الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْهُدْنَةِ
فِيهِ بَابَانِ: الْأَوَّلُ: فِي الْجِزْيَةِ، وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: نَفْسُ الْعَقْدِ، وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ: أَقْرَرْتُكُمْ، أَوْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا كَذَا، وَتَنْقَادُوا لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِقَدْرِ الْجِزْيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِكَفِّهِمُ اللِّسَانَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَدِينِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الِانْقِيَادِ، وَيُشْتَرَطُ مِنَ الذِّمِّيِّ لَفْظُ، كَقَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ: قَرِّرْنِي بِكَذَا، فَأَجَابَهُ الْإِمَامُ، تَمَّ الْعَقْدُ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ، وَمَنْ صَحَّحَ، قَاسَهُ عَلَى الْهُدْنَةِ، وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُ، أَوْ أُقِرِّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، أَوْ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُؤَقَّتِ بِمَعْلُومٍ وَعَكْسِهِ، وَجَعَلَ هَذَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُمْ، جَازَ، لِأَنَّ لَهُمْ نَبْذَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءُوا، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَاهُ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ قَالَ فِي الْهُدْنَةِ: هَادَنْتُكُمْ مَا شِئْتُمْ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْكُفَّارَ مُحَكِّمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَرْعٌ
إِذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ تُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ عَقَدَ الذِّمَّةِ، وَجَبَتْ إِجَابَتُهُمْ، وَفِي «الْبَيَانِ» وَغَيْرِهِ وَجْهٌ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً
كَمَا فِي الْهُدْنَةِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، فَلَوْ خَافَ غَائِلَتَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَكِيدَةٌ مِنْهُمْ، لَمْ يُجِبْهُمْ.
فَرْعٌ
إِذَا عُقِدَتِ الذِّمَّةُ مَعَ إِخْلَالٍ بِشَرْطٍ، لَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ، وَلَمْ تَجْبِ الْجِزْيَةُ الْمُسَمَّاةُ، لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ، بَلْ يَبْلُغُونَ الْمَأْمَنَ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْدِ عِنْدَنَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا وَبَقِيَ مُدَّةً، فَاطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ: أَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا مَضَى بِخِلَافِ مَنْ سَكَنَ دَارًا غَصْبًا، لِأَنَّ عِمَادَ الْجِزْيَةِ الْقَبُولُ، وَهَذَا حَرْبِيٌّ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَخَرَّجَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: لَنَا قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ، وَأَخْذُ مَالِهِ، وَيَكُونُ فَيْئًا، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكَ أَمْوَالَهُ وَذُرِّيَّتَهُ لَهُ، جَازَ بِخِلَافِ سَبَايَا الْحَرْبِ وَأَمْوَالِهَا، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا، فَاشْتُرِطَ اسْتِرْضَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ كِتَابِيًّا، وَطَلَبَ عَقَدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ، فَهَلْ يُجِيبُهُ وَنَعْصِمُهُ؟ تَقَدَّمَ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْأَسِيرِ إِذَا كَانَ كِتَابِيًّا، وَطَلَبَ عَقَدَ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَفِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: التَّحْرِيمُ، لِأَنَّ بَذْلَ الْجِزْيَةِ يَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهَا قَبْلَ الْأَسْرِ، فَعَلَى هَذَا فِي اسْتِرْقَاقِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ أَيْضًا، وَيَجِبُ تَقْرِيرُهُ بِالْجِزْيَةِ كَمَا قَبْلَ الْأَسْرِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَالْإِسْلَامُ بَعْدَ الْأَسْرِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ، وَمَالُهُ مَغْنُومٌ سَوَاءً قُلْنَا: يَحْرُمُ، أَمْ لَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَبَدَلُ الدَّاخِلِ الَّذِي أَطْلَقْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَجَبَ قَبُولُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَالْأَسِيرِ.
