَلَّوْنَ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ يَعْلَمُهَا الْإِمَامُ دُونَ الْآحَادِ.

فَرْعٌ

لَوْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ أُجْرَةً، فَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مَجْهُولًا، بِأَنْ قَالَ: نُرْضِيكُمْ، أَوْ نُعْطِيكُمْ مَا تَسْتَعِينُونَ بِهِ، وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ كُرْهًا، وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ خَرَجُوا رَاضِينَ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمْ شَيْئًا، فَهَذَا مَوْضِعُ الرَّضْخِ، وَفِي مَحَلِّهِ أَقْوَالٌ سَبَقَتْ فِي قِسْمِ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ الْوَاجِبَةُ، مُسَمَّاةً كَانَتْ أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، فَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَمْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، أَمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ.

فَرْعٌ

لَوْ أَخْرَجَهُمْ قَهْرًا، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ قَبْلَ وُقُوفِهِمْ فِي الصَّفِّ، أَوْ هَرَبُوا وَلَمْ يَقِفُوا، لَمْ يَجِبْ لَهُمْ إِلَّا أُجْرَةُ الذَّهَابِ، وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُمْ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ حِينَئِذٍ كَيْفَ شَاءُوا، وَلَوْ وَقَفَ الْمَقْهُورُونَ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، فَهَلْ لَهُمْ أُجْرَةُ مُدَّةِ الْوُقُوفِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ حَبْسٌ وَقَهْرٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ، وَإِلَّا فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ هَلْ تُضْمَنُ بِالْحَبْسِ وَالتَّعْطِيلِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ؟ وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيَّ فَلَمْ يُقَاتِلْ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَجْهَانِ.

ص: 242

السَّابِعَةُ: فِيمَنْ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ، فَيُكْرَهُ لِلْغَازِي قَتْلُ قَرِيبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ مَحْرَمًا ازْدَادَتِ الْكَرَاهَةُ، فَإِنْ سَمِعَ أَبًا، أَوْ قَرِيبًا آخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ، لَمْ يُكْرَهْ قَتْلُهُ، وَيُحَرَّمُ قَتْلُ نِسَاءِ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانِهِمْ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنَاثَى، فَإِنْ قَاتَلُوا، جَازَ قَتْلُهُمْ، وَلَوْ أُسِرَ مِنْهُمْ مُرَاهِقٌ، وَشَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ، كُشِفَتْ عَانَتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَنْبَتَ، حُكِمَ بِبُلُوغِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ صَبِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ قَوْلَانِ فِي أَنَّ الْإِنْبَاتَ بُلُوغٌ أَمْ دَلِيلُ بُلُوغٍ، فَإِنْ قَالَ الْمَأْسُورُ: اسْتَعْجَلْتُ الشَّعْرَ بِالدَّوَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ بُلُوغٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، بَلْ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: دَلِيلُ الْبُلُوغِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَيُحْكَمُ بِالصِّغَرِ، هَكَذَا نُصَّ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ الْأَصْحَابُ وَذَكَرُوا فِيهِ إِشْكَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ تَعْمَلُ فِي النَّفْيِ وَهَذِهِ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِعْجَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ يُخَالَفُ الْقِيَاسُ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَبِلْنَا جِزْيَةَ الْمَجُوسِ دُونَ نِكَاحِهِمْ، وَالثَّانِي: كَيْفَ يَحْلِفُ مَنْ يَدَّعِي الصِّبَا، فَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: الْيَمِينُ احْتِيَاطٌ أَوِ اسْتِظْهَارٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا بُدَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ مَوْجُودٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجْرِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الشَّعْرُ الْخَشِنُ دُونَ اللِّيِّنِ، وَأَنَّ فِي إِلْحَاقِ شَعْرِ الْإِبِطِ وَالْوَجْهِ الْخَشِنِ بِالْعَانَةِ وَجْهَيْنِ، وَنَبَاتُ الشَّارِبِ كَاللِّحْيَةِ، وَلَا أَثَرَ لِاخْضِرَارِهِ.

الثَّامِنَةُ: فِي جَوَازِ قَتْلِ الرَّاهِبِ، شَيْخًا كَانَ أَوْ شَابًّا، وَالْأَجِيرِ وَالْمُحْتَرِفِ الْمَشْغُولِ بِحِرْفَتِهِ، وَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ الْأَجِيرُ وَالْمُحْتَرِفُ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ رَأْيٌ يَسْتَعِينُ الْكُفَّارُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، قُتِلَ قَطْعًا، ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ

ص: 243

أَنْ يَحْضُرَ ذُو الرَّأْيِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ لَا يَحْضُرَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَخْرَقِ مِنْهُمْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ يَدْخُلَ بَعْضَ بِلَادِهِمْ، فَيَجِدَهُ هُنَاكَ فِي أَنَّ فِي قَتْلِهِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي السُّوقَةِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِقَتْلِهِمْ، وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا قَتْلَ هَؤُلَاءِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ يُرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ كَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، كَأَسِيرٍ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الِاسْتِرْقَاقِ، فَفِي قَوْلٍ: يَتَعَيَّنُ رِقُّهُ، وَفِي قَوْلٍ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَرِقَّهُ وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، أَوْ يُفَادِيَهُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، بَلْ يُتْرَكُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ سَبْيُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ سَبْيُ نِسَائِهِمْ دُونَ صِبْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْعَاضُهُمْ، وَأَجْرَى بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ فِي اغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ، قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ مَنَعَ اغْتِنَامَ أَمْوَالِ السُّوقَةِ، فَقَدْ قَرُبَ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ تَرَهَّبَتِ امْرَأَةٌ فَفِي جَوَازِ سَبْيِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى قَتْلِ الرَّاهِبِ.

فَرْعٌ

لَا يَجُوزُ قَتْلُ رَسُولِ الْكُفَّارِ.

التَّاسِعَةُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُحَاصَرَةُ الْكُفَّارِ فِي بِلَادِهِمْ، وَالْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُصِيبَهُمْ، وَيَجُوزَ التَّحْرِيقُ بِإِضْرَامِ النَّارِ وَرَمْيِ النِّفْطِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّغْرِيقُ بِإِرْسَالِ الْمَاءِ، وَيُبَيِّتُهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، نُظِرَ إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى الرَّمْيِ وَالضَّرْبِ، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَلَوْ تُرِكُوا لَغَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ، جَازَ الرَّمْيُ وَالضَّرْبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، بِأَنْ كَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاحْتَمَلَ الْحَالُ تَرْكَهُمْ، فَطَرِيقَانِ.

ص: 244

أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ رَمْيُهُمْ، كَمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْقَلْعَةِ وَإِنْ كَانَ يُصِيبُهُمْ، وَلِئَلَّا يَتَّخِذُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ. وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ مَائِلُونَ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَرَدُّ الْمَنْعِ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَقِيلَ: فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذَا قَوْلَانِ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي الْقَلْعَةِ، فَقِيلَ: هَذِهِ الصُّورَةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ حِيلَةً إِلَى اسْتِبْقَاءِ الْقِلَاعِ لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ عَجَزْنَا عَنِ الْقَلْعَةِ إِلَّا بِهِ.

قُلْتُ: الرَّاجِحُ فِي الصُّورَتَيْنِ، الْجَوَازُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَلْعَةِ مُسْلِمٌ، أَوْ أَسِيرٌ، أَوْ تَاجِرٌ، أَوْ مُسْتَأْمَنٌ، أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ قَصْدُ أَهْلِهَا بِالنَّارِ وَالْمَنْجَنِيقِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا؟ فِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ، كُرِهَ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَظْهَرِ لِئَلَّا يُعَطِّلُوا الْجِهَادَ بِحَبْسِ مُسْلِمٍ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةٌ، كَخَوْفِ ضَرَرِهِمْ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ فَتْحُ الْقَلْعَةِ إِلَّا بِهِ، جَازَ قَطْعًا، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِالضَّرُورَةِ، بَلْ إِنْ كَانَ مَا يُرْمَى بِهِ يُهْلِكُ الْمُسْلِمَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ وَبِهِ أَجَابَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» : إِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَذْهَبُ: الْجَوَازُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُ مُسْلِمًا وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» لِأَنَّ حُرْمَةَ مَنْ مَعَنَا أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّنْ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ هَلَكَ مِنْهُمْ هَالِكٌ، فَقَدْ رُزِقَ الشَّهَادَةَ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَوْ رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْقَلْعَةِ، أَوْ

ص: 245

الْبَلْدَةِ، فَقَتَلَ مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا، لَمْ يَجِبْ إِلَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ عَلِمَ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ.

فَرْعٌ

لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُسَارَى وَغَيْرِهِمْ، نُظِرَ إِنْ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ وَاحْتَمَلَ الْحَالُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، فَإِنْ رَمَى رَامٍ، فَقَتَلَ مُسْلِمًا قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ ظَنَّهُ كَافِرًا فَلَا قِصَاصَ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ، وَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ، بِأَنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا، وَكَثُرَتْ نِكَايَتُهُمْ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَرْبُ الْكُفَّارِ إِلَّا بِضَرْبِ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ نَخَافَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَدَمُ الْمُسْلِمِ لَا يُبَاحُ بِالْخَوْفِ بِدَلِيلِ صُورَةِ الْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ: جَوَازُ الرَّمْيِ عَلَى قَصْدِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْإِعْرَاضِ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِقْدَامِ، وَلَا يَبْعُدُ احْتِمَالُ طَائِفَةٍ لِلدَّفْعِ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَمُرَاعَاةً لِلْأُمُورِ الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الرَّمْيَ، فَرَمَى وَقَتَلَ مُسْلِمًا، فَلَا قِصَاصَ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا وَظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ سَلَمَةَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ مُسْلِمٌ، وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَجَبَتْ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَمْ لَا، وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثُ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَالرَّابِعُ قَالَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَاكَ مُسْلِمًا، وَجَبَتْ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزِ الرَّمْيَ، فَرَمَى وَقَتَلَ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا قَوْلَانِ، كَالْمُكْرَهِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ قَطْعًا، كَالْمُضْطَرِّ إِذَا قَتَلَ رَجُلًا لِيَأْكُلَهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّهُ مُلْجَأٌ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكْرَهُ.

ص: 246

وَلَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ عَبْدٍ، فَالْحُكْمُ فِي جَوَازِ الرَّمْيِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ حَيْثُ تَجِبُ دِيَةٌ، يَجِبُ فِي الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِتِرْسِ مُسْلِمٍ، أَوْ رَكِبَ فَرَسَهُ، فَرَمَاهُ مُسْلِمٌ فَأَتْلَفَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْتِحَامٍ، أَوْ فِي الْتِحَامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَقَّى التِّرْسَ وَالْفَرَسَ، ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الِالْتِحَامِ الدَّفْعُ إِلَّا بِإِصَابَتِهِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْمُكْرَهِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِي الْمَالِ يَكُونُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ، وَهُنَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ حَتَّى يَجْعَلَ الْمُسْلِمَ طَرِيقًا، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُخْتَارًا، لَزِمَهُ الضَّمَانُ.

الْعَاشِرَةُ: فِي حُكْمِ الْهَزِيمَةِ، إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ، قَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي انْهِزَامِهِ كَسْرُ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَجُزِ الِانْهِزَامُ بِحَالٍ، وَإِلَّا فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِذَلِكَ بَلْ قَالُوا: إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى ضِعْفِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَانُوا مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَقَلَّ، فَتَحْرُمُ الْهَزِيمَةُ وَالِانْصِرَافُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، فَالْمُتَحَرِّفُ: مَنْ يَنْصَرِفُ لِيَكْمُنَ فِي مَوْضِعٍ، وَيَهْجُمُ، أَوْ يَكُونُ فِي مَضِيقٍ، فَيَنْصَرِفُ لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ إِلَى مُتَّسَعٍ سَهْلٍ لِلْقِتَالِ، أَوْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّحَوُّلِ إِلَى مَضِيقٍ، أَوْ يَتَحَوَّلُ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ إِلَى مَوْضِعٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ. وَالْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ: مَنْ يَنْصَرِفُ عَلَى قَصْدِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى طَائِفَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا فِي الْقِتَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ قُرْبُهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُهُ تَحْقِيقُ عَزْمِهِ بِالْقِتَالِ مَعَ الْفِئَةِ الْمُتَحَيِّزِ إِلَيْهَا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ مُرَخَّصٌ، فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْجِهَادُ لَا يَجِبْ قَضَاؤُهُ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ، أَنَّ التَّحَيُّزَ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْمُتَحَيِّزُ

ص: 247

عَجْزًا مُحْوِجًا إِلَى الِاسْتِنْجَادِ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْأَصْحَابُ مَا ذَكَرَاهُ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا تَرْكَ الْقِتَالِ وَالِانْهِزَامَ فِي الْحَالِ مَجْبُورًا بِعَزْمِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ يَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْقِتَالِ، وَالرُّخْصَةُ مَنُوطَةٌ بِعَزْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مُخَادَعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَزْمِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْهَزِيمَةِ إِلَّا لِمُتَحَرِّفٍ أَوْ مُتَحَيِّزٍ هُوَ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ، أَمَّا مَنْ عَجَزَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَلِّيَ مُتَحَرِّفًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْأَحْجَارِ، فَهَلْ تَقُومُ مَقَامَ السِّلَاحِ؟ وَجْهَانِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تَقُومُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ رَاجِلًا، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِلَ، هَلْ لَهُ الِانْصِرَافُ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. ثُمَّ الْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا يَغْنَمُونَهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِمَّا غَنِمُوهُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ فِي الْمُتَحَرِّفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ بِأَنَّ الْمُتَحَرِّفَ يُشَارِكُ، وَلَعَلَّهُ فِيمَنْ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَمْ يَغِبْ، وَالنَّصُّ فِيمَا إِذَا تَحَرَّفَ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنِ الْقَوْمِ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمُوا، وَهَلْ يُشَارِكُ الْمُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فِيمَا غَنِمُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِبَقَاءِ نُصْرَتِهِ وَالِاسْتِنْجَادِ بِهِ، فَهُوَ كَالسَّرِيَّةِ الْقَرِيبَةِ تُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَهُ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ، جَازَ الِانْهِزَامُ، وَهَلْ يَجُوزُ انْهِزَامُ مِائَةٍ مِنْ أَبْطَالِنَا مِنْ مِائَتَيْنِ، وَوَاحِدٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْكُفَّارِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ لَوْ ثَبَتُوا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْعَدَدُ عِنْدَ تَقَارُبِ الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ

ص: 248

الْأَوْصَافِ يَعْسُرُ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْعَدَدِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي عَكْسِهِ، وَهُوَ فِرَارُ مِائَةٍ مِنْ ضُعَفَائِنَا مِنْ مِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْعَدَدَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى، جَازَ، وَإِذَا جَازَ الْفِرَارُ، نُظِرَ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ ثَبَتُوا ظَفِرُوا، اسْتُحِبَّ الثَّبَاتُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْهَلَاكُ، فَفِي وُجُوبِ الْفِرَارِ وَجْهَانِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ فِي الثَّبَاتِ الْهَلَاكُ الْمَحْضُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ، وَجَبَ الْفِرَارُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِكَايَةٌ فَوَجْهَانِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

لَقِيَ مُسْلِمٌ مُشْرِكَيْنِ، إِنْ طَلَبَاهُ، فَلَهُ الْفِرَارُ، وَإِنْ طَلَبَهُمَا وَلَمْ يَطْلُبَاهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ وَالثَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ وَلَّى النِّسَاءُ، لَمْ يَأْثَمْنَ، فَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، نُصَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَا إِثْمَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ إِذَا وَلَّيَا، وَيَأْثَمُ السَّكْرَانُ. وَلَوْ قَصَدَ الْكُفَّارُ بَلَدًا، فَتَحَصَّنَ أَهْلُهُ إِلَى أَنْ يَجِدُوا قُوَّةً وَمَدَدًا، لَمْ يَأْثَمُوا، إِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ وَلَّى بَعْدَ اللِّقَاءِ.

قُلْتُ: قَالَ صَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الْبَحْرِ» : تَجُوزُ الْهَزِيمَةُ مِنْ أَكْثَرَ مِنَ الْمِثْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فُرْسَانًا وَالْكُفَّارُ رَجَّالَةً، وَتَحْرُمُ الْهَزِيمَةُ مِنَ الْمِثْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَجَّالَةً وَالْكُفَّارُ فُرْسَانًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعْنَى أَمْ بِالْعَدَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 249