الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الرابع والعشرون: كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه
كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال -رحمه الله تعالى-:
النوع الرابع والعشرون: كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه.
يصح تحمّل الصغار الشهادة والأخبار، وكذلك الكفار إذا أدوا ما حملوه في حال كمالهم -وهو الاحتلام والإسلام- وينبغي المباراة إلى إسماع الولدان الحديث النبوي.
والعادة المطردة في أهل هذه الأعصار وما قبلها بمدد متطاولة أن الصغير يكتب له حضور إلى تمام خمس سنين من عمره، ثم بعد ذلك يسمى سماعا، واستأنوا في ذلك بحديث محمود بن الربيع: ? أنه عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من دلو في دراهم -وهو ابن خمس سنين ? رواه البخاري. وجعلوه فرقا بين السماع والحضور. وفي رواية: ? وهو ابن أربع سنين ?.
وضبطه بعض الحفاظ بسن التمييز، وقال بعضهم: أن يفرق بين الدابة والحمار، وقال بعض الناس: لا ينبغي إلا بعد العشرين سنة، وقال بعض: عشر، وقال آخرون: ثلاثون.
والمدار في ذلك كله على التمييز، فمتى كان الصبي يعقل كُتب له سماع.
قال الشيخ أبو عمرو: وبلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري أنه قال: رأيت صبيا ابن أربع سنين قد حُمل إلى المأمون قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي، وأنواع التحمل
…
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في النوع الرابع والعشرين تكلم ابن كثير اختصارا لكلام ابن الصلاح في كيفية سماع الحديث، وكيفية تحمّله، وكيفية أدائه، يعني في كيفية تحمله من الشيخ، وفي كيفية أدائه إلى التلميذ أو الراوي عنه.
وقبل أن يبدأ في أنواع التحمل، وفي صيغ الأداء، تحدث عن قضيتين:
القضية الأولى: أنه إذا اشترطنا في العدالة الإسلام والبلوغ، حسب ما تقدم في صفة من تقبل روايته، ومن تُرد، فيقولون: إن هذا الشرط إنما هو في الأداء، بمعنى أنه يصح أن يتحمل وهو صغير، ويصح أن يتحمل وهو كافر، ثم بعد ذلك يُشترط حين يؤدي أن يكون بالغا مسلما.
فهذا معنى كلامه في الأول: "يصح تحمل الصغار الشهادة والأخبار، وكذلك الكفار".
وهذا مأخوذ من عمل الصحابة -رضوان الله عليهم-، فإن منهم من تحمل وهو صغير، كابن عباس والنعمان بن بشير وسهل بن سعد، تحملوا أشياء وهم صغار، ثم أدوها بعد بلوغهم رضي الله عنهم.
وكذلك -أيضا- منهم من سمع وهو كافر، كالحديث المشهور، يضربون مثالا لذلك بحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه ? سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور ? فإنه سمعه وهو أسير بعد أو بُعَيد معركة بدر.
ثم تكلم ابن كثير على قضية ثانية؛ وهي قضية السن الذي يصح فيه تحمل الصغير، فذكر أن عادة الناس أنهم جعلوا السن ذلك، يعني إلى حد خمس سنين، فما قبل الخمس سنين يُكتب للطالب أنه حضر، حضر يعني فقط، ولا يقولون: سمع، وبعد خمس سنين يكتبون أنه سمع، وهذا -كما يقول ابن كثير- استنادا إلى أن محمود بن الربيع رضي الله عنه روى: ? أنه عقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وهو ابن خمس سنين ? يمازحه صلى الله عليه وسلم بذلك، فعقلها هذا الصبي وهو ابن خمس سنين، فجعلوه حدا في ذلك.
ثم ذكر أن بعضهم..، وفي رواية: ? ابن أربع سنين ?.
ويقول: إن بعض الحفاظ ضبطه بسن التمييز، ومنهم من ضبطه باختبار نفس الطالب، إن فرق بين الدابة والحمار، وهذا هو الأولى، أو الذي يرجحه الأكثرون، أن كل طالب يختلف عن غيره، أو كل حاضر للسماع للرواية يختلف عن غيره، فرب شخص ميز وهو صغير، ورب شخص آخر ميز بعده بسنة، أو سنتين، فالعبرة بتمييز السامع نفسه.
وهذا -يعني كما سيأتي معنا- أنه وقع تسامح في شروط الرواية، ومنها السن هذه، فربما أحضروا للسماع..، أو ربما أسمعوا الصغار، كما سيأتي معنا -إن شاء الله تعالى.
نلاحظ قوله: "وقال بعض الناس: لا ينبغي السماع إلا بعد العشرين سنة. وقال بعض: عشر. وقال آخرون: ثلاثون".
هذه الأقوال..، يعني الذي قال: لا ينبغي السماع إلا بعد الثلاثين، ليست القصة قصة ضبط هنا، وإنما هنا خلط.. يعني فيه نوع خلط بين صحة السماع وبين ما الذي ينبغي الابتداء به بالنسبة لطالب العلم، فبعض العلماء يقول: ينبغي للطالب أن يشتغل بالقرآن وبحفظه، وبضبطه والتفقه فيه، قبل أن يبدأ بسماع الحديث، فهذا بالنسبة للعشرين سنة، وبالنسبة للثلاثين.
بعض البلاد الإسلامية لا يسمعون، أو بعض العلماء..، بعض الأمصار لا يسمعون إلا بعد هذا السن. لماذا؟ ليست راجع.. يعني غير معقول أن يقال لمن هو مثلا فوق العشرين، أو دون الثلاثين: إن هذا لا يضبط، بل هذا هو سن الضبط، وإنما القصد هنا في هذه السن أنهم يوصون بالاشتغال أولا بالقرآن وبالتفقه فيه، وهذا هو الذي يوصَى به الآن أيضا، يوصى به طالب العلم إما أن يبدأ بالقرآن، وبالتفقه فيه، وبحفظه وبضبطه، وإما ألا يخلي نفسه من ذلك حال طلبه للحديث وحفظه، وأيضا كذلك تعلم مصطلحه.
ذكر ابن كثير الحكاية هذه أنه بلغه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، وبعضهم يشكك فيها، أن الصبي هذا وهو ابن أربع سنين يناظر..، ويقولون: يبعد هذا، ويقول بعضهم: لعلهم رأوا صغر جسمه فظنوه صغيرا، وهو كبير.
الآن سيدخل ابن كثير رحمه الله في أنواع التحمل، وكيف يؤدي من تحمل بهذه الطرق؟ أو طرق التحمل، يسمونها طرق التحمل وصيغ الأداء لمن تحمل بها. نعم.
أنواع تحمل الحديث
القسم الأول السماع
وأنواع تحمل الحديث ثمانية:
القسم الأول: السماع.
وتارة يكون لفظ المسمع حفظا أو من كتاب، قال القاضي عياض: فلا خلاف حينئذ أن يقول السامع: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، وقال لنا، وذكر لنا فلان.
قال الخطيب: أفضل العبارات سمعت، ثم حدثنا وحدثني، قال: وقد كان جماعة من أهل العلم لا يكادون يخبرون عما سمعوه من الشيخ إلا بقولهم: أخبرنا، ومنهم حماد بن سلمة، وابن المبارك، وهشيم بن بشير، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، ويحيى بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، وآخرون كثيرون.
قال ابن الصلاح: وينبغي أن يكون حدثنا وأخبرنا أعلى من سمعت؛ لأنه قد لا يقصده بالإسماع بخلاف ذلك، والله أعلم.
حاشية: قلت: بل الذي ينبغي أن يكون أعلى العبارات على هذا، أن يقول: حدثني؛ فإنه إذا قال: حدثنا أو أخبرنا، قد لا يكون قصْده الشيخ بذلك أيضا، لاحتمال أن يكون في جمع كثير. والله أعلم.
هذا هو القسم الأول الذي هو السماع، وهو أن يسمع من لفظ الشيخ، أن يسمع التلميذ أو الراوي من لفظ شيخه الحديث، فالذي يقرأ الآن أو يحدث هو الشيخ.
وهذا.. تكاد تكون كلمة اتفاق - يعني الخلاف فيه ضعيف- على أن هذه الطريقة هي أعلى طرق التحمل، أن على طرق التحمل أن يسمع من لفظ الشيخ.
ذكر ابن كثير في بداية كلامه أنها على قسمين:
تارة يكون من لفظ المُسْمِع حفظا، يعني: الشيخ يحدث من حفظه، وتارة من كتاب. والتحديث من كتاب عندهم أعلى من التحديث من الحفظ؛ ولهذا كان بعض الأئمة قد التزم ألا يحدث إلا من كتاب.
الإمام أحمد رحمه الله ينقلون عنه أو يذكرون عنه أنه لا يحدث إلا من كتاب، خشية ماذا لا يحدث إلا من كتاب؟ خشية الخطأ؛ لأنهم يقولون: الحفظ خوّان.
كان الإمام أحمد يذاكر أحيانا حفظا، فإذا أراد صاحبه أن يسمع منه حديثا، ذهب وأخرج الكتاب وحدثه به من كتابه.
وكان علي بن المديني رحمه الله يقول: أوصاني أبو عبد الله ألا أحدث المسند إلا من كتاب.
وكان بعض الأئمة -أيضا- يشترطون على الشيخ إذا جاءوا إليه أن يحدثهم من كتابه؛ لأنهم يخشون عليه الغلط، إذا شكوا.. يعني إذا كان في حفظه شيء خافوا من غلطه، وكان مثلا، مثل أحمد وابن معين كانوا يقولون: لم نسمع من عبد الرزاق إلا من كتابه، وقد ترجى عبدُ الرزاق يحيى بن معين أن يسمع منه ولو حديثا واحدا من حفظه، فأبي عليه وقال: لا أسمع منك إلا من كتاب.
إذن هذا يرشد إلى أن الأعلى بالنسبة للمسماع أن يكون يحدث من كتاب.
وهؤلاء العلماء يحسن الجمع..، نحن نجمع مثل هذه الأشياء، نحتاج إليها عند الموازنة بين الرواة -رحمهم الله تعالى-، أحيانا نحتاج إليها، قد تمر بالباحث ولو في مثلا حديث أو حديثين أثناء عمله، عند الموازنة، فيُعرف من يحدث من كتاب، من التزام بذلك، ومن يحدث من حفظه.
وقد ضبط العلماء هذا وميزوا، يقولون: فلان إذا حدث من حفظه أخطأ، وإذا حدث من كتابه أصاب، ويقولون: كتابه أصح، وهذا كثير جدا، هذا كثر، أن يكون الشيخ أضبط منه في كتابه منه من حفظه.
المهم أن قضية التفريق بين الحفظ والكتاب والموازنة، وأثره في الرواية باب واوسع، ولعل شخصا يتصدى لتناول هذه المسألة..هي مبثوثة -موجودة -بحمد الله تعالى- في كتب أهل العلم، وفي كتب الجرح والتعديل، ولكن إبرازها بإبراز جهود المحدثين.. أيضا كذلك للحاجة إليها عند التطبيق أحيانا.
وهناك تقسيمات للتحديث لهذا النوع من السماع، هناك التحديث عن طريق الإملاء؛ بأن يكون الشيخ قد جلس وتصدى للإملاء، يملي عليهم كلمة كلمة، إما بنفسه أو بواسطة مملي -كما سيأتي- فهذا هو أعلى درجات السماع، يكون الجميع قد تهيأ لمجلس التحديث، ويملي عليهم كلمة كلمة، من يكتب يمكنه الكتابة، ومن يحفظ يمكنه الحفظ.
وهناك الدرجة الثانية: وهي التحديث بدون إملاء، وهو أن الشيخ يحدث والتلميذ يسمع، أو الطلبة يسمعون، هذا بالنسبة لطريقة التحمل. كيف يؤدي بها؟ اتفقوا على أنه يؤدي بها بأي صيغة: حدثنا، سمعت، أخبرنا، هذا لا إشكال فيه، إلا أن بعض المحدثين اختاروا لأنفسهم أن يقول: أخبرنا، وهذا أمر مهم سنعرفه فيما بعد،، يعني سبب النص على هؤلاء، مثل يزيد بن هارون محمد بن سلمة وابن المبارك وهشيم، أكثر ما تجد في أسانيد هشيم أن يقول: أخبرنا فلان، إذا صرح بالتحديث ما يقول: حدثنا، اصطلاح له، وإلا من ناحية الجواز متفقون على أنه لا بأس من أن يقول: حدثنا، وسمعت.
وذكر ابن الصلاح أن الخطيب البغدادي يقول: أرفع صيغ الأداء في هذه الطريقة أن يقول: سمعت، ويليها: حدثنا وحدثني.
وابن الصلاح عكس ذلك، قال: يكون حدثنا وأخبرنا أعلى من سمعت؛ لأنه قد لا يقصده بالإسماع، لكن يظهر -والله أعلم- أن كلام الخطيب أظهر، أن الأعلى هو قوله: سمعت؛ لأنهم يقولون: إنه أبعد عن التدليس؛ لأن بعض المحدثين استجاز أن يقول: حدثنا، وهو لم يسمع، أو أخبرنا وهم لم يسمع، تجوزا، كان الحسن البصري رحمه الله يقول: حدثنا، وخطبنا، وهو يقصد أنه حدث أهل البصرة، وهم لم يحضر؛ ولذلك ذكر الخطيب أن أرفعها سمعت، مع اتفاقهم على الرواية بأي لفظ كان.
وفرع ابن كثير على قول ابن الصلاح، إذن أن يقول: حدثني؛ لأنه إذا قال: حدثنا فقد حدثه في مجموعة، وهذا كله زيادة تفصيل. نعم.
القسم الثاني القراءة على الشيخ
القراءة حفظا أو من كتاب
القسم الثاني: القراءة على الشيخ حفظا أو من كتاب، وهو العرض عند الجمهور، والرواية بها صحيحة عند العلماء إلا عند شهذاذ لا يُعتد بخلافهم، ومستند العلماء حديث ضمام بن ثعلبة، وهو في الصحيح، وهي دون السماع من لفظ الشيخ.
وعن مالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب أنها أقوى، وقيل: أنهما سواء، ويعزى ذلك إلى أهل الحجاز والكوفة، وإلى مالك أيضا وأشياخه من أهل المدينة، وإلى اختيار البخاري، والصحيح الأول، وعليه علماء المشرق.
فإذا حدث بها يقول: قرأت أو قُرئ على فلان وأنا أسمع، فأقر به، أو أخبرنا أو حدثنا قراءة عليه، وهذا واضح.
فإن أطلق ذلك جاز عند مالك والبخاري ويحيى بن سعيد القطان والزهري وسفيان بن عيينة ومعظم الحجازيين والكوفيين، حتى إن منهم سوغ سمعت أيضا، ومنع من ذلك أحمد والنسائي وابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي.
الثالث: أن يجوز أخبرنا ولا يجوز حدثنا، وبه قال الشافعي ومسلم والنسائي أيضا وجمهور المشارقة، ونُقل ذلك عن أكثر المحدثين، وقد قيل: إن أول من فرق بينهما ابن وهب.
قال الشيخ أبو عمرو -وقد سبقه إلى ذلك ابن جريح والأوزاعي- قال: وهو الشائع الغالب على أهل الحديث.
نعم هذا القسم الثاني من أقسام التحمل أو من طرق التحمل، الذي هو القراءة على الشيخ، يعني الشيخ الآن لا يقرأ، إنما هو يستمع، والذي يقرأ من هو التمليذ؟ التلميذ، أحد التلاميذ قد يكون نفسه الراوي، وقد يكون شخصا آخر، أحد الطلبة يقرأ والشيخ يستمع ساكتا مقرا بما يقرؤه الطالب.
فهذا يسمونه القراءة على الشيخ، ويسمونه العرض -يسمونه عرض القراءة- هذه الطريقة التي هي أن يكون الطالب هو الذي يقرأ والشيخ يستمع: هو العرض، ذكر ابن كثير رحمه الله تعريفها، ثم ذكر حكم الرواية بها.
جمهور العلماء على جوازها، ما في أشكال، لم يخالف في ذلك إلا نفر يسير: محمد بن سلّام، وعبد الرحمن بن سلّام الحجمي، يقول عبد الرحمن ومحمد بن سلّام: إنه قدم على مالك فرأى الناس.. مالك لا يقرأ أبدا إلا في النادر جدا تحت إلحاح، في بعض القصص حول إباء مالك أن يقرأ هو؛ لأنه رحمه الله قُصد من الآفاق، وكثُر عليه الطلبة، ويصعب عليه أن يقرأ دائما "الموطأ" -مثلا- يقرؤه دائما ويكرره، فالطلبة هم الذين يقرءون، وقد يكون هناك شخص متخصص للقراءة.
فمحمد بن سلام هذا رأي مالكا يُقْرَأ، فما سمع من مالك؛ لأنه كان لا يجيز إلا رأي مالك. فعبد الرحمن بن سلام الجمحي هذا طلب من مالك أن يقرأ عليه مالك فأمر مالكٌ بإخراجه.
هؤلاء شددوا ومنعوا من الرواية، لكن جمهور العلماء على الجواز، ويستدولون على ذلك بقصة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه معروفة هذه- ضمام ? جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني سائلك ومشدد عليك في المسألة، فصار يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول له: آلله أمرك بهذا؟ يعني بكذ وكذا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم نعم ?.
وبوّب البخاري في كتاب العلم على هذا الحديث باب: القراءة على العالم.
ثم ذكر ابن كثير رحمه الله الأقول في المقارنة بين السماع.. وكان مالك رحمه الله يقول: عجبا لمن يستجيز عرض القرآن ولا يستجيز عرض السنة! ؛ لأن القرآن معروف أن الذي يقرأ من هو؟ الذي يقرأ هو الطالب، والشيخ يرد عليه إذا أخطأ.
فهو يقول: يستجيزون عرض القرآن ولا يستجيزون عرض السنة! الأقوال التي ذكرها ابن كثير، منهم من يقول: إن السماع أعلى منها، وهذا هو قول الجمهور.
ومنهم من يقول: هي أعلى من السماع؛ وعللوا ذلك بأنهم قالوا: إن الطالب إذا كان يقرأ يمكن للشيخ أن يرد عليه، ولكن إذا كان الشيخ هو الذي يقرأ قد يغلط ولا يستطيع التمليذ أن يرد عليه -يعني لا يتمكن من ذلك- ولكن هذا نادر، والسماع من لفظ بلا إشكال هو قول الجمهور أنه أقوى، ومنهم من سوى بينهما، مالك وغيره يرون أنهما سواء.
هذا بالنسبة للعرض هذا والقراءة على الشيخ، ماذا يقول إذا سمع عرضا؟ أو إذا تحمل بطريق العرض؟ هذه صيغ الأداء: هناك ثلاث أقوال:
بعض العلماء رحمهم الله ورعا وتحرزا يقولون: ينبغي أن ينص على ذلك، فيقول: أخبرنا قراءة عليه، أو حدثنا قراءة عليه أو قُرئ على فلان وأنا أسمعه، فهذا كان يوصي به.. يعني نجده في سنن النسائي، يفعله الإمام النسائي يوجب هذا: أخبرنا فلان قراءة عليه، هذا..بعض العلماء أوصوا بذلك أو يفعلون ذلك -رحمهم الله تعالى- تميزا له عن أي شيء؟ تميزا له عن السماع من لفظ الشيخ. هذا قول.
القول الثاني: أنه يطلق أي عبارة أراد، يقول: حدثنا، يقول: أخبرنا بدون أن يبين بعضهم يقول: سمعت مع أنه هو الذي قرأ، وإطلاق، حدثنا، وأخبرنا، وأنبانا هذا هو الذي عليه بعض العلماء -علماء الشرق- يقولون.. البخاري ويحيى بن سعيد القطان والزهري، بعض علماء الحجاز وعلماء العراق.
هناك مذهب ثالث هو الذي قرأه القارئ، الذي هو قد يظن أنه القسم الثالث، وإنما هو المذهب الثالث داخل هذا القسم، اصطلاح جرى عليه العلماء.
بعض العلماء يقولون: إن أول من ابتدأ به ابن وهب رحمه الله وهو أنه خص السماع من لفظ الشيخ بصيغة: حدثنا وخص القراءة على الشيخ بصيغة: أخبرنا، وعليه الإمام مسلم، ويقولون: جمهور المشارقة، واستقر العمل عليه فيما بعد، حتى صار عرفا عند المحدثين، فيما بعد أي بعد: يعني عصر الرواية في القرن الرابع وما بعده استقر العمل عليه، وهو أنك إذا..
ولهذا مسلم رحمه الله يحرص في صحيحه، يقول: حدثنا فلان وفلان وفلان، قال فلان: حدثنا، وقال فلان وفلان: أخبرنا، فكأنه رحمه الله يميز..، هؤلاء يميزون بين الطريقة الأولى للتحمل وبين الطريقة الثانية؛ بأن خصوا الطريقة الأولى بصيغة: حدثنا، وخصوا الطريقة الثانية بصيغة: أخبرنا، واستقر عليه العمل فيما بعد.
يقول ابن الصلاح رحمه الله: إنه اصطلاح، وإن ربطه باللغة فيه تكلف، لكنه اصطلاح للمحدثين فيما بعد استقر العمل عليه.
إذا قرأ على الشيخ من نسخة وهو يحفظ ذلك
فرع: إذا قرأ على الشيخ من نسخة وهو يحفظ ذلك فجيد قوي، وإن لم يحفظ النسخة بيد من موثوق به، فكذلك على الصحيح المختار الراجح، ومنع من ذلك مانع وهو عسير، فإن لم تكن نسخة إلا التي بيد القارئ وهو موثوق به فصحيح أيضا.
فرع: ولا يشترط أن يقرأ الشيخ بما قرأ عليه نطقا، بل يكفي سكوته وإقراره عليه عند الجمهور، وقال آخرون من الظاهرية وغيرهم: لا بد من استنطاقه بذلك، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيراذي وابن الصباغ وسليم الرازي.
قال ابن الصباغ: إن لم يتلفظ لم تجز الرواية، ويجوز العمل بما سُمع عليه.
فرع: قال ابن وهب والحاكم: يقول فيما قُرئ على الشيخ وهو وحده: حدثني، فإن كان معه غيره: حدثنا، وفيما قرأه على الشيخ وحده: أخبرني فإن قرأه غيره: أخبرنا.
قال ابن الصلاح: وهذا حسن فائق، فإن شك أتى بالمتحقق، وهو الوحدة: حدثني أو أخبرني، عند ابن الصلاح والبيهقي. وعن يحيى بن سعيد القطان يأتي بالأدنى وهو حدثنا أو أخبرنا، قال الخطيب البغدادي: وهذا الذي قاله ابن وهب مسحب لا مستحق عند أهل العلم كافة.
فرع: اختلفوا في صحة سماع من ينسخ سماعه، فمنع من ذلك إبراهيم الحربي وابن عدي وأبو إسحاق الإسفراييني، وكان أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي يقول: حضرت، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، وجوزه موسى بن هارون الحافظ، وكان ابن المبارك ينسخ وهو يُقرأ عليه.
وقال أبو حاتم: كتبت حديث عارم وعمرو بن مرزوق، فحضر الدارقطني وهو شاب، فجلس إسماعيل الصفار وهو يملي، والدارقطني ينسخ جزءا، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ، قال: فهمي للإملاء بخلاف فهمك، فقال له: كم أملى الشيخ حديثا إلى الآن؟ فقال الدارقطني: ثمانية عشر حديثا، ثم سردها كلها عن ظهر قلب بأسانيدها ومتونها، فتعجب الناس فيه. والله أعلم.
وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي -تغمده الله برحمته- يكتب في مجلس السماع وينعس في بعض الأحيان، ويرد على القارئ ردا جيدا بينا واضحا؛ بحيث يتعجب القارئ من نفسه! أإنه يغلط فيما في يده وهو مستيقظ، والشيخ ناعس وهو أنبه منه! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
هذه فروع على القسم الثاني وهو القراءة على الشيخ. ذكر ابن كثير رحمه الله مسألة: هل يشترط أن يكون الشيخ إذا قُرئ عليه يحفظ، أو يكفي أن يُقرأ عليه من نسخته؟ يقول: إن كان يحفظ فهذا أقوى، وهذا الذي ذكره لا إشكال فيه، وإن لم يحفظ والنسخة بيد موثوق به، فكذلك على الصحيح المختار.
يعني أن بعضهم شدد، فطالب أن يكون الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه، ولا يكفي أن يكون يُقرأ عليه فقط من كتابه، ولا أن تكون النسخة بيد موثوق به، وهذا من التشديد، يقولون: فإذا كان الشيخ له كتاب، وقد حفظ هذا الكتاب، وحفظه عن التغيير والتزوير، ثم كان بيد موثوق به، إذا كان بيد موثوق به، شخص آخر غير القارئ، أو كانت بيد القارئ أيضا، فهذا.. يقول ابن كثير رحمه الله: إن الصحيح جواز الرواية بهذه الطريقة.
كذلك أيضا بعضهم يقول: يشترط أن يُقرّ الشيخ، إذا فرغ من القراءة يقول: نعم؛ لأنهم يقولون: أخبرك فلان، هم يقولون: الطالب إذا أراد أن يقرأ ما يقول: حدثنا فلان، إنما يقول -كأنه يسأل الشيخ- يقول له: أخبرك فلان أن فلان حدثك؟ قال: حدثنا إلى آخره
…
فبعضهم يشترط أن يقول الشيخ: نعم، والصحيح أنه ما دام ساكتا لا ينكر ذلك، فهذا بمثابة أن يقول: نعم.
هذه أمور
…
بعد ذلك نَقل عن ابن وهب والحاكم زيادة تفصيل في صيغ الأداء، لكن الذي عندنا الآن في النسخ، قال ابن وهب والحاكم: يقول فيما قُرئ على الشيخ وهو وحده: حدثني، هكذا عندكم؛ كأنها -والله أعلم- يقول فيما قرأه الشيخ وهو حده: حدثني، فإن كان معه غيره -هذا راجع إلى القسم الأول- فإن كان معه غيره يقول: حدثنا، وفيما قرأه على الشيخ وحده: أخبرني، فإن قرأه غيره: أخبرنا. وهذا زيادة تفصيل كما ذكرت، والعمل على خلاف هذا، فإنهم يقولون: حدثنا أو يقول: حدثني إلا بعض الأئمة رحمهم الله يدققون في هذه القضية، لكن أكثر ما يستخدمون: حدثنا في الجميع.
نلاحظ مسلم رحمه الله تارة يقول: حدثني، وتارة يقول: حدثنا، فلعل هذا من الباب، وإن لم يكن هذا عند
…
يعني اصطلاح لبعض العلماء؛ ولذلك قال الخطيب: هذا الذي قاله ابن وهب مستحب لا مستحق عند أهل العلم، يعني ليس بواجب، ليس بواجب أن يفرق هذا التفريق، وإنما هو أمر مستحب.
تكلم بعد ذلك ابن كثير على مسألة الغفلة أحيانا أو الاشتغال أثناء السماع إما من الشيخ وهو يُقرأ عليه، ربما الشيخ ينظر في كتاب، أو ربما أيضا يشتغل بأمر آخر، أما أن يتحدث مع غيره والطالب يقرأ، وربما ينعس لأنه مع تزاحم الطلاب، وطول الوقت، ربما ينعس الشيخ والطالب يقرأ، أو يحدث ذلك من الطالب نفسه، بأن يكون الشيخ يُقرأ عليه والطلاب يستمعون، فبعضهم إما أن يشتغل، يبري قلما أو ينظر في شيء، فهذا يقولون: يُتسامح فيه والعبرة فيه بالضبط.
ذكر ابن كثير الآن بعض الأمثلة، أن الدارقطني.. أبو حاتم، من الذي يذكر القصة هذه؟ إذا قيل: أبو حاتم من هو؟ أبو حاتم الرازي، لكن هذا الدراقطني لم يدرك أبا حاتم الرازي، فهذا أبو حاتم الذي هو ابن حبان السجستاني هذا، وهو من شيوخ الدارقطني؛ ولهذا يقول: حضر الدارقطني وهو شاب، وإسماعيل الصفار يملي والدارقطني ينسخ جزءا، يعني منشغل، لكنه منتبه للإملاء، وقد حفظ ما قرأه القارئ، حفظ إملاء إسماعيل الصفار.
وذكر ابن كثير عن شيخه المزّي، أنه يُردّ على القارئ وينعس، إذا غلط القارئ رد عليه، فإذن العبرة بالضبط، سامحوا فيه، ولا سيما في العصور المتأخرة كثر التسامح، فهذا أمر هين عند بعض الأمور التي ستأتي.
وكذلك أيضا التحدث في مجلس السماع، أو القارئ سريع القراءة، أحيانا يحتاجون إلى سرعة قراءة؛ لأن الشيخ ربما
…
ولاسيما إذا كان الشيخ يمر ببعض البلدان، مثلا في الحج، يريدون قراءة عليه كتب، ليس مثلا أحاديث يسيرة من حديثه، قد يكون يروي مثلا صحيح البخاري، يروي صحيح مسلم، فيختارون قارئا حاذقا يسمونه سريع القراءة؛ من أجل أن ينهوا قراءة هذا الكتاب.
فهذا يتسامح فيه أيضا؛ ولاسما -كما ذكرت- في العصور المتأخرة حين صار القصد بقاء سلسلة الإسناد؛ ولهذا قال ابن كثير: هذا هو الواقع في زماننا.
التحدث في مجلس السماع
قال ابن الصلاح: وكذلك التحدث في مجلس السماع، وما إذا كان القارئ سريع القراءة أوكان السامع بعيدا من القارئ، ثم اختار أنه يغتفر اليسير من ذلك، وأنه إذا كان يفهم ما يقرأ من النسخ فالسماع صحيح، وينبغي أن يجبر ذلك بالإجازة بعد ذلك كله، هذا هو الواقع في زماننا اليوم، أن يحضر مجلس السماع من يفهم ومن لا يفهم.
والبعيد من القارئ والناعس والمتحدث والصبيان الذين لا ينضبط أمرهم بل يلعبون غالبا، ولا يشتغلون بمجرد السماع، وكل هؤلاء قد كان يكتب لهم السماع بحضرة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزّي رحمه الله.
وبلغني عن القاضي تقي الدين سليمان المقدسي أنه زُجِر في مجلسه الصبيان عن اللعب، فقال: لا تزجرهم، فإنا سمعنا مثلهم.
وقد روي عن الإمام العلم عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله أنه قال: يكفيك من الحديث شمه، وكذا قال غير واحد من الحفاظ.
وقد كانت المجالس تُعقد ببغداد وبغيرها من البلاد، فيستمع الفِئام من الناس، بل الألوف المؤلفة، ويصعد المستملي على أماكن مرتفعة، ويبلغون عن المشايخ ما يملون، فيحدث الناس عنهم بذلك، مع ما يقع في مثل هذه المجامع من اللغط والكلام.
وحكى الأعمش: أنهم كانوا في حلقة إبراهيم إذا لم يسمع أحدهم الكلمة جيدا استفهمها من جاره، وقد قوع هذا في بعض الأحاديث عن عقبة بن عامر وجابر بن سمرة وغيرهما.
وهذا هو الأصلح للناس، وإن قد تورع آخرون وشددوا في ذلك، وهو القياس. والله أعلم.
نعم، هذا مثال على ما ذكرت قبل قليل، التسمع في طرق التحمل في العصور المتأخرة، ابن كثير رحمه الله يحكي في وقت زمانه، أن الصبيان يلعبون ولا يستمعون للقراءة، ومع ذلك يثبت أبو الحجاج المزّي فقد كان رحمه الله في وقته هو المرجع في مثل هذه الأمور، فابن كثير الآن يستند على عمله في أن
…
يعنى المقصود هو بقاء سلسلة الإسناد.
ثم ارتفع ابن كثير قليلا ونقل عن ابن مهدي عدم التشديد في مثل هذه الأمور ما دامت الأمور مضبوطة، وما دام.. يعني ينبغي التسامح، وإن شدد بعض أهل العلم في مثل الكلمة، مثلا الشيخ يملي عليهم وهناك كلمة لم يسمعها من هو في طرف المسجد، وغير المعقول أن كل من لم يسمع كلمة يطلب من الشيخ أن يعيدها.
فالسبيل ما هو؟ هو ما يسمونه الاستفهام، ويسمونه التثبيت، وكان بعض العلماء يتورع، فما لم يسمعه من الحديث يقول: ثبتني فيه فلان، وهذا يفعله البخاري، ومعنى ثبتني فيه فلان: أن أكون قد سمعته ولكن لم أسمعه جيدا، أو يقول: أفهمنى فلان، إذا قال: أفهمنى فلان، فهو قد استفهم منه عن كلمة معنية لم يسمعها فأفهمه إياها، هذا تورع منهم -رحمهم الله تعالى- وإلا فإنه يجوز.. لأنه يجوز الرواية من لفظ المملي، -كما نعرف-، في بعض المجالس ذكرت لكم أن مجلس عاصم بن علي فيه مائة ألف أو فيه أربعون ألفا.
والبخاري رحمه الله لما حضر بغداد يعني اجتمع عليه خلق كثير، فكانوا يملون
…
أحيانا يبلغ.. ما عندهم مكبرات.. لكن يختارون المكبرات الطبيعية، وهم أناس يقال لهم المملون أو المستملي، يقولون: فلان مستملي، مثلا محمد بن أبان يقولون: هذا مستملي وكيع، كل إمام له مستملي، ويختارونه أن يكون جهير الصوت؛ ولهذا يتسامحون في بعض أخلاق المملي، كما لو قرأت مثلا كتاب "أدب الإملاء والاستملاء" للصنعاني، يتسامحون في بعض أخلاقه، قد يكون فيه عسر، قد يكون فيه الطرافة، يتسامحون في بعض أخلاقه إذا كان جهير الصوت.
وربما احتاجوا إلى عدد من الممْلين، كل واحد يبلغ، وهذا يقولون:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) والأمر إذا ضاق اتسع، فمثل هذا يقولون: لا يضر ما دام الضبط والإتقان موجود.
(1) - سورة البقرة آية: 286.
هذا كلام.. واحتج ابن كثير رحمه الله بأن الصحابة وقع منهم هذا، بأن بعضهم قد يشغله شغل أو يذهب أو لا يسمع كلمة فيستفهم..، أو يستفهما ممن هو بجانبه، وقع في حديث عقبة بن عامر، في قصة الإبل، ووقع في حديث جابر بن سمرة أيضا. نعم..
السماع من وراء حجاب
ويجوز السماع من وراء حجاب كما كان السلف يرون عن أمهات المؤمنين، واحتج بعضهم بحديث حتى ينادي ابن مكتوم، وقال بعضهم عن شعبة: إذا حدثك من لا ترى شخصه فلا تروي عنه، فلعله شيطان قد تصور في صورته، يقول: حدثنا أخبرنا.
وهذا عجيب وغريب جدا، إذا حدثه بحديث ثم قال: لا تروه عني، أو رجعت عن إسماعك ونحو ذلك، ولم يُبدِ مستندا سوى المنع اليابس، أو أسمع قوما فخص بعضهم وقال: لا أجيز لفلان أن يروي عني شيئا؛ فإنه لا يمنع من صحة الرواية عنه، ولا التفات إلى قوله.
وقد حدث النسائي عن الحارث بن مسكين والحالة هذه، وأفتى الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني بذلك.
نعم، ذكر ابن كثير قضيتين: قضية السماع من وراء حجاب، هذا بالاتفاق أنه جائز، واستندوا في ذلك على صنيع أمهات المؤمنين، فقد كان يحكى أن لعائشة رضي الله عنها مجلس ذكره ابن سعيد في الطبقات، أو رواه ابن سعد في الطبقات، أن كان له مجلس، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسألونها ويسمعون منها من وراء حجاب.
وهذا أمر لا بأس به، نَقل عن شعبة أنه شدد في ذلك، ومعروف عن شعبة التشديد في بعض الأمور، أنه يقول: لا تسمع من شخص إلا من ترى صورته، ولكن قد يكون هناك ضرورة، مثل السماع من النساء، السماع من النساء أحيانا لا يتهئ إلا من وراء حجاب.
فابن كثير يقول: إن هذا غريب من شعبة، وليس هو بغريب بالنسبة لشعبة؛ لأنه تشدد في أمور كثيرة، ما استطاع الناس أن يلتزموا بها.
وذكر ابن كثير بعد ذلك: إذا الشيخ منع التلميذ من الرواية، حدثه بشيء لكن قال له: لا تروه عني، يقول: هذا لا يلتفت له مادام سمع التلميذ، ولاسيما إذا كان.. "ولم يبد مستندا سوى المنع اليابس" ما هو المنع اليابس؟ يسمونه المنع اليابس، يعني هو في الجملة يعني المبالغة أو العسر في الرواية، وربما أطلقوا على الورع -بعض الورع- أنه ورع يابس، ما معنى ورع يابس حينئذ؟ أنه ليس من الورع المحمود، يعني بعض الورع أحيانا يخرج إلى حد الورع غير المحمود، يعني لا يستطيعه الناس، هذا معنى الورع اليابس.
هذا المنع اليابس الذي يكون تشددا من الشيخ، ويقول: لا يلتفت له، وضرب مثالا على ذلك، بأن النسائي سمع من الحارث بن مسكين خفية، الحارث بن مسكين في قصة له وقعت مع النسائي، كان النسائي مختفيا، ما عرف به الحارث بن مسكين، ولو عرف به.. أو لو كشف أمره ما حدثه، ولكنه في خفية سمع منه، وكان يحدث بهذا السماع، مع أن الحارث بن مسكين لا يرضى أن يروي عنه، لكن هذا يلتفت إليه.
لماذا لا يلتفت لرضاه أو عدم رضاه؟ لأن هذا العلم ليس ملكا له، فما دام قد سمع منه فللتمليذ أن يروي عنه لو لم يرض، ولا إشكال في ذلك؛ لأن هذا ليس ملكا له، العلم ليس ملكا لأحد؛ ولهذا حتى في البحوث والاجتهاد، لماذا يقال للطالب: لا تشدد مثلا مع من خالفك، وتتكلم فيه، وتسبه؟
وربما نحن نشاهد الآن مع الأسف الشديد في بعض المناقشات العلمية تخرج إلى حد المهاترات الشخصية، وهذا يعني قلة فقه؛ لأن العلم ليس ملكا لك.
أنت تتحدث عن أمر للعامة، للناس كلهم، ليس ملكا لأحد هذه القضية، حكم كذا، أو جواز كذا، أو الحديث الفلاني يصح أو لا يصح، هذه أمور علمية، نعم إذا جاء يمس حقك، مالك، فهذا شأن آخر، أما التشاحن والاعتداء في النقاش، والسباب والشتام، يصل إلى أمور في الحقيقة تؤسف بين طلبة العلم، وكلهم ينتسبون إلى العلم.
ولكن يعني هذا -كما ذكرت- أقل ما يقال فيه: إنه قلة فقه، أن يتحول النقاش في المسائل العلمية إلى المهاترات، وربما إلى الاعتداء، ربما الكذب أيضا وتحميل الأمور ما لا تحتمله والدخول في النيات وغير ذلك. نعم..
القسم الثالث الإجازة
القسم الثالث: الإجازة، والرواية بها جائزة بها عند الجمهور، وادّعى القاضي أبو الوليد الباجي الإجماع على ذلك، ونقضه ابن الصلاح بما رواه الربيع عن الشافعي أنه منع من الرواية بها، وبذلك قطع الماوردي، وغزاه إلى مذهب الشافعي.
وكذلك قطع بالمنع القاضي حسين بن محمد المروزي، صاحب التعليقات، وقالا جميعا: لو جازت الرواية بالإجازة لبطلت الرحلة، وكذا روي عن شعبة بن الحجاج وغيره من أئمة الحديث وحفاظه، وممن أبطلها إبراهيم الحربي، وأبو الشيخ محمد بن عبد الله الأصفهاني، وأبو نصر.. وحُكي ذلك عن جماعة ممن لقيهم.
ثم هي أقسام:
أولا: إجازة من معيَّن لمعيَّن في معيَّن، بأن يقول: أجزتك أن تروي عني هذا الكتاب أو هذه الكتب، وهي المناولة، وهي جائزة عند الجماهير حتى الظاهرية، لكن خالفوا في العمل بها؛ لأنها في معنى المرسل عندهم، إذ لم يتصل السماع.
ثانيا: إجازة لمعيّن في غير معيَّن، مثل أن يقول: أجزت لك أن تروي عني ما أرويه، أو ما صح عندك من مسموعاتي ومصنفاتي، وهذا مما يجوزه الجمهور أيضا رواية وعملا.
الثالث: الإجازة لغير معيَّن مثل أن يقول: أجزت للمسلمين أو للموجودين أو لمن قال: لا إله إلا الله، وتسمى الإجازة العامة، وقد اعتبرها طائفة من الحفاظ والعلماء، وممن جوزها الخطيب البغدادي، ونقلها عن شيخه القاضي أبي الطيب الطبري، ونقلها أبو بكر الحازوني عن شيخه أبي العلاء الحمداني الحافظ، وغيرهم من محدثي المغاربة رحمهم الله.
رابعا: الإجازة للمجهول بالمجهول ففاسده، وليس منها ما يقع من الاستدعاء لجماهير مُسمَّيْن لا يعرفهم المجيز، ولا يتصفح أنسابهم، ولا عدتهم، وإن هذا سائغ شائع.
كما لا يستحضر المُسْمِع أنساب من يحضر مجلسه ولا عدتهم. والله أعلم.
ولو قال: أجزت رواية هذا الكتاب لمن أحب روايته عني، فقد كتبه أبو الفتح محمد بن حسين الأزدي، وسوغه غيره، وقواه ابن الصلاح.
وكذلك لو قال: أجزتك ولولدك ونسلك وعقبك رواية هذا الكتاب وما يجوز لي روايته، فقد جوزها جماعة، منهم أبو بكر بن أبي داود، قال لرجل: أجزت لك ولأولادك ولحبل حبله.
وأما لو قال: أجزت لمن يوجد من بني فلان، فقد حكى الخطيب جوازها عن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، وأبي الفضل بن عمروس المالكي، وحكاه ابن الصباغ عن طائفة، ثم ضعف ذلك وقال: هذا يبنى على أن الإجازة إذن أو محادثة.
وكذلك ضعفها ابن الصلاح، وأورد الإجازة للطفل الصغير الذي لا يُخاطَب مثله، وذكر الخطيب أنه قال للقاضي أبي الطيب: إن بعض أصحابنا قال: لا تصح الإجازة إلا لمن يصح سماعه، فقال: قد يجيز الغائب عنه ولا يصح سماعه منه.
ثم رجح الخطيب صحة الإجازة للصغير، قال: وهو الذي رأينا كافة شيوخنا يفعلونه، يجيزون للأطفال من غير أن يسألوا عن أعمارهم، ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن موجودا في الحال. والله أعلم.
ولو قال: أجزت لك أن تروي ما صح عندك مما سمعته وما سأسمعه، فالأول جيد والثاني فاسد، فقد حاول ابن الصلاح تخريجه على أن الإجازة إذن لكالوكالة، وفيما لو قال: وكلتك في بيع ما سأملكه خلاف.
وأما الإجازة بما يرويه إجازة، فالذي عليه الجمهور الرواية بالإجازة على الإجازة وإن تعددت، وممن نص على ذلك الدارقطني وشيخه أبو العباس بن عقدة، والحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والخطيب، وغير واحد من العلماء.
قال ابن الصلاح: ومنع من ذلك بعض من يعتد به من المتأخرين، والصحيح الذي عليه العمل جوازه، وشبهوا ذلك بتوكيل الوكيل.
هذا هو القسم الثالث من أقسام الرواية وطرق التحمل: هو الإجازة، وخلاصة الكلام في الإجازة ما نطيل فيها، في قضيتين: القضية الأولى: معنى الإجازة، معنى الإجازة هو الإذن بالرواية من دون سماع ولا قراءة، هذه خلاصة معنى الإجازة، أن يقول له: أذنت لك أن تروي عني هذا الكتاب، يعني حسب ما قسمها ابن كثير رحمه الله، هذه قضية.
إذن معنى الإجازة باختصار: هو الإذن بالرواية من غير سماع ولا قراءة، من غير تحديث، لا الشيخ يحدث ولا الطالب يقرأ، وهذه أقسام كما ذكرها ابن كثير رحمه الله، كان بعض المحدثين في وقت الرواية يمنعونها، ونَقل هذا عن شعبة وعن الشافعي.
ونُقل عن بعض العلماء العمل بها، حتى نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه ونقل عن الزهري، ونقل عن ابن جريج وجماعة يعملون بها، لكن نلاحظ أن عملهم ما يُنقَل، ترى من العمل بالإجازة في عصر الرواية إنما هو للقسم الأول، الذي هو إجازة من معيَّن لمعيَّن في معيَّن، بأن يقول له: هذا الجزء أرويه أنا فاروه عني.
ثم بعد ذلك الأقسام الثانية هذه نلاحظ أنها وقعت بعد عصر الرواية، ونلاحظ أن كل واحد منها فيه تسامح أخف من الذي قبله، وما زالوا يتسامحون في عصر الرواية حتى كما نرى صارت إجازات معدومة الفائدة، ولا عذر لهم في ذلك إلا أنهم يريدون بقاء سلسلة الإسناد، وقد بقي منها إلى الآن في وقتنا الحاضر، الرواية بالإجازات موجودة الآن في عصرنا الحاضر، بإمكان طلبة العلم مثلا أن يذهبوا إلى أحد المشايخ ممن له إجازات، فيجيزهم أن يرووا عنه الكتب الستة، أو مسند الإمام أحمد، وهم لم يسمعوا منه، ولم يقرءوا عليه أيضا.
ومنتشر الآن بين طلبة العلم هذا الشيء، وهناك مشايخ في بلادنا وفي العالم الإسلامي كله..، لكن هذه لا فائدة منها مطلقا إلا بقاء سلسلة الإسناد، وكثيرا ما أسأل عن.. بعض الإخوان يقولون: ما رأيك في كذا؟ أقول: لا بأس بهذا، تتبع هذا لا بأس به، ولكن بشرط ألا يشغل عما هو أهم.
فموجودة هذه الإجازات، وكما ذكرت من الثاني فما بعده: هذا تسمع فيه الناس فيما بعد، بسبب أن المقصود هو بقاء سلسلة الإسناد، وأما في عصر الرواية فالموجود منه -الذي اختلف فيه العلماء- هو القسم الأول، وكذلك أيضا تسمحوا في الإجازة، مثل هذا كلام أبو بكر بن أبي داود، هذا ولد أبي داود، صاحب السنن وأجزت لك ولأولادك ولحبل حبله، هذا كأنه قاله من باب الطرفة.
كذلك تكلم ابن كثير على قضية إجازة الأطفال، إجازة الصغار، وهذا إذا كان يجيز للمجهول.. يعني لغير المعين! فمن باب أولى صحة الإجازة للصغار، والعمل عليه! وكذلك الإجازة وراء إجازة.
هذا أيضا استقر العمل عليه، كلٌّ يجيز مَن بعده، كما تسمعون مثلا الآن بعض طلبة العلم أولع في بعض كتبه أن يروي بعض الأحاديث بإسناده في التخريج، وهذا -بحمد الله- لم ينتشر، ونحمد الله أنه لم ينتشر. إثقالٌ للكتب، يسوق الإسناد في صفحة أو صفحتين، والمتن في سطر واحد، لا فائدة منه، يكفي أن تقول: روى البخاري، فهذه الكتب معروفة ومتداولة ومضبوطة وشهرتها أضبط من الرواية بالإجازة، فهذه الآن.. ما ترونه كلها إجازة وراء إجازة وراء إجازة.
واصطلح المتأخرون بالنسبة لصيغ الأداء: حدثنا بالقراءة، يعني الشيخ هو الذي يقرأ. أخبرنا بالقراءة على الشيخ (أنبأنا) هذه كانت عند الأولين ماذا تعني؟ تعني أن الشيخ هو الذي
…
أو القراءة على الشيخ، لكنِ المتأخرون خصوها بالإجازة، مثلا ما تراه عند البيهقي، وفي كتب ابن حجر، وفي كتب ابن الجوزي، (أنبأنا) هذه إجازة، عند المتأخرين اصطلحوا على أن أنبأنا للإجازة.
فإذا كانت إجازة فوق إجازة اصطلحوا على (عن) عن فلان عن فلان، معناه أنها إجازة وراء إجازة، وهذه كلها اصطلاحات لهم -رحمهم الله تعالى- نعم القسم الرابع.
القسم الرابع المناولة
القسم الرابع المناولة: فإن كان معها إجازة مثل أن يناول الشيخ الطالب كتابا من سماعه ويقول: ارْوِ هذا عني، أو يملكه إياه أو يعيره لينسخه ثم يعيده إليه، أو يأتيه الطالب بكتاب من سماعه فيتأمله ثم يقول: ارْوِ عني هذا. ويسمى هذا عرض المناولة.
وقد قال الحاكم: إن هذا السماع عند كثير من المتقدمين، وحكوه عن مالك نفسه، والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري من أهل المدينة، ومجاهد وأبي الزبير وسفيان بن عيينة من المكيين، وعلقمة وإبراهيم والشعبي من أهل الكوفة، وقتادة وأبي عالية وأبي المتوكل الناصي من البصرة، وابن وهب بن القاسم وأشهب من أهل مصر، وغيرهم من أهل الشام والعراق، ونقلوه عن جماعة من مشايخه.
قال ابن الصلاح: وقد خلط في كلامه عرض المناولة بعرض القراءة، ثم قال الحاكم: والذي عليه جمهور فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحرام والحلال -أنهم لم يرووه سماعا.
وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وابن المبارك ويحيى بن يحيى والبويطي والمزني، وعليه عديد من أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب، والله أعلم.
وأما إذا لم يمسكه الشيخ كتاب، ولم يُعِرْهُ إياه فإنه منحط عما قبله، حتى إن منهم من يقول: هذا مما لا فائدة فيه، ويبقى مجرد إجازة.
قلت: أما إذا كان الكتاب مشهورا كالبخاري ومسلم، أو شيء من الكتب المشهورة فهذا كما لو ملكه أو أعاره إياه والله أعلم.
ولو تجددت المناولة عن الإذن في الرواية فالمشهور أنه لا تجوز الرواية بها، وحكى الخطيب عن بعضهم جوازها، قال ابن الصلاح: ومن الناس من جوز الرواية بمجرد إعلام الشيخ للطالب أن هذا سماعه والله أعلم.
ويقول الراوي بالإجازة: "أنبأنا" فإن قال: "إجازةً" فهو أحسن، وتجوز "أنبأنا" و"حدثنا" عند جماعة من المتقدمين.
وقد تقدم النقل عن جماعة أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة بمنزلة السماع، فهؤلاء يقولون:"حدثنا" و"أخبرنا" بلا إشكال، والذي عليه جمهور المحدثين قديما وحديثا أنه لا يجوز إطلاق "حدثنا" ولا "أخبرنا" بل يقيدان، وكان الأوزاعي يخصص الإجازة بقوله:"خبَّرنا" بالتشديد.
نعم هذا القسم الرابع الذي هو المناولة، ومعنى المناولة: أن يناوله كتابا
…
يعطيه كتابا، فإذا قال له: ارْوِهِ عني فهذه المناولة، وهي أحيانا أيضا في نفس الوقت من القسم الثالث الذي هو الإجازة.
وهذا كما تقدم هو القسم الأول من أقسام الإجازة، هذه المناولة المصحوبة بالإجازة بالإذن بالرواية نقل الحاكم عن كثير من المتقدمين العمل بها، ولكن قول ابن الصلاح:"قد خلط في كلامه عرْض المناولة بعرض القراءة" يقصد: أن الحاكم بعض من نسب إليهم هذا القول الذي هو جواز العمل بها إنما جوَّزوا عرض القراءة الذي هو القسم الثاني، فيقول: إن الحاكم لم يحرر هذا النقل
…
هذا الكلام لابن الصلاح رحمه الله.
ونقل الحاكم عن جماعة كثيرين أنهم لم يرووه سماعا، وهو صحيح ليس بسماع
…
لم يرووه سماعا أي: ليس بسماع هذا أن يعطيه كتابا ويقول له: اروه عني
…
منحط عن السماع، لكن العمل على هذا ولاسيما كما ذكرت في العصور المتأخرة.
وتكلم ابن كثير على قضية إذا لم يناوله الكتاب، ولم يُعِرْهُ إياه، هذا هو الذي عليه العمل فيما بعد كما ذكرت في الإجازة.
موضوع الإجازة والمناولة بينهما ترابط فإذا لم يناوله كتابا ولم يعره إياه فهذا إنما هو إجازة فقط، رجع إلى القسم الذي قبله، وهذا هو الذي عليه العمل، ليس هناك مناولة.
إذا جئت إلى شخص تريد أن تروي عنه الآن ما يناولك كتابا إنما يكتب لك ورقة، أو يسجل لك كلامه في مسجل أو ربما أذن لك إذنا بأن يقول: أجزتُ لك أن تروي عني.
هذا هو الموجود وليس هناك مناولة الآن في الإجازة، المناولة متى كانت؟ في العصور المتقدمة، وكلما يتأخر الزمن؛ لأنه لا يمكن أن يناولك مخطوطات بكافة كتب السنة ما يمكن هذا، وإنما هي إجازات.
تكلم ابن كثير بعد ذلك على قوية ماذا يقول، وما ذكرته قبل قليل أنهم اصطلحوا على "أنبأنا" في الإجازة، ويقول: إنْ بيَّن ذلك فيقول: "أنبأنا إجازة" فهو حَسَن، وإلا فإنه لا بأس بالإطلاق.
ونقل عن بعض المحدثين أنهم أجازوا إطلاق "أخبرنا" منهم أبو نُعيم يقول: إنه نوعٌ من التدليس أن يقول: "أخبرنا" أو "حدثنا بالإجازة" نوع من التدليس، ونقل عن الأوزاعي أنه خصها بـ"خبَّرنا" هذه هي المناولة نعم..
القسم الخامس المكاتبة
القسم الخامس المكاتبة: بأن يكتب إليه بشيء من حديثه فإنه أذن له في روايته عنه فهو من المناولة المقرونة بالإجازة، وإن لم تكن معهما إجازة فقد جوّز الرواية بها أيوب ومنصور والليث وغير واحد من فقهاء الشافعية والأصوليين وهو المشهور، وجعلوا ذلك أقوى من الإجازة المجردة، وقطع الماوردي بمنع ذلك -والله أعلم-، وجوز الليث ومنصور عن المكاتبة أن يقول:"أخبرنا" و"حدثنا" مطلقا والأحسن أن يكون تقديره بالمكاتبة.
هذا القسم المكاتبة حقه في الحقيقة أن يُقدم على الإجازة والمناولة لماذا؟ لماذا حقه أن يقدم؟ لأنه أقوى منهما كلها، إذا وَثَقَ المكتُوبُ إليه بخط الشيخ أو بخط الذي كتب، وهذا كما نعرف نحن عُمل به متى؟ الكتابة متى عُمل بها؟ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان رسول الله يكتب إلى الآفاق، ويكتب إلى الناس، وأيضا كذلك الخلفاء والصاحبة كتب بعضهم إلى بعض، والتابعون، وفي صحيح البخاري وفي صحيح مسلم الرواية بالكتابة، وهي طريق مشهور حقه أن يقدم لشهرة العمل بها
…
شهرة الرواية بها.
وهي أقوى بكثير من الإجازة ومن المناولة؛ لأن هذه يدخلها أمور، أما هذه الكتابة فإذا وثق الشيخ أو وثق المكتوب له بخط الشيخ فهذه كافية، أو هذا عليه العمل، وما ينقل من المنع هذا عن بعض الأصوليين المتأخرين هذا لا التفات له؛ لأنه الموجود في عصر الرواية: كتب فلان إلى فلان
…
كتب إلى ابن عباس
…
كتب
…
موجود في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم.
والمحدثون على العمل بها، بل بعضهم جوَّز أن يقول:"حدثنا" و"أخبرنا" في الكتابة، هذا النقل عن الليث بن سعد وعن منصور بن المعتمر أنهما جوزا أن يقول:"حدثنا" و"أخبرنا". نعم.
القسم السادس الإعلام
القسم السادس الإعلام: إعلام الشيخ أن هذا الكتاب سماعه من فلان من غير أن يأذن له في روايته عنه، وقد سوغ الرواية بمجرد ذلك طوائف من المحدثين والفقهاء، منهم ابن جريج وانقطع به ابن الصباغ، واختاره غير واحد من المتأخرين حتى قال بعض الظاهرية: لو أعْلَمَهُ بذلك ونهاه عن روايته عنه فله روايته، كما لو نهاه عن رواية ما سمعه منه
إن هذه طريقة من طرق التحمل، وهو أن يقول: ربما يجلسون في مجلس فيقول الشيخ للتمليذ: أنا أروي هذا الكتاب ليُعلمه بذلك دون أن يأذن له بروايته، فهذا يقولون: يجوز الرواية بهذا كما ذكرت قبل قليل أنه يجوز له أن يروي عنه؛ لأنه هذا العلم حق للجميع.
فإذا علم التلميذ أن الشيخ يروي هذا فله أن يروي عنه هكذا، ولكن في الغالب هذه يعني مثلما نقول نادرة الوقوع، الغالب أن يقع معها إذن بالرواية.
لكن لو افترض أنه ليس معها إذن بالرواية أو ربما منعه من الرواية، فهذا يقولون: هي طريقة من طرق التحمل، ويجوز أن يروي بها أن يقول: أعلمني فلان مثلا كذا. نعم.
القسم السابع الوصية
القسم السابع الوصية: بأن يوصي بكتاب له كان يرويه لشخص فقد ترخص بعض السلف في رواية الموصي له بذلك الكتاب عن الموصي، وشبهوا ذلك بالمناولة وبالإعلام بالرواية.
قال ابن الصلاح: وهذا بعيد وهو إما ذلة عالم أو متأول، إلا أن يكون أراد بذلك روايته بالوُجَّادة، والله أعلم.
نعم.. الوصية: أن يوصي له بالكتب كما نعرف، عند الوفاة يوصي بكتبه إما لابنه أو لفلان، وهو لم يأذن له في الرواية ولم يخبره أن هذا روايته. فيقول ابن الصلاح رحمه الله: إن الرواية بها ضعيفة، ولكن -يعني- تلحق بالوجادة، الوجادة هذه أقسام من الذي استقرأه الوصية مثل الوجادة يقول: لأنها خالية من الإذن، أما إذا كان معها إذن فتدخل في الإجازة التي سبق الحديث عنها.
القسم الثامن الوجادة
القسم الثامن: الوجادة: وصورته أن يجد حديثا أو كتابا بخط شخص بإسناده فله أن يرويه عنه على سبيل الحكاية، ويقول: وجدت بخط فلان، حدثنا فلان ويسنده، ويقع هذا أكثر في مسند الإمام أحمد رحمه الله يقول ابنه عبد الله: وجدت بخط أبي: حدثنا فلان
…
ويسوق الحديث، وله أن يقول: قال فلان، إذا لم يكن فيه تدليس يوهم اللُّقِيّ.
قال ابن الصلاح: وجازف بعضهم فأطلق فيه: "حدثنا" أو "أخبرنا" وانتقد ذلك على فاعله، وله أن يقول فيما وجد من تصنيفه بغير خطه: ذكر فلان، وقال فلان أيضا، ويقول: بلغني عن فلان فيما لم يتحقق أنه من تصنيفه، أو مقابلة كتابه، والله أعلم.
قلت: والوجَّادة ليست من باب الرواية، وإنما هي حكاية عما وجده في كتاب، وأما العمل بها فمنع منه طائفة كثيرة من الفقهاء والمحدثين أو أكثرهم فيما حكاه بعضهم، ونقل عن الشافعي وطائفة من أصحابه جواز العمل بها.
قال ابن الصلاح: وقطع بعض المحققين من أصحابه في الأصول بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال ابن الصلاح: وهذا هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة؛ لتعذر شروط الرواية في هذا الزمان، يعني: فلم يبق إلا مجرد وجادات.
قلت: وقد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ? أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم، وذكروا الأنبياء، فقال: وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن؟ قال: وكيف لا تؤمنون وإنا بين أخطركم، قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها ?.
وقد ذكرنا الحديث بإسناده ولفظه بشرح البخاري ولله الحمد، ويأخذ منه من عمل بالكتب المتقدمة بمجرد الوجادة لها، والله أعلم.
هذه الطريقة الأخيرة من طرق التحمل وهي الوجادة: وهي مصدر من وجد، وخلاصتها أن يجد بخط الشيخ كتابا، ويقسمونها إلى قسمين. هنا نلاحظ من كلام ابن كثير أنها مقسومة إلى قسمين:
القسم الأول: أن يجد التلميذ بخط شيخه، فهذه يظهر -والله أعلم- أنها طرق من طرق الرواية مثل قول عبد الله ابن الإمام أحمد، كثيرا ما يقول: وجدتُ بخط أبي، فهذه طريقة من طرق الرواية.
أما إذا كان الواجد بعد عصر الشيخ، أي: لم يدركه فهذه حكاية مجرد حكاية. أنت تقول الآن: نلاحظ الذي يقرأ في كتاب (تهذيب التهذيب) كثيرا ما يقول ابن حجر: وجدت أو قرأت بخط الذهبي، فهذه وجادة ولكنها ليست رواية، وإنما هي حكاية؛ فليس معه إذن وليس معه إعلان، وليست من طرق التحمل.
أما إذا كان الواجد هو التلميذ فهذا يظهر لي -والله أعلم- أو يظهر أنها طريقة من طرق الرواية، أي: يروي عن أبيه أو عن شيخه ما وجده بخطه؛ فإن الوجادة على قسمين: قسم يجده التلميذ بخط شيخه، وقسم يجده مَن بعده ممن لم يدركه فهذه ليست من باب الرواية وإنما هي باب الحكاية.
ومثلما نقول الآن قال ابن تيمية: قال فلان، قال فلان. نحن لم نسمعه منهم، قال ابن القيم:
…
قال ابن حجر: قال فلان مثلا، فهذه حكاية عن قوله يصح متى وثقنا بالحكاية، متى وثقنا بأن هذا من تأليف فلان؛ ولهذا يلزم الباحثون والمحققون للكتب أن يذكر عنوان باسم توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف، كما نعرف هناك كتب اختلف هل من تأليف فلان، مثل مثلا (الإمامة) لابن قتيبة هل هو من تأليفه أو ليس من تأليفه وهناك كتب نسبت إلى أصحابها خطأ مثل مثلا الأذكياء ينسب أحيانا لابن القيم الجوزية وليس هو من تأليفه. المهم أنه التوثق من صحة الكتاب ومن صحة الكلام هذا لا بد منه، وهناك بعض الأجزاء نسبت إلى أصحابها خطأ إلى من نسبت إليه خطأ، فإذا وثقنا وصحَّ النقل عن الكتاب أن نقول: قال فلان، أو ذكر فلان ونحو ذلك.
هذه هي أقسام التحمل، هناك كلمة كما نلاحظ أكثر الكلام الموجود في طرق التحمل إنما هو فيما حدث في العصور المتأخرة، بمعنى: الذي أريده هنا أن حاجة طالب العلم في نقد الأسانيد إنما هو إلى القسمين الأولين، وهما: السماع من لفظ الشيخ أو القراءة من لفظ الشيخ.
وما عدا ذلك فما يصادفه منه قليل
…
منه الشيء القليل في المكاتبة، ومنه في الإجازة المصحوبة بالمناولة، وما عدا ذلك فإنما هو في العصور المتأخرة حين كثرت واشتدت الحاجة لذلك ولم يكن هناك حاجة إلى القراءة والضبط؛ لأن المقصود بقاء سلسلة الإسناد. فإذًا بالنسبة لنقل السنة أكثر ما تحتاج إليه في القسمين الأولين والثالث والرابع الذي هو المناولة أو الإجازة المقرونة بالمناولة يردا أحيانا.