فَرْعٌ
اطَّلَعْنَا عَلَى كَافِرٍ فِي دَارِنَا، فَقَالَ: دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِرِسَالَةٍ، صُدِّقَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، سَوَاءً كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا، وَفِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ النَّصِّ أَنَّهُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ إِنِ اتُّهِمَ، حَلَفَ، وَفِي «الْبَحْرِ» أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَحْلِيفُهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: دَخَلْتُ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، فَهَلْ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا غَالِبًا أَمْ يُصَدَّقُ بِلَا بَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ أَمَانٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَا اشْتُهِرَ أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ هُوَ فِي رِسَالَةٍ فِيهَا مُصْلِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هُدْنَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلَا أَمَانَ لَهُ، وَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ كَأَسِيرٍ.
قُلْتُ: لَيْسَ مَا ادَّعَاهُ الرُّويَانِيُّ بِمَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَهُوَ آمِنٌ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْعَاقِدُ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، كَالْأَمَانِ، وَهَذَا شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، لَكِنْ لَوْ عَقَدَهَا أَحَدُ الرَّعِيَّةِ، لَمْ يُغْتَلِ الْمَعْقُودُ لَهُ، بَلْ يُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً فَأَكْثَرَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا لَوْ فَسَدَ عَقْدُ الْإِمَامِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَغْوٌ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَعْقُودُ لَهُ خَمْسَةُ شُرُوطٍ.
أَحَدُهَا: الْعَقْلُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَجْنُونٍ، لِأَنَّهَا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهُوَ مَحْقُونٌ، وَفِي الْبَيَانِ وَجْهٌ: أَنَّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ يَجُنُّ وَيَفِيقُ، نُظِرَ إِنْ قَلَّ زَمَنُ جُنُونِهِ، كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ، أَخِذَتْ مِنْهُ
الْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَثُرَ بِأَنْ يُقْطَعَ يَوْمًا وَيَوْمًا، أَوْ يَوْمَيْنِ، فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: تُلَفَّقُ أَيَّامُ الْإِفَاقَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةً، أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ، وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنَ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَالثَّالِثُ: حُكْمُهُ كَالْعَاقِلِ وَمَا يَطْرَأُ وَيَزُولُ كَالْإِغْمَاءِ، وَالرَّابِعُ: يُحْكُمُ بِمُوجِبِ الْأَغْلَبِ، فَإِنِ اسْتَوَى الزَّمَانُ، وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ، وَالْخَامِسُ: إِنْ كَانَ فِي آخِرِ السَّنَةِ عَاقِلًا، أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ وَإِلَّا فَلَا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُفِيقًا، ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ انْتِصَافِ السَّنَةِ، فَهُوَ كَمَوْتِهِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ افْتَتَحَ سَنَةً، وَسَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ وَقَعَ فِي الْأَسْرِ مَنْ يُجَنُّ وَيَفِيقُ، قَالَ الْإِمَامُ: إِنْ غَلَّبْنَا حُكْمَ الْمَجْنُونِ، رُقَّ وَلَا يُقْتَلُ، وَإِنْ غَلَّبْنَا حُكْمَ الْإِفَاقَةِ، لَمْ يُرَقَّ بِالْأَسْرِ، وَالظَّاهِرُ الْحَقْنُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ تُعْتَبَرَ حَالَةُ الْأَسْرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْبُلُوغُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَإِذَا بَلَغَ وَلَدُ ذِمِّيٍّ، فَهُوَ فِي أَمَانٍ، فَلَا يُغْتَالُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: لَا نُقِرُّكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، أَلْحَقْنَاهُ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنِ اخْتَارَ بَذْلَهَا، فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: الْأَوَّلُ، فَإِنِ اكْتَفَيْنَا بِعَقْدِ أَبِيهِ، لَزِمَهُ مِثْلُ جِزْيَةِ أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ وَقَالَ: لَا أَبْذُلُ الزِّيَادَةَ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ كَذِمِّيٍّ عَقَدَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُجْعَلَ بِالِامْتِنَاعِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَأْنَفُ مَعَهُ عَقْدٌ، رَفَقَ بِهِ الْإِمَامُ لِيَلْتَزِمَ مَا الْتَزَمَ أَبُوهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، عُقِدَ لَهُ بِالدِّينَارِ، وَسَوَاءً اكْتَفَيْنَا بِعَقْدِ أَبِيهِ، أَمِ احْتَجْنَا إِلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ قَدْ قَالَ: الْتَزَمْتُ هَذَا عَنْ نَفْسِي وَفِي حَقِّ ابْنِي إِذَا بَلَغَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلِابْنِ، وَلَوْ بَلَغَ الِابْنُ سَفِيهًا وَبَذَلَ جِزْيَةَ أَبِيهِ وَهِيَ فَوْقَ دِينَارٍ
فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ، وَلِيَكُونَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِعَقْدِ أَبِيهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ إِنِ اكْتَفَيْنَا، أَخْذنَا، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَفِيهٍ جَاءَ يَطْلُبُ عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُجَابُ وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ وَلَيِّهِ، لِأَنَّ فِيهِ مُصْلِحَةَ حَقْنِ الدَّمِ، لَكِنْ لَوِ الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْوَلِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ، وَقَالَ: الْحَقْنُ مُمْكِنٌ بِدِينَارٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ نَحْوَهُ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ أَذِنَ الْوَلِيُّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَصِحُّ عَقْدُ السَّفِيهِ بِالزِّيَادَةِ لِحَقْنِ الدَّمِ تَشْبِيهًا بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى السَّفِيهِ قِصَاصٌ، وَصَالَحَ الْمُسْتَحِقَّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قَدْرِ الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهُ، وَزَادَ فَقَالَ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ الْمَنْعُ، كَمَا يَشْتَرِي لَهُ الطَّعَامَ بِثَمَنٍ غَالٍ صِيَانَةً لِرُوحِهِ، وَفِرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْجِزْيَةِ وَقَالَ: صِيَانَةُ الرُّوحِ لَا تَحْصُلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ السَّفِيهِ وَالْوَلِيِّ بِالزِّيَادَةِ، وَإِذَا اخْتَارَ السَّفِيهُ الِالْتِحَاقَ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَالْمُتَّبَعُ اخْتِيَارُ السَّفِيهِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحَرِيَّةُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ بِسَبَبِهِ، وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ كَالْعَبْدِ، وَقِيلَ: يَجِبُ مِنَ الْجِزْيَةِ بِقِسْطِ حُرِّيَّتِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْتُولٍ بِالْكُفْرِ، كَمَنْ تَمَحَّضَ رِقُّهُ، وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَلْيُسْلِمْ، وَإِلَّا فَلْيُبَلَّغِ الْمَأْمَنَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقِرُّ، فَلْيُسْلِمْ أَوْ لِيَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، وَإِلَّا فَلْيُبَلَّغِ الْمَأْمَنَ، سَوَاءً أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ ذِمِّيٌّ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ سَيِّدِهِ أَمْ جِزْيَةُ عُصْبَتِهِ، لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ، أَمْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ عَقْدٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ: الِاسْتِئْنَافُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الذُّكُورَةُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَخُنْثَى، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ الْأَخْذَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَطَلَبَتْ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِجِزْيَةٍ، أَوْ بَعَثَتْ بِذَلِكَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، أَعْلَمَهَا الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، فَإِنْ رَغِبَتْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْبَذْلِ، فَهَذِهِ هِبَةٌ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِنْ طَلَبَتِ الذِّمَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ، أَجَابَهَا الْإِمَامُ، وَشَرَطَ عَلَيْهَا الْتِزَامَ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ حَاصَرْنَا قَلْعَةً، فَأَرَادُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، لَمْ يُجَابُوا، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءُ فَطَلَبْنَ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ، فَقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي «الْأُمِّ» أَحَدُهُمَا: يَعْقِدُ لَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إِلَى صِيَانَةِ أَنْفُسِهِنَّ عَنِ الرِّقِّ، كَمَا يَحْتَاجُ الرِّجَالُ لِلصِّيَانَةِ عَنِ الْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِنَّ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُسْتَرْقَقْنَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَإِنْ أَخَذَ الْإِمَامُ مَالًا، رَدَّهُ، لِأَنَّهُنَّ دَفَعْنَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِنْ دَفَعْنَهُ عَلَى عِلْمٍ، فَهُوَ هِبَةٌ، وَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَرْبِيَّةٍ بَعَثَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ تَطْلُبُ الذِّمَّةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُعْقَدُ لَهُنَّ، وَيَتَوَصَّلُ الْإِمَامُ إِلَى الْفَتْحِ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَإِنْ عَقَدَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُنَّ حَتَّى يَرْجِعْنَ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَإِذَا فَتَحَهَا، سَبَاهُنَّ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِقَطْعِ الْحَرْبِ، وَلَا حَرْبَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ قَرَّبْنَ مِنْ مَصِيرِهِنَّ غَنِيمَةً فَلَا يُعْرِضُ عَنْهُنَّ بَعْدَ تَحَمُّلِ التَّعَبِ وَالْمُؤْنَةِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُنَّ جِزْيَةٌ، وَلَا يُوجَدُ أَحَدُ إِلْزَامٍ، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، وَشَذَّ عَنْهُمُ الْإِمَامُ فَنَقَلَ فِي الْخِلَافِ وَجْهَيْنِ وَجَعَلَهُمَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ قَبُولُ الْجِزْيَةِ وَتُرْكُ إِرْقَاقِهِنَّ؟
