المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١٠

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْإِمَامَةِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الرِّدَّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ حَدِّ الزِّنَا

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ حَدِّ الْقَذْفِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ السَّرِقَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فْصِلَ

- ‌بَابُ قُطَّاعِ الطُّرُقِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ التَّعْزِيرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ ضَمَانِ إِتْلَافِ الْإِمَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ السِّيَرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْهُدْنَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْأَطْعِمَةِ

- ‌كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

الفصل: فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ

فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ: يَكْفِي بُلُوغُ التَّعْرِيفِ إِلَى الْأَجْنَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ سِوَاهُمْ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى احْتِمَالِ مُرُورِ التُّجَّارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ يُعَرِّفُهُ سَنَةً، وَلَفْظُ التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ ضَالَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَرْبِيٍّ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، فَالْخُمُسُ لِأَهْلِهِ، وَالْبَاقِي لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَلَوْ وَجَدَ ضَالَّةً لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَخْتَصَّ هُوَ بِهَا، بَلْ تَكُونُ فَيْئًا، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ صَبِيٌّ، أَوِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ بِلَادَنَا، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ، يَكُونُ فَيْئًا، وَإِنْ دَخَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَخَذَهُ مُسْلِمٌ، كَانَ غَنِيمَةً، لِأَنَّ لِأَخْذِهِ مُؤْنَةً، وَلِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَرَقَّهُ، كَانَ الْخُمُسُ لِأَهْلِهِ، وَالْبَاقِي لِمَنْ أَخَذَهُ بِخِلَافِ الضَّالَّةِ، لِأَنَّهَا مَالٌ لِلْكُفَّارِ حَصَلَ فِي أَيْدِينَا بِلَا قِتَالٍ.

فَرْعٌ

الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَمْ يَمْلِكْهَا أَحَدٌ، كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْحَجَرِ وَالصَّيْدِ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ، مِنْ أَخْذِهَا، مَلَكَهَا كَدَارِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْمُخْتَصَرِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْنُوعًا أَوْ صَيْدًا مُقَرَّطًا أَوْ مَوْسُومًا، فَلَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ، يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَرًا مَصْنُوعًا بِنَقْرٍ أَوْ نَقْشٍ، أَوْ مَنْحُوتًا، وَالْمُقَرَّطُ: فِي أُذُنِهِ قُرْطٌ، وَيُرْوَى مُقْرَطَقٌ، وَهُوَ الَّذِي جُزَّ صُوفُهُ، وَجُعِلَ عَلَى هَيْئَةِ الْقُرْطَقِ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ آثَارٌ لِلْمِلْكِ وَالدَّارُ لِلْكُفَّارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ، فَتَكُونُ غَنِيمَةً، فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهَا لِمُسْلِمٍ، فَهِيَ كَسَائِرِ الضَّوَالِّ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا كَمَا سَبَقَ.

‌فَصْلٌ

لِلْغَنِيمَةِ أَحْكَامٌ، أَحَدُهَا: يَجُوزُ التَّبَسُّطُ بِتَنَاوُلِ أَطْعِمَتِهَا، وَبِعَلَفِ الدَّوَابِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِلَا عِوَضٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ جِنْسِ الْمَأْخُوذِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَالْأَخْذِ وَمَكَانِ الْأَخْذِ، أَمَّا جِنْسُهُ، فَهُوَ الْقُوتُ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَكُلُّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِعَلَفِ

ص: 261

الدَّوَابِّ التِّبْنُ وَالشَّعِيرُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِيمَا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَلَكِنْ يُؤْكَلُ غَالِبًا، كَالْفَوَاكِهِ، وَجْهَيْنِ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِجَوَازِ التَّبَسُّطِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَمَّا الْفَانِيدُ وَالسُّكَّرُ وَالْأَدْوِيَةُ الَّتِي تَنْدُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، فَفِيهَا أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تُبَاحُ لِنَدُورِ الْحَاجَةِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا مَرِيضٌ مِنْهُمْ، أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُرَاجَعُ أَمِيرُ الْجَيْشِ فِيهِ، وَالثَّانِي: تُبَاحُ لِلْحَاجَةِ بِلَا عِوَضٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا تَدَاوِيًا، يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَمَا يَكُونُ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ، لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، فَمَنْفَعَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْعَلَفِ، وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الشَّحْمِ وَالدُّهْنِ لِتَوْقِيحِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ مَسْحُهَا بِالْمُذَابِ، وَهُوَ الْمَغْلِيُّ وَلِجَرَبِهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، كَعَلَفِهَا، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: الْمَنْعُ، كَالْمُدَاوَاةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْإِدْهَانُ بِهَا، وَلَا يَجُوزَ إِطْعَامُ الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ مِنْهَا بِخِلَافِ الدَّوَابِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ.

وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا، كَلُبْسِ ثَوْبٍ وَرُكُوبِ دَابَّةٍ، فَلَوْ خَالَفَ، لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ، كَمَا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الْأَعْيَانِ، فَإِنِ احْتَاجَ لِبَرَدٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَسْتَأْذِنُ الْإِمَامَ وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي لُبْسِهِ بِالْأُجْرَةِ مُدَّةَ الْحَاجَّةِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ السِّلَاحِ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِلَحْمِهِ، كَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِنَدُورِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَالَ الْجَمَاهِيرُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ، وَأَشَارَ

ص: 262

الْإِمَامُ إِلَى تَخْصِيصِ الذَّبْحِ بِالْغَنَمِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ مَا يُذْبَحُ يَجِبُ رَدُّ جِلْدِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ، إِلَّا مَا يُؤْكَلُ مَعَ اللَّحْمِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ جِلْدِهِ سِقَاءً أَوْ حِذَاءً أَوْ شِرَاكًا، فَإِنْ فَعَلَ، وَجَبَ رَدُّ الْمَصْنُوعِ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الصَّنْعَةِ، بَلْ إِنْ نَقَصَ لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ وَمَتَى ذَبَحَ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ، هَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ لِنَدُورِ الْحَاجَةِ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، كَالْأَطْعِمَةِ، وَدَعْوَى النُّدُورِ مَمْنُوعَةٌ.

أَمَّا الْأَخْذُ وَقَدْرُ الْمَأْخُوذِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُمَا، هَلْ لَهُ الْأَخْذُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، لِاسْتِغْنَائِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ، وَكُلُّ مَنْ أَخَذَ فَلْيَأْخُذْ كِفَايَتَهُ، وَلَا بَأْسَ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَهُمُ التَّزَوُّدُ لِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَوْ أَكَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ، لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ دَابَّتَانِ فَأَكْثَرَ، فَلَهُ أَخْذُ عَلَفِهِنَّ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَأْخُذُ إِلَّا عَلَفَ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ أَخَذَ غَانِمٌ فَوْقَ حَاجَتِهِ، وَضَيَّفَ بِهِ غَانِمًا أَوْ غَانِمِينَ، جَازَ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ تَوَلَّى إِصْلَاحَ الطَّعَامِ لَهُمْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ بِهِ غَيْرَ الْغَانِمِينَ، فَإِنْ فَعَلَ، لَزِمَ الْآكِلَ الضَّمَانُ، وَيَكُونُ الْمُضَيِّفُ كَمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا مَغْصُوبًا إِلَى ضَيْفٍ فَأَكَلَهُ، فَيُنْظَرُ أَعَلِمَ الْحَالَ أَمْ جَهِلَهُ، وَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْغَصْبَ، وَلَوْ أَتْلَفَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا، كَانَ كَإِتْلَافِهِ مَالًا آخَرَ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْقِيمَةِ إِلَى الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِي الْوَجْهِ الْمُسَوَّغِ شَرْعًا، وَمَا يَأْخُذُهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ، لَكِنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَخْذُ، كَالضَّيْفِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ. وَلَوْ لَحِقَ الْجَيْشَ مَدَدٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَحِيَازَةِ الْمَالِ، هَلْ لَهُمْ

ص: 263

التَّبَسُّطُ فِي الْأَطْعِمَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ مَظِنَّةُ الْحَاجَّةِ وَعِزَّةُ الطَّعَامِ هُنَاكَ، وَمَنْ دَخَلَ مِنَ الْغَانِمِينَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ فَضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ شَيْءٌ، فَفِي وُجُوبِ رَدِّهِ إِلَى الْمَغْنَمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: يَجِبُ، لِزَوَالِ الْحَاجَةِ وَالْمَأْخُوذُ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْجَمِيعِ، وَالثَّانِي: لَا، لِإِبَاحَةِ الْأَخْذِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يُبَالَى بِهِ، كَكِسَرِ الْخُبْزِ وَبَقِيَّةِ التِّبْنِ فِي الْمَخَالِي، لَمْ يَرُدَّ، وَإِلَّا فَيَرُدُّ، وَمَتَى وَجَبَ الرَّدُّ، فَإِنْ لَمْ تُقَسَّمِ الْغَنِيمَةُ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِنْ قُسِّمَتْ، رَدَّهُ إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ كَمَا قُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ، فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِنَزَارَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ وَلِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْعَلُ فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ، أَمَّا مَكَانُ الْأَخْذِ وَالتَّبَسُّطِ، فَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى عُمْرَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ الشِّرَاءِ، أَمْسَكُوا، وَلَوْ خَرَجُوا عَنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَنْتَهُوا إِلَى عُمْرَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ التَّبَسُّطِ، لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ دَارُ الْحَرْبِ فَيُنَاطُ الْحُكْمُ بِهِ وَعَكْسُهُ، وَلَوْ وَجَدُوا سُوقًا فِي دَارِ الْحَرْبِ: وَتَمَكَّنُوا مِنَ الشِّرَاءِ، فَقَدْ طَرَدَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ لِانْعِكَاسِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَطَعَ الْإِمَامُ بِالْجَوَازِ وَقَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مَنَعَ التَّبَسُّطَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَنَزَّلُوا دَارَ الْحَرْبِ فِي إِبَاحَةِ الطَّعَامِ مَنْزِلَةَ السَّفَرِ فِي الرُّخَصِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ ثَبَتَتْ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَالْمُرَفَّهُ الَّذِي لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ يُشَارِكُ فِيهَا، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ مَعَنَا مُهَادَنَةٌ، وَكَانُوا لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مُبَايَعَةِ مَنْ يَطْرُقُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ فِي دَارِهِمْ، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ بِمَثَابَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ.

فَرْعٌ

لَيْسَ لِلْغَانِمِ أَنْ يُقْرِضَ مَا أَخَذَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِغَيْر الْغَانِمِينَ

ص: 264

وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ، فَإِنْ فَعَلَ، لَزِمَ الْآخِذَ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ غَانِمًا آخَرَ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ لِلْمُقْرِضِ مُطَالَبَةَ الْمُقْتَرِضِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، لَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْهُ إِلَّا بِبَدَلٍ. وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ: أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ، لِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ، وَالْوَجْهَانِ مُتَّفِقَانِ أَنَّهُ لَيْسَ قَرْضًا مُحَقَّقًا، لِأَنَّ الْآخِذَ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ، لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُقْرِضُ، لَأَنَّ غَيْرَ الْمَمْلُوكِ لَا يُقَابَلُ بِالْمَمْلُوكِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَغْنَمِ طَعَامٌ آخَرُ، سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَإِذَا رُدَّ مِنَ الْمَغْنَمِ، الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، انْقَطَعَتْ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ، فَيُرَدُّ الْمُسْتَقْرَضُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَقِيَ عَيْنُ الْمُسْتَقْرَضِ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ طَعَامِ الْمَغْنَمِ هَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِلَّا، فَإِنْ جَعَلْنَا لِلْقَرْضِ اعْتِبَارًا، رَدَّهُ إِلَى الْمُقْرِضِ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.

فَرْعٌ

لَوْ بَاعَ غَانِمٌ مَا أَخَذَهُ لِغَانِمٍ آخَرَ، فَهَذَا إِبْدَالُ مُبَاحٍ بِمُبَاحٍ، وَهُوَ كَإِبْدَالِ الضِّيفَانِ لِقِمَّةً بِلُقْمَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى بِمَا صَارَ إِلَيْهِ، وَلَوْ تَبَايَعَا صَاعًا بِصَاعَيْنِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِبًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُحَقَّقَةٍ.

فَرْعٌ

مُقْتَضَى مَا تَكَرَّرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مُبَاحٌ لِلْغَانِمِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ، وَيَصْرِفَ الْمَأْخُوذَ إِلَى حَاجَةٍ أُخْرَى بَدَلًا عَنْ طَعَامِهِ، كَمَا لَا يَتَصَرَّفُ الضَّيْفُ فِيمَا قُدِّمَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْأَكْلِ.

ص: 265

فَرْعٌ

قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قَلَّ الطَّعَامُ، وَاسْتَشْعَرَ الْأَمِيرُ الِازْدِحَامَ وَالتَّنَازُعَ فِيهِ، جَعَلَهُ تَحْتَ يَدِهِ، وَقَسَّمَهُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ مَعَهُ كِفَايَتُهُ مُزَاحَمَةَ الْمُحْتَاجِينَ.

الْحُكْمُ الثَّانِي: سُقُوطُ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يَسْقُطُ حَقُّ الْغَانِمِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْغَنِيمَةِ، وَتَرْكِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْجِهَادِ إِعْلَاءُ الدِّينِ، وَالذَّبُّ عَنِ الْمِلَّةِ، وَالْغَنِيمَةُ تَابِعَةٌ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَقْد مَحَّضَ عَمَلَهُ لِلْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمْ: وَهَبْتُ نَصِيبِي لِلْغَانِمِينَ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِسْقَاطَ، سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّمْلِيكَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» : الصِّحَّةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَقْوَاهُمَا: الْمَنْعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَلَوْ أَفْرَزَ الْخُمُسَ، وَلَمْ يُقَسِّمِ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ فَوَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَصِحُّ الْإِعْرَاضُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ، وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَمَيَّزَ عَنِ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ، فَصَارَ كَمَالٍ مُشْتَرَكٍ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ الْغَنِيمَةَ، هَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ وَجْهَانِ، أَشْبَهُهُمَا: نَعَمْ، وَلَوْ أَعْرَضَ جَمِيعُ الْغَانِمِينَ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ إِعْرَاضُهُمْ، فَيُصْرَفُ الْجَمِيعُ إِلَى مَصْرِفِ الْخُمُسِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُصَحَّحَ لِلْإِعْرَاضِ يَشْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْخُمُسِ فَغَيْرُ ذَوِي الْقُرْبَى جِهَاتٌ عَامَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إِعْرَاضٌ، وَفِي صِحَّةِ إِعْرَاضِ ذَوِي الْقُرْبَى وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَالْغَانِمِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِلَا عَمَلٍ، فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْغَانِمِينَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ كَالِاكْتِسَابِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ يُمَحِّضُ جِهَادَهُ لِلْآخِرَةِ، فَلَا يُمْنَعُ

ص: 266

مِنْهُ، وَلَوْ أَعْرَضَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، قَالَ الْإِمَامُ: فَفِي صِحَّةِ إِعْرَاضِهِ تَرَدُّدٌ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ: الْمَنْعُ، فَلَوْ فُكَّ حَجْرُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ صَبِيٍّ عَنِ الرَّضْخِ، وَلَا إِعْرَاضُ وَلِيِّهِ، فَإِنْ بَلَغَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، صَحَّ إِعْرَاضُهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ الْعَبْدِ عَنْ رَضْخِهِ، وَيَصِحُّ إِعْرَاضُ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، وَلَا يَصِحُّ إِعْرَاضُ مُسْتَحِقِّ السَّلَبِ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ كَالْوَارِثِ، وَكَنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.

فَرْعٌ

مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْغَانِمِينَ، قُدِّرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ، وَضُمَّ نَصِيبُهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقِيلَ: يُضَمُّ إِلَى الْخُمُسِ خَاصَّةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ مَاتَ غَانِمٌ وَلَمْ يُعْرِضْ، انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ شَاءُوا طَلَبُوا، أَوْ أَعْرَضُوا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَقْتِ مِلْكِ الْغَانِمِينَ الْغَنِيمَةَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا يَمْلِكُونَ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَتَمَلَّكُوا بَيْنَ الْحِيَازَةِ وَالْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا لَمْ يَصِحَّ إِعْرَاضُهُمْ، كَمَنِ احْتَطَبَ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مَلَكُوا، لَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ نَوْعٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، وَالثَّانِي: يَمْلِكُونَ بِالْحِيَازَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْمَالِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ،. وَلِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ زَالَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوا، لَزَالَ الْمِلْكُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ سَلِمَتِ الْغَنِيمَةُ حَتَّى قَسَّمُوهَا، بَانَ أَنَّهُمْ مَلَكُوا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَإِلَّا فَإِنْ تَلِفَتَ، أَوْ أَعْرَضُوا، تَبَيَّنَّا عَدَمَ الْمِلْكِ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: لَا نَقُولُ بَانَ بِالْقِسْمَةِ أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهَا صَارَتْ مِلْكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، بَلْ نَقُولُ: إِذَا اقْتَسَمُوا، بَانَ أَنَّهُمْ مَلَكُوا الْغَنِيمَةَ مِلْكًا مُشَاعًا، ثُمَّ بِالْقِسْمَةِ تَمَيَّزَتِ الْحِصَصُ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ بِالْقِسْمَةِ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مَلَكَ حِصَّتَهُ عَلَى التَّعَيُّنِ،

ص: 267

وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا الْغَنِيمَةَ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، مَلَكَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا الِاعْتِبَارُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ لَا بِالْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقِسْمَةُ لِتَضَمُّنِهَا اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ.

فَرْعٌ

ذَكَرُوا هُنَا وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ، فَيَخُصُّ بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَبِبَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُنَا: تَمَلَّكَ بِالْقِسْمَةِ، مَعْنَاهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إِذَا رَضِيَ الْغَانِمُ بِالْقِسْمَةِ، أَوْ قَبِلَ مَا عَيَّنَهُ لَهُ الْإِمَامُ، فَأَمَّا إِذَا رَدَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ رَدُّهُ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ خِلَافًا، فَقَالَ: إِذَا أَفْرَزَ الْإِمَامُ الْخُمُسَ، وَأَفْرَزَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ أَفْرَزَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، فَلَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْأَصَحِّ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ، صُرِفَ إِلَى الْبَاقِينَ.

فَرْعٌ

لَوْ سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، لَمْ يُقْطَعْ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي خُمُسِ الْخُمُسِ وَفِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، نُظِرَ إِنْ سُرِقَ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْأَخْمَاسِ قَدْرَ نَصِيبِهِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ تَبْلُغِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ، وَكَذَا إِنْ بَلَغَتْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْغَنِيمَةِ لِجَوَازِ إِعْرَاضِ الْبَاقِينَ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ لَهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يُسْتَرَدُّ الْمَسْرُوقُ، وَإِنْ تَلِفَ، فَبَدَلُهُ، وَيُجْعَلْ فِي الْمَغْنَمِ، وَلَوْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْضَ الْغَانِمِينَ، عُزِّرَ، وَإِنْ سَرَقَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ لَهُ فِي الْغَانِمِينَ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ عَبْدٌ، فَهُوَ كَسَرِقَةِ الْغَانِمِ، وَإِلَّا فَإِنْ سَرَقَ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَهُوَ كَسَرِقَتِهِ مَالَ بَيْتِ

ص: 268

الْمَالِ، لِأَنَّ فِيهِ مَالًا لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ خُمُسِ الْمَصَالِحِ بَعْدَ إِفْرَازِهِ، فَهُوَ سَرِقَةُ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، لَمْ يُقْطَعْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَإِلَّا فَيُقْطَعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْهُمْ.

فَرْعٌ

لَوْ وَطِئَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ، يُحَدُّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً، لَكِنْ يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ نُهِيَ عَنْهُ، وَيُعَرَّفُ حُكْمُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْغَانِمُونُ مَحْصُورِينَ يَتَيَسَّرُ ضَبْطُهُمْ، فَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كُلُّ الْمَهْرِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَغْرَمُ مِنْهُ حِصَّةَ الْخُمُسِ وَحِصَّةَ غَيْرِهِ مِنَ الْغَانِمِينَ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ وَقَعَتِ الْجَارِيَةُ فِي حِصَّةِ الْوَاطِئِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَخَرَّجَ الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهَا إِنْ وَقَعَتْ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ لَهُ الْمَهْرُ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ عَنِ الْمَنْصُوصِ، وَإِنْ كَانَ الْغَانِمُونَ غَيْرَ مَحْصُورِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْسُرَ ضَبْطُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، نُظِرَ إِنْ أَفْرَزَ الْإِمَامُ الْخُمُسَ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ مُعَيَّنَةً لِمَخْصُوصِينَ، فَإِنْ وَطِئَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ اخْتِيَارِهِمْ تَمَلُّكِهَا، فَهَذَا وَطْءُ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَيَغْرَمُ مِنَ الْمَهْرِ قِسْطَ شُرَكَائِهِ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ اخْتِيَارِهِمُ التَّمَلُّكَ، فَقِيلَ: هُوَ كَمَا بَعْدَ الِاخْتِيَارِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ كَانُوا مَحْصُورِينَ فِي الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ الْمَهْرُ هُنَا، بَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْقُطُ قِسْطُ الْوَاطِئِ، وَيَلْزَمُهُ قِسْطُ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْرِزِ الْإِمَامُ، وَلَا عَيَّنَ شَيْئًا، غَرِمَ الْوَاطِئُ كُلَّ الْمَهْرِ، وَضُمَّ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقُسِّمَ بَيْنَ

ص: 269

الْجَمِيعِ، فَيَعُودُ إِلَى الْوَاطِئِ حِصَّتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ الْإِمَامُ أَنْ يَضْبِطَهُمْ وَيَعْرِفَ حِصَّتَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانُوا مَحْصُورِينَ وَسَهُلَ الضَّبْطُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلْيَكُنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا طَابَتْ نَفْسُ الْوَاطِئِ بِغُرْمِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ قَالَ: أَسْقِطُوا حِصَّتِي، فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَابَتِهِ.

قُلْتُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ خِلَافُ قَوْلِ الْإِمَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَخْذُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِئَلَّا يُقَدَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى بَعْضٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا، فَحُكْمُ الْحَدِّ وَالْمَهْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَيَزِيدُ أُمُورٌ. مِنْهَا: الِاسْتِيلَادُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَفِي نُفُوذِهِ فِي نَصِيبِهِ طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِنْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ بِسَهْمِهِ، أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ، فَفِي نُفُوذِ الِاسْتِيلَادِ قَوْلَانِ يَطَّرِدَانِ فِي نَظَائِرِهِ، الْأَظْهَرُ: النُّفُوذُ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَلَمْ يَغْنَمُوا غَيْرَ تِلْكَ الْجَارِيَةِ، نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ فِي حِصَّتِهِ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِيلَادُ نَصِيبِهِ، سَرَى لِيَسَارِهِ إِلَى الْبَاقِي، وَهَلْ تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، أَمْ بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ قَوْلَانِ مَوْضِعُهُمَا كِتَابُ الْعِتْقِ، قَالَ الْإِمَامُ والْغَزَالِيُّ: وَيَحْصُلُ الْيَسَارُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِغَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ تَفِ حِصَّتُهُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجَارِيَةِ بِالْقِيمَةِ، سَرَى بِقَدْرِ الْحِصَّةِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنِيمَةِ هَلْ يَحْصُلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَا، لَمْ

ص: 270

يَكُنْ مُوسِرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ ذَكَرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِغِنَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يَعْرِضَ وَيَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ، فَإِنْ أَعْرَضَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وَلَا تَقُولَ: حَقُّ السِّرَايَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ كَابْتِدَاءِ كَسْبٍ، وَمَتَى حَكَمْنَا بِالِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي حِصَّتِهِ، لَزِمَهُ الْقِيمَةُ، ثُمَّ هُوَ فِي سُقُوطِ حِصَّتِهِ، وَأَخْذِ الْجَمِيعِ بِحَسَبِ انْحِصَارِ الْقَوْمِ، وَعَدَمِ انْحِصَارِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِالِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ حَتَّى وَضَعَتْ، جُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ وَدَخَلَتْ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ دَخَلَهَا نَقْصٌ بِالْوِلَادَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَأَمَّا قَبْلَ الْوَضْعِ، فَهِيَ حَامِلٌ بِحُرٍّ وَبَيْعُ الْحَامِلِ بِحُرٍّ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْقِسْمَةَ بَيْعًا، لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ فَهَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا وَتُجْعَلُ فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْبَالِ حَالَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَبَيْنَهَا بَيْعًا وَقِسْمَةً أَمْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِحِصَّتِهِ إِنِ احْتَمَلَتْهَا أَمْ يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ لِلضَّرُورَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورِينَ وَأَفْرَزَ الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ لِطَائِفَةٍ فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حِصَّتِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي حِصَّةِ الْمُوسِرِ فَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ فَلَا سِرَايَةَ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ وَلَمْ يُفْرِزْهَا فَلَا اسْتِيلَادَ فِي الْحَالِ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي حِصَّتِهِ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ بَعْضُهَا، ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ.

وَمِنْهَا: الْوَلَدُ، وَهُوَ حُرٌّ نَسِيبٌ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْجَارِيَةَ هَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلَا، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ حِينَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَنَعَمْ، لِأَنَّهُ مَنَعَ رِقَّهُ بِوَطْئِهِ، ثُمَّ حُكْمُ قِيمَةِ الْوَلَدِ حُكْمُ الْمَهْرِ، هَذَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي كُلِّهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَثَبَتَ فِي حِصَّتِهِ وَلَمْ يَسْرِ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْوَلَدُ حُرًّا كُلُّهُ أَمْ قَدْرُ حِصَّتِهِ حُرٌّ وَالْبَاقِيَ رَقِيقٌ؟ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كُلُّهُ حُرٌّ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَعُمُّ

ص: 271

الْجَارِيَةَ، وَحُرِّيَّةُ الْوَلَدِ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّهَا أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، انْعَقَدَ الْوَلَدُ حُرًّا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيلَادُ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ تَبَعٌ لِلِاسْتِيلَادِ وَهُوَ مُتَبَعِّضٌ بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنْ ظَنٍّ لَا يَتَبَعَّضُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ بَاقِيَ الْجَارِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَ الرِّقُّ فِيهِ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِرَقِيقٍ، وَإِنْ قُلْنَا: جَمِيعُهُ حُرٌّ، فَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي بَاقِيهَا إِذَا مَلَكَهُ قَوْلَانِ، لِأَنَّهُ أَوْلَدَهَا حُرًّا فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَبْعِيضِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ يَجْرِي فِيمَا إِذَا أَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمُشْتَرَكَةَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ قُلْنَا: جَمِيعُهُ حُرٌّ، لَزِمَ الْمُسْتَوْلِدَ قِيمَةُ حِصَّةِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْوَلَدِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَسَوَاءٌ فِي تَرْجِيحِ حُرِّيَّةِ جَمِيعِهِ اسْتِيلَادُ أَحَدِ الْغَانِمِينَ وَاسْتِيلَادُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَسُئِلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَمَّنْ أَوْلَدَ امْرَأَةً، نِصْفُهَا حُرٌّ، وَنِصْفُهَا رَقِيقٌ بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًى، كَيْفَ حَالُ الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وَلَدِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنَ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ جَوَابُهُ عَلَى أَنَّهُ كَالْأُمِّ حُرِّيَّةً وَرِقًّا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِحُرِّيَّتِهِ إِلَّا حُرِّيَّةَ الْأُمِّ فَيَتَقَدَّرُ بِهَا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حِصَّةِ الْمُعْسِرِ، وَالْخِلَافُ فِي حَالِ الْوَلَدِ مَوْضِعُهُ مَا إِذَا انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ، فَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ قُلْنَا عِنْدَ الِانْحِصَارِ: كُلُّ الْوَلَدِ حُرٌّ، أُخِذَ مِنْهُ قِيمَتُهُ، وَجُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَقُسِّمَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْحُرُّ بَعْضُهُ، كَانَ كُلُّهُ هُنَا رَقِيقًا، ثُمَّ الْإِمَامُ يَجْتَهِدُ حَتَّى تَقَعَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ فِي حِصَّةِ الْوَاطِئِ، فَإِنْ وَقَعَا فِيهَا، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَإِنْ وَقَعَ الْبَعْضُ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِقَدْرِهِ، وَعَتَقَ مِنَ الْوَلَدِ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ، هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ سَبَقَ أَنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَى الْغَانِمِينَ وَلَا الْإِقْرَاعُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى سَعْيٍ وَاجْتِهَادٍ، بَلْ

ص: 272

يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُوقِعُهُمَا فِي حِصَّتِهِ، أَوْ يُوقِعُ بَعْضَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَعَتَقَ مِنَ الْوَلَدِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ يُعْتَقُ كُلَّهُ أَوْ بِالْحِصَّةِ، فَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى وَجْهِ التَّبْعِيضِ أَوْ أَرَادَ أَنَّ قَدْرَ الْحِصَّةِ يُعْتَقُ قَطْعًا، وَفِي الْبَاقِي الْخِلَافُ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَادُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَسَوَاءً كَانَ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ أَمْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَهُوَ كَوَطْءِ جَارِيَتِهِ أَوْ جَارِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ مُشْتَرَكَةٍ، وَلَا يَخْفَى حُكْمُهُ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَهُوَ كَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، أَوْ أُفْرِزَتِ الْجَارِيَةُ لِطَائِفَةٍ مَحْصُورِينَ، فَهُوَ كَمَا بَعَدَ الْقِسْمَةِ وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ، وَلَوْ وَطِئَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ، فَكَوَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيٌّ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ، أَوْ قَبْلَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ دُونَ الْإِعْفَافِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ وَطِئَ الْأَجْنَبِيُّ جَارِيَةً مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، حُدَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْغَانِمِينَ وَلَدٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أُسِرَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ، وَرُقَّ بِنَفْسِ الْأَسْرِ أَوْ بِإِرْقَاقِهِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، وَنَصَّ فِيمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ كَمَا سَبَقَ، فَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمَلَّكُ بِالْحِيَازَةِ أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، نَفَذَ، أَوْ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَجُعِلَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، لِقُوَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَلِهَذَا يَنْفُذُ اسْتِيلَادُ الْمَجْنُونِ وَاسْتِيلَادُ جَارِيَةِ ابْنِهِ دُونَ الْإِعْتَاقِ، وَسَوَاءً ثَبَتَ الْخِلَافُ أَمْ لَا،

ص: 273

فَالْمَذْهَبُ مَنْعُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ، وَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، أَوْ وَقَعَ بَعْضُهُ وَاخْتَارَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَنُظِرَ إِلَى يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ فِي تَقْوِيمِ الْبَاقِي، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنِ انْحَصَرُوا، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُ قَرِيبِهِ، مَلَكَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْهَا، فَفِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِتْقِ الْقَرِيبِ، كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَا يُعْتَقُ بِحَالٍ بِخِلَافِ عِتْقِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا اخْتِيَارٍ وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِاخْتِيَارٍ، وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ إِذَا مَلَكَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ، لَمْ يُنَفَّذْ.

فَرْعٌ

لَوْ كَانَ الْغَانِمُونَ طَائِفَةً يَسِيرَةً، وَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، لَمْ يَتَوَقَّفِ الْعِتْقُ إِلَّا عَلَى اخْتِيَارِهِمُ التَّمَلُّكَ، وَيَجِيءُ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا اخْتَارُوا جَمِيعًا، لَمْ يُفْرَضْ فِيهِ تَقْدِيمُ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ.

فَرْعٌ

دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ مُنْفَرِدًا، وَأَسَرَ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ الْبَالِغَ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْإِمَامُ قَتْلَهُ أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْآسِرُ التَّمَلُّكَ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنِ اخْتَارَ، صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيُقَوَّمُ الْخُمُسُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَوْ أَسَرَ أُمَّهُ، أَوْ بِنْتَهُ الْبَالِغَةَ، رَقَّتْ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْآسِرُ التَّمَلُّكَ، كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ الِابْنَ الصَّغِيرَ بِالْأُمِّ، وَهُوَ هَفْوَةٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ فِي الْإِسْلَامِ،

ص: 274

فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ سَبْيُهُ، وَلَوْ أَسَرَ أَبَاهُ فِي الْقِتَالِ، زَادَ النَّظَرُ فِي أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا رُقَّ هَلْ يَكُونُ مِنَ السَّلَبِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْغَنَائِمِ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ: أَرْضُ الْكُفَّارِ وَعَقَارُهُمْ تُمَلَّكُ بِالِاسْتِيلَاءِ، كَمَا تُمَلَّكُ الْمَنْقُولَاتُ، وَأَمَّا مَكَّةُ فَفُتِحَتْ صُلْحًا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ رحمهم الله، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : عِنْدِي أَنَّ أَسْفَلَهَا، دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه عَنْوَةً، وَأَعْلَاهَا فُتِحَ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَدُورُهَا وَعِرَاصُهَا الْمُحْيَاةُ مَمْلُوكَةٌ، كَسَائِرِ الْبِلَادِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهَا وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَهَا، وَأَمَّا سَوَادُ الْعِرَاقِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فُتِحَ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَتَحَهُ عَنْوَةً، وَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَطَابَ قُلُوبَهُمْ وَاسْتَرَدَّهُ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا فَعَلَهُ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَفِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآجَرَهُ لِأَهْلِهِ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مُنَجَّمَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ، وَالثَّانِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ بَاعَهُ لَهُمْ وَالْخَرَاجُ ثَمَنٌ مَنَجَّمٌ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَبَيْعُهُ، وَعَلَى الصَّحِيحِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِهِ إِجَارَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ مُؤَبَّدًا عَلَى الْأَصَحِّ بِخِلَافِ إِجَارَةِ عُمَرَ رضي الله عنه مُؤَبَّدًا، فَإِنَّهَا احْتُمِلَتْ لِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ سُكَّانِهِ أَنْ يُزْعِجَ سَاكِنًا وَيَقُولَ: أَنَا أَسْتَغِلُّهُ وَأُعْطِي الْخَرَاجَ، لِأَنَّهُ مَلَّكَ بِالْإِرْثِ الْمَنْفَعَةَ أَوِ الرَّقَبَةَ، هَذَا حُكْمُ الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ، فَأَمَّا مَا فِي حَدِّ السَّوَادِ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالدُّورِ، فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ بَيْعِهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَمْنَعْ شِرَاءَهَا، وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الْأَرْضُ تَنَاوُلُ ثَمَرِ أَشْجَارِهَا؟ إِنْ قُلْنَا: الْأَرْضُ مَبِيعَةٌ، فَكَذَا الشَّجَرُ وَالثَّمَرُ، وَإِنْ قُلْنَا: مُسْتَأْجَرَةٌ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ تُنَاوُلُهَا لِلْحَاجَةِ، وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ

ص: 275

كَمَا يُحْتَمَلُ التَّأْيِيدُ، وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، بَلِ الْإِمَامُ يَصْرِفُهَا وَأَثْمَانَهَا إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا حَدُّ السَّوَادِ، فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ مِنْ عَبَّادَانَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ طُولًا، وَمِنْ عَذِيبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا، وَهُوَ بِالْفَرَاسِخِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ فَرْسَخًا طُولًا، وَثَمَانُونَ عَرْضًا، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ تَسَاهُلٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْبَصْرَةِ كَانَتْ سَبِخَةً أَحْيَاهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِي وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ رضي الله عنهما بَعْدَ فَتْحِ الْعِرَاقِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَدِّ وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِثْنَائِهَا، وَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الْبَصْرَةَ لَا تَدْخُلُ فِي حُكْمِ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : حَضَرْتُ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ وَهُوَ يُدَرِّسُ فِي تَحْدِيدِ السَّوَادِ فَأَدْخَلَ فِيهِ الْبَصْرَةَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: هَكَذَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا إِنَّمَا كَانَتْ مَوَاتًا أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: عَلِّقُوا مَا يَقُولُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَعْرَفُ بِهَا، وَلَكِنْ فِي إِطْلَاقِ اسْتِثْنَاءِ الْبَصْرَةِ تَسَاهُلٌ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْبَصْرَةَ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ السَّوَادِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ مِنْ شَرْقِيِّ دِجْلَتِهَا يُسَمَّى الْفُرَاتَ، وَمَوْضِعٍ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا يُسَمَّى نَهْرَ الصَّرَاةِ.

فَرْعٌ

مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الْأَرْضِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْرُ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَجَرِيبِ الْحِنْطَةِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَجَرِيبِ الشَّجَرِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةٌ، وَالنَّخْلِ ثَمَانِيَةٌ، وَالْكَرْمِ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: النَّخْلُ عَشَرَةٌ، وَالزَّيْتُونُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.

ص: 276

فَرْعٌ:

لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْيَوْمَ أَنْ يَقِفَ أَرْضَ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه جَازَ إِذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ، وَكَذَا الْمَنْقُولَاتُ وَالصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ لَا يَجُوزُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْكُفَّارِ إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ، لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ قَهْرًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَتَوَانَوْنَ بِسَبَبِهَا فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ يَقْهَرُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.

ص: 277

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ بِالْأَمَانِ

قَدْ تَقْتَضِي الْمُصْلِحَةُ الْأَمَانَ لِاسْتِمَالَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِرَاحَةِ الْجَيْشِ، أَوْ تَرْتِيبِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى دُخُولِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِأَهْلِ إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، وَهُوَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ، وَيَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ وَوُلَاتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِلَى خَاصٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِآحَادٍ، وَيَصِحُّ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْآحَادِ، وَالْبَابُ مَعْقُودٌ لِهَذَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِنَّمَا يَجُوزُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمَانُ كَافِرٍ، أَوْ كُفَّارٍ مَحْصُورِينَ، كَعَشَرَةٍ وَمِائَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ نَاحِيَةٍ وَبَلْدَةٍ، وَفِي الْبَيَانِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَمِّنَ وَاحِدٌ أَهْلَ قَلْعَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرْيَةَ الصَّغِيرَةَ فِي مَعْنَاهَا، وَعَنِ الْمَاسَرْجَسِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ وَاحِدٍ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَضَابِطُهُ أَنْ لَا يَنْسَدَّ بِهِ بَابُ الْجِهَادِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِذَا تَأَتَّى الْجِهَادُ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ أُمِّنَ، نَفَذَ الْأَمَانُ، لِأَنَّ الْجِهَادَ شِعَارُ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ الْقَهْرِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَكَاسِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ بِأَمَانِ الْآحَادِ انْسِدَادُهُ أَوْ نُقْصَانٌ يُحَسُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أُمِّنَ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ لَمْ يُؤَمِّنْ إِلَّا وَاحِدًا، لَكِنْ إِذَا ظَهَرَ انْسِدَادٌ أَوْ نُقْصَانٌ، فَأَمَانُ الْجَمِيعِ مَرْدُودٌ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَمَّنُوهُمْ مَعًا فَرَدُّ الْجَمِيعِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمَّنُوهُمْ مُتَعَاقِبِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ أَمَانُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إِلَى ظُهُورِ الْخَلَلِ، عَلَى أَنَّ الرُّويَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ أَمَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، جَازَ، وَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى زَادُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ.

ص: 278

الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الْمُتَعَاقِبِينَ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْخَلَلُ، وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءً كَانَ الْكَافِرُ الْمُؤَمَّنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي حَالِ الْقِتَالِ أَوِ الْهَزِيمَةِ، أَوْ عِنْدَ مَضِيقٍ، بَلْ يَصِحُّ الْأَمَانُ مَا دَامَ الْكَافِرُ مُمْتَنِعًا، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَسْرِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْآحَادِ أَمَانُهُ وَلَا الْمَنُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كُنْتُ أَمَّنْتُهُ قَبْلَ هَذَا، لَمْ يُقْبَلْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِأَمَانِ مَنْ يَجُوزُ أَمَانُهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ جَمَاعَةٌ: كُنَّا أَمَّنَّاهُ، لَمْ يُقْبَلْ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ: كُنْتُ أَمَّنْتُهُ، وَشَهِدَ بِهِ اثْنَانِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا.

فَرْعٌ

فِي جَوَازِ عَقْدِ الْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالًا وَجْهَانِ.

الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ كَافِرًا، وَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَالْفَقِيرِ وَالْمُفْلِسِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَالْمَرِيضِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ، وَالْفَاسِقِ وَفِي الْفَاسِقِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ، وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهٌ كَتَدْبِيرِهِ.

الثَّالِثَةُ: يَنْعَقِدُ الْأَمَانُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ الْغَرَضَ، صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ: أَجَرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ مُجَارٌ، أَوْ أَمَّنْتُكَ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ، أَوْ فِي أَمَانِي، أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، أَوْ لَا خَوْفَ عَلَيْكَ، أَوْ لَا تَخَفْ، أَوْ لَا تَفْزَعْ، أَوْ قَالَ بِالْعَجَمِيَّةِ: مُتَرَّسٌ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : لَا تَخَفْ، لَا تَفْزَعْ. كِنَايَةٌ. وَالْكِنَايَةُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، وَتَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ، سَوَاءً كَانَ الرَّسُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الْعِبَارَةِ. وَبِنَاءُ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُؤَمَّنُ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ وَبُلُوغِ خَبَرِ الْأَمَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَلَا أَمَانَ، فَلَوْ

ص: 279

بَدَرَ مُسْلِمٌ فَقَتَلَهُ، جَازَ وَإِذَا خَاطَبَهُ بِالْأَمَانِ، أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَرَدَّهُ، بَطَلَ، وَإِنْ قَبِلَ، أَوْ كَانَ قَدِ اسْتَجَارَ مِنْ قَبْلُ، تَمَّ الْأَمَانُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لَفْظًا، بَلْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ وَالْأَمَارَةُ الْمُشْعِرَةُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْقِتَالُ، فَلَوْ سَكَتَ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ، قَالَ الْإِمَامُ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالظَّاهِرُ: اشْتِرَاطُ قَبُولِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَاكْتَفَى الْبَغَوِيُّ بِالسُّكُوتِ، وَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ: قَبِلْتُ أَمَانَكَ، وَلَسْتُ أُؤَمِّنُكَ فَخُذْ حِذْرَكَ، قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ رَدٌّ لِلْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَثْبُتُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْأَمَانِ بِالْأَعْذَارِ، وَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى كَافِرٍ فِي الْقِتَالِ، فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، وَتَفَاهَمَا الْأَمَانَ، فَهُوَ أَمَانٌ، وَإِنْ قَالَ الْكَافِرُ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُنِي، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: لَمْ أَرُدَّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا أَمَانَ، وَلَكِنْ لَا يُغْتَالُ، بَلْ يَلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مُكْرَهٍ، وَقَالَ: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، أَوْ ظَنَنْتُهُ بَالِغًا، أَوْ عَاقِلًا، أَوْ مُخْتَارًا، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الْأَمَانَ، فَقَدْ دَخَلَ بِلَا أَمَانٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا وَأَنَّهُ لَا أَمَانَ لِلصَّبِيِّ، وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ الْمُشِيرُ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَلَا أَمَانَ وَلَا اغْتِيَالَ.

فَرْعٌ

مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ صِيغَةِ الْأَمَانِ هُوَ فِيمَا إِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ بِلَادَنَا بِلَا سَبَبٍ، فَلَوْ دَخَلَ رَسُولًا، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَلَوْ دَخَلَ لِيَسْمَعَ الذِّكْرَ، وَيَنْقَادَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ، فَكَذَلِكَ، وَقَصْدُ التِّجَارَةِ لَا يُفِيدُ الْأَمَانَ، وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي دُخُولِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا، فَهُوَ آمِنٌ، جَازَ، وَمِثْلُ هَذَا الْأَمَانِ لَا يَصَحُّ مِنَ الْآحَادِ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ يُفِيدُ الْأَمَانَ، فَلَا أَثَرَ لِظَنِّهِ وَيُغْتَالُ إِذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَلَوْ سَمِعَ مُسْلِمًا يَقُولُ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا، فَهُوَ آمِنٌ، فَدَخَلَ وَقَالَ: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغْتَالُ.

ص: 280

الرَّابِعَةُ: شَرْطُ الْأَمَانِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً، فَلَوْ زَادَ عَلَى الْجَائِزِ، بَطَلَ الزَّائِدُ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْأَصَحِّ تَخْرِيجًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَإِذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَيَبْلُغُ بَعْدَهَا الْمَأْمَنَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلَوْ أَمَّنَ جَاسُوسًا، أَوْ طَلِيعَةً لَمْ يَنْعَقِدِ الْأَمَانُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ تَبْلِيغَ الْمَأْمَنِ، لِأَنَّ دُخُولَ مِثْلِهِ خِيَانَةً، فَحَقُّهُ أَنْ يُغْتَالَ، وَلَوْ أَمَّنَ آحَادًا عَلَى مَدَارِجِ الْغُزَاةِ، وَعَسِرَ بِسَبَبِهِ مَسِيرُ الْعَسْكَرِ وَاحْتَاجُوا إِلَى نَقْلِ الزَّادِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ لِلضَّرَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْأَمَانِ ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ، بَلْ يَكْفِي عَدَمُ الْمُضِرَّةِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا انْعَقَدَ الْأَمَانُ، صَارَ الْمُؤَمَّنُ مَعْصُومًا عَنِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، فَلَوْ قُتِلَ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الذِّمِّيُّ، وَهُوَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَبْذُهُ، فَإِنِ اسْتَشْعَرَ مِنْهُ خِيَانَةً، نَبَذَهَ، لِأَنَّ الْمُهَادَنَةَ تُنْبَذُ بِذَلِكَ، فَأَمَانُ الْآحَادِ أَوْلَى وَهُوَ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ يَنْبِذُهُ مَتَى شَاءَ، وَلَا يَتَعَدَّى الْأَمَانُ إِلَى مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَأَمَّا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ، اتْبَعِ الشَّرْطَ، وَإِلَّا فَلَا أَمَانَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِقُصُورِ اللَّفْظِ.

السَّادِسَةُ: الْأَسِيرُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ إِذَا أَمَّنَ بَعْضَهُمْ مُكْرَهًا، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَمَّنَهُ مُخْتَارًا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ أَمَّنَ مَنْ هُوَ فِي أَسْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ مَعَهُ، وَإِنْ أَمَّنَ غَيْرَهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ أَبْطَلْنَا، فَهَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ الْأَمْنِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ.

ص: 281

فَرْعٌ

الْمُسْلِمُ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي دَارِ الْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ هُنَاكَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ، فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ، لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، أَوْ لِأَنَّ لَهُ هُنَاكَ عَشِيرَةً يَحْمُونَهُ، وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ، لَمْ تَجِبِ الْهِجْرَةُ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ، لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ، أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ يَكِيدُوا لَهُ، وَقِيلَ: تَجِبُ الْهِجْرَةُ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : فَإِنْ كَانَ يَرْجُو ظُهُورَ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ، قَالَ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِزَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ بِهَا، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إِسْلَامٍ، فَلَوْ هَاجَرَ، لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ، فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ

الْأَسِيرُ الْمَقْهُورُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ، لَزِمَهُ، وَلَوْ أَطْلَقُوا أَسِيرًا بِلَا شَرْطٍ، فَلَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذًا لِلْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ، حَرُمَ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ، فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ لَهُ اغْتِيَالَهُمْ، وَلَوْ تَبِعَهُ قَوْمٌ بَعْدَ خُرُوجِهِ، فَلَهُ قَصْدُهُمْ وَقَتْلُهُمْ فِي الدَّفْعِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ وَحَرُمَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، فَإِنْ حَلَّفُوهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَإِنْ حَلَفَ مُكْرَهًا، خَرَجَ وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ

ص: 282

يَمِينُهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ إِنْ حَلَّفُوهُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ حَلَفَ ابْتِدَاءً بِلَا تَحْلِيفٍ لِيَتَوَثَّقُوا بِهِ وَلَا يَتَّهِمُوهُ بِالْخُرُوجِ، نُظِرَ إِنْ حَلَفَ بَعْدَمَا أَطْلَقُوهُ، لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنْ حَلَفَ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِذَا أُطْلِقَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ يَمِينَ إِكْرَاهٍ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَالُوا: لَا نُطْلِقُكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ، فَحَلَفَ، فَأَطْلَقُوهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ بِالْخُرُوجِ، وَلَوْ حَلَّفُوهُ بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا، فَحَلَفَ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ، لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ يَمِينُ إِكْرَاهٍ، وَلْيَكُنْ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالْحَبْسِ إِكْرَاهٌ.

قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ كَالتَّخْوِيفِ بِالْحَبْسِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ هُنَا الْهِجْرَةُ وَالتَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَى الْأَحْوَالِ لَا يَغْتَالُهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ مَالٍ لِمُسْلِمٍ، فَأَخَذَهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ لِيَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا، جَازَ، فَإِنْ شَرَطُوا الْأَمَانَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، فَهَلْ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا أَخَذَ الْمَغْصُوبَ مِنَ الْغَاصِبِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَعَنِ الْقَفَّالِ: الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ. وَلَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَعُودَ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَالًا فِدَاءً، فَالْعَوْدُ حَرَامٌ وَأَمَّا الْمَالُ، فَإِنْ شَارَطَهُمْ عَلَيْهِ مُكْرَهًا، فَهُوَ لَغْوٌ، وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُخْتَارًا، لَمْ يَجِبْ بَعْثُهُ، لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ، لِئَلَّا يَمْتَنِعُوا مِنْ إِطْلَاقِ

ص: 283

الْأَسَارَى، وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: يَجِبُ بَعْثُ الْمَالِ، أَوِ الْعَوْدُ إِلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَالَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا لَا يَمْلِكُونَهُ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُمُ الْأَسِيرُ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، أَوِ اقْتَرَضَ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، فَثَلَاثُ طُرُقٍ، الْمُذَهَبُ وَالْمَنْصُوصُ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا عَلَى الشِّرَاءِ، وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ وَيَلْزَمُ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَعَ الْكُفَّارِ يَتَسَاهَلُ فِيهَا، وَالثَّالِثُ: قَوْلَانِ، الْجَدِيدُ: الْبُطْلَانُ، وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّ الْعَيْنِ وَرَدِّ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَجُرْ لَفْظُ بَيْعٍ، بَلْ قَالُوا: خُذْ هَذَا، وَابْعَثْ كَذَا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا، وَلَوْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا لِيَبِيعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، فَهُوَ وَكِيلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْوَكِيلِ.

السَّابِعَةُ: إِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إِنَّهُ يَجُوزُ، وَشَرَطَ الْمُتَبَارِزَانِ أَنْ لَا يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْكُفَّارُ الْكَافِرَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ فِي الصَّفِّ الْإِعَانَةُ، ثُمَّ إِنْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قُتِلَ الْمُسْلِمُ، جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ قَصْدُ الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَدِ انْقَضَى، فَإِنْ شُرِطَ الْأَمَانُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الصَّفِّ، وَفَّى بِهِ، فَإِنْ وَلَّى الْمُسْلِمُ عَنْهُ، فَتَبِعَهُ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ تَرَكَ قِتَالَ الْمُسْلِمِ وَقَصَدَ الصَّفَّ، فَلَهُمْ قَتْلُهُ لِنَقْضِهِ الْأَمَانَ، وَلَوْ أُثْخِنَ، جَازَ قَتْلُهُ أَيْضًا لِانْقِطَاعِ الْقِتَالِ، وَإِذَا قَصَدَ قَتْلَ الْمُثْخَنِ، مُنِعَ، وَقِيلَ: فَإِنْ شُرِطَ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْهُ، فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَهَلْ يَفْسُدُ بِهِ أَصْلُ الْأَمَانِ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُشْرِكُونَ لِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِ، خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ لِإِعَانَةِ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ اسْتَنْجَدَهُمْ، جَازَ قَتْلُهُ مَعَهُمْ، وَكَذَا لَوْ خَرَجُوا بِغَيْرِ اسْتِنْجَادِهِ

ص: 284

فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَنَعَهُمْ، فَلَمْ يَمْتَنِعُوا، جَازَ قَتْلُهُمْ وَلَمْ يَجُزِ التَّعَرُّضُ لَهُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا شَرَطَا الْأَمَانَ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، وَلَكِنِ اطَّرَدَتْ عَادَةُ الْمُتَبَارِزِينَ بِالْأَمَانِ، فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةٌ، فَلِلْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُ.

فَرْعٌ

لَوْ أَثْخَنَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ أَمْ يُتْرَكُ؟ وَجْهَانِ، نَقَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شَرَطَ الْأَمَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، جَازَ قَتْلُهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِلْمُثْخَنِ، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ. الثَّامِنَةُ: مَسْأَلَةُ الْعِلْجِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِقُوَّتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْعِلَاجُ لِدَفْعِهِ الدَّاءَ وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ كَافِرٌ لِلْإِمَامِ: أَدُلُّكَ عَلَى قَلْعَةِ كَذَا عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْهَا جَارِيَةً كَذَا، فَيُعَاقِدُهُ الْإِمَامُ، فَيَجُوزُ وَهِيَ جَعَالَةٌ بِجَعْلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ احْتُمِلَتْ لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ ابْتِدَاءً: إِنْ دَلَلْتِنِي عَلَى هَذِهِ الْقَلْعَةِ، فَلَكَ مِنْهَا جَارِيَةٌ كَذَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْمُعَيَّنَةُ حُرَّةً أَمْ أَمَةً لِأَنَّ الْحُرَّةَ تَرِقُّ بِالْأَسْرِ، وَلَوْ شَرَطَ الْعَلْجُ أَوِ الْإِمَامُ جَارِيَةً مُبْهَمَةً، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَعْلِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِلْجُ، فَلَوْ قَالَ: أُعْطِيكَ جَارِيَةً مِمَّا عِنْدِي، أَوْ ثُلُثَ مَالِي، لَمْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مَجْهُولًا كَسَائِرِ الْجَعَالَاتِ، وَلَوْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَدُلُّكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْهَا جَارِيَةً كَذَا، أَوْ ثُلُثَ مَا فِيهَا، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ أَنْوَاع غَرَرٍ، فَلَا تُحْتَمَلُ مَعَ الْمُسْلِمِ الْمُلْتَزِمِ لِلْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقِلَاعِهِمْ وَطُرُقِهِمْ غَالِبًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لِلْحَاجَةِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ أَعْرَفَ وَهُوَ أَنْصَحُ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكُفَّارِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى تَجْوِيزِ

ص: 285

اسْتِئْجَارِ الْمُسْلِمِ لِلْجِهَادِ، وَإِلَّا فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ مَعَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، ثُمَّ إِذَا فَتَحْنَا الْقَلْعَةَ بِدَلَالَةِ الْعِلْجِ، وَظَفِرْنَا بِالْجَارِيَةِ، سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ دَلَّنَا، وَفَتَحْنَاهَا بِغَيْرِ دَلَالَتِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ نَفْتَحْهَا، فَإِنْ عُلِّقَ الشَّرْطُ بِالْفَتْحِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَالثَّالِثُ: يُرْضَخُ لَهُ، وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْقِتَالُ مُمْكِنًا وَالْفَتْحُ مُتَوَقَّعًا قَرِيبًا، اسْتَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يُتَوَقَّعْ إِلَّا بِاحْتِمَالٍ نَادِرٍ، فَلَا، أَمَّا إِذَا قَاتَلْنَا، فَلَمْ نَظْفَرْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ تَرَكْنَاهَا، ثُمَّ عُدْنَا، فَفَتَحْنَاهَا بِدَلَالَتِهِ، فَلَهُ الْجَارِيَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ فَتَحْنَاهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ فَتَحَهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى بِالطَّرِيقِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَيْهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ مَعَهُمْ شَرْطٌ.

فَرْعٌ

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْعَةِ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ وَمَاتَتْ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الشَّرْطِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ، وَجَبَ بَدَلُهَا، لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ، فَتَلَفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْبَدَلُ، فَمَا الْبَدَلُ؟ بَنَاهُ الْإِمَامُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي جَعْلِ الْجَعَالَةِ، فَقَالَ: إِذَا جُعِلَ الْجَعْل عَيْنًا، كَثَوْبٍ وَعَبْدٍ، وَتَمَّمَ الْعَامِلُ الْعَمَلَ وَالْعَيْنُ تَالِفَةٌ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَمَلِ، نُظِرَ إِنْ عَلِمَ الْعَامِلُ تَلَفَهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُعَاقَدَةَ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ، فَإِذَا عَمِلَ عَالِمًا بِتَلَفِهَا، كَانَ كَالْمُتَبَرِّعِ، وَإِنْ جَهِلَ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَدَمِ التَّبَرُّعِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَمَلِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْعَامِلُ بِتَسْلِيمِهَا، فَهَلْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَعْلَ الْمُعَيَّنَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ الْعَقْدِ،

ص: 286

أَمْ ضَمَانَ الْيَدِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ، كَالصَّدَاقِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِأَنَّ الْجَعْلَ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْجَعَالَةِ وَلَيْسَ الصَّدَاقُ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَامْتِنَاعِ الْجَاعِلِ مِنَ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: التَّلَفُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ كَإِتْلَافِ الْجَاعِلِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلٍ: كَتَلَفِهِ بِآفَةٍ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ: كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ إِذَا عَرَفْتَ الْمُقَدِّمَةَ، فَبَدَلُ الْجَارِيَةِ حَيْثُ حَكَمْنَا بِهِ هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَقِيمَتُهَا إِنْ قُلْنَا بِضَمَانِ الْيَدِ، هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ قَوْلَيِ الصَّدَاقِ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمَوْجُودُ لِجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ هُنَا قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبْهَمَةً وَمَاتَ كُلُّ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَوَارِي، وَأَوْجَبْنَا الْبَدَلَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ قَطْعًا، لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِ الْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تُسَلَّمُ إِلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ تَسَلُّمُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ الْبَدَلُ الْوَاجِبُ هَلْ يَجِبُ فِي مَالِ الْمَصَالَحِ أَمْ فِي أَصْلِ الْغَنِيمَةِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّضْخِ.

فَرْعٌ

إِذَا شَرَطَ جَارِيَةً مُبْهَمَةً وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا جَارِيَةٌ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ جَوَارٍ، فَلِلْإِمَامِ التَّعْيِينُ، وَيُجْبَرُ الْعِلْجُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ جَارِيَةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ، كَمَا أَنَّ لِلْمُسْلِمِ إِلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَيُجْبُرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَوْ شَرَطَ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً، فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا سِوَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَهَلْ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَفَاءً بِالشَّرْطِ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ سَعْيَنَا حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْعِلْجِ خَاصَّةً،

ص: 287

وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْقَلْعَةَ، وَيُدِيمَ الْيَدَ عَلَيْهَا، لِكَوْنِهَا مَحْفُوفَةً بِبِلَادِ الْكُفْرِ، فَإِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ الْوَفَاءُ قَطْعًا.

فَرْعٌ

لَوْ وَجَدْنَا الْجَارِيَةَ مَسْلَمَةً، نُظِرَ إِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ وَهِيَ حُرَّةٌ، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهَا، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ فِيهِ قَوْلًا أَنَّهَا تُسَلَّمُ إِلَى الْعِلْجِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ، فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مُسْلِمًا، وَصَحَّحْنَا هَذِهِ الْمُعَاقَدَةَ مَعَهُ، أَوْ كَافِرًا وَأَسْلَمَ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيُبْنَى عَلَى شِرَاءِ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا، إِنْ جَوَّزْنَاهُ، سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَفِي وُجُوبِ بَدَلِهَا طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْخِلَافِ فِي الْمَوْتِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْبَدَلِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ وَهُوَ فِيمَا إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِيمَا إِذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ تَكُونُ مَمْلُوكَةً.

فَرْعٌ

جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَإِنْ فُتِحَتْ صُلْحًا، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَشْرُوطَةُ خَارِجَةً عَنِ الْأَمَانِ، بِأَنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ تَكُنِ الْجَارِيَةُ مِنْ أَهْلِهِ، سُلِّمَتْ إِلَى الْعِلْجِ، وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْأَمَانِ، أَعْلَمْنَا صَاحِبَ الْقَلْعَةِ بِشَرْطِنَا مَعَ الْعِلْجِ وَقُلْنَا لَهُ: إِنْ رَضِيتَ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، غَرِمْنَا لَكَ قِيمَتَهَا وَأَمْضَيْنَا الصُّلْحَ، وَتَكُونُ الْقَيِّمَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَفِي الشَّامِلِ أَنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الرَّضْخِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ، رَاجَعْنَا الْعِلْجَ، فَإِنْ رَضِيَ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ أُخْرَى، فَذَاكَ، وَإِلَّا قُلْنَا لِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ: إِنْ لَمْ تُسَلِّمْهَا،

ص: 288

فَسَخْنَا الصُّلْحَ، وَنَبَذْنَا عَهْدَكَ، فَإِنِ امْتَنَعَ، رَدَدْنَاهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَاسْتَأْنَفْنَا الْقِتَالَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الصُّلْحَ فِي الْجَارِيَةِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ.

فَرْعٌ

لَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَازِلًا بِجَنْبِ قَلْعَةٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا فَقَالَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةِ كَذَا، فَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ، فَقَالَ لَهُ عِلْجٌ: هِيَ هَذِهِ الَّتِي أَنْتَ عِنْدَهَا، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ تِلْكَ الْجَارِيَةَ إِذَا فُتِحَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ، فَلَهُ كَذَا، فَجَاءَ بِهِ إِنْسَانٌ مِنَ الْبَلَدِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا دَخَلَ كَافِرٌ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ أَوْ ذِمَّةٍ، كَانَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي أَمَانٍ، فَإِنْ شَرَطَ الْأَمَانَ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَا أَمَانَ لِمَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَيَجُوزُ اغْتِنَامُ مَالِهِ وَسَبْيُ أَوْلَادِهِ هُنَاكَ، وَعَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» أَنَّهُ إِنْ قَالَ: لَكَ الْأَمَانُ، ثَبَتَ الْأَمَانُ فِي ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ، وَإِنْ قَالَ: لَكَ الْأَمَانُ فِي نَفْسِكَ، لَمْ يَثْبُتْ فِي الذُّرِّيَّةِ وَالْمَالِ، وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ قَالُوا: وَقَدْ يَفْتَرِقُ الْمَالِكُ وَالْمَمْلُوكُ فِي الْأَمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا لِشِرَاءِ مَتَاعٍ، كَانَ مَالُهُ فِي أَمَانٍ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ فِي أَمَانٍ، وَكَذَا لَوْ بَعَثَهُ مَعَ ذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَكُونُ مَعَ الذِّمِّيِّ فِي أَمَانٍ، لِأَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ أَوْ ذِمَّةٍ أَوْ لِرِسَالَةٍ فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَمِنْ أَسْبَابِ النَّقْضِ أَنْ يَعُودَ لِيَتَوَطَّنَ هُنَاكَ، فَلَا يُسْبَى أَوْلَادُهُ عِنْدَنَا، وَإِنْ مَاتَ فَأَبْلَغُوا، فَإِذَا بَلَغُوا وَقَبِلُوا الْجِزْيَةَ، تُرِكُوا، وَإِلَّا بُلِّغُوا الْمَأْمَنَ، وَمَا خَلَّفَهُ عِنْدَنَا مِنْ وَدِيعَةٍ وَدَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي أَمَانٍ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، هَذَا هُوَ

ص: 289

الصَّحِيحُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ لِانْتِقَاضِهِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْمَالِ تَبَعًا، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَمَانِ فِي مَالِهِ، حَصَلَ الْأَمَانُ فِيهِ تَبَعًا، فَيَنْتَقِضُ فِيهِ تَبَعًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْأَمَانِ لَمْ يَنْتَقِضْ، قَالَ الْإِمَامُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَلِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ أَمَانٍ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَالدُّخُولُ لَهُ يُؤَمِّنُهُ، كَالدُّخُولِ لِرِسَالَةٍ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ، وَلَا يُعَرِّجَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا لَا يُكَرِّرُ الْعَوْدَ لِأَخْذِ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَالِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَإِنْ خَالَفَ، تَعَرَّضَ لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ، وَثُبُوتُ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَهُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْقَى الْأَمَانُ فِي مَالِهِ كَانَ فَيْئًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ فِي مَالِهِ الْمُخَلَّفِ بَعْدَ الْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَمَّا إِذَا فَارَقَ الْمَالَ وَلَمْ يَلْتَحِقْ بَعْدُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَالْوَجْهُ الْجَزْمُ بِبَقَاءِ الْأَمَانِ، وَيُحْتَمَلُ طَرْدُ الْخِلَافِ، وَإِذَا نَبَذَ الْمُسْتَأْمَنُ الْعَهْدَ، وَجَبَ تَبْلِيغُهُ الْمَأْمَنَ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَا مَعَهُ بِلَا خِلَافٍ، هَذَا حُكْمُ مَا تَرَكَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَلَوْ مَاتَ هُنَاكَ أَوْ قُتِلَ وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ، وَهُوَ بَقَاءُ الْأَمَانِ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ، فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فَيْئًا، وَأَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لِوَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، فَهُوَ فَيْءٌ قَطْعًا، وَلَوْ مَاتَ عِنْدَنَا، فَقِيلَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِرَدِّهِ إِلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ وَالْأَمَانُ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَا فِي مَالِهِ، وَهُنَاكَ انْتَقَضَ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَا فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ وَارِثُهُ حَرْبِيًّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ وَلَوْ خَرَجَ الْمُسْتَأْمَنُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ غَيْرَ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ بَلْ لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَمَاتَ هُنَاكَ، فَهُوَ كَمَوْتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوِ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، بُنِيَ عَلَى مَا إِذَا مَاتَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا مَاتَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ، وُقِفَ، فَإِنْ عَتَقَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا فَقَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ إِلَى وَارِثِهِ كَمَا لَوْ

ص: 290

مَاتَ حُرًّا، وَأَظْهَرُهُمَا: يَكُونُ فَيْئًا، لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُورَثُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِذَا مَاتَ يَكُونُ فَيْئًا، فَهُنَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: يُوقَفُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعْتَقَ وَيَعُودَ بِخِلَافِ الْمَوْتِ، فَإِنْ عَتَقَ، سُلِّمَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فَيْءٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لِلسَّيِّدِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا صَرَفْنَاهُ إِلَى الْوَرَثَةِ، احْتَمَلَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، وَلَا يَلْزَمُ الْكُفَّارَ تَفْضِيلُ شَرْعِنَا فِي مَنْعِ التَّوْرِيثِ مِنْ رَقِيقٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُصْرَفَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّوْرِيثِ، فَهَلْ يَرِثُونَ إِذَا مَاتَ أَمْ يَسْتَنِدُ اسْتِحْقَاقُ الْوَرَثَةِ إِلَى مَا قَبْلَ جَرَيَانِ الرِّقِّ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ، وَإِذَا قُلْنَا: الصَّرْفُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَلَهُمْ دُخُولُ الْإِسْلَامِ لِطَلَبِ ذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ فِي صَاحِبِ الْمَالِ.

فَرْعٌ

دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَاقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا، أَوْ سَرَقَ وَعَادَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ.

الْعَاشِرَةُ: إِذَا حَاصَرْنَا قَلْعَةً أَوْ بَلْدَةً، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْإِمَامِ، جَازَ، وَكَذَا لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا ذَكَرًا حُرًّا مُكَلَّفًا عَدْلًا، لِأَنَّهُ وِلَايَةُ حُكْمٍ، كَالْقَضَاءِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا الرَّأْيُ، فَهُوَ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى، وَأَطْلَقُوا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: فَقِيهًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: مُجْتَهِدًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا أَظُنُّهُمْ شَرَطُوا أَوْصَافَ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْمُفْتِي، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّهَدِّي إِلَى طَلَبِ الصَّلَاحِ وَمَا فِيهِ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حُسْنَ الرَّأْيِ فِي الْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اثْنَيْنِ، أَوْ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ إِلَّا إِذَا شَرَطُوا الْأَوْصَافَ

ص: 291

الْمَشْرُوطَةَ، وَلَوِ اسْتَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كُرِهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ مِنْهُ اخْتِلَافٌ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوِ اسْتَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يُنَفِّذُهُ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْحُكْمَ فِيهِمْ وَإِذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اثْنَيْنِ، فَلْيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا، لَمْ يُنَفَّذْ إِلَّا أَنْ تَتَّفِقَ الطَّائِفَتَانِ عَلَى حُكْمٍ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ، أَوْ نَزَلُوا عَلَى حَكَمٍ وَاحِدٍ، فَمَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ، أَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ مَنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ، رُدُّوا إِلَى الْقَلْعَةِ إِلَى أَنْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمَنِّ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَاسْتَغْرَبَهُ، وَلَوْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، كَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، لَمْ يُنَفَّذْ، وَلَوْ حَكَمَ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، جَازَ. وَتَكُونُ الْأَمْوَالُ غَنِيمَةً، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ بِالْقَهْرِ، وَإِنْ حَكَمَ بِاسْتِرْقَاقِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَقَتْلِ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِاسْتِرْقَاقِ مَنْ أَسْلَمَ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ، جَازَ، وَيُنَفَّذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَى الْإِمَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حُكْمِهِ فِي التَّشْدِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ وَيُسَامِحَ، فَإِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، فَلَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ، فَلَهُ الْمَنُّ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْقَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ ذُلٌّ مُؤَبَّدٌ، وَإِنْ حَكَمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ، لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا لَهُمْ، وَإِنْ حَكَمَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، فَهَلْ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَقَدِ الْتَزَمُوهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُونَ، بُلِّغُوا الْمَأْمَنَ، وَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرُونَ، فَامْتَنَعُوا، فَهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ قَبُولِهَا، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَطُرِدَ الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ حَكَمَ

ص: 292