المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(مباحث النسخ) قال: (النسخ الإزلة نسخت الشمس الظل، والنقل نسخت الكتاب، - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٣

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌(مباحث التخصيص)

- ‌(مسائل الاستثناء)

- ‌(مباحث الشرط والصفة والغاية)

- ‌(مسائل التخصيص بالمنفصل)

- ‌(مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب

- ‌(المطلق والمقيد)

- ‌(المجمل)

- ‌(البيان والمبين)

- ‌(الظاهر والمؤول)

- ‌(المنطوق والمفهوم)

- ‌(مباحث النسخ)

- ‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

- ‌(الكلام فى القياس)

- ‌(مباحث مسالك العلة)

- ‌(الطرد والعكس

- ‌القياس جلى وخفى

- ‌(الاعتراضات)

- ‌(فساد الاعتبار)

- ‌ فساد الوضع

- ‌(الكلام فى الاستدلال)

- ‌(الكلام فى الاستصحاب)

- ‌(الكلام فى شرع من قبلنا)

- ‌(الكلام فى مذهب الصحابى)

- ‌(الكلام فى الاستحسان)

- ‌(الكلام فى المصالح المرسلة)

- ‌(الكلام فى الاجتهاد)

- ‌(التقليد والمفتى والمستفتى وما يستفتى فيه)

- ‌(الترجيح)

- ‌ القسم الأول: فى ترجيح المنقولين:

- ‌الصنف الأول: فى الترجيح بحسب السند:

- ‌(الفصل الأول: فى الراوى):

- ‌(الفصل الثانى: فى الترجيح بالرواية):

- ‌(الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب المروى):

- ‌(الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب المروى عنه):

- ‌ الصنف الثانى: الترجيح بحسب المتن:

- ‌ الصنف الثالث: الترجيح بحسب المدلول:

- ‌ الصنف الرابع: الترجيح بحسب الخارج:

- ‌ القسم الثانى: ترجيح المعقولين:

- ‌الصنف الأول: القياسان:

- ‌الفصل الأول: فى ترجيحه بحسب الأصل:

- ‌ الفصل الثانى: فى الترجيح بحسب العلة:

- ‌ الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب الفرع:

- ‌الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب الخارج:

- ‌الصنف الثانى: الاستدلالان:

- ‌ القسم الثالث: فى ترجيح المنقول والمعقول:

الفصل: ‌ ‌(مباحث النسخ) قال: (النسخ الإزلة نسخت الشمس الظل، والنقل نسخت الكتاب،

(مباحث النسخ)

قال: (النسخ الإزلة نسخت الشمس الظل، والنقل نسخت الكتاب، ونسخت النحل، ومنه المناسخات فقيل مشترك، وقيل للأول وقيل للثانى، وفى الاصطلاح: رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر فيخرج المباح بحكم الأصل والرفع بالنوم والغفلة ونحو صل إلى آخر الشهر ونعنى بالحكم ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعًا فلا يرد والحكم قديم، فلا يرتفع لأنا لم نعنه والقطع بأنه إذا ثبت تحريم شئ بعد وجوبه انتفى الوجوب وهو المعنى بالرفع).

أقول: ما مر كان يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع، وهذا هو النسخ يشترك فيه الكتاب والسنة دون الإجماع، لما سنبين أنه لا ينسخ ولا ينسخ به، والنسخ فى اللغة يقال لمعنيين: للإزالة، نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح آثار القدم أى أزالته، وللنقل: نسخت الكتاب، أى: نقلت ما فيه إلى آخره ونسخت النحل أى نقلتها من موضع إلى موضع، ومنه المناسخات فى المواريث لانتقال المال من وارث إلى وارث، والتناسخ فى الأرواح لأنه نقل من بدن إلى بدن، واختلف فى حقيقته، فقيل حقيقة لهما فهو مشترك بينهما، وقيل للأول، وهو الإزالة، وللنقل مجاز باسم اللازم، إذ فى النقل: إزالة عن موضعه الأول، وقيل للثانى، وهو النقل والإزالة مجاز باسم اللزوم ولا يتعلق به غرض علمى، وأما فى الاصطلاح، فهو: رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر، فقوله: رفع الحكم الشرعى ليخرج المباح بحكم الأصل فإن رفعه بدليل شرعى ليس بنسخ وقوله: بدليل شرعى ليخرج رفعه بالموت والنوم والغفلة والجنون، وقوله: متأخر ليخرج نحو: صل عند كل زوال إلى آخر الشهر، وإن كان يمكن أن يقال: إنه ليس برفع فإن الحكم لم يثبت بأول الكلام لأن الكلام بالتمام فكيف يرفع؟ لكن التصريح ودفع التوهم مما يقصد فى الحدود، وربما يقال عليه: إن الحكم كلام اللَّه، وهو قديم وما ثبت قدمه امتنع عدمه، فلا يتصور رفعه ولا تأخره عن غيره.

فأجاب عنه: بأنا نريد بالحكم ما ثبت على المكلف بعد أن لم يكن ثابتًا، فإنا

ص: 205

نقطع بأن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن قبل العقل ثم ثبت بعده وذلك ليس بقديم فيمتنع انتفاؤه وتأخره، ثم إنا نعلم قطعًا أنه إذا ثبت تحريم شئ بعد وجوبه فقد انتفى الوجوب وهذا هو الذى نعنيه بالرفع وإذا تصورنا الحكم والرفع كذلك كان إمكان رفعه ضروريًا وكذا تأخره.

قوله: (دون الإجماع) لم يتعرض للقياس لأنه لم يكن له دخل فيما سبق أيضًا من أقسام المتن وما سيجئ من أن القياس القطعى فى حياة النبى عليه السلام قد نسخ لا عبرة به لقلته وكونه بمنزلة النص.

قوله: (ونسخت النحل) المنقول بالحاء المهملة وقال السجستانى: النسخ أن يحول ما فى الخلية من النحل والعسل إلى أخرى.

قوله: (إذ فى النقل إزالة عن موضعه) مشعر بأن الإزالة لازم والنقل ملزوم فلا يستقيم ما وقع فى بعض النسخ من كونه للنقل مجازًا باسم الملزوم وللإزالة باسم اللازم، بل بالعكس، نعم لو ذكر أن فى الإزالة نقلًا من حالة إلى حالة يصح ذلك وأما ما ذكره السكاكى من أن ذكر اللازم وإرادة الملزوم كناية لا مجاز فتكلف لا ثبت له بل التحقيق أن الانتقال لا يكون إلا من الملزوم لكنه قد يكون لازمًا فيجعل ملزومًا بنوع تكلف كإطلاق النبات على المطر.

قوله: (ليخرج رفعه بالموت والنوم) اعترض العلامة أن الرفع بالنوم والغفلة أيضًا بدليل شرعى وهو قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث. . "، وأجيب بأن العقل حاكم بأن شرط التكليف التعقل ويستوى فى امتناع التكليف الميت والنائم والغافل والنصوص الواردة فى ذلك ليست رافعة بل مثبتة أن مثل النوم والنسيان هو الرافع.

قوله: (وإن كان يمكن) إشارة إلى اعتراض أورده العلامة وذكر أنه مصرح فى كلام الإمام حيث قال فى البرهان: قال القاضى: النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ولا يحتاج إلى التقييد بالتأخر فإن اللفظ الذى ينتظم لقصد التأسيس ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته فى قصد الشارع ثم قال: والعجب من المصنِّف أنه سلم ورود هذا على الغزالى وغفل أو تغافل عن وروده عليه وما ذكره المحقق من أنه للتصريح أو لرفع الوهم جيد إلا أنه ينبغى أن لا يعترض بمثله على غيره وكم مثله.

ص: 206

قوله: (فلا يتصور رفعه ولا تأخره) فإن قيل ليس فى التعريف ما يدل على تأخر الدليل يقتضى تأخر الحكم لأنه إنما يثبت به فإذا ثبت تحريم شئ بعد وجوبه ففيه رفع للوجوب وتأخر للتحريم.

قوله: (ما ثبت على المكلف) يعنى الخطاب المتعلق تعلق التنجيز وهو بهذا المعنى إنما يحدث بحدوث شرائط التكليف والقديم إنما يتعلق تعلقًا معنويًا ضرورى للطلب على ما مر فى مسألة تكليف المعدوم.

المصنف: (والقطع بأنه إذا ثبت. . . إلخ) أى القطع حاصل بأنه إذا ثبت. . . إلخ. وهو استدلال على تحقيق معنى الرفع.

الشارح: (إذ فى النقل إزالة) لا يظهر ذلك فى نسخ الكتاب.

قوله: (ما يدل على تأخر الدليل) فيه سقط وصوابه ما يدل على تأخر الحكم بل على تأخر الدليل قلنا تأخير الدليل يقتضى. . . إلخ. لكن اقتضاء تأخير الدليل تأخيرًا: الحكم ليس فى كل أفراد النسخ بل فى النسخ إلى بدل فقط.

قوله: (تعلقًا معنويًا ضرورى للطلب) فيه سقط هو قبل ضرورى والأصل: هو ضرورى للطلب.

ص: 207

قال: (الإمام اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول فيرد أن اللفظ دليل النسخ لا نفسه ولا يطرد فإن لفظ العدل نسخ حكم كذا ليس بنسخ، ولا ينعكس لأنه قد يكون بفعله عليه السلام، ثم حاصله اللفظ الدال على النسخ لأنه فسر الشرط بانتفاء النسخ وانتفاء انتفائه حصوله، وقال الغزالى: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه وأورد الثلاثة الأول، وإن قوله على وجه إلى آخره زيادة، وقال الفقهاء النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعى مع التأخير عن مورده وأورد الثلاثة الأول، فإن فروا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا فانتهاء أمد الوجوب ينافى بقاءه عليه وهو معنى الرفع وإن فروا لأنه لا يرتفع تعلق بمستقبل لزمهم منع النسخ قبل الفعل كالمعتزلة وإن كان لأنه بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون واستمراره فلا بد من زواله، المعتزلة اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا فيرد ما على الغزالى والمقيد بالمرة بفعل).

أقول: هذه تعريفات للنسخ لم يرتضها وهى أربعة:

الأول: قال الإمام هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول ومعناه أن الحكم كان دائمًا فى علم اللَّه دوامًا مشروطًا بشرط لا يعلمه إلا هو وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكم ويبطل دوامه، وما ذلك إلا بتوفيقه تعالى إياه، فإذا قال قولًا دالًا عليه فذلك هو النسخ واعترض بوجوه:

منها: أنه فسر النسخ باللفظ، وهو دليل النسخ لا هو يقال نسخ الحكم بالآية والخبر.

ومنها: أنه غير مطرد لدخول ما ليس بنسخ فيه، وهو قول العدل نسخ حكم كذا فإنه لفظ دال على ظهور انتفاء شرط الدوام وليس بنسخ ضرورة.

ومنها: أنه غير منعكس لخروج ما هو نسخ عنه إذ قد يكون النسخ بفعله عليه السلام.

ومنها: أنه تعريف الشئ بنفسه لأنه فسر شرط دوام الحكم بانتفاء النسخ فيكون الشرط انتفاء انتفاء النسخ، وهو حصول النسخ فيكون حاصل كلامه أنه اللفظ الدال على حصول النسخ.

ص: 208

وقد يجاب عنه بأنه قد علم أن الحكم يدوم ما وجد شرط دوامه وليس شرطه إلا عدم قول اللَّه الدال على انتفائه فقاطع الدوام هو ذلك القول، وهو النسخ فكما أن الحكم ليس إلا قوله افعل، فالنسخ ليس إلا ذلك القول، وقول العدل وفعل الرسول يدلان على ذلك القول، فهما دليلا النسخ الدال بالذات، والمراد إنما هو الدال بالذات، وما ذكرناه ظاهرًا أنه لا يتوقف فهمه على فهم النسخ وإن كان فى الخارج هو النسخ، وكذلك كل حد ومحدوده يتحدان ذاتًا ويتغايران مفهومًا.

الثانى: قال الغزالى هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه، واعترض عليه بالثلاثة الأول، وهى أن اللفظ دليل النسخ وقول العدل يدخل فيه ويخرج فعل الرسول، ويرد ههنا سؤال يخصه، وهو أن قوله: على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه زيادة لا يحتاج إليه، أما لولاه لكان ثابتًا فلأن الرفع لا يكون إلا إذا كان كذلك، وأما مع تراخيه عنه فلأنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول، فكان دفعًا لا رفعًا كالتخصيص، وقد يجاب عن الرابع بأن قوله: لولاه لكان ثابتًا احتراز عن قول العدل لأنه قد ارتفع بقول الشارع رواه العدل أم لا، ومع تراخيه عنه كقوله متأخرًا، احتراز عن الغابة.

الثالث: قال الفقهاء: النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعى مع تراخيه عن مورده، واعترض عليه بالثلاثة الأول الموردة على الغزالى والإمام، والجواب ما عرفت مع أن قول الراوى ليس بنص وقد يلتزم كون الفعل إذا أفاد حكمًا نصًا فيه فإنه يوصف بما يوصف به الألفاظ من الظاهر والمجمل هذا ولا معنى لفرارهم من الرفع إلى الانتهاء لأن ذلك يحتمل أمورًا ثلاثة: اثنان فاسدان وواحد نزاع لفظى:

أحدها: أنهم فروا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا فلا يتصور رفع شئ منهما وهذا فاسد فإن انتهاء أمد الوجوب لا يتصور مع دوام الوجوب، وعدم دوامه هو رفعه فقد قال بالرفع معنًى وأنكره لفظًا فناقض.

ثانيها: أنهم فروا منه لأن التعلق بفعل مستقبل لا يمكن رفعه فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلقًا به، وهذا أيضًا فاسد، لأنه يلزم منه القول بامتناع النسخ قبل الفعل لأنه إذا صدق أن ما نسخ فالخطاب لم يتناوله صدق بحكم عكس النقيض أن ما

ص: 209

يتناوله الخطاب لا ينسخ ولا شك أن الخطاب فى قوله صلِ يوم الخميس قد يتناول الفعل فى الجملة فيجب أن لا يمكن نسخه كما ذهب إليه المعتزلة وهو خلاف مذهب الفقهاء.

ثالثها: أنهم فروا لأنهم يرون النسخ بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره قبل سماع الناسخ مع أنه لم يكن مستمرًا فى نفس الأمر فبسماع الناسخ زال ذلك الظن، وزال التعلق المظنون، وهذا صحيح، لكنه ليس خلافًا فى المعنى لأنه يستلزم زوال التعلق المظنون قطعًا، وهو مرادنا بالرفع ومرادهم بالانتهاء فصار لفظيًا.

الرابع: قالت المعتزلة: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا واعترض عليه بالأربعة التى وردت على الغزالى بعينها وبخامس يخصه، وهو المقيد بالمرة يفعل وصورته أن يقول يجب عليك الحج فى جميع السنين مرة واحدة وهو قد حج مرة فإن هذا لفظ دال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم وهو الحج زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا بحكم عمومه الذى لم يدفعه التقييد بالمرة.

قوله: (لأنه فسر) ظاهر العبارة أن الإمام صرح بهذا التفسير لكنه بعيد جدًا وكان المراد أن ذلك لزم من كلامه حيث أضاف الشرط إلى دوام الحكم ودوام الحكم انتفاء النسخ ولهذا دفعه المحقق بأن ما ذكره الإمام لا يتوقف فهمه على فهم النسخ وإن كان فى الخارج هو النسخ على ما هو حكم كل حد مع محدود من الاتحاد ذاتًا والتغاير مفهومًا فانتفاء شرط دوام الحكم نفس حصول النسخ بالذات ومغايرته بالمفهوم لا يخفى أن هذا إنما يصح فى غير الحد التام إذ لا تغاير فيه إلا بمجرد إجمال وتفصيل وكأنه جعل ذلك تغايرًا فى المفهوم.

قوله: (فيكون الشرط) هكذا وقع فى بعض النسخ والظاهر أنه أن قد سقط عن القلم لفظ انتفاء أى فيكون انتفاء الشرط انتفاء انتفاء النسخ على ما صرح به فى الشروح ويحتمل أن يراد فيكون الشرط أى الأمر الذى شرط دلالة اللفظ على ظهوره حتى يكون نسخًا.

قوله: (فقاطع الدوام هو ذلك القول) لا يخلو عن اعتراف بورود الاعتراض فإن

ص: 210

القاطع هو الناسخ لا النسخ بالمعنى المصدرى اللهم إلا أن يحمل القول أيضًا على معناه المصدرى فيؤول إلى ما فى بعض الشروح من أن المراد باللفظ التلفظ أى تلفظ الشارع على أن إطلاق التلفظ أيضًا محظور وليس هو بدال بل نفس اللفظ وأيضًا إذا كان شرط دوام الحكم هو عدم القول المخصوص كان انتفاء الشرط نفس ذلك القول الذى هو النسخ فلا يصح تفسيره باللفظ الدال على ظهوره وأيضًا لو كان الناسخ هو قول اللَّه تعالى فقط لم يكن قول الرسول ناسخًا اللهم إلا أن يفرق بينه وبين الفعل بأنه وحى فكأنه قول اللَّه بخلاف الفعل فإنه إنما يدل عليه.

قوله: (فلأنه لولاه) أى لولا تراخى الخطاب الدال على الارتفاع عن الخطاب المتقدم بل كان متصلًا كما فى الغاية والشرط ونحو ذلك لم يتقرر الحكم لأن الحكم إنما يثبت بعد تمام الكلام فكان الخطاب الثانى دافعًا لثبوت الحكم فيما وراء المذكور مثلًا لا رافعًا لما هو ثابت.

قوله: (وقد يجاب عن الرابع بأن قوله لولاه لكان ثابتًا احتراز عن قول العدل أن حكم كذا قد نسخ) فإنه وإن كان خطابًا دالًا على ارتفاع الحكم لكنه ليس هو بحيث لولاه لكان الحكم ثابتًا فى نفس الأمر وإن اعتقد المكلف ثبوته مع أن دلالة الرفع على ما ذكر التزام ولا يقدح فى التعريف التصريح بما علم التزامًا وحينئذٍ يندفع الاعتراض الثانى أيضًا مع أن المفهوم من الخطاب ههنا خطاب الشارع فلا يدخل فيه قول العدل على أنه لو أريد الدال بالذات كما سبق اندفعت الثلاثة وكان قوله لولاه للتصريح بهذا المعنى ودفع ما يتبادر إلى الفهم من إطلاق الدلالة فإن قيل: إن الشارح جعل الاعتراض الرابع استدراك قيدين نظر إلى ظاهر قوله إلخ أى آخر التعريف والأنسب أن يكون المراد آخر ذلك القيد فإنه يتم بقوله لكان ثابتًا، وقوله مع تراخيه ابتداء قيد آخر متعلق بالخطاب الدال وذلك لأن المصنِّف قد صرح بقيد التأخر وهو بعينه معنى التراخى فكيف يصح منه الاعتراض باستدراكه قلنا مبناه على أن الغزالى وصفا الخطاب الأول بالمتقدم وهو كالتصريح بتأخر الثانى بخلاف تعريف المصنِّف، فإنه خال عن ذلك بل غايته أن الرفع ينبئ عن إخراج الغاية كالارتفاع فى تعريف الغزالى فليتأمل بل التحقيق أن قيد التراخى مما لا بد منه فى حقيقة النسخ والتأخر لا يستلزمه إذ المتأخر قد يكون متصلًا كالاستثناء والغاية ألا ترى أن فاء العطف تفيد التأخر ولا تفيد التراخى نعم أراد

ص: 211

المصنِّفُ بالتأخر التراخى الذى هو أخص من مدلوله ولذا قال الشارح: إن قول الغزالى مع تراخيه عنه مثل قول المصنِّف متأخرًا احترازًا عن الغاية ونحوها لدخولها حقيقة أو توهمًا.

قوله: (مع تراخيه) أى ذلك النص عن مورده أى زمان ورود ذلك الحكم ولا يخفى أن هذا الإخراج مثل الغاية.

قوله: (واعترض عليه بالثلاثة) وهى أن النص دليل النسخ لا نفسه وأنه غير مطرد لدخول قول العدل أن حكم كذا قد نسخ ولا منعكس لخروج فعله عليه السلام إذا نسخ حكمًا ولا بد واستدراك قيد التراخى لأنه لا إشعار فى تعريفهم بذلك والجواب ما سبق أن النسخ بالحقيقة هو قول اللَّه تعالى الدال بالذات على انتهاء الحكم وقول العدل وفعل الرسول إنما يدلان بالذات على ذلك القول لا على الانتهاء وقد يجاب عن الأخيرين بأن قول الرافعى ليس بنص لما فيه من الاحتمال وفعل الرسول قد يكون نصًا كما يكون ظاهرًا أو مجملًا هذا إن أريد بالنص ما يقابل الظاهر وإن أريد ما يقابل الاحتمال والقياس وهو الكتاب والسنة فخروج قول العدل دخول فعل الرسول ظاهر.

قوله: (فقد قال) أى فر من الرفع إلى الانتهاء.

قوله: (فناقض) حيث أنكره ولم يذكره.

قوله: (بانتهاء ما زاد الشارحون) فى هذا المقام على إعادة المتن والشارح المحقق وإن بالغ فى التقرير لم يكشف عن حقيقة الحال وكان المقصود أن النسخ إنما يكون لتعلق الخطاب بالفعل فى المستقبل لأن ما وجد لا يتصور نسخه، وبالنظر إلى المستقبل يصح البيان أى الإعلام بأن الخطاب لم يتعلق ولا يصح الرفع لاقتضائه سابقة الثبوت وحاهل الاعتراض أن النسخ إذا كان هو البيان والإعلام بأن الخطاب لم يتعلق فإذا لم يوجد هذا المعنى لم يتحقق النسخ كما فى الخطاب المتعلق بفعل فى المستقبل مثل صلِ يوم الخميس فإنه يتناول فعلًا فى الجملة ويتعلق به ضرورة وكل ما هذا شأنه يمتنع نسخه فإن قيل بل يمتنع نسخه مطلقًا لتحقق التناول والتعلق قلنا إذا كان ظاهر الخطاب متناولًا للمستقبل وغيره أمكن نسخه بمعنى بيان عدم التعلق بالاستقلال.

قوله: (واعترض عليه بالأربعة) أما الثلاثة الأول فبعينها إذ اللفظ دليل النسخ

ص: 212

لا نفسه ويدخل قول العدل ويخرج فعل النبى عليه السلام، وأما الرابع فيجزئه لإشعار الزائل بأنه لولاه لكان ثابتًا لا بجميعه لعدم قيد التراخى وتقرير الاعتراض، الخامس على ما فى الشروح أن الأمر القيد بمرة إذا ورد بعده نص يدل على زوال حكمه فإنه نسخ مع أن الزائل نفس ذلك الحكم لا مثله واعترضوا بأنه لا يجوز مثل ذلك لأنهم يمنعون النسخ قبل الفعل ورد بأنه يجور أن ينسخ فى وقته وهم يمنعون النسخ قبل الوقت لا قبل الفعل ولما كان هذا التقرير لفظًا ينقل حشوًا قدره الشارح المحقق بما لا مزيد عليه وهو أن المقيد بالمرة إذا فعل مرة يصدق هذا التعريف على اللفظ الذى يفيد تقييده بالمرة مع أنه ليس بنسخ كما إذا قال الشارع: يجب عليك الحج فى جميع السنين مرة واحدة، وهو قد حج مرة فإن قوله مرة واحدة لفظ دال على أن مثل الحكم الثابت بالنص السابق زائل عن المخاطب على وجه لولا ذلك اللفظ لكان مثل ذلك الحكم ثابتًا بحكم عموم النص الذى لم يرفعه أى ذلك العموم التقييد بالمرة أى على تقدير عدمه فقوله وقد حج مرة ليتحقق الحكم والمثل وقوله وهو الحج يجوز أن يكون الضمير للمثل والحج إشارة إلى المرات الأخر، وأن يكون للحكم والحج إشارة إلى ما فعل من الحج ويمكن المناقشة فى ثبوت الحكم وزواله فإن الكلام بالتمام واعلم أن شيئًا من التعريفات لا يتناول نسخ التلاوة اللهم إلا أن يقال: إنه عبارة عن نسخ الأحكام المتعلقة بنفس النظم كالجواز فى الصلاة وحرمة القراءة على الجنب والحائض ونحو ذلك.

قوله: (غير العيسوية) قوم من اليهود ذهبوا إلى جواز النسخ عقلًا ووقوعه

قوله: (فلا يصح تفسيره باللفظ الدال على ظهوره) أى ظهور القول الذى هو النسخ كما هو مآل ظهور انتفاء عدم القول.

قوله: (مع أن دلالة الرفع على مما ذكر التزام) هذا مسلم لكن التعريف ليس بالرفع بل باللفظ الدال على الرفع وقول العدل وإن لم يصدق عليه أنه رافع لكن يصدق عليه أنه دال على الرفع.

قوله: (ولا بد واستدراك) تحريف والأصل: ولا يرد استدراك.

قوله: (فقد قال أى فر) تحريف والأصل: فقد قال من فر وقوله: بل الإجمال صوابه: بل الإجماع.

ص: 213

قوله: (لأن ما وجد لا يتصور نسخه. . . إلخ) وجهه الأبهرى بأن الحكم قديم لا ينسخ وإنما ينسخ التعلق والتعلق بفعل ماض أو حاضر لا يتصور نسخه وإذا كان كذلك ففرارهم من الرفع إلى الانتهاء لاجل أن تعلق الحكم بفعل مستقبل لا يمكن رفعه لأنه لو رفع يلزم أن يكون التعلق حاصلًا فى المستقبل غير حاصل فيه وهو تناقض فمتى نسخ حكم لم يكن متعلقًا بفعل مستقبل وإلا لزم ثبوت التعلق وعدمه فى الاستقبال وينعكس هذا إلى قولنا: متى كان متعلقًا بفعل مستقبل لم ينسخ فيلزمهم القول بامتناع النسخ قبل الفعل وهو خلاف مذهب الفقهاء هذا هو التحقيق فى هذا المقام وما قيل: إن تعلق الحكم بالنظر إلى الاستقبال لا يمكن رفعه لاقتضاء الرفع سابقة الثبوت إنما يتم لو كان المراد بالتعلق تعلق التنجيز وليس كذلك. اهـ.

قوله: (فإن قيل بل يمتنع نسخه مطلقًا. . . إلخ) لعل أصل العبارة فإن قيل مقتضى هذا امتناع النسخ مطلقًا لا بالنسبة للتعلق بالمستقبل فقط ويحتمل أن يكون المراد أن مقتضى هذا امتناع النسخ مطلقًا لا قبل الفعل فقط.

قوله: (لفظًا ينقل) صوابه: بجعل لفظ يفعل.

قوله: (وهو الحج يجوز أن يكون الضمير. . . إلخ) وعلى كل فيه تقدير مضاف أى وجوب الحج لأنه الحكم.

ص: 214

قال: (والإجماع على الجواز والوقوع وخالفت اليهود فى الجواز وأبو مسلم الأصفهانى فى الوقوع. لنا القطع بالجواز وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، وفى التوراة أنه أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك باتفاق واستدل بإباحة السبت ثم تحريمه وبجواز الختان ثم إيجابه يوم الولادة عندهم وبجواز الأختين ثم التحريم، وأجيب بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ).

أقول: أجمع أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه وخالفت اليهود غير العيسوية فى جوازه فقالوا: يمتنع عقلًا، وأبو مسلم الأصفهانى فى وقوعه، فقال: إنه وإن جاز عقلًا لكنه لم يقع، لنا أن القطع بجوازه عقلًا وأنه لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته سواء اعتبرت المصالع أم لا، أما إذا لم تعتبر فظاهر لأن اللَّه يفعل ما يشاء وأما إذا اعتبرت فلأنا نقطع أن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات كشرب دواء فى وقت دون وقت فلا بعد أن تكون المصلحة فى وقت تقتضى شرع ذلك الحكم وفى وقت رفعه، وأما الوقوع فإنه جاء فى التوراة أن آدم عليه السلام أسر بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك باتفاف وهو النسخ، وقد استدل عليه بأن السبت كان قبل موسى عليه السلام مباحًا ثم حرم، وكان الختان جائزًا ثم أوجب يوم الولادة عندهم، والجمع بين الأختين كان جائزًا ثم حرم عندهم وكل ذلك نسخ. الجواب: منع كونه نسخًا لأنه رفع لأمور كانت مباحة بالأصل ورفع مباح الأصل ليس بنسخ كما علمت.

سمعًا واعترفوا بنبوة محمد عليه السلام لكن إلى العرب خاصة لا إلى الأمم كافة.

قوله: (بتزويج بناته من بنيه) يعنى ورد فى التوراة بلفظ الإطلاق بل العموم لكن على سبيل التوزيع من غير تخصيص بالبنات والبنين فى زمانه ولا تقييد بوقت دون وقت والاحتمالات التى لم تنشأ عن دليل بل ينفيها ظاهر الدليل تكون منفية.

قوله: (ثم حرم عندهم) لفظ عندهم زيادة ليس فى المتن كأنه قصد بها التصريح بالالتزام.

قوله: (فلا يمكن بطلانه متنًا) الأولى أن يقول سندًا لأن التواتر إنما يصحح

قوله: (بالالتزام) الأولى بالإلزام.

ص: 215

قال: (قالوا: لو نسخت شريعة موسى عليه السلام لبطل قول موسى المتواتر هذه شريعة مؤبدة قلنا مختلق قيل من ابن الراوندى وانقطع أنه لو كان عندهم صحيحًا لقضت العادة بقوله له صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة له فهو البداء، وإلا فعبث، وأجيب بعد اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء فى وقت أو حال وضرره فى آخر فلم يتجدد ظهور ما لم يكن قالوا: إن كان مفيدًا فليس بنسخ وإن دل على التأبيد لم يقبل للتناقض بأنه مؤبد ليس بمؤبد ولأنه يؤدى إلى تعذر الإخبار بالتأبيد وإلى نفى الوثوق بتأبيد حكم ما وإلى جواز نسخ شريعتكم، وأجيب بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما لو كان معينًا مثل صم رمضان ثم ينسخ قبله فإذا أجدر وقوله: صم رمضان أبدًا بالنص يوجب أن الجميع متعلق الوجوب ولا يلزم الاستمرار فلا تناقض كالموت، وإنما المتنع أن يخبر بأن الوجوب باق أبدًا ثم نسخ، قالوا: لو جاز لكان قبل وجوده أو بعده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل ومعه أجدر لاستحالة النفى والإثبات، قلنا: المراد أن التكليف الذى كان زال كالموت لا أن الفعل يرتفع، قالوا: إما أن يكون البارى سبحانه وتعالى علم استمراره أبدًا فلا نسخ، أو إلى وقت معين فليس بنسخ، قلنا: إلى الوقت المعين الذى علم أنه ينسخه فيه وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ).

أقول: هذه حجج مانعى النسخ، قالوا: أولًا: لو نسخ شريعة موسى عليه السلام لبطل قول موسى: هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض، والتالى باطل لكونه متواترًا فلا يمكن بطلانه متنًا، وقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا يمكن بطلانه معنى.

الجواب: التزام بطلانه ومنع كونه قول موسى ومتواترًا بل هو مختلق، قيل إنما اختلقه ابن الراوندى، والدليل على أنه مختلق أنه لو كان صحيحًا عندهم لقضت العادة بأن يقولوه للنبى ويحتجوا به عليه ولم يقع وإلا لاشتهر عادة.

قالوا: ثانيًا: إن نسخ اللَّه الحكم فإما لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة له قبل أو لا، وكلاهما باطل، فالأول لأنه هو البداء، وأنه على اللَّه محال، والثانى لأن ما لا يكون لحكمة فهو عبث، وهو أيضًا على اللَّه محال.

الجواب: أنا لا نعتبر المصلحة فإن عنيتم بالعبث ما لا مصلحة فيه فهو ملتزم أو

ص: 216

غيره فلا يلزم، سلمناه لكن المصلحة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان كمنفعة شرب الدواء فى وقت أو حالة ومضرته فى حالة أخرى، أو وقت آخر، فقد تتجدد مصلحة لم تكن موجودة لا أنه يتجدد ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة فلم يلزم بداء. والحاصل إن عنيتم بظهور المصلحة تجددها اخترنا الإثبات ولا بداء، أو تجدد العلم بها اخترنا النفى ولا عبث.

قالوا: ثالثًا: الحكم الأول إما مقيد بغاية أو مؤبد، وكيف كان لا ينسخ؟ أما إذا كان مقيدًا بغاية فلأن الحكم بخلافه بعد تلك الغاية لا يكون نسخًا، كمن يقول صم إلى العيد ثم يقول فى العيد لا تصم، إذ ليس فيه رفع قطعًا، وأما إذا كان مؤبدًا فلأنه لا يقبل النسخ أما أولًا فللتناقض إذ حاصله أنه مؤيد ليس مؤبدًا، وأما ثانيًا فلأنه يؤدى إلى تعذر الإخبار عن التأبيد بوجه من الوجوه إذ ما من عبارة تذكر له إلا وتقبل النسخ ونحن نعلم بالضرورة أن ذلك كسائر المعانى النفسية يمكن التعبير عنه والإخبار به، وأما ثالثًا فلأنه يؤدى إلى نفى الوثوق بتأبيد حكم ما وقد ذكرتم أحكامًا مؤبدة كالصلاة والصوم، وأما رابعًا، فلأنه يؤدى إلى جواز نسخ شريعتكم وأنتم لا تقولون به.

الجواب: أن التأبيد يمكن أن يجعل قيدًا فى الفعل المتعلق للوجوب، وأن يجعل قيدًا فى الوجوب نفسه، والمبحث جعله قيدًا فى الفعل نفسه أى الفعل أبدًا واجب فى الجملة وحينئذٍ فلا نسلم أنه لا يقبل النسخ وذلك كما لو كان الوقت معينًا بأن يقول صم رمضان هذه السنة ثم ينسخ قبله فيكون رمضان ظرفًا للصوم والوجوب ثابت قبله ويرتفع فلا يوجد فيه، وإذا جاز ذلك مع النصوصية فى الوقت فمع قيد التأبيد وأنه ظاهر فى تناوله ويمكن أن لا يتناوله أجدر، وتحقيقه أن قوله صم رمضان أبدًا يدل على أن كل صوم شهر من شهور رمضان إلى الأبد واجب فى الجملة غير مقيد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد فلم يكن رفع الوجوب ومعناه عدم استمراره مناقضًا له وذلك كما تقول: صم كل رمضان، فإن جميع الرمضانات داخلة فى هذا الخطاب، وإذا مات انقطع الوجوب قطعًا، ولم يكن نفيًا لتعلق الوجوب بشئ من الرمضانات وتناول الخطاب له نعم الممتنع أن يجعل التأبيد قيدًا للوجوب، بأن يخبر أن الوجوب ثابت أبدًا ثم ينسخ حتى يأتى زمان لا وجوب فيه وما ذكرتم من الوجوه إنما يبطل هذا القسم ومثله غير واقع ولا النزاع

ص: 217

واقع فيه والتنصيص أن زمان الواجب غير زمان الوجوب، فقد يتقيد الأول بالأبد دون الثانى.

قالوا: رابعًا: لو جاز النسخ وهو ارتفاع الحكم فإما قبل وجوده أو بعده أو معه والكل باطل، أما قبل الوجود فلأنه إذا لم يوجد كيف يرتفع؟ والعدم الأصلى لا يكون ارتفاعًا، وأما بعد وجوده فلأنه إذا وجد فيمتنع أن يرتفع لأن ما صار موجودًا لا يصير منعدمًا هو بعينه بل عسى أن لا يوجد مثله، ثانيًا: وإما أن يرتفع هو بعينه فمحال، وأما مع الوجود فلمثل ذلك مع أمر زائد وهو أنه لو ارتفع حال الوجود لزم اجتماع النفى والإثبات، فيوجد حين لا يوجد وأنه مستحيل.

الجواب: أن هذا يدل على أن الفعل لا يرتفع وهو غير محل النزاع، بل المراد أن التكليف الذى كان متعلقًا به قد زال وهو ممكن كما يزول بالموت لأنا نعلم بالضرورة أنه بعد الموت لم يبق مكلفًا بعد أن كان مكلفًا، وهو معنى الارتفاع فى النسخ، لا أن الفعل يرتفع.

قالوا: خامسًا: إما أن يكون البارى عالمًا باستمراره أبدًا أو لا وعلى التقديرين فلا نسخ، أما إذا علم استمراره أبدًا فظاهر وإلا لزم الجهل، وأما إذا لم يعلم استمراره أبدًا فلأنه يعلمه إلى وقت معين فيكون الحكم فى علمه مؤقتًا، وذلك الوقت غير ثابت فيما بعده، فالقول الذى ينفيه فيه لا يكون رافعًا لحكم ثابت فلا يكون نسخًا.

الجواب: نختار أنه يعلمه إلى وقت معين وهو الوقت الذى يعلم أنه ينسخه فيه وعلمه بارتفاعه بنسخه إياه لا يصنع النسخ بل يلزم منه وجود النسخ فكيف ينافيه.

السند وهو طريق الإخبار عن المتن الذى هو نفس اللفظ وكأنه عبر عن السند بالمتن ليوافق سجعه الآخر وهو بطلانه معنًى على ما قال قاضى قم -حين كتب إليه بعض الحكام:

أيها القاضى بقم

قد عزلناك فقم

واللَّه ما عزلتنى إلا هذه السجعة.

قوله: (التزام بطلانه) أى متنًا ومعنًى يعنى أنه ليس بمتواتر ولا قول رسول فصرح بمنع الأمرين تحقيقًا للمقصود وإلا فمنع كونه قول موسى يستلزم منع كونه

ص: 218

متواترًا ولا يجوز أن يكون منع التواتر مبنيًا على التنزل لأن تسليم كونه قول موسى يستلزم المطلوب وإن لم يتواتر.

قوله: (إما مقيد بغاية أو مؤبد) أى مقرون بما يقيد التأبد على ما يشعر به قول المصنِّف، وإن دل على التأبيد ويفصح عنه الاستدلالات المذكورة لبيان عدم قبوله النسخ لظهور أنه لو أراد التأبيد بحسب الظاهر بأن يكون مرسلًا غير مقيد بغاية لم ينتهض ذلك وعلى هذا يتوجه منع الحصر لجواز أن لا يكون مقيدًا بغاية ولا مقرونًا بتأبيد وهذا حقيقة جواب الشبهة لأن ترديد المستدل وقع فى الحكم أنه مقيد أو مؤبد فأجيب بأن النزاع لم يقع فى الحكم المقيد أو المؤبد بل فيما لا دلالة فيه على التقييد ولا التأبيد وقد تعلق بفعل مؤبد وإذا ثبت جواز النسخ فيما إذا كان الفعل مقيدًا بالتأبيد ثبت فيما هو خال عن التأبيد بطريق الأولى وما ذكرتم من الأدلة على أن المؤبد لا يقبل النسخ إنما هو فى الحكم المؤبد لا الحكم المتعلق بالفعل المؤبد.

قوله: (هذا يدل على أن الفعل لا يرتفع) يعنى أن ترديد المستدل وإن وقع فى الحكم لكن ما ذكر إنما دل على امتناع ارتفاع الفعل ولا نزاع فيه وإنما النزاع فى ارتفاع الحكم المتعلق بمعنى زوال تعلقه وانقطاع استمراره وإن كان نفس الحكم أزليًا لا يرتفع فإن قيل فيجئ الحكم المتعلق الترديد المذكور قلنا نعم لكن ليس معنى ارتفاعه انعدامه بعينه بل انقطاع تعلقه ولا امتناع فى ذلك بعد التحقيق فإن قيل فيردد فى التعلق، قلنا معنى ارتفاعه وانقطاعه أنه وجد التعلق بالفعل الذى فى الزمان الأول ولم يوجد التعلق بالفعل الذى فى الزمان الثانى فارتفع وانقطع الاستمرار الذى كان يتحقق لولا الناسخ واعلم أن مراد المستدل بقوله بعد الوجود بعد تمامه وانقضائه على ما فهمه الشارحون وصرح به الآمدى حتى قال: إما أن يكون رفعه قبل وجوده أو بعد عدمه أو حال وجوده وامتناع الارتفاع حينئذٍ ضرورى ما على ما ذهب إليه المحقق من أن المراد بعد تحقيق الوجود وحصوله فاستحالته ممنوعة بل إمكانه ضرورى بل لا يتصور انعدام الشئ وارتفاعه إلا بعد حصول الوجود له وأيضًا البعدية بهذا المعنى تتناول المعية فلا تقابلها اللهم إلا أن يراد المعية فى حدوث الوجود وحصوله وما ذكر من أن ما صار موجودًا يستحيل

ص: 219

أن يرتفع وينعدم هو بعينه إن أراد مع قيد الوجود حتى يلزم أن لا يوجد حين لا يوجد لم يكن اجتماع النفى والإثبات أمرًا زائدًا على ذلك على ما مر ادعاؤه بل يكون هذا بعينه هو الارتفاع مع الوجود لا بعده وإن أراد غير ذلك فلا نسلم استحالته بل هو ظاهر الاستقامة واعلم أن هذا شبيه بالمغلطة المذكورة فى إيجاد الممكن وحلها أن الارتفاع والانعدام إنما هو فى حال العدم لكن عدمًا حاصلًا بهذا الانعدام وإنما يستحيل لو كان بانعدام حاصل قبل.

قوله: (ثم نقول صحة شريعتنا) جواب سؤال تقريره لا نسلم كون النسخ مما

المصنف: (قالوا لو نسخت شريعة موسى. . . إلخ) هذا دليل على عدم الجواز سمعًا لا عقلًا وفى بعض كتب الأصول أن اليهود فرقتان فرقة أنكروا جوازه عقلًا وفرقة أنكروا جوازه سمعًا على أن هذا الدليل يقتضى عدم جواز نسخ التوراة لا عدم جواز النسخ مطلقًا وفى التحرير أنه لا تواتر فى التوراة الكائنة الآن فى أيدى اليهود لاتفاق أهل النقل على إحراق بختنصر أسفارها وأنه لم يبق من يحفظها وذكر فى التاريخ أن عزيرًا ألهمها وكتبها ودفعها لتلميذه ليقرأها عليهم ولعدم تواترها لم تزل نسخها الثلاثة السامرية والعبرية واليونانية مختلفة فى أعمار الدنيا.

الشارح: (والمبحث) حقه والمجيب وقوله: نفيًا لتعلق الوجوب؛ صوابه بقيا لتعلق الوجوب.

قوله: (الأولى أن يقول بسند. . . إلخ) حمل المتن بعضهم على حديث موسى عليه السلام والمعنى أنه لا يمكن أن يكون موسى عليه السلام لم يقله لتواتره وحمل المعنى على أن معنى ما قاله موسى عليه السلام صحيح ليس بكذب.

قوله: (قلنا معنى ارتفاعه وانقطاعه أنه وجد. . . إلخ) رد بأن هذا إنما يصح على مذهب من قال: إن النسخ يرجع إلى نوع تخصيص ولا يصح على مذهب المصنف القائل إن النسخ هو الرفع بل على مذهبه يكون معنى الانقطاع أن تعلق الحكم فى الزمان الثانى كان موجودًا كالتعلق فى الزمان الأول إلى زمان النسخ ثم ارتفع فى هذا الزمان.

قوله: (وامتناع الارتفاع حينئذ ضرورى) أى لما فيه من إعدام المعدوم وهو تحصيل حاصل.

ص: 220

قوله: (وأما على ما ذهب إليه المحقق. . . إلخ) وجه بطلان الثانى على ما ذهب إليه المحقق هو أنه إذا تحقق الفعل ووجد لا يكون المقصود بالنسخ ارتفاع الفعل وانعدامه بعينه لأن ما يكون وجوده بعينه مطلوبًا بالحكم الأول كيف يكون ارتفاعه مطلوبًا بل يكون المقصود بالنسخ أن لا يوجد مثله ثانيًا فيعود إلى الارتفاع قبل الفعل وقد فرضناه أنه بعد الفعل فاندفع ما فى المحشى.

ص: 221

قال: (وعلى الأصفهانى الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما يخالفها ونسخ التوجه والوصية للأقربين بالمواريث وذلك كثير).

أقول: ما ذكرناه كله مع اليهود ولنا على الأصفهانى دليلًا على الوقوع: أن الأمة أجمعت على أن شريعتنا ناسخة لا يخالفها من الأحكام، ثم نقول صحة شريعتنا إن توقفت على النسخ وقد ثبتت بالبرهان فقد صح النسخ وإلا جاز إثبات النسخ بالأدلة الشرعية لأن كل ما لا يتوقف عليه السمع يجوز إثباته به، والإجماع منها، وأيضًا أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا إجماعًا ونسخ بالتوجه إلى القبلة، وأيضًا كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة وقد نسخت بآيات المواريث، وأيضًا ثبات الواحد للعشرة كان واجبًا، ونسخ بثبات الواحد للاثنين، وذلك كثير لا يحصى فمن أرادها فعليه بالكتب المصنفة فيه.

يصح إثباته بالإجماع وإنما يصح لو لم تتوقف صحة الشريعة عليه وتقرير الجواب أن هذا المنع لا يضرنا وهو ظاهر فإن قيل كيف يتصور من المسلم إنكار النسخ وهو من ضروريات الدين ضرورة ثبوت نسخ بعض أحكام الشرائع السالفة بالأدلة القاطعة على حقية شريعتنا ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة من شريعتنا قلنا هو لا ينكر عدم بقاء تلك الأحكام وإنما ينازع فى الانقطاع والارتفاع ويزعم أن حقية تلك الأحكام كانت مقيدة بظهور شريعتنا وكذا فى أحكام شريعتنا فيرجع النزاع لفظيًا.

قوله: (قبل الفعل) تعبير عن المسألة بما هو المشهور وإلا فالمذكور فى المتن قبل

الشارح: (إن الأمة أجمعت. . . إلخ) أى قبل ظهور المخالف فيكون ذلك الإجماع حجة على الخالف فاندفع ما قاله صاحب التحصيل من أنه لا إجماع مع وجود المخالف.

ص: 222

قال: (مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل مثل: حجوا هذه السنة، ثم يقول قبله: لا تحجوا، ومنع المعتزلة والصيرفى. لنا ثبت التكليف قبل وقت الفعل فوجب جواز رفعه كالموت، وأيضًا فكل نسخ كذلك لأن الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه، واستدل بأن إبراهيم عليه السلام أمر بالذبح بدليل: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وبالإقدام وبترويع الولد، ونسخ قبل التمكن، واعترض بجواز أن يكون موسعًا، وأجيب بأن ذلك لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل لأن الأمر باق عليه وهو المانع عندهم وبأنه لو كان موسعًا لقضت العادة بتأخيره وجاء نسخه أو موته لعظمه، وأما دفعهم بمثل لم يؤمر وإنما توهم أو أمر بمقدمات الذبح فليس بشئ أو ذبح وكان يلتحم عقيبه أو جعل صفيحة نحاس أو حديد فلا يسمع ويكون نسخًا قبل التمكن. قالوا: إن كان مأمورًا به ذلك الوقت توارد النفى والإثبات، وإن لم يكن فلا نسخ، وأجيب بأنه لم يكن بل قبله، وانقطع التكليف عنده كالموت).

أقول: هذه مسألة النسخ قبل الفعل وصورتها أن يقول: حجوا هذه السنة، ثم يقول قبل دخول عرفة: لا تحجوا، وقد اختلف فى جوازه، والمختار الجواز، ومنعه المعتزلة والصيرفى، لنا أنه ثبت بالدليل فيما تقدَّم أن التكليف ثابت قبل وقت الفعل فوجب جواز رفعه بالنسخ، كما يرفع بالموت لأنهما سواء، وقد يجاب عنه بأن التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا فلا رفع، ولنا أيضًا أن كل نسخ قبل وقت الفعل، وقد اعترفتم بثبوت النسخ، فيلزمكم تجويزه قبل الفعل، بيانه أن التكليف بالفعل بعد وقته محال، لأنه إن فعل أطاع وإن ترك عصى، فلا نسخ، وكذلك فى وقت فعله لأنه فعل وأطاع به فلا يمكن إخراجه عن كونه طاعة بعد تحققها، وقد يقال الكلام فيما لم يفعل شيئًا من الأفراد التى يتناولها التكليف، وليس كل نسخ كذلك، فلا يحصل الإلزام، واستدل بقصة إبراهيم عليه السلام، وهى أنه أمر بذبح ولده ونسخ عنه قبل التمكن من الفعل، أما الأول فبدليل قوله تعالى:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، ولأنه أقدم على الذبح وترويع الولد، ولو لم يكن مأمورًا به لكان ذلك ممتنعًا شرعًا وعادة، وأما الثانى فلأنه لم يفعل فلو كان مع حضور الوقت لكان عاصيًا، واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت كان عاصيًا لجواز أن يكون الوقت موسعًا فيحصل التمكن فلا يعصى

ص: 223

بالتأخير ثم ينسخ.

الجواب: أما أولًا: فلأنه لو كان موسعًا لكان الوجوب متعلقًا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعًا، فإذا نسخ عنه فقد نسخ تعلق الوجوب المستقبل، وهو المانع عندهم من النسخ، فقد جاز ما قالوا بامتناعه وهو المطلوب، وأما ثانيًا: فلأنه لو كان موسعًا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح، وترويع الولد عادة إما رجاء أنه سينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر، ومثله مما يؤخر عادة، وربما دفعوه بوجوه أخر.

منها: أنه لم يؤمر بشئ، وإنما توهم ذلك توهمًا بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراجه وأخذه المدية وتله للجبين، وهذا ليس بشئ لما مر من قوله:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]، وقوله:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، ولولا الأمر لما كان بلاء مبينًا، ولما احتاج إلى الفداء، وعلى أصلهم هو توريط لإبراهيم فى الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز.

ومنها: أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روى أنه ذبح وكان كلما قطع شيئًا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح وهذا لا يسمع، أما أولًا: فلأنه خلاف العادة، والظاهر ولم ينقل نقلًا معتبرًا، وأما ثانيًا: فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفًا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخًا قبل التمكن.

قالوا: لو كان الفعل واجبًا فى الوقت الذى عدم الوجوب فيه لكان مأمورًا به فى ذلك الوقت غير مأمور به فى ذلك الوقت وتوارد النفى والإثبات على محل واحد وأنه محال وإن لم يكن واجبًا فى ذلك الوقت فلا يكون نفى الوجوب فيه نسخًا له.

الجواب: نختار أنه ليس مأمورًا به فى ذلك الوقت قولكم فلا نسخ قلنا ممنوع فإنه مأمور به قبل ذلك الوقت ثم ورد تجويز تركه فى وقت آخر، متعلقًا بالفعل فى الوقت الذى كان الوجوب متعلقًا به كما لو مات قبل الوقت فانقطع عنه التكليف بالموت فالتكليف وعدمه قبل الوقت فى زمانين فلا تناقض إلا أن

ص: 224

متعلقهما هو الفعل فى وقت واحد وذلك جائز وأنه محل النزاع.

وقت الفعل ولهذا قال فى التقرير قبل دخول عرفة وصرح بأن المراد قبل وقت الفعل والحق أن المراد قبل الوقت الذى يتمكن فيه من أداء الفعل فيشمل ما قبل دخول الوقت وما بعد دخول الوقت وعدم انقضاء زمان يسع المأمور به فالأول مثل أن يقول: حجوا هذه السنة ثم يقول قبل دخول عرفة: لا تحجوا والثانى مثل أن يقول يوم عرفة قبل انقضاء زمان يسع الأسباب: لا تحجوا، فالنسخ أبدًا لا يتعلق بما مضى بل ربما تعدد وقوعه فى الاستقبال من أفراد الفعل.

قوله: (فيما تقدَّم) من أنه لا ينقطع التكليف بالفعل حال حدوثه وأنه يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه.

قوله: (لأنهما) أى النسخ والموت سواء فى انقطاع التكليف بهما وارتفاع تعلق الخطاب وقد يجاب بمنع الاستواء لتحقق الرفع فى النسخ دون الموت للقطع بأن الرفع يقتضى سابقة الثبوت والعقل قاض بأنه لا ثبوت مع الموت وحاصله أنا لا نسلم تكليف من علم اللَّه أنه يموت قبل التمكن من الفعل، وقد يدفع بأنه إجماع أو إلزام للمعتزلة حيث قالوا بالتكليف قبل الفعل من غير تفرقة بين من علم اللَّه أنه يموت أو لا يموت، فإن قيل التكليف الذى يرتفع قبل التمكن من الفعل يكون عبثًا وهو قبيح قلنا بعد تسليم القاعدة: لا نسلم العبث إذ يشتمل على الفائدة التى هى الابتلاء.

قوله: (وكل نسخ قبل وقت الفعل) لا خفاء أن النزاع فيما قبل الوقت الذى قدره الشارع للفعل والذى ذكر فى الدليل إنما هو وقت لمباشرة الفعل فأين أحدهما من الآخر.

قوله: (وهو) أى تعلق الوجوب بالمستقبل هو المانع عند المعتزلة من النسخ على ما سيذكره فى تقرير شبهتهم من أنه لو لم يكن مأمورًا به فى ذلك الوقت لم يتحقق النسخ.

قوله: (ولولا الأمر) أى الأمر بالذبح يعنى لو لم يؤمر بشئ أو أمر بالمقدمات دون الذبح لما كان هذا بلاء مبينًا ولما احتاج إلى الفداء إما على تقدير عدم الأمر بشئ فظاهر وإما على تقدير الأمر بالمقدمات فلسهولة الامتثال فيه وعدم تأديه إلى

ص: 225

تلف النفس ليفتقر إلى فداء.

قوله: (وأنه خلق) عطف على أنا لا نسلم أنه لم يذبح، أن خلق صفيحة منعت الذبح مع أنه مأمور به من غير نسخ وجعله عطفًا على أنه لم يذبح أو أنه ذبح مما لا معنى له.

قوله: (وإلا لأثم بتركه) أصول الحنفية أنه لا ترك ههنا للمأمور به حتى يلزم الإثم لأن ذبح الشاة خلف عن ذبح الولد والخلف يقوم مقام الأصل، يقرره أنه اسم لما يقوم مقام الشئ فى قبول ما يتوجه إليه من المكروه فلو كان ذبح الولد مرتفعًا لما احتاج إلى ما يقوم مقامه.

قوله: (قالوا: إن كان مأمورًا به) قد اضطرب كلام الشارحين فى تقرير هذه الشبهة وجوابها فذهب العلامة إلى أن المراد أن الفعل المنسوخ لو كان مأمورًا به فى ذلك الوقت أعنى قبل دخول وقته أو بعده قبل انقضاء زمان يسع المأمور به وقد نسخ أى نهى عنه لزم توارد النفى والإثبات على محل واحد فى وقت واحد وإذا لم يكن مأمورًا به لا يكون رفعه نسخًا وتوجيه الجواب أنه يكون مأمورًا به قبل ذلك الوقت يعنى الوقت الذى لحقه النسخ ويتبين انقطاع التكليف عند ذلك الوقت بالناسخ وقد اعترض بأن هذه الشبهة تنفى النسخ مطلقًا فلا تصلح تمسكًا للقائل بالنسخ، فإن قيل إذا فعل بعض الأفراد التى تناولها التكليف لم يلزم التوارد لتعلق الأمر بما فعل والنهى بما نسخ قلنا: تردد فى الفرد الذى لم يفعل وقد نسخ فإن أجيب بأنه يرتفع التكليف الذى تعلق بأصل الفعل ووجد منه بعض الأفراد قلنا وكذلك إذا لم يوجد فيندفع أصل الشبهة ففى الجملة لا تختص الشبهة بما قبل الوقت وتقرير بعض الشارحين أن المكلف إن كان مأمورًا به بالفعل فى وقته فلو نسخ فى ذلك الوقت لزم التوارد إن لم يكن مأمورًا به فى ذلك الوقت فلا نسخ وأنت خبير بأن هذا التقرير مع المطلوب على طرفى نقيض لما أنه ينفى النسخ فى وقت الفعل وفى بعض الشروح أن هذا متعلق بقصة إبراهيم وهو بعيد جدًا والشارح المحقق بالغ فى البيان والتوضيح وجعل ذلك الوقت إشارة إلى وقت النسخ الوارد قبل التمكن من الفعل وحاصل الجواب أن الوقت الذى قبل التمكن ذو أجزاء، فالإثبات فى بعضها والنفى فى بعض آخر فلا تناقض ولم يزد على ما ذكره العلامة إلا زيادة تحقيق فى الجواب واعتراضه بحاله فقوله: متعلقًا حال من

ص: 226

تركه والمجرور فى قوله متعلقًا به عائدًا إلى الموصول أو إلى الفعل والعائد المحذوف وقوله: فى وقت آخر هو وقت النسخ يعنى فى وقت مغاير للوقت الذى هو مأمور فيه وكلا الوقتين من الأزمان التى قبل التمكن مع الفعل، وقوله: قبل الوقت يعنى وقت الفعل والتمكن منه وضمير متعلقهما للفعل والترك وقوله: فى وقت واحد هو الوقت الذى قدره الشارع وتمكن فيه من الفعل وتوضيحه الإتيان بفعل بعد الزوال يكون فى وقت الطلوع متعلقًا للوجوب وفى وقت الضحى متعلقًا للحرمة أو الإباحة.

قوله: (الحكم المقيد بالتأبيد) أى المشتمل ذكره على ما يفيد تأبيد الوجوب أو

المصنف: (المختار جواز النسخ قبل الوقت) قال القرافى فى شرح المحصول: المسائل فى هذا المعنى أربعة إحداهن: أن يؤقت الفعل بزمن مستقبل فينسخ قبل حضوره وثانيتهن: أن يؤمر به على الفور فينسخ قبل الشروع فيه وثالثتهن: أن يشرع فيه فينسخ قبل كماله ورابعتهن: إذا كان الفعل يتكرر فيفعل مرارًا ثم ينسخ والثلاثة الأول فى الفعل الواحد غير المتكرر وأما الرابعة فوافقنا عليها المعتزلة لحصول مصلحة الفعل بتلك المرات الواقعة فى الأزمنة الماضية ومنه نسخ القبلة وغيرها ومنعوا قبل الوقت وقبل الشروع لعدم حصول المصلحة من الفعل وترك المصلحة عندهم يمنعه قاعدة الحسن والقبح. اهـ.

المصنف: (لنا ثبت التكليف) أى فلا يقال: إن النسخ يقتضى ثبوت الحكم قبله وقبل دخول الوقت وبعد دخوله وقبل التمكن لا وجوب حتى ينسخ.

الشارح: (وقد يجاب عنه بأن التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا فلا رفع) يعنى فهو من ياب التخصيص بالعقل لا الرفع الذى هو نسخ وليس المراد أن الرفع يقتضى سابقة الثبوت والعقل قاض بأنه لا ثبوت مع الموت كما قال المحشى حتى يحتاج إلى الدفع بالإجماع أو الإلزام.

الشارح: (وقد يقال الكلام فيما لم يفعل شيئًا) أى لأن النزاع فى جواز النسخ قبل حضور الوقت الذى يتمكن فيه من الفعل بأن لم يدخل الوقت أو دخل ولم يتمكن من الفعل.

الشارح: (وليس كل نسخ كذلك) أى واقعًا قبل أن يفعل شيئًا من الأفراد التى

ص: 227

يتناولها التكليف فيتحقق فيما يتكرر إذا فعل فرد منه النسخ للأفراد الأخر وفيما إذا مضى زمن من الوقت يتمكن فيه من الفعل على ما يأتى.

الشارح: (وهو المانع عندهم) أى تعلق الوجوب بالمستقبل وعدم تحققه قبله يمنع النسخ عندهم لاشتراطهم فى تحقق النسخ كون المنسوخ واجبًا فى وقته وتعلق الوجوب بالمستقبل ينافيه فلو صح النسخ لتعلق الوجوب بالمستقبل لصح النسخ قبل الوقت وهو خلاف مذهبهم وهو المطلوب لنا.

الشارح: (وعلى أصلهم) أى من الحسن والقبح العقليين.

قوله: (بل بما كان يقدر وقوعه فى الاستقبال من أفراد الفعل) يوافق هذا ما قاله إمام الحرمين: كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه فى المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على متقدم بل الفرض أنه إذا فرض ورود الأمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضى من وقت اتصال الأمر به ما يسع الفعل المأمور به أم لا. اهـ.

قوله: (وحاصله لا نسلم تكليف من يموت. . . إلخ) أى فالموت ليس رفعًا لتكليف ثابت بخلاف النسخ فليسا سواء.

قوله: (والذى ذكر فى الدليل. . . إلخ) أى حيث قال: لأنه فعل وأطاع به فلا يمكن إخراجه عن كونه طاعة لكن ينافى هذا التقدير قوله قبل: لأنه إن فعل أطاع وإن ترك عصى.

قوله: (أنه لا ترك ههنا) أى فلا مانع من أنه لا نسخ، وقوله: فلو كان ذبح الولد مرتفعًا. . . إلخ. أى فالاحتياج إلى ما يقوم مقامه يقتضى أن الذبح أى وجوبه لم يرتفع.

قوله: (قالوا: إن كان مأمورًا به. . . إلخ) هذه العبارة عبارة المصنف وأما عبارة الشارح فهى: قالوا لو كان الفعل واجبًا. . . إلخ.

قوله: (تنفى النسخ مطلقًا) أى سواء قبل وقت الفعل وبعد وقته فلا تصلح تمسكًا للقائل بالنسخ وإنما يمنعه قبل وقت الفعل.

قوله: (وكذلك إذا لم يوجد) أى يرتفع التكليف بوجود الناسخ عند عدم وجود الفعل المنسوخ حكمه.

قوله: (وتقرير بعض الشارحين) هو الأصفهانى.

ص: 228

قوله: (لما أنه ينفى النسخ وقت الفعل) أى لأنه اعتبر وقت الفعل فى استدلاله يتوارد النفى والإثبات لو نسخ فى وقت الفعل والمطلوب منع النسخ قبل وقت الفعل.

قوله: (واعتراضه) أى اعتراض العلامة بأن هذه الشبهة تمنع النسخ مطلقًا فلا تصلح تمسكًا للقائل بالنسخ.

قوله: (هو الوقت الذى قدره الشارع. . . إلخ) أى أن وقت الفعل ووقت الترك اللذين هما جزءان للوقت قبل التمكن هما من أجزاء الوقت العام لهما ولباقى الوقت المقدر شرعًا واعلم أن صاحب التحرير ذكر أن المحققين من الحنفية قد نقلوا عن المعتزلة أن النسخ بيان مدة العمل بالبدن فلا يتحقق إلا بعد التمكن من العمل بالبدن المقصود الأصلى من شرع الأحكام لا العزم ومعه أى من التمكن من العمل يجوز النسخ وإن لم يعمل لأن الثابت تفريط المكلف وليس مانعًا مع النسخ وهذا متحقق فى الموسع فيجوز فيه النسخ عندهم ودفعه بتعلق الوجوب بالمستقبل فى الموسع مدفوع بأن الوجوب ثبت فى الموسع ولذا لو فعله سقط عنه بخلاف المضيق فتعلق الوجوب فيه بالمستقبل حيث لم يمض زمن يمكنه فيه الفعل، وعلى هذا ينزل كلام المعتزلة حملًا لكلام العقلاء على عدم المناقضة ما أمكن.

ص: 229

قال: (مسألة: الجمهور، على جواز نسخ مثل صوموا أبدًا بخلاف الصوم واجب مستمر أبدًا، لنا لا يزيد على صم غدًا ثم ينسخ قبله، قالوا: متناقض، قلنا لا منافاة بين إيجاب صوم غد وانقطاع التكليف قبله كالموت).

أقول: الحكم المقيد بالتأبيد إن كان التأبيد قيدًا فى الفعل مثل أن يقول: صوموا أبدًا، فالجمهور على جواز نسخه، وإن كان التأبيد قيدًا للوجوب، وبيانًا لمدة بقاء الوجوب، واستمراره، فإن كان نصًا مثل أن يقول: الصوم واجب مستمر أبدًا لم يقبل خلافه وإلا قبل وحمل ذلك على مجازه، لنا أنه لا يزيد فى دلالته على جزئيات الزمان على دلالة قوله: صم غدًا على صوم غد، وقد قدمنا أن ذلك قابل للنسخ، وإذا جاز ذلك مع قوة النصوصية فيما تناوله فهذا مع ظهوره واحتمال أن لا يتناوله أولى بالجواز.

قالوا: التأبيد معناه أنه دائم، والنسخ ينفى الدوام ويفطعه فكان متناقضًا فلم يجز على اللَّه.

الجواب: لا نسلم التناقض إذ لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد وعدم أبدية التكليف به، وذلك كما لا منافاة بين إيجاب صوم مقيد بزمان وأن لا يوجد الوجوب فى ذلك الزمان، كما يقال: صم غدًا ثم ينسخ قبله، وذلك كما يتعلق التكليف بالصوم فى غد ثم يموت قبل غد فلا يوجد فى غدٍ تكليف.

الواجب.

قوله: (وإلا قبل) أى وإن لم يكن نصًا بل ظاهرًا مثل الصوم واجب فى الأيام والأزمان ونحو ذلك قبل النسخ الذى هو خلاف التأبيد وحمل ظاهر التأبيد على المجاز على التخصيص ونحوه.

قوله: (لنا) احتجاج على جواز نسخ ما يكون التأبيد قيدًا للفعل وحاصله أنه إذا جاز نسخ التكليف بالفعل المقيد بالأزمنة المخصوصة بطريق التنصيص عليها فبطريق الظهور واحتمال عدم التناول أولى وكان الشارح العلامة لم يتنبه لما أشار إليه المحقق من الفرق بين قيد الوجوب والوجوب فزعم أن مثل: صوموا أبدًا يدل على ثبوت الحكم فى جميع الأزمان لعمومه وليس تنصيصًا على كل وقت بعينه إذ قد يطلق للمبالغة مثل لازم فلانًا أبدًا.

ص: 230

قوله: (لا نسلم التناقض) حاصله أن إيجاب الدوام إنما يناقضه عموم إيجاب الدوام لا عدم دوام الإيجاب.

قوله: (قد اختلف فى جواز نسخ التكليف من غير تكليف آخر) قيد بالتكليف

المصنف: (بخلاف الصوم واجب مستمر أبدًا) أى إذا قيل إنشاء وأما إذا قيل خبرًا فسيأتى، وعلله فى مسلم الثبوت بالتناقض ورد بأنا لا نسلم التناقض بل أحدهما يرفع الآخر كطريان الضد لأنه والنسخ إنشاء لا محكى لهما وأما لزوم الإخبار ببقائه إلى الأبد فممنوع بل لا أبدية للحكم حتى يصح الإخبار عنها وقيل هما سواء فى الجواز وهو الحق.

الشارح: (إذ لا منافاة بين إيجاب فعل. . . إلخ) رد بأنه إذا ارتفع وجوب الصوم الدائم استلزم عدم دوامه فبين دوام الصوم ونسخ وجوبه تناف.

قوله: (أى المشتمل ذكره على ما يفيد. . . إلخ) دفع بذلك ما يقال كيف يصح تقسيم الحكم المقيد بالتأبيد إلى كونه قيدًا للفعل وقيدًا للوجوب وفى شارح التحرير نقلًا عن كشف البزدوى لا طائل فى هذا الخلاف إذ لم يوجد فى الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعه بعد ذلك فى زمان الوحى ولا يتصور بعده.

قوله: (فزعم أن مثل صوموا أبدًا يدل على ثبوت الحكم. . . إلخ) أى مع أنه إنما يدل على ثبوت الصوم الذى هو الواجب لا الحكم الذى هو الوجوب لأن أبدًا ظرف للصوم لا للحكم.

ص: 231

قال: (مسألة: الجمهور جواز النسخ من غير بدل، لنا أن مصلحة المكلف قد تكون فى ذلك وأيضًا فإنه وقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر وتحريم ادخار لحوم الأضاحى، قالوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وأجيب بأن الخلاف فى الحكم لا فى اللفظ، سلمنا لكن خصص سلمنا ويكون نسخه بغير بدل خيرًا لمصلحة علمت، ولو سلم أنه لم يقع فمن أين لم يجز).

أقول: قد اختلف فى جواز نسخ التكليف من غير تكليف آخر يكون بدلًا عنه فجوزه الجمهور، ومنعه قوم، لنا أنه إن لم يقل برعاية المصالح فلا إشكال، وإن قيل بها فلا استحالة عقلًا، بأن تكون المصلحة فى النسخ عنه بلا بدل، ولنا أيضًا أنه لو لم يجز لما وقع وقد وقع منه، قوله تعالى:{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، أوجب الصدقة عند مناجاة الرسول، ثم نسخ بلا بدل ومنه أن الإمساك بعد الفطر عن المباشرة كان واجبًا ثم مسخ بلا بدل، ومنه أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحى محرمًا ثم نسخه مبيحًا بلا بدل.

قالوا: قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ولا يتصور كونه خيرًا أو مثلًا إلا فى بدل.

الجواب: أن المراد: نأت بلفظ خير منها لا بحكم خير من حكمها، وليس الخلاف فى اللفظ إنما الخلاف فى الحكم ولا دلالة عليه فى الآية، سلمنا أن المراد نأت بحكم خير منها، لكنه عام يقبل التخصيص فلعله خصص بما نسخ لا إلى بدل سلمناه ولا يلزم البدل إذ أتى بنسخه من غير بدل وهو حكم فلعله خير للمكلف لمصلحة يعلمها اللَّه ولا نعلمها نحن، سلمناه لكن هذا دال على عدم الوقوع وأما على عدم الجواز فلا، والنزاع فى الجواز.

لأنه لا خلاف فى أن النسخ إنما يكون بدليل وهو لا محالة يثبت حكمًا آخر كالإباحة فى الصور المذكورة التى نسخ فيها الوجوب والتحريم ولا فى أن كل آية تنسخ يؤتى بآية أخرى يكون العمل بها أكثر منها ثوابًا أو مثلها والظاهر أن مراد القائلين بوجوب البدل فى النسخ هو إثبات حكم آخر متعلق بذلك الفعل الذى ارتفع عنه الحكم المنسوخ كالإباحة عند نسخ الوجوب أو الحرمة على ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن النسخ هو الإذهاب إلى بدل والإنشاء هو الإذهاب لا إلى

ص: 232

بدل، واعترض عليه بأن الآية تدل على وجوب البدل فيهما جميعًا، والجواب أن المراد بالبدل حكم آخر متعلق بذلك الفعل والآية الأخرى لا يلزم أن تكون كذلك بل قد تدل على ما لا تعلق له بذلك الفعل هذا والحق أنه يجوز النسخ بلا حكم بأن يدل الدليل على ارتفاع الحكم السابق من غير إثبات حكم آخر فلا يحتاج إلى تقييد البدل بالتكليف وعلى هذا لا يكون نسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحى إلى إباحته من جواز نسخ بلا بدل.

قوله: (وأيضًا لو لم يجز لم يقع) كان هذا مندرجًا فيما تقدَّم إلا أنه حاول

المصنف: (الجمهور على جواز النسخ من غير بدل) أى من غير بدل إلى حكم تكليفى أخذًا مما مثل له.

المصنف: (كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر) أى كنسخ وجوب الإمساك عن مباشرة النساء بعد الإفطار أى أنه كان الإمساك ليلة الصيام عن مباشرة النساء واجبًا ثم نسخ بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، والأولى أن يقول: كنسخ حرمة المفطرات بالنوم بعد دخول الليل أو بصلاة العشاء.

المصنف: (ولو سلم أنه لم يقع فمن أين لم يجز) حمله الشارح على خلاف ظاهره فقال: ولو سلم لزوم البدل لكنه دال على عدم الوقوع فيه وأما على عدم الجواز فلا لأن ظاهره ليس مرادًا لأن الخصم استدل بالآية على عدم الجواز.

الشارح: (إذا أتى نسخه من غير بدل وهو حكم) أى عدم البدل حكم وفيه أن الكلام فى الحكم الشرعى وعدم البدل ليس حكمًا شرعيًا إلا أن يقال: إن المدار على مطلق حكم.

قوله: (وهو لا محالة يثبت حكمًا آخر) رد بأنه لا يلزم من كون دليل النسخ شرعيًا أن يثبت حكمًا بل قد يدل على مجرد رفع الحكم السابق كما سيذكره، وقوله وعلى هذا لا يكون نسخ تحريم الأضاحى. . . إلخ. أى كما هو ظاهر المصنف.

ص: 233

قال: (مسألة: الجمهور جواز النسخ بأثقل، لنا ما تقدَّم وبأنه نسخ التخيير فى الصوم والفدية وصوم عاشوراء برمضان والحبس فى البيوت بالحد، قالوا: أبعد فى المصلحة، قلنا يلزمكن فى ابتداء التكليف وأيضًا فقد يكون علم الأصلح فى الأثقل كما يسقمهم بعد الصحة ويضعفهم بعد القوة، قالوا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، قلنا إن سلم عموم فسياقها للمآل فى تخفيف الحساب وتكثير الثواب، أو تسميته للشئ بعاقبته مثل: لدوا للموت وابنوا للخراب، وإن سلم الفور فمخصوص بما ذكرناه كما خصت فقال التكاليف والابتلاء باتفاق، قالوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والأشق ليس بخير للمكلف، وأجيب بأنه خير باعتبار الثواب).

أقول: يجوز نسخ التكليف بتكليف أخف، أو مساوٍ اتفاقًا، وهل يجوز بتكليف أثقل منه، الجمهور على جوازه ومنعه قوم، لنا ما تقدَّم أنه إن لم تعتبر المصلحة فواضح وإن اعتبر فلعل المصلحة فى الأثقل، أيضًا لو لم يجز لم يقع وقد وقع منه التخيير بين الصوم والفدية كان هو الواجب أولًا فنسخ بتعيين الصوم، ولا شك أن إلزام أحد الأمرين بعينه أشق من التخيير بينهما، ومنه: أن صوم عاشوراء كان هو الواجب، فنسخ بصوم رمضان، وصوم شهر أشق من صوم عشرة أيام، ومنه أن الحبس فى البيوت كان هو الواجب على الزانى فنسخ بالحد من الجلد والرجم، وأنه أثقل.

قالوا: أولًا: نقلهم إلى الأشق الأثقل أبعد من المصلحة فلا يجوز.

الجواب: أولًا النقض فإنه يلزمكم فى أصل التكليف فإنه نقل من البراءة الأصلية إلى ما هو أثقل فينبغى أن لا يجوز وأنه جائز اتفاقًا. وثانيًا لا نسلم أنه أبعد من المصلحة وربما علم اللَّه أن المصلحة فى الأثقل بعد الأخف أكثر، كما ينقلهم من الصحة إلى السقم، ومن القوة إلى الضعف، ومن الشباب إلى الهرم، هذا بعد تسليم رعاية المصلحة وأنها ممنوعة وإنما لم يتعرض له لأنه قد علم.

قالوا: ثانيًا: قال اللَّه تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، والنقل إلى الأثقل بخلاف ذلك فلا يريده.

الجواب: أولًا أنا لا نسلم عموم التخفيف واليسر والعسر فى الآيتين بل هى

ص: 234

مطلقة، ولو سلم فسياقهما يدل على إرادة ذلك فى المآل، فالتخفيف هو تخفيف الحساب واليسر هو تكثير الثواب، ولو سلم فإنه مجاز من باب تسمية الشئ باسم عاقبته، مثل:

* لدوا للموت وابنوا للخراب *

فإن التكليف سمى تخفيفًا ويسرًا باعتبار أن عاقبته تخفيف الحساب وتكثير الثواب، ولو سلم أنه للفور لا للمآل ولا مجازًا باعتبار المآل، فهو مخصوص بما ذكرناه من النسخ بالأثقل كما هو مخصوص بخروج أنواع التكاليف الثقيلة، وأنواع الابتلاء فى الأبدان والأموال، مما هو واقع باتفاق ولا يعد ولا يحصى.

قالوا: ثالثًا: قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فيجب الأخف لأنه الخير، أو المساوى لأنه المثل والأشق ليس بخير منها ولا مثل.

الجواب: أنه خير باعتبار الثواب، إذ لعل الثواب فيه أكثر، قال تعالى:{لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} [التوبة: 120] الآية، وقال عليه السلام:"أجرك بقدر نصبك"، وكما يقول الطبيب للمريض الجوع خيرٌ لك.

تفصيل جواز الوقوع.

قوله: (من صوم عشرة أيام) من سهو القلم والصواب: من صوم يوم واحد فإن عاشوراء اسم للعاشر من المحرم أو التاسع منه على اختلاف فيه وكان الفرض صومه لا صوم العشر من المحرم بلا خلاف.

قوله: (لا للمآل ولا مجازًا باعتبار المآل) الأول تخصيص للتخفيف واليسر بما فى الآخرة والثانى تعبير بهما عن التكليف الذى يؤول إليهما والمعنى لو سلم أن كلًا من التخفيف واليسر حقيقة شامل للعاجل، وليس مختصًا بالآجل ولا مجازًا عما يؤول إلى ذلك ويجوز أن يكون المعنى لو تبرعنا وقدرناه أنه للعاجل خاصة لم يثبت مطلوبكم.

قوله: (وخالف فيه) أى فى جواز الثلاثة بعض المعتزلة حيث لم يجوزوا نسخ

المصنف: (مثل لدوا للموت) التمثيل باعتبار العاقبة فى كل وإن كان فى لدوا

ص: 235

للموت اللام استعارة لترتب العاقبة وأما فى الآية فقد سمى الشئ باسم نفس العاقبة.

قوله: (كأن هذا. . . إلخ) أى وأيضًا لو لم يجز لم يقع مندرجا فى قول المصنف لنا ما تقدم.

قوله: (حاول تفصيل جواز الوقوع) أى بيانه.

ص: 236

قال: (مسألة: الجمهور على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس، ونسخهما معًا وخالف بعض المعتزلة، لنا القطع بالجواز وأيضًا الوقوع؛ عن عمر: "كان فيما أنزل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" (*)، ونسخ الاعتداد بالحول، وعن عائشة رضى اللَّه عنها:"كان فيما أنزل: عشر رضعات محرمات"(**)، والأشبه جواز مس المحدث للمنسوخ لفظه، قالوا: التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم فلا ينفكان، وأجيب بمنع العالمية والمفهوم ولو سلم فالتلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دوامًا فإذا نسخ لم ينتف المدلول وكذلك العكس، قالوا: بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم فيوقع فى الجهل، وأيضًا فتزول فائدة القرآن، قلنا مبنى على التحسين ولو سلم فلا جهل مع الدليل لأن المجتهد يعلم والمقلد يرجع إليه وفائدته كونه معجزًا وقرآنًا يتلى).

أقول: النسخ إما للتلاوة فقط، أو للحكم فقط، أو لهما معًا والثلاثة جائزة، وخالف فيه بعض المعتزلة، لنا أنا نقطع بالجواز فإن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها وما تدل عليه من الأحكام حكم آخر ولا تلازم بينهما وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخهما ونسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة، ولنا أيضًا الوقوع وأنه دليل الجواز أما التلاوة فقط فلما روى عمر رضى اللَّه عنه أنه كان فيما أنزل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه، وحكمه ثابت وإن خصص بالإحصان، وأما الحكم فكنسخ الاعتداد بالحول واللفظ مقروء، وأما هما معًا فما روت عائشة رضى اللَّه عنها أنه كان فيما أنزل: عشر رضعات محرمات، وقد نسخ تلاوته وحكمه، وهل يجوز فى النسوخ أن يمسه المحدث أو يتلوه الجنب، فيه تردد والأشبه أنه لا يجوز فيما نسخ حكمه وأقر تلاوته لأنه قرآن إجماعًا، ويجوز فيما نسخ تلاوته وأقر حكمه، لأنه ليس بقرآن إجماعًا.

قالوا: أولًا: التلاوة مع حكمها فى دلالتها عليه كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم فكما لا ينفك العلم والعالمية ولا المنطوق ومفهومه كذلك لا تنفك التلاوة

(*) أخرجه مسلم (2/ 1075)(ح 1452).

(**) أخرجه ابن حبان (10/ 273)(ح 4428)، والحاكم فى المستدرك (2/ 450)(ح 3554)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو عوانة فى مسنده (4/ 122)(ح 6257)، والدارمى (2/ 234)(ح 2323)، والبيهقى فى الكبرى (8/ 211).

ص: 237

والحكم، الجواب منع ثبوت العالمية فإنه فرع ثبوت الأحوال وأنه عندنا باطل فليست العالمية أمرًا وراء قيام العلم بالذات لازمًا له، وكذا منع المفهوم فإنه غير لازم ونحن لسنا ممن يقول به ولئن سلمنا فلا يلزم من نسخ أحدهما دون الآخر الانفكاك لأن التلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دوامًا أى يدل ثبوت التلاوة على ثبوت الحكم ولا يدل دوامها على دوامه ولذلك فإن الحكم قد يثبت بها مرة واحدة والتلاوة تتكرر أبدًا، وإذا كان كذلك فإذا نسخ التلاوة وحدها فهو نسخ لدوامها وهو غير الدليل وإذا نسخ الحكم وحده فهو نسخ للدوام وهو غير مدلول فلا يلزم انفكاك الدليل والمدلول بخلاف العالمية مع العلم والمنطوق مع المفهوم إن ثبتا لتلازمهما ابتداءً ودوامًا.

قالوا: ثانيًا: بقاء التلاوة دون الحكم يوهم بقاء الحكم وأنه إيقاع فى الجهل وهو قبيح فلا يقع من اللَّه تعالى، وأيضًا فتزول فائدة القرآن لانحصار فائدة اللفظ فى إفادة مدلوله فإذا لم يقصد به ذلك فقد بطلت فائدته والكلام الذى لا فائدة فيه يجب أن ينزه عنه القرآن.

الجواب: هذا مبنى على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أبطلناهما ولو سلم فقولك إنه إيقاع فى الجهل، قلنا لا نسلم وإنما يكون كذلك لو لم ينصب عليه دليل وأما إذا نصب فلا إذ المجتهد يعلم بالدليل والمقلد يعلم بالرجوع إليه، فينتفى الجهل قولك تزول فائدة القرآن، قلنا لا نسلم، وإنما يلزم لو انحصرت فائدته فيما ذكرتم وهو ممنوع لجواز أن تكون فائدته كونه معجزًا بفصاحة لفظه وقرآنًا يتلى للثواب.

التلاوة فقط والحكم فقط وأما نسخهما جميعًا فلا يتصور منعه ممن يقول بجواز النسخ فى القرآن وما ذكر فى المتن من شبههم، فالأول استدلال على امتناع نسخ أحدهما فقط لا على التعيين، والثانى على امتناع نسخ الحكم فقط وبمثله يستدل على امتناع نسخ التلاوة فقط لأنه يوهم رفع الحكم فيوقع فى الجهل ولأنه يكون عريًا عن الفائدة حيث لم يفد إثبات حكم ولا رفعه فلذا سكت عنه المصنِّفُ وليس من شبههم ما يدل على امتناع نسخهما جميعًا لعدم الخلاف فى ذلك فعلى هذا يكون تمكنًا بنسخ عشر رضعات محرمات نصبًا للدليل فى غير محل النزاع اللهم إلا

ص: 238

أن يمنع مفهوم العدد فيكون نسخًا للتلاوة فقط فيختص الاعتراض بالشرح دون المتن ثم لا يخفى أن من قال بثبوت العالمية والمفهوم قال بلزومهما لقيام العلم وللمنطوق فلا فرق بين منع ثبوتهما كما هو عبارة المتن نفيًا للزوم بالكلية ودفعًا لوهم ثبوتهما بدون اللزوم وبين منع التغاير بين العالمية وقيام العلم بالذات ليتحقق التلازم ولزوم المفهوم للمنطوق، على ما هو عبارة المنتهى والأحكام تصريحًا بنفى ما ادعى الخصم من اللزوم ولذا قال المحقق فليست العالمية أمرًا وراء قيام العلم بالذات لازمًا له ولم يقل أمرًا غير العلم لا أنهم يقولون للصفة وراء الذات ولا يقولون غير الذات.

قوله: (أى بأن يكلفه الإخبار بنقيضه) أى بنقيض ذلك الشئ كما إذا قال:

الشارح: (الجواب منع ثبوت العالمية. . . إلخ) رده مسلم الثبوت والتحرير بأن قولهم كالعلم مع العالمية تنظير للتلازم وليس مقيسًا عليه حتى يضر منعه وقال شارح مسلم الثبوت: والأصوب فى الجواب أن يقال: إن منسوخ التلاوة لا يرفع نظمه من البين ولا دلالته بل هو كلام منزل من اللَّه تعالى مفيد لمعناه كما كان قبل وإنما ترتفع أحكامه من جواز الصلاة به وغيره وليس الحكم من ملزومات هذه الأحكام لا بقاء ولا ابتداء.

الشارح: (ونحن لسنا ممن يقول بلزومه) أى وإن كان ثبوته لا ينكر وإنما صح إنكار لزومه لأنه ينفك عن المنطوق كما إذا قال ملك لجلاده وقد استوجب رجل شريف الحد: اجلده ولا تقل له أف، وقوله: ولم يقل أمرًا غير العلم رده الأبهرى بأن العالمية ليس صفة للعلم لا عند القائلين بالأحوال ولا عند غيرهم وصفة القديم ليست غير الذات إلا أنها عند المعتزلة عين الذات وليست غير الذات، كما أنها ليست غير الذات عند مشايخنا. اهـ.

قوله: (فعلى هذا يكون تمسكنا بنسخ عشر رضعات محرمات نصبًا للدليل فى غير محل النزاع) أجاب الأبهرى بان إقامة الدليل لا تنحصر فى دفع الخلاف وإلزام المخالف؛ بل قد يكون الغرض منها إثبات المدعى وهو هنا معرفة حكم شرعى هو جواز نسخ التلاوة والحكم معًا كما يستمسك بالإجماع والنصوص والأقيسة الجلية وأما قول العلماء لا يجوز نصب الدليل فى غير محل النزاع

ص: 239

فمحمول على ما إذا حاول المستدل إلزام الخصم ورفع الخلاف وأقام الدليل على ما لا خلاف فيه.

قوله: (إلا أن يمنع مفهوم العدد) أى فيكون حكم الأقل من العشر كحكم العشر وقوله: فيختص الاعتراف بالشارح أى حيث قال: وأما هما معًا. . . إلخ.

قوله: (ولزوم المفهوم للمنطوق) الظاهر أن المراد بالمفهوم هنا مفهوم الموافقة.

ص: 240

قال: (مسألة: المختار جواز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه خلافًا للمعتزلة، وأما نسخ مدلول خبر لا يتغير فباطل، والمتغير كإيمان زيد وكفره مثله، خلافًا لبعض المعتزلة، واستدلالهم بمثل أنتم مأمورون بصوم كذا ثم ينسخ يرفع الخلاف).

أقول: الكلام فى نسخ الخبر وله صورتان: إحداهما: نسخ إيقاع الخبر بأن يكلف الشارع أحدًا بأن يخبر بشئ عقلى أو عادى أو شرعى كوجود البارى وإحراق النار، وإيمان زيد ثم ينسخه فهذا جائز باتفاق، وهل يجوز نسخه بنقيضه أى بأن يكلفه الإخبار بنقيضه، المختار جوازه، خلافًا للمعتزلة، ومبناه أصلهم فى حكم العقل لأن أحدهما كذب، فالتكليف به قبيح وقد علمت فساده، ثانيتهما: نسخ مدلول الخبر فإن كان مدلوله مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقًا، وأما مدلول خبر يتغير كإيمان زيد وكفره فقد اختلف فيه، والمختار أنه مثل ما لا يتغير مدلوله فلا يجوز، وعليه الشافعى وأبو هاشم خلافًا لبعض المعتزلة، فإن منهم من أجازه فى المتعلق بالمستقبل دون الماضى، ثم استدلوا عليه بأنه إذا قال بنص أنتم مأمورون بصوم رمضان، ثم قال لا تصوموا رمضان جاز اتفاقًا وهذا مما يرفع الخلاف بيننا وبينهم لأنه نسخ لوجوب صوم رمضان فليس بخبر بل هو أمر أخبر عنه وأما مدلول الخبر وهو وقوع الأمر فلم ينسخ، واعلم أنا قد اتفقنا على أنه يجوز أن يقول أما أنا فأفعل كذا أبدًا، ثم يقول أردت عشرين سنة لكنه تخصيص لا نسخ، وإذ لا خلاف محققًا فلا معنى للحجاج.

أخبر بأن النار محرقة ثم يقول: أخبر بأن النار ليست بمحرقة فقول المصنِّف بالإخبار متعلق بالتكليف، وقوله بنقيضه متعلق بنسخ والضمير للمخبر به لا للتكاليف ولا للإخبار، وفى بعض النسخ لفظ بالإخبار مكرر الأول متعلق بالتكليف، والثانى بنسخ والمعنى يجوز نسخ تكليفنا بالإخبار بشئ على أى وجه كان بالإخبار أى بتكليفنا بالإخبار بنقيض ذلك الشئ خلافًا للمعتزلة فإنهم لا يجوزونه فى جميع الصور بل فيما يتغير خاصة وإن كان ظاهرا عبارة المتن أنهم لا يجوزونه أصلًا كذا فى شرح العلامة وليس بسديد لأنه لا يتحقق النقيض إلا بعد اتحاد الزمان سواء كان مما يتغير أو لا يتغير فبالضرورة يكون أحد النقيضين كذبًا والإخبار به قبيحًا.

قوله: (بل هو) أى وجوب صوم رمضان بل ما يفيد ويدل عليه أمر أخبر عنه

ص: 241

الشارع حيث قال: أنتم مأمورون بصوم رمضان وتحقيقه أنه إن سبق عنه أمر بالصوم فهذا إخبار عنه والنسخ إنما هو لذلك الأمر وإن لم يسبق أمر فهذا تعبير عن الأمر بصورة الخبر وليس بإخبار وهذا ما قال فى المنتهى قالوا: إذا قال: أنتم مأمورن بصوم كل رمضان جاز نسخه بخبر وجزم المحقق بأنه أمر أخبر عنه ناظر إلى ما سبق له من التحقيق فى صيغ العقود مثل بعت واشتريت أنها إخبار أو إنشاء فليرجع إليه.

قوله: (واعلم) إشارة إلى دفع استدلالهم الأخير وهو أنه يجوز أن يقول أنا أفعل كذا أبدًا ثم يقول أردت عشرين سنة وذلك لأنه تخصيص لا نزاع فى صحته.

قوله: (الخبر المتواتر) لأن نسخ القرآن بالخبر التواتر وعكسه يذكر كل منهما فى

قوله: (فبالضرورة يكون. . . إلخ) أى فالمدار على أن يكون أحدهما نقيضًا للآخر سواء كان مدلولهما مما يتغير أم لا حتى يمتنع النسخ عند المعتزلة فادعاء تجويزهم فيما يتغير كما قال العلامة غير سديد، وكأنه فهم أنه عند التغير لا يجئ التناقض حتى يكون أحد النقيضين كذبًا والإخبار به قبيحًا.

ص: 242