وَضَعَّفَ وَجْهَ اللُّزُومِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ الطَّرِيقَةَ الْمَشْهُورَةَ، ثُمَّ حَكَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقَلْعَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَبَذَلَ الْجِزْيَةَ، جَازَ، وَصَارَتِ النِّسَاءُ تَبَعًا لَهُ فِي الْعِصْمَةِ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ مُطْلِقُونَ، وَخَصَّهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِمَا إِذَا كُنَّ مِنْ أَهْلِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ.
فَرْعٌ
عَقْدُ الذِّمَّةِ يُفِيدُ الْأَمَانَ لِلْكَافِرِ نَفْسًا وَمَالًا وَعَبِيدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ مَنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الضَّبْطِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقٍ وَاتِّصَالٍ، فَيَسْتَتْبِعُ مِنْ نِسْوَةِ الْأَقَارِبِ وَصِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ مَنْ شَاءَ، بِأَنْ يُدْرِجَهُمْ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا، وَسَوَاءٌ الْمَحَارِمُ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَتْبَعُوهُ. وَمَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ لَهُمْ حُكْمُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: كَالْأَجَانِبِ، وَفِي دُخُولِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الدُّخُولُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالزَّوْجَاتُ كَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، وَقِيلَ: كَنِسَاءِ الْقَرَابَةِ.
فَرْعٌ
إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ، زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَلَزِمَتْهُمُ الْجِزْيَةُ وَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَإِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ حَوْلِ أَهْلِهِمُ الذِّمِّيِّينَ مَثَلًا، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ أَهْلِهِمْ، وَرَغِبَ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ يُؤَدُّوا نِصْفَ الْجِزْيَةِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ أَخَذَ جِزْيَتَهُمْ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلٌ ثَانٍ لِأَهْلِهِمْ، فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ جِزْيَةَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الْأَحْوَالُ.
فَرْعٌ
لَوْ دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَنَا بِغَيْرِ تَبَعِيَّةٍ وَلَا أَمَانٍ وَلَا طَلَبِ أَمَانٍ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ، كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ الْكَافِرِ إِذَا دَخَلَ، كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ، وَكُلُّ حُكْمٍ بِجِزْيَةٍ فِي الْقِتَالِ بِجِزْيَةٍ فِيمَنْ يَظْفَرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا أَمَانٍ.
فَرْعٌ
عَنْ نَصِّهِ إِذَا صَالَحَنَا قَوْمٌ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ صِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ وَنِسَائِهِمْ سِوَى مَا يُؤَدُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يُؤَدُّوا مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، جَازَ، وَكَأَنَّهُمْ قَبِلُوا جِزْيَةً كَثِيرَةً، وَإِنْ شَرَطُوهُ مِنْ مَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: كَوْنُهُ كِتَابِيًّا، فَالْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ. أَحَدُهَا: أَهْلُ كِتَابٍ، وَمِنْهُمْ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَلَوْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَهَلْ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبِيحَتُهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ إِلْحَاقًا لِكُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْيَهُودِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا أَلْحَقْنَاهُمْ بِالْيَهُودِ، فَإِنْ تَحَقَّقْنَا صِدْقَهُمْ، أَوْ أَسْلَمَ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَشَهِدُوا بِذَلِكَ، فَذَاكَ، وَعَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ تَحْصُلُ الِاسْتِفَاضَةُ بِقَوْلِهِمْ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي أَمْرِهِمْ، كَالْمَجُوسِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمَجُوسُ، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَهَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ؟ قَوْلَانِ سَبَقَا فِي النِّكَاحِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
الثَّالِثُ: مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّمْسِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، فَلَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءً فِيهِمُ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ.
