الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما الاتجاه الأدبي، فقد يبدو في بعض الأحيان ظلاً للاتجاه العلمي، فهذا الشغف بالعشر الذي قيل في النجوم والرياح وتقلب الفصول والحر والبرد والشموع والنيران، يشير إلى ذلك؛ وعلى هذا لم يسمح التيفاشي لصوت النقد بأن يرتقفع عالياً إلا حين رأى التنوخي يكثر من تشبيه المحسوس بغير المحسوس فيقول:" إني لينغص علي إحسان هذا الرجل مع كثرته - ما أخذ به نفسه من تشبيه الأظهر بالأخفى، وهو شيء كرهه أكابر العلماء ونصوا عليه، وهو قد أغري به لا يكاد يخلي منه تشبيهاته "(1) . وأحياناً يعثر في النقد عثرة من لا يعرف أولياته، فيورد بيتين لأحد الشعراء المحدثين ثم يقول وهذا أبلغ من قول امرئ القيس، إلا أنه لا يدخل في مختار الكلام لابتذال لفظه (2) ، فكيف يكون أبلغ وهو مبتذل اللفظ؟ وهو أحياناً يعمم الحكم استناداً إلى سعة مروياته من الأشعار، كأن يقول: وشعراء المغرب حازوا قصب السباق في وصف الاغتباق " (3) وفي سائر المواقف النقدية يعد عالة على من تقدمه من النقاد.
وقد ذكر من ترجموا له بأن له شعراً حسناً ونثراً جيداً (4) ، ولم يصلنا شيء من نثره الفني، فأنا نثره في كتبه، فهو بسيط سائغ، دقيق في إبراز الفكرة التي يعالجها؛ وأما شعره فقد وصلنا منه عدد من المقطعات تبلغ أربعاً وعشرين تتراوح بين بيتين وتسعة عشر بيتاً، ولكن أكثرها من القصار؛ وتدور في معظمها على موضوع الوصف (وصف الليل، الهلال، السماء، الزلزال، النار، الشمعة، الفانوس، الأهرام..) ومن الواضح فيها سيطرة الفكرة والعمل الذهني، وطلب الصورة، دون احتفال بمستوى التعبير، ولا يخرج التيفاشي في هذا عن الاتجاه الغالب على شعراء عصره، ولا يتجاوز الموضوعات التي كانت تستأثر باهتمامهم، إذا هم تجاوزوا مقام المدح والرثاء (5) .
4 - نظرة في حاله المعيشية بعد الهجرة:
كانت الآلات التي ملكها التيفاشي من علم وأدب تؤهله لأن يكون
(1) الفقرة: 379.
(2)
الفقرة: 49.
(3)
الفقرة: 149.
(4)
انظر الديباج: 75.
(5)
سألحق بالمقدمة القطع التي لم ترد في هذا الكتاب مما وجدته من شعر التيفاشي.
نديماً للملوك، حينئذ، ولعله فعل ذلك، فنحن نسمع منه حديث العارف لما كان يدور في تلك المجالس، كما مرت الإشارة إلى ذلك من قبل، وهو يصرح أحياناً بقوله: " حضرت مجلس ملك من ملوك المشرق، وفيه جماعة خواصه وندمائه، فغنى صبي دوبيتي، استحسنه الجميع وطربوا عليه وهو:
من متيم جفاه مولاه
…
جفاه وليس لو إلا وهو لا حول ولا قوة إلا بالله
…
فانصرفت من المجلس وأنا أقول نعم لا حول ولا قوة إلا بالله " (1) .
وليس بمستبعد أن تكون هذه الخصائص كلها، أعني قدرته على تأليف الكتب باسم بعض الأمراء، ونظم الشعر في مدحهم (وإن لم يصلنا شيء من مدحه فيهم) ومزاولة بعض الصناعات، والاتجار بالأحجار، والتقرب بالهدايا والطرف، هي التي كانت وسيلته إلى كسب الرزق، بعد أن هاجر من بلده إلى المشرق، ثم بعد استقراره بمصر؛ إذ لم يسند إليه منصب يكفل له دخلاً ثابتاً، فيم وصل إليه اطلاعي (2) . وقد كانت أسفاره تكلفه مالاً، وإن كان يأوي في تنقلاته إلى المدارس والأربطة، ولكنها من ناحية أخرى لم تكن بعيدة عن امتهان التجارة، ويمكن يستشف من شرائه للجواهر، ومن إقدامه على التجارب وبذله المال في سبيلها أنه كان امرءاً ميسور الحال.
وقد صمت التيفاشي بعد النكابة التي ذهبت بأولاده ومعظم ماله، وبعد فقد زوجته عن أية إشارة إلى وضعه " المدني "؛ هل تزوج ثانية؟ أو هل قنع بالتسري؟ ومن ثم يمكن أن يثور سؤال آخر وهو: لماذا هذا الاهتمام بكتابة مؤلفات في الشؤون " الجنسية "؟ أكانت علماً؟ أم كانت وسيلة لكسب المال من المترفين؟؟.
ليس لدينا أي شيء نقوله إذن عن وضع عائلي أو معيشي، للتيفاشي، بعد هجرته إلى المشرق، وإن كنا نعرف عرضاً أنه كان له فتى يعرف بجمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خطلخ الفارسي الأرموي، وأنه كان مثقفاً، وإن ابن سعيد أجازه رواية المغرب مثلما أجاز أستاذه " (3) .
(1) متعة الأسماع: الباب الثالث عشر، الورقة:32.
(2)
قد تشير صحبته للطبيب ابن عتبة الاشبيلي إلى أنه كان يكسب رزقاً من الانتماء إلى البيمارستان، لأنه كان يحسن الطب، ولكن هذا محض احتمال.
(3)
النفح 2: 332.
29 -
أبو بكر بن اللبانة (1) :
يجري النهارُ إلى رضاكَ وليلُهُ
…
وكلاهما متعاقبٌ لا يسأمُ
فكأنما الإصباحُ تحتك أَشقُر
…
وكأنما الإظلامُ تحتك دهمُ 30 - أسعد بن إبراهيم المغربي (2) :
وقد ذاب كُحْلُ الليلِ في دمع فجرِهِ
…
إلى أن تبدَّى الصبحُ كاللمّةِِ الشَّمْطَا
كأنّ الدُّجَى جيشٌ من الزَّنجِ نافرٌ
…
وقد أرسل الإصباحُ في إِثرِهِ القبطا 31 - أحمد بن درّاج القسطلّي (3) :
وليلٍ كريعان الشبابِ قطعتُهُ
…
بجهدِ السُّرى حتى استثيبت (4) ذوائبُهْ
وصلتُ به يوماً أَغرَّ صحبته
…
غلاماً إلى أنْ طُرَّ بالليل ِشاربه
(1) ابن اللبانة: هو محمد بن عيسى الداني (- 507) وله ترجمة في الذخيرة 3/ 2/ 666، وقد ورد البيتان في الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 117 (ط. تونس) وشعر ابن اللبانة: 91.
(2)
هو المعروف بابن بليطة (الذخيرة 1: 790 - 801) والبيتان في النفح 4: 100 والخريدة 2: 90 والثاني في الذخيرة 1: 799.
(3)
ديوان ابن دراج: 23 ورايات المبرزين: 73.
(4)
ص: استنبت الديوان: اشيبت.
الباب الثاني
فى أوصاف الليل وطوله وقصره واستطابته والاغتباق ومدحه وذم الاصطباح
32 -
في التنزيل العزيز (ومن شرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ) غسقا الليل شدة ظلمته. ووقب أي دخل.
33 -
وقال العسكري (1) : من أتم أوصاف الظلمة الذي في كلام البشر مثله قوله عز وجل: (أو كَظُلْماتٍ في بَحْرٍ لُجَيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلماتٌ بعضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لم يكَدْ يرَاهَا) .
34 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " جَنِّبوا صبيانكم فَحْمةَ العِشاء ". وفحمة الليل اشتداد ظلمته.
35 -
ومن أسماء الليل: الدَّجْنُ والدُّجى والدجنَّة والكافر، سمي كافراً لأنه يستر الأشخاص، والكَفْر - بفتح الكاف - الستر، ومنه اشتق اسم الكافر لأنه يجحد نعمة الله عز وجل ويسترها، والكُفُورُ: القرى النائية عن حواضر المدن لأن ساكنها يغيب عن جمهور الناس ويستتر عنهم، وفي الحديث:" لا تسكنوا الكفور (2) ، فإن ساكني الكفور كساكني القبور ".
36 -
وقال الأصمعي: كل ظلماء من الليل حِنْدِسٌ، والليلة الليلاء: الشديدة الظلمة، وكذلك الليل الأليلُ؛ وعسعس الليل: اشتدت ظلمته، وكذلك اكفهرّ وادلهمّ، وليل مكفهر ومدلهم وغيهب وغهيب، كل ذلك شديد السواد.
(1) ديوان المعاني 1: 345.
(2)
ص: القرى، وانظر الجامع الصغير: 2: 201.