المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - موجز في سيرة المؤلف: - سرور النفس بمدارك الحواس الخمس

[أحمد بن يوسف التيفاشي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌مؤلف الكتاب

- ‌1 - نظرة في مصادر ترجمته

- ‌2 - موجز في سيرة المؤلف:

- ‌2 - شخصيته وثقافته:

- ‌4 - نظرة في حاله المعيشية بعد الهجرة:

- ‌5 - مؤلفات التيفاشي

- ‌تعريف بمرتب الكتاب ومهذبه

- ‌التعريف بالكتاب

- ‌1 - الكتاب الأصلي المسمى " فصل الخطاب

- ‌2 - سرور النفس وصلته بفصل الخطاب:

- ‌3 - ما مدى جهد ابن منظور في سرور النفس:

- ‌4 - مصادر الكتاب

- ‌5 - قيمة الكتاب:

- ‌6 - تحقيق الكتاب:

- ‌ملحق بالمقدمة

- ‌أشعار التيفاشي

- ‌الجزء الأول من هذا الكتاب سماه

- ‌نثار الأزهار في الليل والنهار، وأطايبأوقات الأصائل والأسحار، وسائر ما

- ‌الباب الأول

- ‌في الملوين الليل والنهار

- ‌الباب الثاني

- ‌فى أوصاف الليل وطوله وقصره واستطابته والاغتباق ومدحه وذم الاصطباح

- ‌الباب الثالث

- ‌فى الاصطباح ومدحه وذم شرب الليل وايقاظ النديم للاصطباح

- ‌الباب الرابع

- ‌فى الهلال فى ظهوره وامتلاء ربعه ونصفه وكماله، والليلة المقمرة

- ‌الباب الخامس

- ‌في انشقاق الفجر ورقة نسيم السحر وتغريد الطير في الشجر وصياح الديك

- ‌الباب السادس

- ‌في صفات الشمس في الشروق والضحى والارتفاع والطفل والمغيب والصحو والغيم

- ‌الباب السابع

- ‌في جملة الكواكب والسماء وآحاد الكواكب المشهورة

- ‌1 - الثريا:

- ‌2 - الجوزاء:

- ‌3 - الشعرى:

- ‌4 - سهيل:

- ‌5 - النسر

- ‌6 - الفرقدان:

- ‌7 - بنات نعش:

- ‌8 - المجرة:

- ‌9 - الدب:

- ‌10 - السماك الاعزل:

- ‌الكواكب السيارة:

- ‌1 - زحل:

- ‌2 - المشتري:

- ‌3 - المريخ:

- ‌4 - الزهرة:

- ‌5 - عطارد:

- ‌6 - الفلك الأعظم:

- ‌1 - الحمل:

- ‌2 - الثور:

- ‌3 - الجوزاء:

- ‌4 - السرطان:

- ‌5 - الأسد:

- ‌6 - السنبلة:

- ‌7 - الميزان:

- ‌8 - العقرب:

- ‌9 - القوس:

- ‌10 - الجدي:

- ‌11 - الدلو:

- ‌12 - الحوت:

- ‌1 - الشرطان:

- ‌2 - البطين:

- ‌3 - الثريا:

- ‌4 - الدبران:

- ‌5 - الهقعة والهنعة:

- ‌6 - الذراع:

- ‌7 - النثرة:

- ‌8 - الطرف:

- ‌9 - الجبلة:

- ‌10 - الخرتان

- ‌11 - الصرفة:

- ‌12 - العواء:

- ‌13 - السماك:

- ‌14 - الغفر:

- ‌15 - الزبانى:

- ‌16 - الاكليل:

- ‌17 - القلب:

- ‌18 - الشولة:

- ‌19 - النعائم:

- ‌20 - البلدة:

- ‌21 - سعد الذابح:

- ‌22 - سعد بلع:

- ‌23 - سعد السعود:

- ‌24 - سعد الاخبية:

- ‌25 - الفرغان:

- ‌26 - بطن الحوت:

- ‌الباب الثامن

- ‌في آراء المنجمين والفلاسفة الأقدمين في الفلك والكواكب

- ‌الباب التاسع

- ‌في شرح ما تشتمل عليه أسماء الأجرام العلوية وما يتصل بها واشتقاقه

- ‌الباب العاشر

- ‌في تأويل رؤيا الأجرام العلوية وما يتعلق بها في المنام كل مذهب حكماء

- ‌الجزء الثاني من الكتاب سماه

- ‌طل الأسحار على الجلنار في الهواء والنار، وجميع ما يحدث بين السماء

- ‌الباب الأول

- ‌في الفصول الأربعة بقول كلي في فصل الربيع والصيف والخربف والشتاء

- ‌الباب الثاني

- ‌في كَلَبَ البرد وشدّته ودفع القرّ بالجمر، ودلائل الصحو، ومعرفة الشتاء

- ‌الباب الثالث

- ‌في البرق وحنين العرب به لأوطانهم، والرعد والغيم والرباب وهالة القمر

- ‌الباب الرابع

- ‌في السحاب الثقال والاستسقاء والحجا؟ وهي القواقع التي يرسمها قطر المطر

- ‌الباب الخامس

- ‌في القول في الأنواء من الحظر والإباحة في الشرع ومعنى قولهم ناء الكوكب

- ‌الباب السادس

- ‌في الرياح الأربع والنكب والاعصار - وهى الزوبعة - والزلزلة وتغير الهواء

- ‌الباب السابع

- ‌في تقدمة المعرفة بالحوادث الكائنة في العالم السفلي من جهة كسوف

- ‌الباب الثامن

- ‌في النار ذات اللهب وما يتعلّق بها، ونار النفط، والصعاعقة، ونار الفحم

- ‌الباب التاسع

- ‌في أوصاف الشموع وقط الشمعة والفانوس والقناديل والطوافة والجلاّسات

- ‌الباب العاشر

- ‌في تعبير ما تشتمل عليه من الآثار العلوية وغيرها في المنام

الفصل: ‌2 - موجز في سيرة المؤلف:

وفي العصر الحديث كتب عدد من الدراسات عن التيفاشي تخص بالذكر منها:

1 -

دراسة الأستاذ حسن حسيني عبد الوهاب (في ورقات 2: 448 - 460) .

2 -

دراسة الأستاذ عبد القادر زمامة (مجلة المجمع العلمي العربي (39، 12 - 26) .

3 -

دراسة الأستاذ ابن تاويت الطنجي (مجلة الأبحاث، السنة 21/ 1968؛ 93 - 116) .

4 -

مقدمة كتاب أزهار الأفكار في جواهر الأحجار، تحقيق الدكتور محمد يوسف حسن والدكتور محمود بسيوني خفاجي (القاهرة 1977) 7 - 28.

وقد صدق الأستاذ حسين الحسيني عبد الوهاب، في قوله:" إن أهم الأخبار عن حياة التيفاشي تؤخذ من تآليفه المخطوطة والمطبوعة "(1) فهنالك تفصيلات وأحداث لم تعرض لها الكتب التي ترجمت له.

‌2 - موجز في سيرة المؤلف:

هو أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر بن حمدون بن حجاج بن ميمون بن سليمان بن سعد القيسي، القفصي التيفاشي، ويلقب شرف الدين ويعرف بكنيتين هما: أبو الفضل وأبو العباس.

ويمكن أن نستخلص من الأخبار المتيسرة لدينا أن أبا بكر ابن حمدون زرق - فيما رزق - ولدين هما محمد وأحمد، فأما الأول منهما فكان شاعراً، وقد كان في جماعة الشعراء الوافدين على الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، وأنشده قصيدة مطلعها (2) :

ما هز عطفيه بين البيض والأسل

مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فقيل أن عبد المؤمن قال له: لا تنشد بعدها شيئاً (أو لا تنشد بعده - أي البيت - شيئاً) وأمر له بألف دينار.

(1) ابن فرحون: الديباج المذهب ط. (القاهرة 1351) : 74 - 75.

(2)

الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 1: 128 - 129؛ وانظر ورقات 2: 448 ومجلة المجمع: 17.

ص: 2

وأما أحمد جد المؤلف فنعرف له من الأولاد اثنين يحيى ويوسف؛ وقد كان يحيى شاعراً كذلك، انتقل من قفصة إلى قابس، ومدح أبا الحملات مدافع بن رشيد الهلالي - آخر الأمراء من بني جامع بقابس، وقد نحاه عنها عبد المؤمن (1) - كما مدح غيره من بني هلال؛ وقد أورد له العماد الأصفهاني أبياتاً في مدح مدافع (2) ؛ كما أورد له التيفاشي المؤلف أبياتاً من تلك القصيدة نفسها في كتابه هذا (3) ؛ ويبدو أن يحي لقي مصرعه بصقلية. فأما يوسف - وهو والد المؤلف -

فقد اتجه وجهة أخرى، فدرس العلوم الدينية، وأصبح قاضياً في مسكانة، ولكنه كان يضم إلى معرفته بشؤون القضاء معرفة بالأحجار، فقد روي عنه ابنه أنه كان جالساً مع طلبة الحضر (4) على باب ملك المغرب المنصور بن عبد المؤمن

(1) رحلة التجاني (تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، تونس 1958) .

(2)

الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 1: 127.

(3)

الفقرة: 118 من سرور النفس.

(4)

كتبت في مطبوعة أزهار الأفكار (140) .

ص: 3

(580 - 595) وهم ينتظرون الإذن بالدخول عليه والمذاكرة بين يديه، ومعهم القاضي والعدول والأطباء والعلماء في كل فن، فخرج عليهم الخادم الموكل بالإذن ومعه درج عليه ورقة مكتوبة فيها: تحضر الأطباء ومقدمو الجوهريين وتعتبر ما في هذا الدرج من الحجارة "؟ ومعنى الدعوة أن الخليفة كان يريد من العلماء العارفين بالأحجار فحص ما احتواه الدرج وتمييز حجر البازهر من بينها، لأنه من بينها، لأنه نافع ضد السموم، ثم إعطاء الخليفة عشرة أحجار منه وتفريق الباقي على أمناء السوق ومشايخ الأرباع لمنفعة الناس. وكان الذي تولى فحص تلك الأحجار هو يوسف التيفاشي نفسه، يقول: " ففعلت ذلك وامتحنت الأحجار بأن أحضرت الأفاعي، وأرسلت على الفواريج بعد إطعامها حكاكتها، وكانت الحجارة نيفاً عن مائتي حجر، فصح بالمحنة (يعني بالامتحان) دون الستين، وتزيف الباقي فكسر وسحق، وفعل بالباقي منها ما أمر " (1) .

وهذه المعرفة إذن لا تقتصر في الحقيقة على الأحجار، بل هي تدل على اتجاه علمي قائم على التجربة؛ سيكون له من بعد أثره البالغ في نفس الابن، ولا ندري هل كانت هذه الحادثة قبل توليه القضاء أو بعده، ولكني أرجح أن تكون قبل ذلك، ولعلها أن تشير إلى أن يوسف التيفاشي طلب العلم في المغرب (بعد طلبه بأفريقية) وانتسب إلى طلبة الحضر (2) ، وتوثقت صلته بدولة الموحدين، وبالخلفية المنصور منهم على وجه خاص، مكملاً بذلك تلك الصلة التي بدأها عمه محمد وأخوه يحيى، وكفلت لهؤلاء التيفاشي حظوة لدى خلفاء الموحدين؛ فاصبح يوسف جليساً للمنصور - فيما نقدر، يشهد ما يدور في ذلك المجلس من حوار ديني أو فلسفي، وقد أصبحت عن مناظرة جرت بين الفقيه أبي الوليد ابن رشيد والرئيس أبي بكر ابن زهر في المفاضلة بين قرطبة وإشبيلية (3) .

(1) التيفاشي: أزهار الأفكار في جواهر الأحجار: 140 - 141.

(2)

يمثل طلبة الحضر عنصراً هاماً في ((مركب)) النظام الموحدي، فهم يتلقون تدريباً رياضياً وتثقيفياً خاصاً، ويشاركون في الجهاد في وحدة خاصة بهم. ومنهم يختار رجال ((الدعوة)) والقضاة

الخ.

(3)

خلاصة هذه المناظرة التي تبدو في صورة نادرة ان ابن رشد كان يحب بلده قرطبة ويفضلها، وابن زهر يحب إشبيلية لأنها بلده، فلما أمعن ابن زهر في تفضيل بلده قال له ابن رشد: ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية (انظر نفح الطيب 1: 155) .

ص: 4

وكانت قفصة قد دخلت مع سائر إفريقية تحت حكم الموحدين، منذ سنة 554 " ووحدت "، وقدم صاحبها علي عبد المؤمن فوصله بألف دينار (1) ، وولي عبد المؤمن عليه والياً من قبله، ولكن القفصيين ثاروا عليه وقتلوه ونصبوا عليهم والياً من بني الرند (2) ، فعاود عبد المؤمن استيلاءه على المدينة " 563/ 1168 " وهدأت الأحوال مدة إلى أن أصبحت قفصة وغيرها هدفاً لنشاط ابن غانية فاضطر المنصور الموحدي إلى قصدها ومنازلتها، فقتل أتباع ابن غانية وهدم سور المدينة وأمن أهلها، وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة (3) .

إن الصلات المبكرة التي عقدها التيفاشيون مع الدولة الموحدية تدل على أنهم لم يكونوا يشايعون بلدهم - قفصة - في انقلابهم على الموحدين، وأن يوسف على الأرجح كان قد التحق بطلبة الحضر في عهد عبد المؤمن نفسه، وكان في أيام ابنه المنصور " طالباً " مقدماً، معروفاً بولائه للدولة؛ وكان قد تزوج قبل مجيء المنصور إلى الخلافة، ففي أول سنة من حكم المنصور (580/ 1184) رزق بابنه أحمد، الذي نحاول أن نتعرف إليه في هذه المقدمة، وكانت ولادة أحمد في قفصة نفسها، لا في تيفاشي، وشاهد ذلك قول أحمد نفسه في كتابه الجواهر:" وأخبرني صياد ممن كان يصيد الايايل بأفريقية بمقربة من مدينة قفصة - مسقط رأسي - "(4) وهذا التحديد وإن لم يرد إلا في نسخة واحدة من النسخ التي اعتمدها المحققان، فإنه مؤكد بقول ابن العديم:" وذكر لي [يعني أحمد التيفاشي] أنه ولد بقفصة من بلاد أفريقية "(5)، وكذلك قول الذهبي:" أحمد بن يوسف بن أحمد أبو الفضل المغربي القفصي - وقفصة من بلاد أفريقية - ولد بها سنة ثمانين وخمسمائة "(6) .

أما بلنسبة إلى تيفاش، فهي نسبة حملتها العائلة منذ عهد بعيد، لأنها تنتمي إلى تيفاش - إحدى قرى قفصة - ويقول الأستاذ حسن حسيني عبد الوهاب أنها الآن " بشمال عمالة قسنطينة من القطر الجزائري "(7) وتوصف في المصادر الجغرافية

(1) أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (الدار البيضاء 1954) 2: 137.

(2)

المصدر السابق 2: 153، والاستبصار لمؤلف مجهول (تحقيق د. سعد زغلول عبد الحميد، الإسكندرية 1958) ص: 151. وقد كان بنو الرند هم حكام قفصة قبل قدوم الموحدين.

(3)

الاستقصا 2: 161، والاستبصار: 151 ورحلة التجاني: 138.

(4)

أزهار الأفكار: 129.

(5)

بغية الطلب (صورة عن نسخة طوبقو سراي محفوظة في الجامعة الأميركية) 2 الورقة 160.

(6)

الذهبي: تاريخ (نسخة آيا صوفيا رقم: 3013) الورقة: 109.

(7)

حسن حسني عبد الوهاب: ورقات 2: 448.

ص: 5

بأنها " مدينة أولية (أزلية) شامخة البناء، وتسمى تيفاش الظالمة، وفيها عيون ومزارع كثيرة، وهي في سفح جبل، وفيها آثار للأول كثير، وعليها سور قديم بالحجر، ولها بساتين ورياضات، واكثر غلاتها الشعير "(1) ؛ ولعل أحمد بن يوسف لم يعرف تيفاش، وإن حمل النسبة إليها، فان توجهه لم يكن إلى الغرب، كما فعل أبوه وأقرباؤه من قبل، وإنما كان نحو المشرق.

فهو قد نشأ في ظل أبيه القاضي بمسكانه (2) ، ودرس عليه، وتقيل كثيراً من خطواته؛ ولعل شغفه بعلوم الأوائل إنما كان تأثراً به، واعتماداً على الكتب التي جمعها أبوه في تلك العلوم؛ إذ من المرجح أن ذلك الأب قد وجد في بلاط الموحدين ما وثق صلته بالفلسفة والطب والعلوم الطبيعية، فقد عاشر هنالك ابن الطفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم، من المقبلين - دون حرج - على تلك العلوم، في ظل الخليفة أبي يعقوب يوسف الموحدي. وما كاد أحمد يحرز مبادئ العربية والدين ويحفظ القرآن في قفصة حتى غادرها إلى تونس فسمع فيها على أساتذة منهم أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن جعفر المقدسي (3) وغادرها وهو صبي إلى مصر (4) - كما حدث هو عن نفسه - فكان من أهم شيوخه فيها موفق الدين عبد اللطيف البغدادي (5)(557 - 629/ 1162 - 1231) واختياره لموفق الدين شيخاً له يؤكد نمو الاهتمام لديه بالفلسفة والطب وسائر علوم الأوائل، فقرأ عليه وتفنن، لأن موفق الدين كان يجمع إلى معرفته بالفلسفة والطب اتقاناً للنحو واللغة العربية وعلم الكلام وغير ذلك من أنواع المعارف؛ ودخول موفق الدين عبد اللطيف إلى مصر مرتبط بالخلاف بين ابني صلاح الدين العزيز والأفضل، ومهاجمة العزيز لدمشق وحصاره لها دون أن ينال شيئاً، وعوده عنها في الثالث من شعبان 590/ 1194 إلى مصر، وفي صحبته موفق الدين (6) ، أي أن التيفاشي كان له من العمر حينئذ

(1) البكري: المغرب في ذكر إفريقية والمغرب (الجزائر: 1857) 53؛ والإدريسي: نزهة المشتاق - قسم إفريقية والأندلس (تحقيق دوزي ودي خويه، امستردام 1969) : 120 والحميري: الروض المعطار (تحقيق إحسان عباس، بيروت 1975) : 146؛ وانظر ضبط الصفدي لها في الوافي 8: 288 وابن فرحون في الديباج: 75.

(2)

ورقات: 1: 448.

(3)

الديباج: 75.

(4)

بغية الطلب 2: 160 وعند ابن فرحون: ((وقدم الديار المصرية وهو صغير)) .

(5)

انظر ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء (ظ. مصر 1882) 2: 201 - 213 في ترجمته.

(6)

انظر المصدر السابق: 207 وقارن بالسلوك للمقريزي 1: 116 - 118.

ص: 6

عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، ولعل هجرته إلى مصر إذن كانت في حدود 593/ 1197 إذ ما يزال يصح أن يقال إنه كان صبياً حين هاجر رغم أنه كان قد شارف الرابعة عشرة من عمره.

ولا ندري كم أقام في صحبة شيوخه بمصر، ولكنا نجده ينتقل إلى دمشق ليقرأ بها على أشهر علمائها حينئذ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي (520 - 613/ 1126 - 1217) (1) الذي يقول فيه ابن العديم:" ورحل إليه الناس من البلاد لقراءة القرآن واللغة والنحو والحديث والأشعار "(2)، ويقول ابن خلكان:" كان أوحد عصره في فنون الآداب وعلو السماع "(3) . وإذا كان أحمد لم يتميز بصلة قوية تربطه بهذين الأستاذين، شأنه في ذلك شأن مئات الطلبة، الذي أفادوا من علومها، فهذا لا يعني أن موهبته في التحصيل لم تكن متميزة، ولا أن الفوائد التي حصلها منهما كانت قليلة، ولكن يبدو أن صغر السن، وقف به عند حد الأخذ والتلقي، ولم يسمح له أن يتعدى ذلك إلى شيء من صداقة أو علاقة وثيقة. ومهما يكن من شيء فإن أفراده هذين الأستاذين بالذكر، يدل على أنه ربط اسمه بشهرتهما الواسعة، منذ البداية، ليقول إنه كان له حظ الطلب على اثنين من أقدر العلماء في ذلك العصر. وقد طابت له الإقامة بدمشق وأخذ يحدث نفسه بالاستقرار فيها، ولكن حنينه إلى وطنه دفعه إلى مبارحتها (4) ، فعاد إلى قفصة، وتولى فيها القضاء بعد رجوعه هذا من المشرق (5) ، وفي هذه الفترة تزوج، ورزق ثلاثة أطفال. ولكن شعوره بالاستقرار في بلده أخذ يضطرب، رغم ذلك كله، ويرتبط ذلك بعاملين، أولهما: أن حنينه إلى دمشق استبد به " وطالبته نفسه بالمقام بدمشق "(6) ؛ ويبدو أن هذا العامل لم يكن حاسماً إلا حين اتحد به عامل ثان، وهو فقدانه لوظيفة القضاء؛ إذ يقال إنه عزل، وإن عزله إنما كان بسبب العثور على خمر في داره (7) - وذلك أمر غير مستبعد لمن يقرأ كتبه، ويرى ما فيها من حديث عن الخمر - فقرر مغادرة قفصة،

(1) انظر ترجمته في بغية الطلب 8: 92 ومرآة الزمان 8: 575 وابن خلكان 2: 339 وانباه الرواة 2: 10 وذيل الروضتين: 95 وفي حاشية الوفيات ذكر لمصادر أخرى.

(2)

بغية الطلب 8: 93.

(3)

وفيات الأعيان 2: 340.

(4)

بغية الطلب 2: 160.

(5)

المصدر السابق نفسه.

(6)

المصدر السابق نفسه.

(7)

المصدر السابق.

ص: 7

وفيما هو آخذ في ترتيب شؤون الرحلة رأى فيما يرى النائم كأنه جالس وبين يديه ثلاثة سرج موقودة، وإلى جانبه زوجته أم أولاده، وهي تنفخ إلى أحد السرج لتطفئه، قال:" فأدركني عليها غيظ شديد، ونهيتها عن ذلك، فألحت في النفخ عليه، فاضطربت من الغيظ وقلت لها: إن طفيتيه فأنت طالق، فقامت فنفخت في السرج الثلاثة فأطفأتها وبانت بالطلاق، ولم أكن قبل ذلك جرى على لساني للطلاق ذكر، ولا حدثت نفسي بطلاقها قط، ولا حدثت نفسها في خلاف أمر آمرها به قط، وكان لي منها ثلاث بنين؟ "(1) ويبدو أن التيفاشي لم يعر هذه الرؤيا اهتماماً حينئذ، وأن معرفته بالتعبير كانت محدودة أو معدومة، ولكن الأحداث التالية بدأت تربط نفسها بهذه الرؤيا ربطاً وثيقاً، إذ بعد أيام قلائل من تلك الرؤيا توفيت الزوجة (فبانت بينونةً تامة) ، ولم يثنه حزنه عليها عن عزمه على الهجرة، بل لعله وضعه في حال نفسية حرجة تستدعي النأي عن قفصة، " فباع أملاكه وما يثقل عليه حمله " واتخذ لنفسه مركباً، وشحنه بما تبقى من متاعه، وحمل فيه أبناءه الثلاثة، وأقلع قاصداً الإسكندرية (2) . وفيما هو بحذاء ساحل برقة، هبت على المركب ريح شديدة حطمته فغرق أولاده الثلاثة ومعظم ما معه من المتاع، ونجا هو بحشاشة نفسه على لوح من خشب، واستنقذ عرب برقة بعض متاعه، وأخذوا المتاع معهم ليبيعوه في إسكندرية، فوجد الفرصة سانحة لمرافقتهم، ولكنه خاف أن هو أعلن أنه صاحب ذلك المتاع أن يقتلوه طمعاً في الاستيلاء على أمواله، فصاحبهم متنكراً - يعني يخفي حقيقة شخصيته - وكان إذا تذكر هذه الحادثة من بعد روى أن عرب برقة سألوه: من هو ومن أين هو وما صنعته. فأخبرهم أنه قواد، فقالوا: الله الأحد - كلمة تدل على نفورهم منه ومن صنعته - وكانت أنفتهم منه سبب خلاصه منهم، حسب تقديره (3) .

ويبدو أنه اتخذ نفورهم منه ذريعة للانفصال عنهم، بعد أن أصبحت الإسكندرية قريبة، فأغذ إليها السير وحده ووصلها قبلهم، وصنع مقامة يذكر فيها ما جرى في طريقه، وبلغ النبأ مسامع الملك الكامل أبي المعالي محمد بن الملك

(1) الفقرة: 1219 وانظر ورقات 1: 449.

(2)

بغية الطلب 2: 160 وقد ذكر ابن العديم أنه أيضاً حمل زوجه معه في المركب، وهذا مناقض لما قاله في ((سرور النفس)) من أنها ماتت قبل الرحيل، إلا أن نفترض أنه كانت له زوجة أخرى وهذا أمر غير مستبعد.

(3)

بغية الطلب 2: 160.

ص: 8

العادل، ملك الديار المصرية يومئذ، فكتب له إلى الإسكندرية بتخليص ماله فخلص له منه جملة (1) ولم تكن مبادرة الكامل محض تدخل رجل غريب منكوب، وإنما كانت تعني تقديراً منه لعلم التيفاشي وفضله، وظرفه أيضاً، إذ لا يبعد أن تكون المقامة التي أنشأها، والنوادر التي ارتبطت بتلك الفاجعة، قد حملت إلى الكامل صورة مغربي ظريف، وكان الكامل معروفاً بمحبة أهل العلم ومجالستهم ومناظرتهم، وكان بيت عنده بالقلعة جماعة منهم، ينصب لهم أسرة ليناموا عليها بجانب سريره ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده وقصده أرباب الفضائل ونالوا منه الأرزاق الوفيرة (2) ، وكان للمغاربة من ذلك حظ غير قليل، ولهذا خف التيفاشي على نفسه - فيما أرجح - وعاش في كنفه، ونراه في القاهرة حتى سنة 630/1233 وهي السنة التي خرج فيها الكامل إلى فتح مدينة آمد؛ فانتهز التيفاشي الفرصة، ليستعد عهده بدمشق التي كانت قبلة خواطره منذ أن عزم على فراق الوطن، ويقول ابن العديم إن التيفاشي توجه من دمشق " إلى حلب ومنها إلى آمد فوجد الملك الكامل راجعاً إلى الديار المصرية فعاد معه إليها وسكن بها "(3) ، وهذه السرعة في ربط مفارقة مصر بالأوبة إليها ربما أشارت إلى أن التيفاشي لم يقض فترة طويلة في الشام؛ وإذا صح هذا فإنه يعني أنه اتخذ مصر دار إقامة، إلا أنه ظل كثير الارتحال إلى الشام وغيرها من الأقطار المشرقية، وعلى هذا فيجب أن نقدر أنه عاد يجدد الصلة بديار الشام والجزيرة العراقية وغيرهما بعد وفاة الكامل (635/ 1238؛ وهذه مسألة ليس من السهل أن نقطع فيها، أعني: هل سافر إلى الشام وتجول في الجزيرة العراقية مدة طويلة ثم عاد إلى مصر مع الكامل في إحدى عوداته من الأراضي المشرقية (قبيل 635) أو أنه سافر سنة 630 وعاد مع الكامل بعد إخضاع آمد في السنة نفسها واستقر بمصر، ثم عاد بعد وفاة الكامل إلى الترحال؟ أياً كان الأمر فنحن نعلم أنه قضى فترة من التجواب، تعرف فيها إلى حلب وآمد وحرّان والموصل وجزيرة ابن عمر وغيرهما من البلدان؛ وهو يحدثنا أنه سار من جزيرة ابن عمر إلى آمد ستة أيام بلياليها، وكان الفصل شتاء، فلم يشاهد شمساً لتكاثف السحب، ولم يشاهد أرضاً ولا جبلاً ولا وادياً ولا شجرة لأن كل شيء كان مغطى بالثلج، وكان يعبر على الأنهار وهي جامدة. وفي ذلك الشتاء

(1) بغية الطلب 2: 160.

(2)

السلوك 1: 258 - 259.

(3)

بغية الطلب 2: 160.

ص: 9

نزل في إحدى المدارس، فوضع يده على شباك حديد في تلك المدرسة فما نزع يده إلا وجزء من جلدة كفه قد لصق بالحديد لشدة البرد؛ أصابته وعكة وهو في حران، واحتاج إلى مزورة تعمل باسفاناخ (سبانخ) وبيض، وأخذ خادمه بيضة ليكسرها ويلقيها في المزورة (1) ، فلم تنكسر، فغضب التيفاشي من الخادم وأخذ البيضة وجعل يضربها على جانب الصحفة فلم تنكسر فقوى الضرب، فكان حالها كذلك، فضرب بها الحائط، فانكسرت الطوبة والبيضة صحيحة، إلا أن شقاً خفياً حدث في البيضة كالشعرة، فأدخل السكين فيه وعالج قلع القشرة فإذا البيضة جامدة، فألقاها في المزورة، فنضج بياضها، وظل الصفار منها جامداً قد استلان بعض لين (2) .

وتستحق إقامته في جزيرة ابن عمر بالقرب من الموصل، وقفة خاصة، فقد كانت تلك الجزميرة قبل الهجرة التيفاشي إلى المشرق تحت حكم شمس الدين الجزري محمد بن سعيد بتفويض من السلطان معز الدين سنجر شاه، حيث بقي يصرف الأمور تصريفاً حسناً حتى وفاته في سنة (610/ 1213)(3) وكان لشمس الدين ابنان كلاهما يسمى باسم محمد وهما الصاحب محيي الدين الكبير، وأبو القاسم العماد، وكان الأول منهما فاضلاً أديباً وزر للملك المعظم عيسى واجتمع بالملك الكامل بمصر، فأمسكه مدة، وصار عنده من أكابر دولته، وقد استقل بحكم الجزيرة حتى وفاته (651/ 1257) وكان أخوه العماد عاقلاً لبيباً عالماً أديباً، وتوفي في آخر سنة 651 أيضاً (4) .

وفي بلاط الصاحب نحيي الدين احتشد عدد كبير من العلماء والأدباء منهم (5) :

1 -

شرف الدين التيفاشي، موضوع هذه الدراسة.

2 -

رشيد الدين الفرغاني.

3 -

أثير الدين الأبهري.

4 -

صدر الدين الخاصي.

(1) المزورة: حساء يصنع للمريض، ولكن دون لحم.

(2)

الفقرة: 706 من سرور النفس.

(3)

الوافي للصفدي 3: 105.

(4)

البدر المسافر، الورقة: 104 - 105.

(5)

الوافي للصدفي 1: 172.

ص: 10

5 -

ضياء الدين أبو طالب السنجاري.

6 -

شهاب الدين أبو شامة.

7 -

نور الدين ابن سعيد الأندلسي.

8 -

نجم الدين القمراوي.

وقد تبارى هؤلاء العلماء في التأليف لخزانته، كما نباري الشعراء في مدحه (1) ، فألف له ابن سعيد كتاب " المغرب في محاسن أهل المغرب " و " كتاب المشرق في أخبار المشرق "(2) ، وألف له ابن أبي الإصبع كتاباً جمع فيه أمثال القرآن العزيز وكتب الحديث المشهورة، وغير ذلك من عيون الأمثال نظماً ونثراً (3) ؛ والأرجح أن التيفاشي وضع خطة لتأليف موسوعة كبيرة، أثناء إقامته عند الصاحب محيي الدين، معتمداً على ما كان لدى الصاحب من كتب، ويؤكد ابن سعيد هذا بقوله في كتابه " المشرق ":" هو - أي التيفاشي - مقر بأنه استعان في هذا الكتاب بالخزائن الصاحبية "(4) ، وتلك الموسوعة هي " فصل الخطاب " الذي سيكون موضوع بحث مستقل في ما يلي.

وثمة ما يوحي بالتردد في القطع حول مكان اللقاء بينه وبين الصاحب محيي الدين. فالصفدي يتحدث عن محيي الدين حاكماً لجزيرة ابن عمر من 610 - 651 (5) كما تقدم القول، ويزيد قائلاً إن التيفاشي عند وروده من المغرب وما اتفق عليه في البحر من سلب ماله وكتبه أتى إلى الصاحب فآواه وأقام عنده (6) ؛ والادفوي في البدر السافر يقول إن الكامل أحب محيي الدين وأعجب به وأمسكه عنده (أي بمصر) وصار من أكابر دولته (7) ، وهذا يعني أن ابن ندى حين قدم التيفاشي إلى القاهرة كان بها، فلعله آواه في القاهرة، فلما توفي الكامل وعاد الصاحب إلى جزيرة ابن عمر صحبه التيفاشي.

(1) في الشعراء الذين التفوا حول الصاحب محيي الدين انظر الوافي 1 173.

(2)

الوافي 1: 172 والأبحاث (21/ 1968) : 94.

(3)

النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة: 318.

(4)

الوافي 8: 288.

(5)

الوافي 1: 172.

(6)

الوافي 8: 288.

(7)

البدر المسافر، الورقة:104.

ص: 11

وإذا اضطرب علينا مكان اللقاء بين الرجلين: التيفاشي وابن ندى، فإن اللقاء نفسه كان حقيقة واقعة، وثمراته كانت كذلك. ففي ظل بني ندى وجد التيفاشي رعاية وطمأنينة، والتقى بعلماء أفاد منهم كثيراً، واطلع بيسر على كتب هامة أثرت في تفكيره، وبخاصة مؤلفات الموفق التلعفري (602/ 1206)، فقد قال ابن سعيد:" وكان أبو الفضل التيفاشي يذكر لي هذا الرجل، ويزعم أنه استفاد من تصانيفه في ضروب الفلسفة، ويمتعني بما وقع له من أخباره وأشعاره أيام صحبته رؤساء بني ندى أعيان الجزيرة العمرية "(1) .

وحين كان التيفاشي يتعب من التجول، كان يفيء إلى القاهرة، فقد أحس أنها أرحب البلدان صدراً، حتى لقد أنسته ما كان لديه من إعجاب بدمشق، إذ وجدها مركزاً ثقافياً واقتصادياً يلتقي فيه المشرق والمغرب، ويجمع صنوف الثقافات والتجارات، ويمكن التيفاشي من أن يظل على صلة بالمغاربة الكثيرين الذين كانوا يؤمون مصر للاستيطان، أو ينزلون فيها في طريقهم إلى الحج، وكانت الصلة بالحياة التجارية هامة لديه مصل الصلة بالحياة الثقافية؛ إذ هما لديه مترافدتان متعاونتان، وأسواق القاهرة تمكنه من الاطلاع على نماذج السلع التي تهمه، ومن لقاء تجار دخلوا الهند وسرنديب وأقاصي الشرق، فهو يتسقط منهم المعرفة في صورة خبر؛ " اخبرني بعض من دخل الهند من الجوهريين؟ أخبرني رجل من أهل غزنة.. حدثني رجل من أهل عدن؟ أخبرني من دخل سرنديب من التجار؟ أخبرني الشريف الجوهري الذي كان بمدينة القاهرة، وهو المعروف بالخبرة والذكاء في هذا الفن وذلك أنه دخل الهند؟ وأخبرني القاضي الحسيب معين الدين بن ميسر أمين السلطان على معدن الزمرد بالديار المصرية؟ وأخبرني من لا أشك في صدق قوله وثقة نقله، الأمير الأجل الكبير العالم الفاضل سيف الدين قلج (2) ؟ هكذا هو دائماً يلقى الناس ويدوّن عنهم الفوائد، من طبقة التجار الوافدين ومن كبار موظفي الدولة، ويتجول ويغشى الأسواق ويتفحص ويكتسب خبرة واطلاعاً فهو يقول: " ورأيت بسوق القاهرة المعزية حجارة منه (أي البازهر) كثيرة مغشوشة مصنوعة تباع على أنها بازهر حيواني بسوم دينار المثقال " (3) . ويقول أيضاً: " وقد حضرت في دكان جوهري خبير بالأحجار من أهل الأندلس بثغر

(1) الغصون اليانعة (تحقيق إبراهيم الابياري، القاهرة 1945) : 59 وانظر مجلة الأبحاث: 94.

(2)

أزهار الأفكار: 115، 64، 73، 88، 120.

(3)

المصدر السابق: 140.

ص: 12

الإسكندرية، ودخل السوق تاجر أعجمي، فأخرج ثمانية عشر حجراً على أنها بازهر حيواني، ودفعها لدلال، فأوقف عليها أمين السوق، فلم ينكر منها شيئاً، ونادى عليها جملة على أنها بازهر حيواني، فلما وصلت إلينا ورآها الجوهري الذي كنت في دكانه أخرج منها حجرين فأرانيهما وأخبرني أنه ليس في الجميع بازهر خالص غيرهما، وأن الباقي معمول مدّلس، واستدل على صحة قوله بأمرات أبرزها في المعمول وغير المعمول، تظهر للذكر النظر الجيد الفطنة " (1) .

أما في حال الثقافة فقد تعرف إلى كثيرين من أهلها ومن الوافدين، وكان يلتقي المعاربة منهم في مجلس الرئيس جمال الدين موسى بن يغمور (663/ 1265) الذي شغل مناصب متعددة في الدولة، وكان لعطفه على القادمين من المغرب يسمى " كهف المغاربة "، ومن هؤلاء الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي (636/ 1239) الذي جعله ابن يغمور مشاركاً مع أطباء البيمارستان (2) واصبح صاحباً ملازماً للتيفاشي. وعلى مائدة ذلك الرئيس نفسه التقى أبا المحامد القرطبي (643/ 1245) الذي كان مولعاً بالذم (3) . وتوكدت أواصر العلاقة بين وبين ابن سعيد الأندلسي، وكنا يصطحبان في جولاتهما للقاء الأدباء، ويتناشدان الأشعار، ويدونان الأخبار وقد أهداه ابن سعيد كتاب المغرب ثم أجازه رواية الكتاب نفسه. وجاء في تلك الإجازة:" أجزت الشيخ القاضي الأجل أبا الفضل أحمد بن الشيخ أبي يعقوب التيفاشي أن يروي عني مصنفي هذا، وهو المغرب في محاسن المغرب، ويرويه من شاء، ثقة بفهمه واستنامة إلى علمه "(4) .

وقد سجل التيفاشي قصة الإهداء والإجازة في قطعتين من شعره، فقال إحداهما:

سعد الغرب وازدهى الشرق عجباً

وابتهاجاً بمغرب ابن سعيد

طلعت شمسه من الغرب تجلى

فأقامت قيامة التقييد وقال في الثانية:

يا طيب الأصل والفرع الزكي كما

يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر

(1) أزهار الأفكار: 139.

(2)

اختصار القدح المعلى: 163 - 164.

(3)

المصدر السابق: 212.

(4)

نفح الطيب 2/ 332.

ص: 13

من تجزئة أربعين جزءاً. لم أجد منها سوى ست وثلاثين ربطة. وهو في غاية الاختلال، لسوء الحظ، وعدم الضبط. ولو لم يكن تكرر وقوفي على خطة في زمن الوالد، وعرفت اصطلاحه، في تعليقه. لما قدرت على قراءة حرف منه غير أني عرفت طريقته في خطه واصطلاحه، وتحققت فساده من صلاحه (1) ، ووقفت منه على أوراق في مفرقات ومفردات. وجزازات تفعل في مطالعها ما لا تفعل الزجاجات. فضممت ما وجدت منه وجدت منه بعضه إلى بعض. وأحرزته بتجليده من الأرضة والقرض.

ورأيته (2) قد جمع فيها أشياء لم يقصد بها سوى تكثير حجم الكتاب، ولم يراع فيه التكرار، ولا ما تمجّه أسماع ذوي الألباب. فاستخرت الله في تعليق ما يُحتار منه ورغبت في إبرازه إلى الوجود، فإنه ما دام بخطه لا يفهم أحد شيئاً عنه. فأخذت زُبْدَهُ، ورميت زَبَده، وأوردت تكرره، وتركت مكرره، وبذلت في تنقيص جهدي، وجعلته سميري أوقات هزلي وجدّي، فإنه روضة المطالع، ونزهة القلوب والمسامع، ويسر به الخاطر، ويقرّ به الناظر (3)، وسميته:

" سرور النفس بمدارك الحواس الخمس "

وإلى الله الرغبة في الصفح عن مصنّفه وعنّي، والعفو عما أثبتناه بقلمينا فإن العفو غاية التمني.

(1) ص: وصلاحه

(2)

ص: ورأيت.

(3)

ويسر

الناظر: سقط من ص وزدته من المطبوعة.

ص: 2

‌الجزء الأول من هذا الكتاب سماه

‌نثار الأزهار في الليل والنهار، وأطايب

أوقات الأصائل والأسحار، وسائر ما

يشتمل

عليه من كواكبه الفلك الّدوارا

وجعله أبوابا عدة، جمعت أنا جميع ما فيها في عشرة أبواب:

الباب الأول: في الملوين الليل والنهار.

الباب الثاني: في أوصاف الليل وطوله وقصره، واستطابته، والاغتباق ومدحه، وذم الاصطباح.

الباب الثالث: في الاصطباح ومدحه، وذم شرب الليل، وايقاظ النديم للاصطباح.

الباب الرابع: في الهلال وظهوره وامتلائه وكماله، والليلة المقمرة.

الباب الخامس: في انشقاق الفجر، ورقة نسيم السحر، وتغريد الطير في الشجر، وصياح الديك.

الباب السادس: في صفات الشمس في الشروق، والضحى والارتفاع والطفل والمغيب، والصحو والغيم والكسوف.

الباب السابع: في جملة الكواكب وآحادها المشهورة.

الباب الثامن: في آراء المنجمين والفلاسفة الأقدمين في الفلك والكواكب.

الباب التاسع: في شرح ما يشتمل عليه من أسماء الأجرام العلوية وما يتصل بها واشتقاقه.

الباب العاشر: في تأويل رؤيا الأجرام العلوية وما يتعلق بها في المنام على مذهب حكماء الفلاسفة والإسلام.

ص: 7

فراغ

ص: 8

‌الباب الأول

‌في الملوين الليل والنهار

1 -

في التنزيل العزيز (وآية لهم الليل نسلخُ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمسُ تجري لمستقرٍ لها ذلك تقديرُ العزيز العليم. والقمرَ قَدَّرْنَاهُ منازلَ حتَّى عاد كالعُرْجونِ القديم. لا الشمسُ يَنْبَغِي لها أَنْ كل تُدْرِكَ القمرَ ولا الليلُ سابقُ النهارِ وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون) . (1)

2 -

الليل والنهار يسميان الملوين، ويسميان الجديدين والاحدين والعصرين والقرنين والبردين والأبردين والخافقين والدائرين والحاذقين والخيطين، وهما زنمتا الدهر وابنا سمير وابنا سبات. وذكر أبو العلاء المعري الحَرْسَين، والحَرْسُ الدهر، ولم يسمع مثنىً إلاّ في قوله (2) :

ويحقُّ في رُزْءِ الحُسَيْن تَغَيُّرُ ال

حَرْسَينِ بَلْهَ الدر في الأَصدافِ وجمع الحرس أحْرُس، وقد يجمع ما لا يثنى ويثنى ما لا يجمع، وما ذكر من مثنى هذا الباب مسموع لا مقيس. وسميا ملوين لأنهما يملآن الآفاق نوراً وظلمة، وسميا جديدين لتجددهما بالضياء والإظلام على الدوام وسمي النهار نهاراً لظهور ضوء الفجر يجري كالنهر من المشرق إلى المغرب معترضاً حتى يأتي على الظلام، وسمي الليل ليلاً لأنه يلالي بالأشخاص حتى يتشكك الناظر في الشيء فيقول: هو هو، ثم يقول: لا لا - فقد لالا بها. والنهار ضد الليل، ولا يجمع، كما لا يجمع العذاب والسراب، فإن جمعت قُلت في قليله نُهُر، وفي الكثير نُهُر. والنهار ذكر الحُبارَى.

(1) راجع في تفسير هذه الآية القرطبي 15: 26 - 33 وزاد المسير 7: 17 - 21 والبحر المحيط 7: 235 - 337.

(2)

شروح السقط: 1270 من قصيدة في رثاء الشريف الموسوي والد الرضي المرتضى.

ص: 9

3 -

وقوله: (نسلخ منه النهار) أي ننزع عنه الضوء فيظهر سواده، لأنّ أصل، ما بين السماء والأرض من الهواء والظلمة. والنهار في اللغة الضوء، والليل الظلمة.

4 -

(والشمس تجري) جري الشمس سيرها على عكس دور الفلك. فتقطع الفلك في ثلاثماثة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وجزءٍ من يوم عند أهل الهند. وعند أهل الروم في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً إلا جزءاً من ثلاثمائة جزء يوم.

(لمستقر) أي محل استقرار الليل والنهار على الاستواء، اعتدال الزمان عند حلولها أول نقطة الحمل أو الميزان، وقيل استقرارها استعلاؤها على جانب الشمال عند نهاية طول النهار في الأقاليم السبعة المائلة نحو الشمال (1) عن خط الاستواء، فيطول اليوم في الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة إلى أن ينتهي في الإقليم ست عشرة ساعة بتفاوت نصف ساعة بين كل إقليمين، حسب بعد الأقاليم من خط الاستواء نحو الشمال وقربها منه. وقيل: لمستقر لها أي محل شرف لها، في الدرجة التاسعة عشرة من الحمل عند ظهور أثرها في نفي آثار الشتاء، واعتدال الزمان والهواء، ومحل رفعه في أوجها يعني الجوزاء عند استقامة الحر وبدوّ الثمار وتمام الرياحين، أو محل قوة لها في بيتها، يعني الأسد عند إدراك الزروع وينع الثمار. وقيل لمستقر لها أي محل استقرار الدَّور واستمرار السير على الاستقامة من غير رجعة وانعكاس، كالخمسة المتحيرة أعني زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.

5 -

(والقمرَ قدَّرناهُ منازلَ) يعني منازله الثمانية والعشرين المعروفة وهي الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ الموخر، بطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج الاثني عشر لكل برج منها منزلتان وثلث، منزلة بالتقريب، فينزل القمر كل يوم منزلاً، حتى إذا اجتمع مع الشمس في منزل انتقص الهلال في ثاني ذلك المنزل كالعرجون القديم. وقيل: قدَّرناه منازل أي قدرنا نوره في منازل، فيزيد في مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية، وينقص في المنازل الاستقبالية. وقيل: أي جعلنا أجزاء جرمه

(1) ص: السماء.

ص: 10

منازل لعكس أنوار الشمس " فإن جرم القمر مظلم ينزل فيه النور بقبوله عكس ضياء الشمس "، مثل المرآة المجلوَّة إذا قوبل بها الشعاع تضاحل إلى الظل ويضرب بالنور المقبول عليه، وكذا القمر يقبل نور الشمس ويؤديه إلى الأرض، ولا يزال نصف القمر مقابلاً للشمس ونصفه غائباً عنها، فعند اجتماع الشمس يكون نصفه الذي يلي الشمس مضيئاً كله، فيظلم نصفه الذي يلي الأرض، فإذا جاوزها ليلة الاستهلال انحرف عن موازاتها فمالت الظلمة من النصف لم الأسفل إلى النصف الأعلى بقدر ما ينجلي منها ليلة الهلال كالعرجون القديم لا يزال ينحرف عنها حتى يدبر عن الشمس نصفه الأعلى، ويقابلها نصفه الذي يلي الأرض عند الامتلاء، وهو الاستقبال، فيأخذ النور في الاستقبال من نصفه الأسفل إلى نصفه الأعلى، حتى ينتهي إلى الاجتماع وتدور الشمس والقمر على جانب من الأرض إلا ليلة الخسوف، تحول الأرض بينهما فتحجب القمر عن الشمس، فيخسف بظل الأرض.

6 -

وقوله عز وجل: (لا الشمسُ ينبغي لها أن تدركَ القمر) أي لا يمكنها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن دائرة فلك القمر في فلك عطارد، وفلك عطارد داخل في فلك الزهرة، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس فإذا كان طريق الشمس أبعد قطع القمر جميع أجزاء فلكه - أعني البروج الإثني عشر - في زمان تقطع الشمس برجاً واحداً من فلكها. وقيل لم يكن يليق بمصلحة العباد لو جُعلت الثمس في سرعة السير كالقمر، فإنها لو قطعت الفلك في ثلاثين يوماً لولدت الفصول الأربعة في كل شهر، واختلّت الزروع والثمار واستقامة الأحوال.

7 -

وقوله عز وجل: (ولا الليلُ سابقُ النّهارِ) أي الشمس التي بها الضياء خلقت مضيئة والليل بكرة الأرض التي يغيب ضوء الشمس بطرف منها عن الأرض، وهي في بعدها من الأفلاك بُعدٌ واحد من جميع الجهات، لأنها في العالم بمنزلة الثقل، والأفلاك والكواكب في غاية اللطف، لما أديرت وقعت كثافة الأرض إلى أسفل، فإن اللطيف يتحرك إلى الأعلى، والثقيل الكثيف إلى أسفل، فلما دفعت أجرام الفلك عنه التراب من جميع النواحي دفعة واحدة اجتمع إلى الوسط، وقد جرب ذلك في قنّينة ملئت ماء وألقي فيها حفنة من تراب، ثم أديرت بالخرط، فبدأت أجزاء التراب تجتمع من جميع النواحي حتى استمسكت في الوسط. فإذا كان الليل بالأرض، والأرض تدفع الأفلاك أجزاءها - كما ضربنا من المثال - كان النهار سابقاً لليل، فذلك قوله عز وجل:(ولا الليلُ سابقُ النهار وكلٌّ في فَلَكٍ يسبحون)

ص: 11

أي يعومون على عكس سير الفلك، كالسباحة على خلاف جري الماء. وخصّ الشمس والقمر بالذكر ههنا، وفي سورة الأنبياء، لأن سيرهما سباحة أبداً على عكس دور الفلك، وسير الخمسة المتحيرة قد يكون موافقاً لدور الفلك عند الرجعة، والجري للاستقامة، والكنوس للدخول تحت الشعاع والاحراق. هذا كلام السجاوندي (1) .

8 -

وقال أبو الحسن الحوفي (2) : (لا الشمسُ ينبغي لها أن تدركَ القمر) أي لا يصلح لها أن تدرك القمر فيذهب نوره بضوئها، فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليلاً (ولا الليلُ سابقُ النهار) أي يعاقب النهار حتى يذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً، أي لكل واحد منهما حدٌّ لا يتجاوزه، إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا.

9 -

وقال ابن فُوْرَك (3) : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن سير القمر أسرع من سير الشمس. وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ: لا مستقر لها، أي أنها تجري في الليل والنهار، لا وقوف لها ولا قرار.

10 -

وقال يحيى بن سلام (4) : لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها.

و (العُرْجُون القديم) العذق اليابس إذا استقوس. قال: وفي استدلال قوم من هذه الآية على أن الليل أصل، والنهار فرع طارٍ عليه، نظر. وفي مستقر الشمس أقوال، منها أن مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين، لأنهما نهايتا مطالعها، فإذا استقر وصولها كرت راجعة، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين.

11 -

وقال أبو نصر القُشَيْري (5) : ولا الليل سابق النهار أي غالب، فتمحي آية

(1) هو أبو عبد الله محمد بن طيفور السجاوندي، إمام مقري نحوي مفسر، كان في وسط المائة السادسة، له تفسير حسن للقرآن وكتاب عللك القراءات وكتاب الوقف والابتداء، (انظر طبقات القراء 2: 157 والوافي 3: 178 وبروكلمان. التاريخ 1: 408 والتكملة 1: 724) .

(2)

هو علي بن إبراهيم الحوفي (- 430) صاحب البرهان في التفسير (انظر الوافيات 3: 300 وانباه الرواة 2: 219) .

(3)

محمد بن الحسن بن فورك (- 460) أحد شيوخ الأشاعرة، انظر ترجمته في السبكي 3: 52 وتبيين كذبم المفتري: 272.

(4)

ترجم له في ميزان الاعتدال 4: 380.

(5)

انظر ترجمته في وفيات الأعيان 3: 207 وعبد الغافر: 93 والسبكي 4: 249 وتبيين كذب المفتري: 308.

ص: 12

أحدهما بالآخر، ليكون الليل للاستراحة والنهار للتصرف ولتميز الأوقات ولعلم السنين والحساب، ولا تصير الأوقات كلها ليلاً أو نهاراً.

12 -

قال الشيخ شرف الدين أحمد التيفاشي المصنف: وليس في هذه الأقوال بيان في أن الليل قبل النهار في الوجود، أو أن النهار قبل الليل، وهو محط السؤال. قال، وأنا أقول: إن الليل والنهار لا يخلو إما أن نعتبر وجودهما بالإضافة الينا أو بالإضافة إلى العالم نفسه؛ فإن كانا بالإضافة إلينا كانا في منزلة المضاف في المنطق كالأب والابن؛ وإذا كانا كذلك لم يكن أحدهما متقدماً على الاخر، فإنا لا نعرف الليل إلا وقبله نهار ولا النهار إلا وقبله ليل، كما لا نعرف الأب من حيث هو أب إلا ومعه الابن، والابن إلا ومعه أب. وسأل الاسكندر (1) بعض الحكماء عن ذلك فقال: هما في دائرة واحدة، والدائرة لا يعرف لها أول ولا آخر. وإن اعتبر وجودهما بالإضافة إلى العالم نفسه، فلا يخلو أن يكون الاعتبار بالإضافة إلى العالم العلوي، وهو من الفلك المحيط إلى مقعر فلك القمر، أو إلى العالم السفلي، وهو من مقعر فلك القمر إلى كرة الأرض، فإن كان بالإضافة إلى العالم العلوي كما اعتبره السجاوندي، كان ذلك باطلاً، إذ العالم العلوي لا ليل فيه ولا نهار، إذ لا ظلام يتعاقب عليه فيسمى نوره نهاراً، بل الأجرام العلوية أجسام شفافة مضيئة نيّرة بطبعها على الدوام، نوراً لا ظلمة تشوبه ولا عتمة تتعاقب عليه. كما في هذا العالم. وإن كنا نرى الشمس والقمر يُكسفان عندنا فإنما ذلك لحائل يحول بين أبصارنا في هذا العالم وبين إدراك نوريهما، وإلا فهما في عالمهما على وتيرة واحدة من النور والضياء والبهجة، لا تبديل لها ولا تغيير، إلى أن يشاء العزيز القدير. وإن اعتبر وجود الليل والنهار بإضافتهما إلى هذا العالم السفلي، وهو من كرة الأرض إلى مقعر فلك القمر، كان اعتباراً حقاً، وهو موضع البحث، إلا أنه يجب أن يوجد اسما الليل والنهار ههنا دالَّين على النور والظلمة، كما قال الخليل: إن الليل عند العرب الظلام، والنهار الضوء، حتى لا يكون مدلول اسمي الليل والنهار على ما نفهمه نحن الآن من تعاقب الضياء والظلام عندنا، فإن كان ذلك كذلك كان الليل متقدماً على النهار بالطبع والذات، على رأي المشرّعين والفلاسفة:

(1) ورد هذا النص في محاضرات الراغب 4: 536.

ص: 13