فَرْعٌ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، مَهْمَا دَخَلَ آبَاؤُهُمْ فِي الْيَهُودِ أَوِ التَّنَصُّرِ قَبْلَ تَبَدُّلِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمُبَدِّلِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَ وَثَنِيٌّ فِي يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ بَعْدَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، لَمْ يُقَرُّوا، هُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ بَاطِلٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُقَرُّونَ، وَالتَّهَوُّدُ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم كَالتَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ وَقَبْلَ النَّسْخِ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا لَمْ يُحَرَّفْ، قُرِّرَ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِمُحَرَّفٍ، لَمْ يُقَرَّرْ هُوَ وَلَا أَوْلَادُهُ، وَهَلْ فِي الْأَوْلَادِ قَوْلَانِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَالثَّانِي: يُقَرُّونَ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلَا خِلَافٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُدِيرُ الْحُكْمَ عَلَى الدُّخُولِ قَبْلَ النَّسْخِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَجٍّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالْإِمَامِ، وَالرُّويَانِيِّ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا أَحْفَظُ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ لِلشَّافِعِيِّ، إِنَّمَا فَرَّقَ فِي كُتُبِهِ بَيْنَ مَا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ، قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّهُمْ وَإِنْ بَدَّلُوا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَدَّلْ، فَلَا تَنْحَطُّ عَنْ شُبْهَةِ كِتَابِ الْمَجُوسِ، أَوْ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَلَوْ لَمْ نَعْرِفْ أَدَخَلُوا قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، قَرَّرْنَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ كَالْمَجُوسِ.
فَرْعٌ
الْمَذْهَبُ أَنَّ السَّامِرَةَ وَالصَّابِئِينَ إِنْ خَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي
أُصُولِ دِينِهِمْ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصَّانِ الْآخَرَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ قَطْعًا، وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ، لَمْ يُقَرُّوا قَطْعًا، فَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُمْ، فَفِي تَقَرُّرِهِمُ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الْإِمَامُ، الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ.
فَرْعٌ
لَوْ أَحَاطَ الْإِمَامُ بِقَوْمٍ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، أَوْ أَنَّ آبَاءَهُمْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ، قَرَّرَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ إِنْ بَانَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ، نَبَذَ عَهْدَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، وَإِنِ ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، عَامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ بِمُقْتَضَى قَوْلِهَا، وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمَا، وَشَهِدَا بِخِلَافِ دَعْوَاهُمْ، نَبَذَ عَهْدَهُمْ، هَذَا لَفْظُ جَمَاعَةٍ وَقَالَ الْإِمَامُ: يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَهَلْ يَغْتَالُهُمْ لِتَلْبِيسِهِمْ عَلَيْنَا أَمْ يُلْحِقُهُمْ بِالْمَأْمَنِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِر: اغْتِيَالُهُمْ لِتَدْلِيسِهِمْ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ مِنَ السَّامِرَةِ أَوِ الصَّابِئِينَ اثْنَانِ، فَشَهِدَا بِكُفْرِهِمْ.
فَرْعٌ
مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ، فِيهِ طُرُقٌ، وَالْمَذْهَبُ: تَقْرِيرُهُ، سَوَاءً كَانَ الْكِتَابِيُّ الْأَبَ أَوِ الْأُمَّ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا يُقَرَّرُ، وَقِيلَ: يُلْحَقُ بِالْأَبِ، وَقِيلَ: بِالْأُمِّ.
فَرْعٌ
تَوَثَّنَ نَصْرَانِيٌّ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ نَصْرَانِيَّةً، اسْتَمَرَّ لَهُمْ حُكْمُ التَّنَصُّرِ، فَتُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً،