الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُمْ: فَخَمْسَةُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، فَالْبِلَادُ الَّتِي فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ، كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إِحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَصَوْمَعَةِ رَاهِبٍ فِيهَا، وَلَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْدَاثِهَا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَالَّذِي يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ لَا يُنْقَضُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِيَّةٍ فَاتَّصَلَ بِهَا عِمَارَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ عُرِفَ إِحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، نُقِضَ.
الثَّانِي: بِلَادٌ لَمْ يُحْدِثُوهَا وَدَخَلَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا، كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، فَحُكْمُهَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَا فُتِحَ عَنْوَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كَنِيسَةٌ، أَوْ كَانَتْ وَانْهَدَمَتْ، أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بِنَاؤُهَا، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْقَائِمَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ، الثَّانِي: مَا فُتِحَ صُلْحًا وَهُوَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: فُتِحَ عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ، فَإِنْ شَرَطُوا إِبْقَاءَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، جَازَ، وَكَأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنَّ الْكَنَائِسَ لَهُمْ وَمَا سِوَاهَا لَنَا، وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى إِحْدَاثِهَا أَيْضًا، جَازَ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ أَطْلَقُوا، لَمْ تُبْقَ الْكَنَائِسُ عَلَى الْأَصَحِّ، الثَّانِي: مَا فُتِحَ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ يُؤَدُّونَ خَرَاجَهُ، فَيُقَرُّونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِحْدَاثِهَا فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ، وَيُمَكَّنُونَ فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ، وَإِظْهَارِ مَا لَهُمْ
مِنَ الْأَعْيَادِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِيوَاءِ الْجَاسُوسِ، وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ، وَمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِيَارِهِمْ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ، وَجَوَّزْنَا إِبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ، فَلَا مَنْعَ مِنْ عِمَارَتِهَا إِذَا اسْتَرَمَّتْ، وَهَلْ يَجِبُ إِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ إِظْهَارَهَا زِينَةٌ تُشْبِهُ الِاسْتِحْدَاثَ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، فَيَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَيَجُوزُ إِعَادَةُ الْجِدَارِ السَّاقِطِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُمْنَعُونَ مِنْ تَطْيِينِ خَارِجِهَا، وَإِذَا أَشْرَفَ الْجِدَارُ عَلَى الْخَرَابِ، فَلَا وَجْهَ إِلَّا أَنْ يَبْنُوا جِدَارًا دَاخِلَ الْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى جِدَارٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ، فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنَ الْكَنِيسَةِ شَيْءٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ مَنْ يُوجِبُ الْإِخْفَاءَ بِإِسْبَالِ سِتْرٍ تَقَعُ الْعِمَارَةُ وَرَاءَهُ، أَوْ بِإِيقَاعِهَا فِي اللَّيْلِ، وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ، فَلَهُمْ إِعَادَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَنَعَهَا الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنْ جَوَّزْنَا، فَلَيْسَ لَهُمْ تَوْسِيعُ خُطَّتِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي الْكَنِيسَةِ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْخَمْرِ، وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُونَ تَبَعًا لِلْكَنِيسَةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي كَنِيسَةِ بَلَدٍ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ أَرْضَهُ لَنَا، فَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ، فَلَا مَنْعَ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَأَمَّا نَاقُوسُ الْمَجُوسِ، فَلَسْتُ أَرَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحُوطٌ وَبُيُوتُ يَجْمَعُ فِيهَا الْمَجُوسُ جِيَفَهُمْ، وَلَيْسَ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالشِّعَارِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: فِي الْبِنَاءِ، فَيُمْنَعُونَ مِنْ إِطَالَتِهِ وَرَفْعِهِ عَلَى بِنَاءِ جِيرَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا، هُدِمَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّ لَهُمُ الرَّفْعَ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ الِاعْتِبَارُ بِبِنَاءِ جَارِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: لَا يُطِيلُ عَلَى بِنَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ، وَسَوَاءً كَانَ بِنَاءُ الْجَارِ مُعْتَدِلًا أَوْ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ، وَلِلْإِمَامِ احْتِمَالٌ فِيمَا هُوَ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ، ثُمَّ الْمَنْعُ لِحَقِّ الدِّينِ لَا لِمَحْضِ حَقِّ الْجَارِ، فَيُمْنَعُ وَلَوْ
رَضِيَ الْجَارُ، وَهَذَا الْمَنْعُ وَاجِبٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي مَوْضِعٍ مُنْفَرِدٍ، كَطَرَفٍ مِنَ الْبَلَدِ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْعِمَارَةِ، فَلَا مَنْعَ مِنْ رَفْعِ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ مَلَكَ ذِمِّيٌّ دَارًا رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ، لَمْ يُكَلَّفْ هَدْمَهَا، فَإِنِ انْهَدَمَتْ، فَأَعَادَهَا، مُنِعَ مِنَ الرَّفْعِ، وَفِي الْمُسَاوَاةِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ فُتِحَتْ بَلْدَةٌ صُلْحًا عَلَى أَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ، لَمْ تُهْدَمْ أَبْنِيَتُهُمُ الرَّفِيعَةُ فِيهَا وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْإِحْدَاثِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ.
الثَّالِثُ: يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ فِيهِ عِزًّا، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ أَنْ لَا مَنْعَ، كَمَا لَا مَنْعَ مِنْ ثِيَابٍ نَفِيسَةٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرَاذِينَ، وَفِي الْبِغَالِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا مَنْعَ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْحُمُرِ وَإِنْ كَانَتْ رَفِيعَةَ الْقِيمَةِ، وَإِذَا رَكِبُوا، لَمْ يَرْكَبُوا السُّرُوجَ بَلِ الْأَكُفَّ، وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الرَّاكِبُ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ لَهُمُ الرُّكُوبَ عَلَى اسْتِوَاءٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَتَوَسَّطَ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فِي الْبَلَدِ، أَوْ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَيُمْنَعُ فِي الْحَضَرِ وَيَكُونُ رِكَابُهُمْ مِنْ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ، وَجَوَّزَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحَدِيدَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ تَقَلُّدِ السُّيُوفِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ، وَمِنْ لُجُمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الذُّكُورِ الْبَالِغِينَ، فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّغَارُ، فَلَا يُلْزَمُونَ الصَّغَارَ، كَمَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ.
فَرْعٌ
لَا يُتْرَكُ لِذِمِّيٍّ صَدْرَ الطَّرِيقِ، بَلْ يُلْجَأُ إِلَى أَضْيَقِهِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْرُقُونَ، فَإِنْ خَلَتِ الطُّرُقُ عَنِ الزَّحْمَةِ، فَلَا حَرَجَ، وَلْيَكُنِ الضِّيقُ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ، وَلَا يَصْدِمُهُ جِدَارٌ، وَلَا يُوقَرُ، وَلَا يُصَدَّرُ فِي مَجْلِسٍ إِذَا
كَانَ فِيهِ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُوَادَّهُمْ، وَلَا أَنْ يَبْدَأَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ بِسَلَامٍ، وَإِنْ بَدَأَ الذِّمِّيُّ بِهِ، فَلَا يُجِيبُهُ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ هُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ: أَنْ يُجَابَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَعَلَيْكُمْ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَتَفْصِيلٌ أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ السَّلَامِ مِنْ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالتَّمَيُّزِ فِي اللِّبَاسِ، بِأَنْ يَلْبَسُوا الْغِيَارَ، وَهُوَ أَنْ يَخِيطُوا عَلَى ثِيَابِهِمُ الظَّاهِرَةِ مَا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَهَا، وَتَكُونُ الْخِيَاطَةُ عَلَى الْكَتِفِ دُونَ الذَّيْلِ، هَكَذَا أَطْلَقَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْتَصُّ بِالْكَتِفِ، وَالشَّرْطُ الْخِيَاطَةُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُعْتَادُ، وَإِلْقَاءُ مَنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ، كَالْخِيَاطَةِ، ثُمَّ الْأَوْلَى بِالْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ، وَهُوَ الْأَصْفَرُ، وَبِالنَّصَارَى الْأَزْرَقُ أَوِ الْأَكْهَبُ، وَيُقَالُ لَهُ: الرَّمَادِيُّ، وَبِالْمَجُوسِ الْأَسْوَدُ أَوِ الْأَحْمَرُ، وَيُؤْخَذُونَ أَيْضًا بِشَدِّ الزُّنَّارِ، وَهُوَ خَيْطٌ غَلِيظٌ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ خَارِجَ الثِّيَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِبْدَالُهُ بِمِنْطَقَةٍ وَمَنْدِيلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ لَبِسُوا قَلَانِسَ، مُيِّزَتْ عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ بِذُؤَابَةٍ، أَوْ عَلَمٍ فِي رَأْسِهَا، وَإِذَا دَخَلُوا حَمَّامًا فِيهِ مُسْلِمُونَ، أَوْ تَجَرَّدُوا عَنِ الثِّيَابِ، فَلْيَكُنْ عَلَيْهِمْ جَلَاجِلُ، أَوْ فِي أَعْنَاقِهِمْ خَوَاتِيمُ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ لَا ذَهَبَ وَفِضَّةَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : يُجْعَلُ فِي عُنُقِهِ خَاتَمٌ لِيَتَمَيَّزَ فِي الْحَمَّامِ وَفِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَجَرَّدُ فِيهَا، وَبَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ تَفَاوُتٌ ظَاهِرٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَعْرٌ، أُمِرُوا بِجَزِّ النَّوَاصِي، وَمُنِعُوا مِنْ إِرْسَالِ الضَّفَائِرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي شَهْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ الْإِمَامُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا، وَهَلْ تُؤْخَذُ النِّسَاءُ بِالْغِيَارِ، وَشَدِّ الزُّنَّارِ، وَالتَّمَيُّزِ فِي الْحَمَّامِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا، لِنَدُورِ خُرُوجِهِنَّ،
فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَيُّزِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يُجْعَلُ الزُّنَّارُ فَوْقَ الْإِزَارِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» : وَغَيْرِهِ تَحْتَهُ لِئَلَّا يَصِفَ بَدَنَهَا، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى اشْتِرَاطِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهُ.
قُلْتُ: هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالتَّمَيُّزُ فِي الْحَمَّامِ يُبْنَى عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُنَّ دُخُولُهُ مَعَ الْمُسَلَّمَاتِ؟ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ مَنْعُهُ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ لِلْمُسْلِمَاتِ دُخُولَهُ بِلَا حَجْرٍ، لَكِنْ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُنَّ دُخُولُهُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مَسَائِلَ الْحَمَّامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي آخِرِ صِفَةِ الْغُسْلِ مِنْ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا خَرَجَتْ ذِمِّيَّةٌ بِخُفٍّ، فَلْيَكُنْ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ وَالْآخَرُ أَبْيَضَ أَوْ أَحْمَرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمَيُّزُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، بَلْ يَكْفِي بَعْضُهَا.
فَرْعٌ
لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَتَعَمَّمَ وَيَتَطَلَّسَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَلْبَسَ الدِّيبَاجَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَرَفِيعِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْغِيَارِ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَالَّذِي يُوَافِقُ كَلَامَ الْجُمْهُورِ وَإِطْلَاقَهُمُ الْوُجُوبُ.
الْخَامِسُ: الِانْقِيَادُ لِلْحُكْمِ، فَيَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الِانْقِيَادُ لِحُكْمِنَا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ إِذَا
فَعَلُوا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ، وَذَلِكَ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ عِنْدَهُمْ كَشَرْعِنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُمَا فِي الْبَابَيْنِ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَزْنِيَ بِمُسْلِمَةٍ، وَيَسْرِقَ مَالَ مُسْلِمٍ، أَوْ يُزْنَى بِذِمِّيَّةٍ، وَيُسْرَقُ مَالُ ذِمِّيٍّ، وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ لَا يُقَامُ عَلَى ذَمِّيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ رَضِيَ بِحُكْمِنَا، وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ مَحْرَمًا لَهُ، لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ، فَإِنْ رَفَعُوا إِلَيْنَا وَرَضُوا بِحُكْمِنَا، حَكَمْنَا، وَهَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ، وَيَلْزَمُهُمْ كَفُّ اللِّسَانِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُنْكَرَاتِ، كَإِسْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ شِرْكَهُمْ، وَقَوْلِهِمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَاعْتِقَادِهِمْ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ صلى الله عليه وسلم وَإِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالنَّاقُوسِ وَأَعْيَادِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِحْدَاثِهِمُ الْكَنَائِسَ فِي بِلَادِنَا، وَإِطَالَتِهِمُ الْبِنَاءَ، وَتَرْكِهِمْ مُخَالَفَةً لِمَا شُرِطَ، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ، مُنِعُوا وَعُزِّرُوا وَلَكِنْ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ عَهْدُهُمْ، سَوَاءً شُرِطَ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِمُ الِانْتِقَاضُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُؤَقَّتًا، إِنْ صَحَّحْنَاهُ، صَحَّ الْعَقْدُ، فَيَنْتَقِضُ إِذْ أَظْهَرُوا، وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهُ، فَسَدَ الْعَقْدُ مَنْ أَصْلِهِ، وَالْحِكَايَةُ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ، بَلْ يَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَيَتَأَبَّدُ الْعَقْدُ، وَيُحْمَلُ مَا جَرَى عَلَى تَخْوِيفِهِمْ، وَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِقِتَالِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءً شُرِطَ عَلَيْهِمُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَمْ لَا، هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ، فَلَوْ أَعَانُوا الْبُغَاةَ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَالَ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَلَوْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ، أَوِ امْتَنَعُوا مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا إِذَا مَنَعَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَمَّا الْعَاجِزُ إِذَا اسْتُمْهِلَ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمُوسِرِ الْمُمْتَنِعِ قَهْرًا، وَلَا يُجْعَلُ الِامْتِنَاعُ نَاقِضًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَيُخَصَّصُ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ بِالْمُتَغَلِّبِ
الْمُقَاتِلِ، قَالَ: وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ هَارِبًا، فَلَا أَرَاهُ نَاقِضًا، وَإِنِ امْتَنَعَ رَاكِبًا إِلَى قُوَّةٍ وَعِدَّةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ، فَإِنْ نَصَبَ الْقِتَالَ، انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الْإِمَامُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ إِلَى مَنْ تُقَدِّمُهُ، فَحَكَى عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ حَصْرَ الِانْتِقَاضِ فِي الْقِتَالِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ قَوْلَيْنِ فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَعَنْ «الْحَاوِي» أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْبَدَلِ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الِالْتِزَامِ نَقْضٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ يَسْهُلُ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسَلِّمَةٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ تَطَلَّعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقَلَهَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، وَدَعَاهُ إِلَى دِينِهِمْ، فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهَا فِي الْعَقْدِ، لَمْ يُنْتَقَضْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْتَقِضُ قَطْعًا، وَالثَّالِثُ: إِنْ شَرَطَ، انْتَقَضَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْطِ الِامْتِنَاعُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، أَمِ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ إِذَا ارْتَكَبَهَا؟ صَرَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِالثَّانِي، وَكَثِيرُونَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: إِنْ شَرَطَ الِانْتِقَاضَ، فَالْأَصَحُّ الِانْتِقَاضُ، وَإِلَّا، فَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، وَأُلْحِقَ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ إِيوَاءُ عُيُونِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا كَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ، وَقِيلَ: كَالْقِتَالِ، وَلَا يُلْحَقُ بِالْمُنَابَذَةِ التَّوَثُّبَ عَلَى رُفْقَةٍ، أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلْيَجْرِ الطَّرِيقَانِ فِيمَا لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، وَسَوَاءً قُلْنَا: يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ، أَوْ لَا يَنْتَقِضُ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُقَامُ عَلَيْهِمْ مُوجِبُ مَا فَعَلُوهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، ثُمَّ يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى الِانْتِقَاضِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا قُتِلَ الذِّمِّيُّ لِقَتْلِهِ مُسْلِمًا، أَوْ لِزِنًى وَهُوَ مُحْصِنٌ، فَهَلْ يَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا تَفْرِيعًا عَلَى الْحُكْمِ بِالِانْتِقَاضِ؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا.
وَأَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالسُّوءِ إِذَا جَهَرُوا بِهِ، وَطَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَنَفْيِهِمُ الْقُرْآنَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: يَنْتَقِضُ قَطْعًا، كَالْقِتَالِ، وَفِي مَحَلِّ الْخِلَافِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ الذِّمِّيُّ سَوَاءً يَعْتَقِدُهُ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ، كَتَكْذِيبٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، بِأَنْ طَعَنَ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى الزِّنَى، فَلْيَلْتَحِقْ بِالْقِتَالِ، وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِ قَطْعًا سَوَاءً شَرَطَ عَلَيْهِ الْكَفَّ عَنْهُ أَمْ لَا، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَدَيَّنُ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِإِظْهَارِهِ قَطْعًا، وَمِنْ هَذَا نَفْيُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى كَذِكْرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا إِظْهَارَ الشِّرْكَ، وَقَوْلَهُمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَمُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، كَإِظْهَارِهِمُ الْخَمْرَ، فَلَا يَنْتَقِضُ قَطْعًا، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالسُّوءِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إِلَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ السُّوءَ الَّذِي يَتَدَيَّنُ بِهِ لَا يَنْقُضُ قَطْعًا، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَتَمَ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ حَدًّا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ وَالْقِينَتَيْنِ، وَزَيَّفُوهُ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ.
فَرْعٌ
حَيْثُ حَكَمْنَا بِانْتِقَاضِ الْعَهْدِ، هَلْ يُبَلِّغُهُمُ الْمَأْمَنَ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَمَنْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ، وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ، وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْتِقَاضِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَمَّا إِذَا نَصَبُوا الْقِتَالَ، وَصَارَ حَرْبًا لَنَا فِي دَارِنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَوْ أَسْلَمَ مَنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ شَيْئًا، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْقَهْرِ، فَخَفَّ أَمْرُهُ، وَهَلْ يَبْطُلُ أَمَانُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ تَبَعًا كَمَا يَثْبُتُ تَبَعًا؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، إِذَا لَمْ تُوجَدُ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ نَاقِضَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِي دَارِنَا، فَإِنْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أُجِيبَ النِّسَاءُ دُونَ الصِّبْيَانِ، إِذْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ نَبَذَ ذِمِّيٌّ إِلَيْنَا الْعَهْدَ، وَاخْتَارَ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بَلَّغْنَاهُ الْمَأْمَنَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَجْرَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ.
فَرْعٌ
الْمُسْلِمُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، أَوْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَيُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَادَ وَتَابَ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَوْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْدًا، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَيُرَاقُ دَمُهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ زَلَّةٌ، وَلَمْ أَرَ مَا قَالَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يَكْفُرُ، وَلَا يُقْتَلُ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى قَوْمًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكْرَمُوهُ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِقَتْلِهِ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ قَذَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَى، فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ أَسْلَمَ، وَالثَّانِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ يُقْتَلُ حَدًّا، لِأَنَّهُ حَدُّ قَذْفٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَالثَّالِثُ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: يَثْبُتُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَعَفَا أَحَدُ بَنِي أَعْمَامِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ، أَوْ يَقُولَ: هُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ، فَهُوَ كَقَذْفِ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ خَاصُّونَ، وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ، وَقَدْ يُقَالُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي الْأَعْمَامِ غَيْرُ وَارِثٍ، بَلِ الْإِرْثُ لِلْأَقْرَبِ، وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ الْأَقْرَب مِمَّنْ فِي الدُّنْيَا، وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّ عَفْوَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ هَلْ يُؤَثِّرُ؟ وَوَرَاءَهُ نَظَرٌ آخَرُ، وَهُوَ حَدُّ قَذْفِهِ هَلْ يُوَرَّثُ؟ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُوَرَّثُ، كَمَا لَا يُوَرَّثُ الْمَالُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْذِفْ صَرِيحًا، لَكِنْ عَرَّضَ، فَقَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ كَالسَّبِّ الصَّرِيحِ فِي اقْتِضَاءِ الْكُفْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ.