الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الكلام فى الاجتهاد)
قال: (الاجتهاد فى الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعى والفقيه تقدَّم وقد علم المجتهد والمجتهد فيه).
أقول: قد فرغ من المبادئ والأدلة السمعية وغرضه الآن مباحث الاجتهاد، والاجتهاد فى اللغة: تحمل الجهد وهو المشقة فى أمر يقال اجتهد فى حمل حجر البزارة ولا يقال اجتهد فى حمل النارنجة وفى الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعى فقولنا استفراغ الوسع معناه بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه وهو كالجنس، وقولنا الفقيه احتراز عن استفراغ غير الفقيه وسعه، وقولنا لتحصيل ظن إذ لا اجتهاد فى القطعيات، وقولنا بحكم شرعى ليخرج ما فى طلب غيره من الحسيات والعقليات فإنه بمعزل عن مقصودنا والفقيه قد تقدَّم لأنك قد علمت الفقه فيكون الموصوف به هو الفقيه وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد وهما المجتهد والمجتهد فيه فالمجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد على التفسير المذكور والمجتهد فيه حكم ظنى شرعى عليه دليل.
قوله: (بذل تمام الطاقة) يشير إلى أن هذا التفسير ليس أعم من تفسير الآمدى فإنه قال الاجتهاد فى اللغة استفراغ الوسع فى تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فى حمل حجر البزارة ولا يقال اجتهد فى حمل الخردلة وفى الاصطلاح استفراغ الوسع فى طلب الظن شئ من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد فى الاصطلاح اجتهادًا معتبرًا فزعم البعض أن من ترك هذا القيد جعل الاجتهاد أعم كما هو ظاهر كلام الغزالى وحجر البزارة حجر عظيم للعصارين به يستخرج دهن البزر.
قوله: (احتراز عن استفراغ غير الفقيه) الظاهر أنه لا وجه لهذا الاحتراز ولهذا لم يذكر هذا القيد الغزالى والآمدى وغيرهما فإنه لا يصير فقيهًا إلا بعد الاجتهاد اللهم إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الأحكام على ما سبق ثم ظاهر كلام القوم أنه
لا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق نعم اشترط فى الفقه التهيؤ للكل وجوز الاجتهاد فى مسألة دون مسألة تحقق مجتهد ليس بفقيه هذا وقد شاع إطلاق الفقيه على من يعلم الفن وإن لم يكن مجتهدًا.
قوله: (وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد) معنى مفهوم المجتهد والمجتهد فيه لكن مقصود الآمدى حين اشتغل فى هذا القام ببيان المجتهد والمجتهد فيه بيان ما يشترط ليتحقق الاتصاف بذلك قال المجتهد من اتصف بالاجتهاد وله شرطان:
الأول: معرفة البارى وصفاته وتصديق النبى بمعجزاته وسائر ما يتوقف عليه الإيمان كل ذلك بأدلته الإجمالية وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل على ما هو دأب المتبحرين فى علم الكلام.
الثانى: أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها وتفاصيل شرائطها ومراتبها وجهات ترجيحها عند تعارضها والتقصى عن الاعتراضات الواردة عليها فيحتاج إلى معرفة حال الرواة وطرق الجرح والتعديل وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو وغير ذلك هذا فى حق المجتهد مطلقًا وأما المجتهد فى مسألة فيكفيه ما يتعلق بها ولا يضره الجهل بما لا بتعلق بها وقال الإمام حجة الإسلام شرط المجتهد أن يكون محيطًا بمدارك الشرع متمكنًا من استفادة الظن منها وأن يكون عدلًا وهذا شرط قبول فتواه لا شرط اجتهاده فى نفسه فلا بد من معرفة الكتاب قدر ما يتعلق بالأحكام بأن يكون عالمًا بمواقعها ويتمكن عند الحاجة من الرجوع إليها ولا بد من معرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام بأن يكون عنده أصل مصحح يجمعها ويعرف موقع كل باب بحيث يتمكن من الرجوع إليها وإن كان على حفظه فهو أحسن وأكمل ولا بد أن تتميز عنده مواقع الإجماع بحيث يعرف أن ما أدى إليه اجتهاده ليس مخالفًا للإجماع بأن يعلم أنه موافق لمذهبه أو واقعة متجردة لا خوض فيها لأهل الإجماع ولا بد أن يكون متمكنًا من الرجوع إلى النفى الأصلى والبراءة الأصلية وأن يعلم أنه لا يغير إلا بنص أو قياس ثم لا بد من معرفة أقسام الأدلة وأشكالها وشرائطها ومعرفة ما يتوقف عليه معرفة الشارع من حدوث العالم وافتقاره إلى صانع موصوف بما يجب متنزه عما يمتنع باعث للأنبياء مصدق إياهم بالمعجزات وهذا فى الحقيقة من لوازم الاجتهاد وتوابعه لا مقدماته وشرائطه ولا بد
من معرفة اللغة بأقسامها قدر ما يتعلق باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة ومن معرفة الناسخ والمنسوخ منهما ويفتقر فى السنة خاصة إلى معرفة حال الرواة وتمييز الصحيح عن الفاسد والمقبول عن المردود والتحقيق فى ذلك أن يكتفى بتعديل الإمام العدل الذى عرف صحة مذهبه فى التعديل وبالجملة لا بد من علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه وأما الكلام وفروع الفقه فلا حاجة إليهما كيف والفروع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد فى زماننا بممارسته فهو طريق تحصيل الدربة فى هذا الزمان ثم ههنا دقيقة يغفل عنها الأكثرون وهو أن ما ذكرنا إنما يشترط فى حق المجتهد المطلق الذى يفتى فى جميع الشرع وليس الاجتهاد عندى منصبًا لا يتجزأ بل قد يكون العالم مجتهدًا فى مسألة دون مسألة فيفتقر إلى ما يتعلق بتلك المسألة لا غير.
قوله: (حجر البزارة) بتشديد الزاى أى الذين بعصرون الأبزار لإخراج زيتها.
قوله: (الظاهر أنه لا وجه لهذا الاحتراز) قال فى التحرير: إن هذا سهو لأن المذكور بذل الطاقة لا بذل الاجتهاد ويتصور من غيره فى طلب حكم وشيوع استعمال الفقيه لغيره ممن يحفظ الفروع فى غير اصطلاح الأصول وفى مسلم الثبوت لو أريد بالفقيه المجتهد لزم التسلسل فى الاجتهاد وقال شارحه التلازم بين الفقيه والمجتهد لا يضر لأن المذكور بذل الطاقة وهو أعم من الاجتهاد وهذا على التنزل.
قال: (مسألة اختلفوا فى تجزؤ الاجتهاد المثبت لو لم يتجزأ لعلم الجميع، وقد سئل مالك عن أربعين مسألة فقال فى ست وثلاثين منها: لا أدرى، وأجيب بتعارض الأدلة أو بالعجز عن المبالغة فى الحال، قالوا: إذا اطلع على أمارات مسألة فهو وغيره سواء، وأجيب بأنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقًا لنا فى كل ما يقدر جهله يجوز تعلقه بالحكم المفروض وأجيب الفرض حصول الجميع فى ظنه عن مجتهد أو بعد تحرير الأئمة الأمارات).
أقول: قد اختلف فى تجزؤ الاجتهاد بجريانه فى بعض السائل دون بعض وتصويره أن المجتهد قد يحصل له فى بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا بل لا بد أن يكون مجتهدًا مطلقًا عنده ما يحتاج إليه فى جميع المسائل من الأدلة.
احتج المثبتون بوجهين: قالوا: أولًا: بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المآخذ ويلزمه العلم بجميع الأحكام، واللازم منتفٍ لأن مالكًا مجتهد بالإجماع، وقد سئل عن أربعين مسألة فقال فى ست وثلاثين منها: لا أدرى.
الجواب: أن العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام لجواز عدم العلم ببعض لتعارض الأدلة أو للعجز فى الحال عن المبالغة إما لمانع يشوش الفكر، أو لاستدعائه زمانًا.
قالوا: ثانيًا: إذا اطلع على أمارات بعض السائل فهو وغيره سواء فى تلك المسألة وكونه لا يعلم أمارات غيرها لا مدخل له فيها فإذًا يجوز له الاجتهاد فيها كما جاز لغيره.
الجواب: لا نسلم أنه وغيره سواء فإنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقًا بالمسألة التى يجتهد فيها وهذا الاحتمال يقوى فيه ويضعف أو ينعدم فى المحيط بالكل فى ظنه واحتج النافى بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع من مقتضى ما يعلمه من الدليل.
الجواب: أن المفروض حصول جميع ما هو أمارة فى تلك المسألة فى ظنه نفيًا أو إثباتًا، إما بأخذه من مجتهد، وإما بعد تقرير الأئمة الأمارات وضم كل إلى جنسه، وإذا كان كذلك فقيام ما ذكرتم من الاحتمال لبعده لا يقدح فى ظن الحكم فيجب عليه العمل به.
قوله: (وهذا الاحتمال) إشارة إلى دفع الاعتراض بأن هذا الاحتمال ينافى ما فرض من اطلاعه على جميع الأمارات المتعلقة بتلك المسألة يعنى أن فرض الاطلاع على جميع أمارات المسألة فى مجتهدها وأما أمارات جميع المسائل فى المجتهد المطلق إنما تكون بحسب ظنه، ففى مجتهد المسألة المطلع على أمارات البعض يقوى احتمال أن يكون فى جملة ما لا يعلمه ما يكون له تعلق بتلك المسألة فيقدح فى ظنه الحكم فلا يجب العمل به بخلاف المجتهد المحيط بالكل بحسب ظنه فإن ذلك الاحتمال يضعف عنده أو ينعدم بالكلية فيبقى ظنه بالحكم بحاله وأما الاعتراض بأن ما ذكر من الجواب بأنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقًا بالمسألة هو بعينه ما ذكر دليلًا من قبل النافى فدفعه دفعه فمدفوع بأنه قد يصح فى مقام المنع والاستناد ما لا يصح فى مقام الاستدلال ثم لا يخفى أن قوله فى ظنه متعلق بالإحاطة والضعف والانعدام جميعًا وأن ضمير جهله وله للفقيه المطلع على أمارات البعض وقوله من الدليل بيان ما يعلمه أى لا يحصل له ظن عدم ما يكون مانعًا من الحكم الذى هو مقتضى القدر الذى يعلمه من الدليل والتعميم بقوله نفيًا أو إثباتًا ليعم الدليل والمانع وقوله إما بأخذه إشارة إلى أن حصول الأمارة بطريق الأخذ والتعلم عن المجتهد لا ينافى الاجتهاد وقوله وإما بعد إشارة إلى أن قوله أو بعد تحرير الأئمة عطف على قوله عن المجتهد لا على قوله الفرض حصول الجميع كما فى بعض الشروح على معنى أنه بعد تحرير الأئمة الأمارات وتخصيص كل بعض منها ببعض من المسائل عرف الفقيه أن ما عداها لم يكن فيه تعلق بتلك المسألة ولا على قوله حصول كما فى شرح العلامة بمعنى أن الكلام مفروض بعد تحرير الأئمة الأمارات وتخصيص كل ببعض من المسائل.
قال: (مسألة: المختار أنه عليه السلام كان متعبدًا بالاجتهاد لنا مثل قوله {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، "ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى" ولا يستقيم ذلك فيما كان بالوحى واستدل أبو يوسف بقوله: {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقرره الفارسى واستدل بأنه أكثر ثوابًا للمشقة فيه فكان أولى وأجيب بأن سقوطه لدرجة أعلى)
أقول: النبى صلى الله عليه وسلم هل كان متعبدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه قد اختلف فى جوازه وفى وقوعه، المختار وقوعه، لنا قوله تعالى:{عَفَا اللُّهُ عَنكَ لِمَ أذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، عاتبه على حكمه، ومثل ذلك لا وركون فيما علم بالوحى وقال صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى"(*) وسوق الهدى حكم شرعى أى لو علمت أولًا ما علمت آخرًا لما فعلت ومثل ذلك لا يستقيم إلا فيما عمل بالرأى، واستدل اْبو يوسف رحمة اللَّه عليه بقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقرره الفارسى أى بين وجه دلالته، فقال: الرؤية تقال للإبصار مثل: رأيت زيدًا، وللعلم مثل: رأيت زيدًا قائمًا، وللرأى مثل: أرى فيه الحل أو الحرمة وأراك لا تستقيم لرؤية العين لاستحالتها فى الأحكام ولا للعلم لوجوب ذكر المفعول الثالث له لذكر الثانى إذ المعنى بما أراكه اللَّه ليتم الصلة فيتعين أن يكون المراد الرأى أى بما جعله اللَّه رأيًا لك وأجيب بأنه بمعنى الإعلام وما مصدرية فلا ضمير وحذف المفعولان معًا وأنه جائز وقد استدل بأن الاجتهاد أكثر ثوابًا لما فيه من المشقة وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل العبادات أحمزها"(**) أى أشقها، وقال:"ثوابك على قدر نصبك"(***) والأكثر ثوابًا أولى وعلو درجته صلى الله عليه وسلم يقتضى أن لا يسقط عنه تحصيلًا لمزيد الثواب ولئلا يكون غيره مختصًا بفضيلة ليست له.
الجواب: لا نسلم أن علو درجته يقتضى عدم سقوطه بل قد يقتضى سقوطه إذ الشئ قد يسقط لدرجة أعلى ولا يكون فيه نقص لأجره ولا يكون غيره مختصًا بفضيلة ليست له، وذلك كمن يحرم ثواب الشهادة لكونه حاكمًا وثواب التقليد لكونه مجتهدًا وثواب القضاء لكونه إمامًا.
(*) أخرجه البخارى (6/ 2642)(ح 6802)، ومسلم (2/ 879)(ح 1211).
(**) قال الهروى: قال الزركشى: لا يعرف، وقال ابن القيم فى شرح منازل السائرين: لا أصل له. انظر: المصنوع (1/ 57)، كشف الخفاء (1/ 175).
(***) لم أجده.
قوله: (عاتبه على حكمه) الذى هو الإذن للأسارى وهذا يقوم حجة على من منع اجتهاده مطلقًا، وأما من جوزه فى الحروب وأمور الدنيا دون الأحكام الشرعية التى لا تتعلق بذلك فالحجة عليه قوله عليه السلام:"لو استقبلت من أمرى. . " الحديث، ولذا صرح بأن سوق الهدى حكم شرعى.
قوله: (لوجوب ذكر المفعول الثالث) يعنى أن الرؤية بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين وعند التعدية بهمزة يصير ذا ثلاثة مفاعيل الأخيران منها مفعولا باب علمت لا يجوز الاقتصار على أحدهما وههنا الكاف مفعول أول والضمير المنصوب العائد إلى ما الموصولة مفعول ثانٍ وهو فى حكم المذكور ضرورة افتقار الصلة إلى عائد فلو كان أراك بمعنى أعلمك لكان هذا من الاقتصار على المفعول الأول من باب علمت وهو ليس بجائز وتحقيقه أن المراد بالاقتصار ترك أحد المفعولين بالكلية لا مجرد حذفه من اللفظ مع قيام القرينة على تعينه وإلا لما كان هذا من الاقتصار إذ الأول أيضًا محذوف وبهذا يندفع ما ذكر فى بعض الشروح أن الضمير لما كان محذوفًا جاز حذف المفعول الثالث أيضًا وكأنه لم يتوض فى المتن للجواب لظهوره وذكر العلامة أن التقرير والجواب قد سقطا من قلم الناسخ والحق أن جعل ما مصدرية من جهة المعنى وأن لفظ استدل إنما يكون إشارة إلى دليل ضعيف إذا كان بلفظ المبنى للمفعول.
قوله: (إذ الشئ قد يسقط لدرجة أعلى) وما يقال إن حصول منصب أعلى لا يمنع حصول منصب أدنى مع أنه كلام على السند ضعيف إذ قد يمنعه كما فى الشهادة والحكم وكما فى التقليد والاجتهاد.
قوله: (الذى هو الإذن للأسارى) صوابه للمنافقين كما عاتبه على أخذ الفداء من الأسارى فى آية {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].
قوله: (وبهذا يندفع ما ذكر فى بعض الشروح أن الضمير. . . إلخ) أى لأن الحذف المعتبر هو ما لا يكون فى حكم الذكر، وقوله: وكأنه لم يتعرض فى المتن للجواب أى الذى قاله الشارح من أنه بمعنى الإعلام وما مصدرية وقوله: إن التقرير والجواب أى التقرير الذى ذكره الفارسى لبيان ما قاله أبو يوسف والجواب الذى ذكره الشارح.
قال: (قالوا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] وأجيب بأن الظاهر رد قولهم افتراه ولو سلم فإذا تعبد بالاجتهاد بالوحى لم ينطق إلا عن وحى، قالوا: لو كان لجاز مخالفته لأنها من أحكام الاجتهاد وأجيب بالمنع كالإجماع عن اجتهاد، قالوا: لو كان لما تأخر فى جواب. قلنا: لجواز الوحى أو لاستفراغ الوسع قالوا: القادر على اليقين يحرم عليه الظن قلنا لا يعلم إلا بعد الوحى فكان كالحكم بالشهادة).
أقول: هذه حجج المنكرين لكونه صلى الله عليه وسلم متعبدًا بالاجتهاد.
قالوا: أولًا: قال تعالى فى حقه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، وهو ظاهر فى العموم وإن كان ما نطق به فهو عن وحى وهو ينفى الاجتهاد.
الجواب: أن الظاهر رد ما كانوا يقولونه فى القرآن أنه افتراه فيختص بما بلغه وينتفى العموم ولئن سلمنا فلا نسلم أنه ينفى الاجتهاد لأنه إذا كان متعبدًا بالاجتهاد بالوحى لم يكن نطقًا عن الهوى بل كان قولًا عن الوحى.
قالوا: ثانيًا: لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته واللازم باطل بالإجماع بيان الملازمة أن ما قاله حينئذٍ من أحكام الاجتهاد وجواز المخالفة من لوازم أحكام الاجتهاد إذ لا قطع بأنه حكم اللَّه تعالى لاحتمال الإصابة والخطأ.
الجواب: منع لزومه لأحكام الاجتهاد مطلقًا بل إذا لم يقترن بها القاطع كاجتهاد يكون عنه إجماع فإن اقتران الإجماع به يخرجه عن أن تجوز مخالفته فكذلك اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقترن به قوله وهو قاطع.
قالوا: ثالثًا: لو كان متعبدًا بالاجتهاد لما تأخر فى جواب سؤال بل يجتهد ويجيب لوجوبه عليه صلى الله عليه وسلم، واللازم باطل لأنه تأخر فى جواب كثير من المسائل.
الجواب: لا نسلم الملازمة فإنه ربما تأخر لجواز الوحى الذى عدمه شرط فى الاجتهاد لأنه إنما يفيد فيما لا نص فيه فلا بد من تحقق عدم النص بعدم الوحى وأيضًا فربما تأخر للاجتهاد فإن استفراغ الوسع يستدعى زمانًا.
قالوا: رابعًا: لو كان قادرًا على اليقين فى الحكم بالوحى فلا يجوز له الاجتهاد لأنه لا يفيد إلا ظنًا والقادر على اليقين يحرم عليه الظن.
الجواب: لا نسلم أنه قادر على اليقين فإنه لا يعلم الحكم إلا بإنزال الوحى
عليه وأنه غير مقدور له نعم هو قادر عليه بعد الوحى وحينئذٍ لا يجوز له الاجتهاد اتفاقًا وذلك كحكمه بالشهادة مع أنها لا تفيد إلا الظن ولا يقال يمكنه معرفة الحكم يقينًا بالوحى فيحرم عليه الظن.
قوله: (ولئن سلمنا) أى العموم بناءً على أن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم وأنه ليس ههنا ما يقتضى التخصيص بما يبلغه من اللَّه تعالى فلا نسلم أن عموم قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، ينافى جواز اجتهاده فإن تعبده بالاجتهاد إذا كان بالوحى كان نطقه بالحكم المجتهد فيه نطقًا عن الوحى لا عن الهوى.
المصنف: (فإن الظاهر رد قولهم افتراه) أى فيكون الضمير فى قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] للقرآن، وقوله: ولو سلم فإذا تعبد بالاجتهاد. . . إلخ. هذا الجواب لا يحتاج إليه الحنفية لأنهم يقولون: إن الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم متى أقر عليه كان وحيًا باطنًا وقوله لجاز مخالفته أى لأنه يجوز للمجتهد مخالفة المجتهد لأنه لا قطع بأن الحكم الصادر من الاجتهاد حكم اللَّه لاحتمال الصواب والخطأ.
قال: (مسألة: المختار وقوع الاجتهاد ممن عاصره ظنًا، وثالثها: الوقف، ورابعها الوقف فيمن حضره لنا قول أبى بكر رضى اللَّه عنه: لا ها اللَّه إذًا لا يعمد إلى أسد من أسد اللَّه يقاتل عن اللَّه ورسوله فيعطيك سلبه. فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق" وحكم سعد ابن معاذ فى بنى قريظة فحكم بقتلهم وسبى ذراريهم فقال عليه السلام: "لقد حكمت بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة". قالوا: القدرة على العلم تمنع الاجتهاد قلنا ثبت الخيرة بالدليل، قالوا: كانوا يرجعون إليه قلنا صحيح فأين منعهم).
أقول: فى جوار الاجتهاد فى عصره صلى الله عليه وسلم خلاف ومن جوزه فقد اختلف فى وقوعه على أربعة مذاهب:
أولها: وقع ظنًا لا يقينًا.
ثانيها: لم يقع.
ثالثها: الوقف.
رابعها: وقع ممن غاب عنه وفيمن بحضرته التوقف، لنا قول أبى بكر: لا ها اللَّه إذًا لا يعمد إلى أسد من أسد اللَّه يقاتل عن اللَّه ورسوله فيعطيك سلبه، قاله فى قتادة وقد قتل رجلًا من المشركين وهو يطلب سلبه، والظاهر أنه عن الرأى دون الوحى فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"صدق" أى فى الحكم فصوبه والكلام فى هذه الصيغة وإذا تصحيف والصحيح لا ها اللَّه ذا وأنه ما تقديره فقد استوفى فى فن آخر ولنا أيضا ما صح فى الخبر أنه حكم سعد بن معاذ فى بنى قريظة فحكم بقتلهم وسبى ذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمت بحكم اللَّه من فوق سبع أرقعة" أى بحكم اللَّه والرقيع السماء.
قالوا: المفروض أنهم قادرون على العلم بالرجوع إلى الرسول والقدرة على العلم تمنع الاجتهاد المفروض الذى غايته الظن.
الجواب: لا نسلم أنها تمنعه إذ قد ثبت الخيرة بين العلم والاجتهاد بالدليل الذى قد مر، قال فى المنتهى: ولو سلم فالحاضر يظن أن لو كان وحى لبلغه والغائب لا يقدر.
قالوا: قد ثبت أن الصحابة كانوا يرجعون إليه فى الوقائع وهو دليل منع الاجتهاد.
الجواب: أن هذا لا دلالة له على منعهم من الاجتهاد لجواز أن يكون الرجوع فيما لم يظهر لهم وجه الاجتهاد أو لجواز الأمرين.
قوله: (فى جواز الاجتهاد فى عصره عليه السلام خلاف) فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلًا والأقلون إلى امتناعه ثم اختلف المجوزون فمنهم من جوّز للقضاة فى غيبته ولم يجوز مطلقًا، ومنهم من جوّزه مطلقًا إذا لم يوجد منه منع ومنهم من اشترط الإذن فى ذلك، قال فى المنتهى: المختار جواز الاجتهاد عقلًا لمن عاصره مطلقًا، وثالثها: يجوز للقضاة فى غيبته، ورابعها: يجوز بإذن خاص هذا فى الجواز وفى الوقوع أيضًا أربعة مذاهب، أولها: وقع فى حضوره وغيبته ولكن ظنًا لا قطعًا ثانيها لم يقع أصلًا والمشهور أنه مذهب أبى على وأبى هاشم ثالثها الوقف فى الوقوع مطلقًا ونسبه الآمدى إلى أبى على الجبائى ورابعها الوقف فيمن حضر دون من غاب وهو مذهب القاضى عبد الجبار.
قوله: (لا ها اللَّه إذن) عن أبى قتادة الأنصارى ثم السلمى أنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه عليه السلام عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من السلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فقطعت الدرع قال وأقبل على فضمنى ضمة وجدت منها ريح الموت فأدركه الموت فأرسلنى فلحقت عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه فقلت له ما بال الناس قال ثم إن الناس رجعوا فقال رسول اللَّه عليه السلام: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه"، قال أبو قتادة فقمت ثم قلت من يشهد لى ثم جلست ثم قال تلك الثلاثة فقال رسول اللَّه عليه السلام:"ما لك يا أبا قتادة؟ " فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم صدق يا رسول اللَّه وسلب ذلك القتيل عندى، فأرضه منه فقال أبو بكر:"لا ها اللَّه إذن لا يعمد إلى أسد من أسد اللَّه يقاتل عن اللَّه وعن رسوله فيعطيك سلبه". فقال رسول اللَّه عليه السلام: "صدق فأعطه إياه"، فقال أبو قتادة فأعطانيه. قال الخطابى والصواب:"لا ها اللَّه ذا" بغير ألف قبل الذال ومعناه فى كلامهم لا واللَّه يجعلون الهاء مكان الواو ومعناه لا واللَّه يكون ذا كذا فى شرح السنة فالمراد بأسد أبو قتادة والخطاب فى فيعطيك للرجل الذى عنده السلب ويطلب من رسول اللَّه إرضاء أبى قتادة من ذلك السلب، وفاعل لا يعمد ويعطيك ضمير رسول اللَّه عليه السلام، وقوله فى الشرح وهو يطلب سلبه أى أبو قتادة يطلب سلب ذلك المشرك ربما يوهم خلاف
المقصود، وقوله إذن تصحيف إشارة إلى ما ذكره الخطابى، وأما الصيغة فيروى لا اللَّه بإثبات الألف والتقاء الساكنين على حدة ولا ها اللَّه بحذف الألف والأصل لا واللَّه فحذفت الواو وعوض منها حرف التنبيه وينبغى أن يكون هذا مراد من قال يجعلون الهاء مكان الواو وأما التقدير فقول الخليل إن ذا مقسم عليه وتقديره لا واللَّه الأمر ذا فحذف الأمر لكثرة الاستعمال وقول الأخفش إنه من جملة القسم توكيد له كأنه قال ذا قسمى قال والدليل أنهم يقولون لا ها اللَّه ذا لقد كان كذا فيجيئون بالمقسم عليه بعده.
قوله: (بحكم من فوق سبع أرقعة) بفتح الميم على أن من موصولة وفى المتن وسائر كتب الأصول: (بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة) بكسر الميم وإثبات التاء فى سبعة وفى الكتب المعتبرة فى الحديث: "لقد حكمت بحكم الملك. . " بكسر الميم، وروى بفتحها.
قوله: (بالدليل الذى قد مر) هو قول أبى بكر رضى اللَّه عنه: "لا ها اللَّه ذا"، وتصديق الرسول عليه السلام إياه، فإنه يدل على أنه كان مخيرًا بين أن يرجع فيعلم وأن يجتهد فيحكم إذ لو تعين عليه العلم بالرجوع إلى النبى عليه السلام لما جاز له العدول إلى الاجتهاد وقد يتوهم أنه الذى مر فى آخر المسألة السابقة من ثبوت الخيرة للنبى عليه السلام بين أن يحكم بالظن الحاصل من الشاهد وبين أن ينتظر الوحى وليس بشئ، أما أولًا فلأن الكلام فى غير النبى عليه السلام من مجتهدى عصره، وأما ثانيًا فلأن ما ذكر مع أنه ليس بدليل بل سند منع إنما يدل على أنه يتعين اتباع الظن قبل الوحى والعلم بعده من غير خيرة وتوهم بعض الشارحين أن المراد أنه تثبت الخيرة بين الرجوع إلى النبى عليه السلام وبين الاجتهاد بالدليل فلا تمنع القدرة على العلم الاجتهاد وفساده واضح وتقرير الشارح العلامة أن القدرة على العلم إنما تمنع الاجتهاد وإذا لم يثبت الاختيار بين الرجوع إلى النبى عليه السلام وبين الاجتهاد يدل على جواز الاجتهاد حينئذٍ وعدم ثبوته حينئذٍ لجواز أن تثبت الخيرة لهم حينئذٍ بالدليل وعبارة المنتهى ربما تشعر بهذا المعنى حيث قال وأجيب بجواز الخيرة لهم بالدليل ولو سلم فالحاضر يظن أنه لو كان لبلغه والغائب لا يقدر يعنى لو سلم أن لا دليل على الخيرة فى حقهم فالرجوع متعذر أما من الغائب فظاهر وأما من الحاضر فلوجود المانع وهو ظنه أنه لو كان
وحى فى تلك الواقعة لبلغه.
قوله: (لجواز أن يكون الرجوع) يشير إلى أن مرجع هذا الجواب إلى ما ذكر فى المنتهى حيث قال وأجيب فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولو سلم فلجواز الأمرين.
الشارح: (وإن إذًا تصحيف) قال الأبهرى يمكن تصحيحه بأن إذًا حرف جزاء تكون جوابًا لإقرار غير القاتل بأن السلب لأبى قتادة وإنما يطلب إرضاءه منه والرواة ثقات فحمل روايتهم على التصحيف بعيد. اهـ.
قوله: (ثم قال تلك الثلاثة) تحريف وصوابه ثم قال مثل ذلك الثانية فقمت فقلت من يشهد لى ثم جلست ثم قال الثالثة مثله فقمت فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الأصل قالها ثلاثًا.
قال: (مسألة: الإجماع على أن المصيب فى العقليات واحد وأن النافى ملة الإسلام مخطئ آثم كافر اجتهد أو لم يجتهد، وقال الجاحظ لا إثم على المجتهد بخلاف المعاند وزاد العنبرى كل مجتهد فى العقليات مصيب. لنا إجماع المسلمين على أنهم من أهل النار ولو كانوا غير آثمين لما ساغ ذلك واستدل بالظواهر، وأجيب باحتمال التخصيص قالوا: تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلًا وسمعًا لأنه مما لا يطاق. وأجيب بأنه كلفهم الإسلام وهو من المتأتى المعتاد فليس من المستحيل فى شئ).
أقول: قد اختلف أكل مجتهد مصيب أم لا؟ وحكم العقليات والشرعيات فى ذلك مختلف فجعلهما مسألتين وتكلم أولًا فى العقليات وذكر الإجماع على النفى بل المصيب من المتخالفين واحد ليس إلا والآخر مخطئ، وأن من كان نافيًا لملة الإسلام كلها أو بعضها فهو مخطئ آثم كافر سواء اجتهد أو لم يجتهد خلافًا للجاحظ فإنه قال: لا إثم على المجتهد مع أنه مخطئ ويجرى عليه فى الدنيا أحكام الكفار بخلاف المعاند فإنه آثم، وإليه ذهب العنبرى وزاد عليه أن كل مجتهد فى العقليات مصيب فإن أراد وقوع معتقده حتى يلزم من اعتقاد قدم العالم وحدوثه اجتماع القدم والحدوث فخروج عن المعقول وإن أراد عدم الإثم فمحتمل عقلًا ولنا فى نفيه إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف على قتل الكفار وقتالهم وعلى أنهم من أهل النار يدعونهم بذلك إلى النجاة ولا يفرقون بين معاند ومجتهد بل يقطعون بأنهم لا يعاندون الحق بعد ظهوره لهم بل يعتقدون دينهم الباطل عن نظر واجتهاد واستدل بالظواهر نحو قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وقوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].
الجواب: أنه لا يفيد قطعًا لجواز التخصيص بغير المجتهد منهم، قالوا: تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف بما لا يطاق فيمتنع، أما الأولى فلأن المقدور بالذات هو الاجتهاد والنظر لكونهما من قبيل الأفعال دون الاعتقاد فإنه من قبيل الصفات وما يؤدى إليه الاجتهاد حصوله بعد الاجتهاد ضرورى واعتقاد خلافه ممتنع.
وأما الثانية: فلما تقدم من دليل العقل والسمع على امتناع تكليف ما لا يطاق وعلى عدم وقوعه.
الجواب: لا نسلم أن نقيض اعتقادهم غير مقدوو فإن ذلك امتناع بشرط المحمول أى ما داموا معتقدين لذلك يمتنع أن يعتقدوا خلافه وذلك لا يوجب كون الفعل ممتنعًا عنهم غير مقدور لهم فإن الممتنع الذى لا يجوز التكليف به ما لا يتأتى عادة كالطيران وحمل الجبل، وأما ما كلفوهم به فهو الإسلام وهو متأتٍ منهم ومعتاد حصوله من غيرهم ومثله لا يكون مستحيلًا.
قوله: (مخطئ آثم كافر) لم يقتصر على الكفر ليتأتى ذكر خلاف العنبرى فى الخطأ والجاحظ فى الإثم وعمم الحكم بقوله سواء اجتهد أو لم يجتهد ليتأتى خلاف الجاحظ فى الإثم على تقدير الاجتهاد.
قوله: (فإن أراد) لا يقال المراد أن حكم اللَّه فى حقه هو ما أدى إليه اجتهاده لأنا نقول الكلام فى العقليات التى لا دخل فيها لوضع الشارع ككون العالم قديمًا أو حادثًا وكون الصانع ممكن الرؤية أو ممتنعها.
قوله: (ولنا فى نفيه) أى نفى ما ذهب إليه الجاحظ والعنبرى وفى قوله قبل ظهوو المخالف دفع لما يتوهم من أنه لا يتصور الإجماع مع مخالفتهما هذا وفى ورود الدليل على محل النزاع مناقشة لأن الإجماع إنما هو فى الكافر المخالف للملة صريحًا والنزاع إنما هو فيمن ينتمى إلى الإسلام فيكون من أهل القبلة وإلا فكيف يتصور من المسلم الخلاف فى خطأ مثل اليهود والنصارى، قال الإمام حجة الإسلام النظريات تنقسم إلى قطعية وظنية والقطعية أقسام كلامية وأصولية وفقهية، أما الكلامية فنعنى بها ما يدرك بالعقل من غير ورود السمع كحدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته وبعثة الرسل ونحو ذلك والحق فيها واحد والمخطئ آثم فإن أخطأ فيما رجع إلى الإيمان باللَّه ورسوله فكافر وإلا فآثم مخطئ مبتدع، كما فى مسألة الرؤية وخلق القرآن وإرادة الكائنات وأمثالها ولا يلزم الكفر وأما الأصولية فمثل حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك مما أدلتها قطعية فالمخالف فيها آثم مخطئ وأما الفقهية فالقطعيات منها مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وتحريم الزنا والقتل والسرقة والربا وكل ما علم قطعًا من دين اللَّه فالحق فيها واحد والمخالف آثم فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشاوع كتحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فكافر وإن علم
بطريق النظر كحجية الإجماع والقياس وخبر الواحد والفقهيات المعلومة بالإجماع فآثم مخطئ لا كافر.
قوله: (يعنى أنه ليس بمعذور) لكونه من الصفات والكيفيات النفسية دون الأفعال الاختيارية والمراد بنقيض الاعتقاد هو اعتقاد نقيض معتقدهم بقرينة قوله واعتقاد خلافه ممتنع والمراد بالامتناع بشرط المحمول هو الامتناع بشرط وصف الموضوع وقد سبق مثل ذلك فى موضع آخر ومعنى كون حصول نتيجة الاجتهاد ضروريًا أنه لا ينفك عنه وإن كان ذلك بحسب جرى العادة عندنا دون الوجوب.
الشارح: (فإن ذلك امتناع بشرط المحمول) أى لأن ضرورة الشئ إنما تستلزم امتناع مقابله إذا كانت الضرورة بحسب الذات كما إذا قيل: الإنسان حيوان بالضرورة فإنه يستلزم امتناع كونه جمادًا والضرورة فيما نحن فيه ليست ذاتية لأن اعتقاد ما أدى إليه اجتهاده واعتقاد خلافه كل ممكن الثبوت لذات المجتهد بدل الآخر بل ما نحن فيه ضرورة لا بشرط المحمول وقد رد المحشى كون الامتناع بشرط المحمول، وقال: إنه بشرط الموضوع يعنى هكذا معتقد ذلك الكفر يمنع اعتقاد غيره ما دام معتقده.
قوله: (لكونه من الصفات والكيفيات النفسية) رده الأبهرى بأنه إن أريد من الفعل التأثير فلا نسلم أن غيره ليس مقدورا فالعلم الكسبى مقدور مع أنه ليس بتأثير لأنه من الصفات وأن أريد به ما يحصل عقب القدرة الحادثة ويكون أثرًا لها على قول من يقول: إن القدرة الحادثة مؤثرة فالاعتقاد من هذا القبيل ثم قال كيف ولو لم يكن الاعتقاد مقدورًا لامتنع التكليف به.
قال: (مسألة: القطع لا إثم على المجتهد فى حكم شرعى اجتهادى وذهب بشر المريسى والأصم إلى تأثيم المخطئ. لنا العلم بالتواتر باختلاف الصحابة المنكر والشائع من غير نكير ولا تأثيم لمعين ولا مبهم والقطع أنه لو كان أثم لقضت العادة بذكره واعترض كالقياس).
أقول: ما مر حكم المجتهد فى الاعتقاديات من الأصول وأما الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية إذا أخطأ فيها المجتهد فنحن نقطع بأنه لا إثم فيه ولا خلاف فيه سوى ما يروى عن بشر المريسى وأبى بكر الأصم من أن المخطئ آثم ولا يعبأ بخلافهما لأنه بعد انعقاد الإجماع. لنا أنا علمنا بالتواتر أن الصحابة قد اختلفوا فى المسائل الاجتهادية وتكرر ذلك وشاع ولم ينقل نكير ولا تأثيم من بعضهم لبعض معين بأن يقول أحد المخالفين أن الآخر آثم ولا مبهم بأن يقال أحدهما آثم مع القطع أنه لو كان أثم لذكر ولخافوا الاجتهاد وتجنبوه وخوفوا منه فلما لم يتكلم فيه بتأثيم علم قطعًا عدم الإثم واعترض بما مر من الأسئلة على دليل كون القياس حجة والجواب هو الجواب فلا معنى للتكرار.
قوله: (اعترض كالقياس) إشارة إلى ما قال فى باب القياس فإن قيل أخبار آحاد فى قطعى إلى آخر الجواب.
قال: (مسألة: المسألة التى لا قاطع فيها قال القاضى والجبائى كل مجتهد فيها مصيب وحكم اللَّه فيها تابع لظن المجتهد وقيل المصيب واحد ثم منهم من قال لا دليل عليه كدفين يصاب وقال الأستاذان: دليله ظنى فمن ظفر به فهو المصيب وقال المريسى والأصم دليله قطعى والمخطئ آثم ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب فإن كان فيها قاطع فقصر فمخطئ آثم وإن لم يقصر فالمختار مخطئ غير آثم لنا لا دليل على التصويب والأصل عدمه وصوب غير معين للإجماع وأيضًا لو كان كل مصيبًا لاجتمع النقيضان لأن استمرار قطعه مشروط ببقاء ظنه للإجماع على أنه لو ظن غيره لوجب الرجوع فيكون ظانًا عالمًا بشئ واحد لا يقال الظن ينتفى بالعلم لأنا نقطع ببقائه ولأنه كان يستحيل ظن النقيض مع ذكره فإن قيل مشترك الإلزام لأن الإجماع على وجوب اتباع الظن فيجب الفعل أو يحرم قطعًا قلنا الظن متعلق بأنه الحكم المطلوب والعلم بتحريم المخالفة فاختلف المتعلقان فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة فإن قيل فالظن متعلق بكونه دليلًا والعلم بثبوت مدلوله فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم قلنا كونه دليلًا حكم أيضًا فإذا ظنه علمه وإلا جاز أن يكون المتعبد به غيره فلا يكون كل مجتهد مصيبًا وأيضًا أطلق الصحابة الخطأ فى الاجتهاد كثيرًا وشاع وتكرر ولم ينكر عن على وزيد وغيرهما أنهم خطئوا ابن عباس فى ترك العول وخطأهم وقال من باهلنى باهلته إن اللَّه لم يجعل فى مال واحد نصفًا ونصفًا وثلثًا).
أقول: المسألة إما لا قاطع فيها من نص أو إجماع أو فيها قاطع، أما التى لا قاطع فيها فقد اختلف فيها فقال القاضى والجبائى كل مجتهد مصيب بمعنى أنه لا حكم معينًا للَّه فيها وحكم اللَّه فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم اللَّه فيها فى حقه وحق مقلده وقد قيل للَّه فيها حكم والمصيب واحد، ثم منهم من قال للَّه فيها حكم ولم ينصب عليه دليلًا إنما يوقف عليه اتفاقًا كدفين يصاب فمن أصابه فهو المصيب وغيره المخطئ وقيل بل عليه دليل ثم اختلف فى دليله فقال الأستاذ دليله ظنى فالمخطئ غير آثم وقال بشر المريسى وأبو بكر الأصم دليله قطعى والمخطئ آثم والشافعى وأبو حنيفة ومالك وأحمد أربعتهم نقل عنهم تصويب كل مجتهد وتخطئة البعض، وأما التى فيها قاطع فإن قصر فى طلبه كان آثمًا وإن لم يقصر فغير آثم وهل هو مخطئ فيه خلاف والمختار أنه مخطئ. لنا لا
دليل على التصويب والأصل عدم التصويب فوجب نفيه فإن قيل فكذا نقول فى تصويب كل واحد فيجب نفيه عن كل واحد وذلك مما لم يقل به أحد قلنا دليلنا يقتضى ذلك لولا الإجماع على تصويب واحد غير معين فإن عدم تصويب كل واحد ينافى ذلك ولا يخفى أن إثبات مثل هذا الأصل بمثل هذا الدليل لا يحسن ولنا أيضًا لو كان كل مجتهد مصيبًا لزم اجتماع النقيضين لأنه لو كان كذلك فإذا ظن حكمًا قطع بأنه الحكم فى حقه ولا شك أن استمرار قطعه مشروط ببقاء ظنه للإجماع على أنه لو ظن غيره وجب عليه الرجوع عنه إلى ذلك الغير فيكون عالمًا به ما دام ظانًا له فيكون ظانًا عالمًا بشئ واحد فى زمان واحد فيلزم القطع وعدم القطع وهما نقيضان لا يقال لا نسلم أن شرط القطع بقاء الظن قولك لو ظن غيره وجب عليه الرجوع قلنا نعم، ومن أين يلزم من زوال حكم الظن عند زوال الظن بالشئ إلى الظن بخلاف متعلقه زوال حكمه عن زواله إلى العلم بمتعلقه فإن القطع به أولى بذلك الحكم من ظنه والحال فيه، نحن فيه كذلك فإنه يستمر الظن ريثما يحصل به القطع فإذا حصل القطع زال الظن ضرورة، وحكم القطع هو اتباعه وهو به أجدر من الظن لأنا نقول أولًا إنا نقطع ببقاء الظن وعدم جزم مزيل له فإنكاره بهت ومكابرة، وثانيًا لو كان الظن موجبًا للعلم لامتنع ظن النقيض مع تذكره إذ يستحيل ظن نقيض ما علم بموجب مع تذكر ذلك الموجب لوجوب دوام العلم بدوام ملاحظة موجبه إذ الغرض أنه موجب نعم قد يزول عند الذهول عن الموجب وكونه موجبًا وذلك بخلاف ما عنه الظن فإنه قد ينتفى الظن مع تذكره لأنه ليس موجبًا كالغيم الرطب للمطر فإن قيل ما ذكرتم مشترك الإلزام لأن لزوم النقيضين وارد على المذهبين فيكون مردودًا إذ يعلم به أن منشأ الفساد ليس خصوصية أحد الذهبين ولأن لكم جوابًا تذبون به عن مذهبكم فهو جوابنا وإن لم نعلمه بعينه أو نقول لو صح هذا لبطل المذهبان وهو خلاف الإجماع بيان أنه مشترك الإلزام أن الإجماع منعقد على وجوب اتباع الظن فإذا ظن الوجوب وجب الفعل قطعًا وإذا ظن الحرمة حرم الفعل قطعًا ثم شرط القطع بقاء الظن بما ذكرتم فيلزم الظن والقطع معًا ويجتمع النقيضان قلنا إنما يلزم ذلك لو كان متعلق القطع والظن شيئًا واحدًا وليس كذلك لأن الظن متعلق بأنه الحكم المطلوب والقطع متعلق بتحريم مخالفته لأنه مظنون فاختلف المتعلقان فإن قيل فيلزمكم امتناع ظن
النقيض مع تذكر طريق العلم كما تقدم قلنا لا يرد لأن العلم متعلق بأن المظنون ما دام مظنونًا يجب العمل به فإذا زال الظن فقد زال شرط العمل به فقد انتفى العلم بوجوب العمل به فى زمان زوال الظن وذلك كان حاصلًا قبل زوال الظن والعلم بوجوب العمل به عند بقائه باق مستمر فإن قيل فهذا الجواب بعينه يجرى فى دليلكم إذ يقال لا نسلم اتحاد متعلق الظن والعلم فإن الظن متعلق بكون الدليل دليلًا والعلم متعلق بثبوت مدلوله ما دام دليلًا فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم وهو ظن الدلالة قلنا هذا لا يدفع اجتماع النقيضين فإن كونه دليلًا أيضًا حكم فإذا ظنه فقد علمه إذ لو لم يعلمه لجاز أن يكون المتعبد به غيره أى الذى يجب العمل به غير ذلك الدليل فلا يحصل له الجزم بوجوب العمل بظنه فقد أخطأ فى اعتقاد أنه دليل فهذا حكم قد أخطأ فيه المجتهد فلا يكون كل مجتهد مصيبًا فحينئذٍ يجتمع فى كونه دليلًا الظن والعلم ويتم الإلزام ولنا أيضًا أن الصحابة أطلقوا الخطأ فى الاجتهاد كثيرًا وشاع وتكرر من غير نكير فكان إجماعًا منه ما روى عن على وزيد وغيره من تخطئة ابن عباس فى ترك العول وهو خطأهم حتى قال من باهلنى باهلته إن اللَّه لم يجعل فى مال واحد نصفًا ونصفًا وثلثًا وذلك كثير قال أبو بكر أقول فى الكلالة برأيى فإن كان صوابًا فمن اللَّه وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، وقال عمر: إن عمر لا يدرى أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهدًا وعن على فى قضية المجهضة إن كان قد اجتهد فقد أخطأ وإن لم يجتهد فقد غشك.
قوله: (لا حكم للَّه معينًا فيها) إن أراد قبل الاجتهاد وهو الظاهر فلا حاجة إلى قيد التعيين لأنه لا حكم أصلًا ضرورة أن الحكم ما أدى إليه الاجتهاد وإن أراد بعد الاجتهاد فلله بالنسبة إلى كل مجتهد حكم معين قلنا المراد الأول وقَيَّد التعيين إشارة إلى قدم الخطاب بمعنى أن للَّه تعالى فيها خطابًا لكنه إنما يتعين وجوبًا أو حرمة أو غيرهما بحسب ظن المجتهد فالتابع لظن المجتهد هو الخطاب المتعلق لا نفس الخطاب وأما عند من يجعل الخطاب حادثًا فقبل الاجتهاد لا حكم أصلًا ويمكن أن يقال المراد أن حكم اللَّه قبل اجتهاد المجتهد ليس واحدًا معينًا بل له أحكام مختلفة بالنسبة إلى المجتهدين يظهر بالاجتهاد ما هو حكم بالنسبة إلى كل
منهم ذهب شرذمة من المصوبة إلى أن للَّه فى الواقعة حكمًا واحدًا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطالب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبًا وإن لم يصبه إذ المعنى بالمصيب أنه أدى ما كلف به كذا ذكره الغزالى ولا يخفى أن هذا بعينه مذهب القائلين بتخطئة البعض وإن سمى المخطئ مصيبًا بمعنى أنه أدى ما كلف به.
قوله: (دليله قطعى والمخطئ آثم) ههنا مذهب آخر لم يتعرض له وهو أن الدليل قطعى والمخطئ غير آثم بل معذورًا لخفاء الدليل وغموضه وكذا القائلون بكون الدليل ظنيًا فرقتان منهم من قال لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه فلذا كان معذورًا بل مأجورًا وقال قوم أمر بطلبه وإذا أخطأ لم يكن مأجورًا لكن حط الإثم عنه تخفيفًا.
قوله: (والأصل عدم التصويب) بناء على أنهم قبل الاجتهاد لم يصيبوا الحكم فيستمر عدم الإصابة حتى يظهر دليل وجودها لا بناء على أن الأصل فى كل حادث هو العدم لأنه معارض بأن التخطئة أيضًا حادث.
قوله: (ولا يخفى) يعنى أن الاستدلال بأنه لا دليل على الثبوت فيجب نفيه من أضعف طرق الاستدلال ومسألة تصويب الكل أو تخطئة البعض من معظم مباحث الأصول ومعارك آراء الفرق فلا يحسن إثباته به.
قوله: (ولنا أيضًا) توضيح الدليل أنه لو كان كل مجتهد مصيبًا فإن أدى اجتهاد المجتهد إلى حرمة النبيذ حصل له الجزم بأن الحكم فى حقه الحرمة وهذا الجزم مشروط ببقاء ظن الحرمة إذ لو تغير إلى ظن الإباحة لزم الرجوع إلى القطع بأن الحكم فى حقه الإباحة وإذا كان الظن باقيًا كان المجتهد قاطعًا بحرمته عليه غير قاطع وهو محال وتوضيح السؤال أنا سلمنا أنه إذا زال ظن الحرمة إلى ظن الإباحة لزم زوال حكم ظن الحرمة وهو وجوب اتباعه لكن لا نسلم أنه إذا زال ظن الحرمة إلى العلم بالحرمة لزم زوال حكم ظن الحرمة بل صار حكمه أوكد وأثبت لأن العلم بالحرمة أولى بالاتباع من الظن بها وهذا معنى قوله وهو أجدر أى القطع بالاتباع من الظن وحينئذٍ لا يتم ما ذكرتم أن استمرار القطع مشروط ببقاء الظن وأنه إذا زال القطع وتوضيح الجواب أولًا أنا نقتصر من الاستدلال على بقاء ظن الحرمة عند القطع بأنها الحكم فى حقه على ادعاء ضرورة وأنه لم يحصل
جزم يزيله وثانيًا أنا نقيم الحجة على بقاء ظن الحرمة وامتناع زواله إلى ظن الإباحة مثلًا عند القطع بأن الحكم فى حقه الحرمة وذلك لأنه إذا كان الظن بالحكم موجبًا للعلم به على ما هو اللازم من نصويب كل مجتهد امتنع ظن نقيض الحكم مع تذكر ظن الحكم لامتناع ظن نقيض المعلوم مع ملاحظة ما هو موجب للعلم وإلا لم يكن العلم علمًا ولا الموجب موجبًا لا يقال الامتناع مع التذكر لا يوجب الامتناع مطلقًا لأنا نقول الكلام فيما إذا كان متذكر الظن الحرمة قاطعًا بأنها الحكم فى حقه وإلا فلا خفاء فى جواز زوال العلم عند الذهول عن موجبه وعن كونه موجبًا وفى جواز طريان ظن النقيض حينئذٍ لا يقال فيرد مثل ذلك على غير المصوبة وتقريره أنه لو صح ما ذكرتم لزم أن يمتنع زوال ظن الحكم إلى ظن نقيضه لأنه لا محالة يكون عن أمارة هى بمنزلة الموجب له ومع تذكر موجب الشئ يمتنع زواله لأنا نقول ليس بين الظن وبين ما ينشأ هو عنه ربط عقلى حتى يكون بمنزلة الموجب له كما فى العلم الذى لا يكون إلا عن موجب فحينئذٍ لا يمتنع زوال ظن الحكم مع تذكر الأمارة التى عنها الظن كما يزول ظن المطر مع بقاء الغيم الرطب الذى هو مظنة له، وفى كلام الشارح العلامة ما يشعر بأنه لا يفهم من هذا المقام معنى يعتد به وغاية ما أدى إليه نظر الشارحين فى تقرير السؤال أنه اعتراض على الملازمة المذكورة بأنها إنما تتم لو كان استمرار القطع مشروطًا ببقاء الظن وهو ممنوع فإن الظن ينتفى بالعلم ضرورة انتفاء احتمال النقيض وما لا يمكن اجتماعه مع الشئ لا يكون شرطًا له وتقرير الجواب أنه لو انتفى ظن الشئ بالعلم لكان يستحيل ظن نقيض الشئ مع ذكر الحكم لأجل العلم فإن عند ظن نقيض الشئ يكون الشئ موهومًا وإذا كان الظن ينتفى بالعلم فبالحرى أن ينتفى الوهم اللازم لظن نقيض الشئ بالعلم فيلزم استحالة ظن نقيض مع ذكر تحكم لأجل العلم بالحكم واللازم باطل للإجماع على جواز ظن نقيض الحكم عند ذكر الحكم.
قوله: (فإن قيل) يعنى أن ما ذكرتم من لزوم اجتماع النقيضين كما يرد على تصويب الكل يرد على تخطئة البعض فلا يصلح للاستدلال أما أولًا فلأنه منقوض إجمالًا بأنه لو صح لما قام دليلًا على النقيضين ولأنه معارض بالمثل، وأما ثانيًا فلأنه مدفوع إجمالًا بأنه لا بد لكم من جواب عنه فهو بعينه جوابنا، وأما ثالثًا
فلأنه لو صح لزم مخالفة الإجماع على حقية أحد المذهبين فقوله ولاح لكم عطف على قوله إذ يعلم به.
قوله: (وليس كذلك) يعنى أن قولكم إذا ظن وجوب الفعل قطعًا إن أردتم حصول القطع بأن حكم اللَّه تعالى فيه هو الوجوب فممنوع والإجماع لم ينعقد على ذلك وإن أردتم حصول القطع بلزوم الإتيان بذلك الفعل وعدم جواز تركه فمسلم لكنه لا يوجب النقيضين لأن الظن لم يتعلق بذلك بل بأن حكم اللَّه تعالى فيه هو الوجوب، فإن قيل لزوم الفعل شرعًا وجوبه فالقطع به وبتحريم الترك قطع بالوجوب قلنا نعم لكن متعلق الظن هو الحكم بمعنى الخطاب والحاصل أن الظن متعلق بالحكم بمعنى الخطاب والقطع بلزوم امتثاله بناء على كونه متعلق الظن وهذا بخلاف رأى المصوبة فإنه يستلزم كون الخطاب متعلق العلم على ما مر.
قوله: (فإن قيل فيلزمكم) إشارة إلى أن قوله فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة جواب سؤال توجيهه أنه لو صح ما ذكرتم من كون الظن بالحكم موجبًا للقطع بتحريم مخالفة الحكم المظنون لامتنع ظن نقيضه والعمل بخلافه لما مر من دوام العلم بدوام موجبه واللازم باطل ضرورة احتمال تغير الاجتهاد وطريان ظن النقيض وتقرير الجواب أن الظن إنما أوجب العلم بوجوب العمل بالمظنون وتحريم مخالفته ما دام مظنونًا ويشترط كونه مظنونًا والشئ كما ينتفى بانتفاء موجبه فقد ينتفى بانتفاء شرطه وجمهور الشارحين على أنه جواب سؤال تقريره أن متعلق العلم لو كان غير متعلق الظن لما اختلف بتبدل الظن لكنه يختلف لأنه إذا تبدل الظن لم يحرم المخالفة وحاصله أن زوال العلم عند زوال الظن يشعر باتحاد المتعلق والجواب أن ذلك ليس لاتحاد المتعلق بل لكون بقاء العلم بتحريم المخالفة مشروطًا ببقاء الظن بالحكم فحيئنذٍ أى حين يثبت أنه إذا ظن الحكم الذى هو كونه دليلًا فقد علمه ثم إلزام المصوبة باستلزام مذهبهم اتحاد متعلق الظن والعلم وهو جمع بين النقيضين غايته أنه لا يكون فى حكم شرعى عملى هو خطاب التكليف بل حكم شرعى اعتقادى هو كون الدليل الذى لاح للمجتهد دليلًا.
قوله: (فى قضية المجهضة) هى المرأة التى استحضرها عمر فأجهضت أى ألقت ما فى بطنها، فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئًا، فقال على رضى اللَّه عنه: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ وإن لم
يجتهدا فقد غشاك، من الغش وهو الخيانة فضمير الفاعل لهما والخطاب لعمر وقد وقع فى الشارح غشك بلفظ الوحدة فإن كان سهوًا فذاك وإن كان رواية فالضمير لعثمان لأنه أشهر بالاجتهاد.
المصنف: (المسألة التى لا قاطع فيها) أى لا قاطع ظاهر فلا ينافى قول بشر المريسى، وإلا صح أن الدليل قطعى لأن المراد قطعى مع صفاته.
المصنف: (ولأنه كان يستحيل ظن النقيض) ظاهر المصنف أنه جواب ثان عن أن الظن ينتفى بالعلم من قبل المخطئة إبطالًا لمذهب الصوبة والمعنى عليه أنه لو انتفى الظن بالعلم لاستلزم الظن العلم ولو استلزم الظن العلم وكان موجبًا له لامتنع واستحال ظن نقيض متعلقه مع تذكر موجب العلم الذى هو الظن بالحكم واللازم باطل فكذا الملزوم ويصح أن يكون دليلًا ثانيًا على بطلان مذهب المصوبة والمعنى عليه لو كان ظن الحكم موجبًا للعلم على ما هو اللازم لتصويب كل مجتهد لامتنع الرجوع عن الحكم لاستلزامه ظن النقيض ولعلم به ينفى احتماله لظن النقيض فلم يكن العلم علمًا.
قال: (واستدل إن كانا بدليلين، فإن كان أحدهما راجحًا تعين وإلا تساقطا، وأجيب بأن الأمارات تترجح بالنسب فكل راجح واستدل بالإجماع على شرط المناظرة فلولا تبيين الصواب لم يكن فائدة، وأجيب بتبيين الترجيح أو التساوى أو التمرين واستدل بأن المجتهد طالب وطالب ولا مطلوب محال فمن أخطأ فهو مخطئ قطعًا وأجيب مطلوبه ما يغلب على ظنه فيحصل وإن كان مختلفًا واستدل بأنه يلزم حل الشئ وتحريمه، لو قال مجتهد شافعى لمجتهدة حنفية أنت بائن ثم قال راجعتك وكذا لو تزوج مجتهد امرأة بغير ولى ثم تزوجها بعده مجتهد بولى وأجيب بأنه مشترك الإلزام إذ لا خلاف فى لزوم اتباع ظنه، وجوابه أن يرفع إلى الحاكم فيتبع حكمه).
أقول: هذة مسالك استدل بها للمذهب المختار مع ضعفها استدل بأن قوليهما فى مسألة إن كانا هما أو أحدهما لا بدليل فواضح أنه خطأ وإن كانا بدليلين فإما أن يترجح أحدهما أو يتساويا فإن ترجح أحدهما تعين للصحة ويكون الآخر خطأ إذ لا يجوز العمل بالمرجوح وإن تساويا تساقطا وكان الحكم الوقف أو التخيير فكانا فى التعيين مخطئين.
الجواب: قولك وإما أن يتساويا أو يترجح أحدهما قلنا بك ههنا قسم ثالث وهو أن يترجح كل واحد منهما فإن الأمارات تترجح بالنسبة فإنها ليست أدلة فى أنفسها فأمارة كل راجحة عنده وذلك هو رجحانه فى نفس الأمر واستدل بأن الأمة أجمعوا على شرع المناظرة ولا يتصور لها فائدة إلا تبيين الصواب من الخطأ وتصويب الجميع ينفى ذلك.
الجواب: لا نسلم أن لا فائدة لها إلا ذلك ومن فوائده ترجيح إحدى الأمارتين فى نظرهما ليرجعا إليها ومنها تساويهما، ليتساقطا ويرجعا إلى دليل آخر ومنها التمرين وحصول ملكة الوقوف على المآخذ ورد الشبه ليعين ذلك على الاجتهاد واستدل بأن المجتهد طالب فله مطلوب فإن إثبات طالب لا مطلوب له محال، فمن وجد ذلك المطلوب فهو مصيب ومن أخطأه فهو مخطئ قطعًا.
الجواب: قولك طالب ولا مطلوب له محال مسلم لكنه إنما يتم الدليل به لو ثبت أن المطلوب ثابت قبل الطلب والغرض وجدانه وذلك أول المسألة فإن مطلوب كل واحد عندنا ما يغلب على ظنه من الأمارات المختلفة فيحصل لكل مطلوبه وإن
كان مختلفًا فإن قلت أليس متعلق ظنه كونه حكم اللَّه فكيف يمكن ذلك مع الجزم بأن لا حكم للَّه فى الواقعة وبالجملة فمطلب أى بعد مطلب هل فما لم يعلم بأن حكمًا كيف يطلب تعينه أهو الحرمة أو الإباحة؟ قلنا لا بل متعلق ظنه أنه أليق بالأصول وأنسب بما عهد من الشارع اعتباره واستدل بأن تصويب الكل مستلزم للمحال فيكون محالًا بيانه فى صورتين:
إحداهما: إذا كان الزوج مجتهدًا شافعيًا والزوجة مجتهدة حنفية فقال لها أنت بائن ثم قال راجعتك والرجل يعتقد الحل والمرأة الحرمة فيلزم من صحة المذهبين حلها وحرمتها.
ثانيتهما: أن ينكح مجتهد امرأة بغير ولى لأنه يرى صحته، وينكح مجتهد آخر تلك المرأة إذ يرى بطلان الأول فيلزم من صحة المذهبين حلها لهما، وأنه محال.
الجواب: أنه مشترك الإلزام إذ لا خلاف فى أنه يلزمه اتباع ظنه، والجواب الحق هو الحل وهو أنه يرجع إلى الحاكم ليحكم بينهما فيتبعان حكمه لوجوب اتباع الحكم للموافق والمخالف.
قوله: (فواضح أنه خطأ) إشارة إلى أنه لم يتعرض فى المتن لهذا الشق من الترديد لوضوح حكمه.
قوله: (لكنه إنما يتم) يعنى أن الطلب يقتضى مطلوبًا لكنه يجب أن لا يكون مطلوبه حاصلًا وقت الطلب بل بعده فالمجتهد يطلب غلبة ظنه بشئ من الوجوب والندب وغيرهما بمعونة أمارة من الأمارات المختلفة وبعد حصوله تلك الغلبة يسقط طلبه وظاهر كلام الشارح أن مطلوبه أمارة من الأمارات المختلفة بحيث يظن أنها أليق بالأصول الشرعية وأنسب بما عهد من الشارع اعتباره ولكن ينبغى أن يكون المراد أن مطلوبه حكم يغلب على ظنه من النظر فى الأمارات بحيث يظن ذلك الحكم أليق وأنسب بما يعتبره الشارع فى الأحكام فليس هو طالبًا بأى من المحققات بل من المحتملات وحقيقة الحال ما ذكر فى بعض الشروح أن المطلوب حكم يغلب على ظن المجتهد وهو من هذا الوجه موجود فى الذهن وهذا القدر ويكفى فى توجه الطلب نحوه.
قوله: (مجتهدًا شافعيًا) يعنى يوافق رأيه رأى الشافعى وإلا فلا يجوز للمجتهد
التقليد ومثل قولنا أنت بائن عند الشافعية رجعى وعند الحنفية بائن ووجه كونه مشترك الإلزام فى الثانى ظاهر لأنه كما يمتنع كونها حلالًا للزوجين فى نفس الأمر كذلك فى نظر المجتهد وحكمه، وأما فى الأول ففيه بحث لجواز حلها للزوج عند مجتهد وحرمتها عند مجتهد آخر، نعم يتوجه الإشكال من جهة أنه يلزم أن يكون للزوج طلب التمكن وللزوجة الامتناع كما أن فى الثانية لكل من الزوجين طلب التمكن وهذا محال.
قوله: (والجواب الحق) يشير إلى أن الجواب الأوّل جدلى لكن فى كون هذا جوابًا عن الإلزام المذكور نظر لأن حكم الحاكم إنما يصلح لدفع النزاع إذا تنازعا لا لرفع تعلق الحل والحرمة بشئ واحد فإنه بعد الحكم لم يرتفع ذلك التعلق على تقدير تصويب كل مجتهد نعم لو أجاب بأن الحل بالإضافة إلى أحدهما والحرمة بالإضافة إلى الآخر ولا امتناع فى ذلك لكان وجهًا كذا فى بعض الشروح.
قوله: (لأن حكم الحاكم إنما يصلح. . . إلخ) رده فى التحرير بأن مثل ذلك مخصوص من تعلق الحكمين بل الثابت حرمتها إلى غاية الحكم لأن لزوم المفسدة يمنع شرع ذلك.
قال: (المصوبة قالوا: لو كان المصيب واحدًا لوجب النقيضان وإن كان المطلوب باقيًا أو وجب الخطأ إن سقط الحكم المطلوب وأجيب بثبوت الثانى بدليل أنه لو كان فيها نص أو إجماع ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد وجب مخالفته وهو خطأ فهذا أجدر، قالوا: قال: "بأيهم اقتديتم اهتدتم" ولو كان أحدهما مخطئًا لم يكن هدى، وأجيب بأنه هدى لأنه فعل ما يجب عليه من مجتهد أو مقلد).
أقول: للقائلين بأن كل مجتهد مصيب دليلان، قالوا: أولًا: لو كان المصيب واحدًا والمخطئ يجب عليه العمل بموجب ظنه فإما أن نوجبه عليه مع القول ببقاء الحكم الذى هو فى نفس الأمر فى حقه أو مع زواله، والأول يستلزم ثبوت الحكم الأول والثانى فى حقه وهما نقيضان، والثانى يستلزم أن يكون العمل بالحكم الخطأ واجبًا وبالصواب حرامًا، وأنه محال.
الجواب: أن نختار الثانى وهو زوال الحكم الأول قولك أنه محال ممنوع ومما يدل على أنه ليس بمحال وقوعه فيما إذا كان فى المسألة نص أو إجماع ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد فإنه يجب عليه مخالفته للواقع مع الاتفاق على أنه خطأ فهذا مع الاختلاف أجدر.
قالوا: ثانيًا: قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولو كان بعضهم مخطئًا فى اجتهاده لم يكن فى متابعته هدى فإن العمل بغير حكم اللَّه ضلال.
الجواب: أن كونه ضلالًا من وجه لا يمنع كونه هدى من وجه آخر، وهذا هدى لأنه قد فعل ما بجب عليه سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا، فإنه يجب العمل بالاجتهاد للمجتهد ولمقلده.
قوله: (مع الاتفاق على أنه خطأ) لأن الخلاف انما هو فى الأحكام الاجتهادية التى لا قاطع فيها وأما الحكم الثابت بالدليل القطعى فهو الحكم فى حق الكل بلا خلاف وإن لم يبلغ المجتهد دليله.
قال: (مسألة: تقابل الدليلين العقليين محال لاستلزامهما النقيضين وأما تقابل الأمارات الظنية وتعادلها فالجمهور جائز خلافًا لأحمد والكرخى لنا لو امتنع لكان لدليل والأصل عدمه، قالوا: لو تعادلا فإما أن يعمل بهما أو بأحدهما معينًا أو مخيرًا أو لا والأول باطل والثانى تحكم، والثالث حرام لزيد حلال لعمرو من مجتهد واحد والرابع كذب لأنه يقول لا حرام ولا حلال وهو أحدهما وأجيب يعمل بهما فى أنهما وقفا فيقف أو بأحدهما مخيرًا أو لا يعمل بهما ولا تناقض إلا من اعتقاد نفى الأمرين لا فى ترك العمل).
أقول: الدليل ما يرتبط به ثبوت مدلوله ارتباطًا عقليًا والأمارة ما يحصل به الظن ولا يرتبط ارتباطًا عقليًا كما علمت فأما الدليلان فتقابلهما وتعارضهما محال قطعًا وباتفاق العقلاء وإلا لزم حقيقة مقتضاهما فيلزم وقوع المتنافيين ولا يتصور فيهما ترجيح لأنه فرع تفاوت فى احتمال النقيض ولا يتصور فى القطعى، وأما الأمارات الظنية فتقابلهما وتعادلهما أى تساويهما من غير ترجيح هل يجوز الجمهور على أنه جائز ومنعه أحمد والكرخى لنا لو امتنع لكان امتناعه لدليل والتالى باطل إذ الأصل عدم الدليل. قالوا: لو تعادل أمارتان فإما أن يعمل بهما أو بأحدهما معينًا أو مخيرًا أو لا يعمل بهما والكل باطل.
أما الأول: وهو العمل بهما فظاهر للزوم اجتماع التحليل والتحريم وهو تناقض.
وأما الثانى: وهو العمل بأحدهما معينًا فلأنه مع تساويهما تحكم وهو باطل.
وأما الثالث: وهو العمل بأحدهما مخيرًا فلأنه حينئذٍ يجوز أن يفتى زيد بالحل ولعمرو بالحرمة، فيكون الفعل الواحد حلالًا لزيد حرامًا لعمرو من مجتهد واحد وأنه محال.
وأما الرابع: وهو عدم العمل بهما فلأنه قول بأنه ليس حلالًا ولا حرامًا مع أنه إما حلال وإما حرامًا ضرورة أن لا مخرج عنهما فيكون كاذبًا.
الجواب: أولًا: نختار الأول وهو أن يعمل بهما قولك يلزم اجتماع النقيضين قلنا إنما يلزم أن لو اقتضى كل عند الاجتماع العمل بمقتضاه عند الانفراد وليس كذلك بل مقتضاهما عند الاجتماع الوقف ولا تناقض فيه.
وثانيًا: أنا نختار العمل بأحدهما مخيرًا ونمنع استحالة الحل لزيد والحرمة لعمرو
من مجتهد واحد فإنه ليس ضروريًا ولم يقم عليه دليل.
وثالثًا: أنا نختار الرابع وهو أنه لا يعمل بهما كما لو لم يكن دليل ولا تناقض فى عدم العمل بهما ولا كذب إنما التناقض فى اعتقاد نفى الأمرين لا فى ترك العمل بهما فله بعد الدليلين أن يعتقد وقوع أحدهما وأنه لا يعلمه بعينه كما كان قبل قيام الدليلين فما أوجبه الدليل ليس بمحال والمحال لم ينشأ من الدليل ولم يستلزمه الدليل.
قوله: (الدليل ما يرتبط به ثبوت مدلوله) الدليل بهذا التفسير لا يكون إلا قطعيًا ولا تقابل بين القطعيين عقليين كانا أو نقليين فلا وجه للتقييد بالعقلى إلا من جهة أن القطعيين قد يتقابلان بأن يكون أحدهما ناسخًا للآخر وأما وصف الأمارة بالظنية فلقصد التوكيد والتوضيح وقوله كما علمت إشارة إلى ما سبق من أنه ليس بين الظن وبين أمر ربط عقلى لزواله مع بقاء موجبه كالغيم الرطب للمطر وقوله وتعادلهما أى تساويهما إشارة إلى أن لا خلاف فى مجرد التقابل بأن تقتضى إحداهما ظن ثبوت الشئ والأخرى ظن انتفائه لجواز رجحان إحداهما فيعمل بها.
قوله: (وهو تناقض) لأن معنى اجتماع التحليل والتحريم أن هذا حلال وليس بحلال.
قوله: (ولا تناقض فيه) أى فى الوقف لعدم الحكم بالثبوت أو الانتفاء.
قوله: (ولا تناقض فى عدم العمل بهما ولا كذب) إن قيل المستدل إنما ادعى فيه الكذب لا التناقض فلا وجه لنفيه قلنا فيه إشارة إلى أن كذب قولنا ليس بحلال ولا حرام بل كذب مطلق ارتفاع النقيضين مبنى على التناقض لأن نفى كل من النقيضين فى قوة إثبات الآخر كأنه قيل حلال وليس بحلال، حرام وليس بحرام، ولذا قال إنما التناقض فى نفى اعتقاد نفى الأمرين يعنى الحل والحرمة لأن معناه الحكم بأنه ليس بحلال أى هو حرام وليس بحرام أى هو حلال، والحاصل أن المستدل ادعى لزوم التناقض على التقدير الأول باعتبار جمع النقيضين وعلى الرابع باعتبار رفعهما والمجيب منع اللزوم بناء على أن العمل بالمتعارضين اجتماعهما هو الوقت عن الحكم لأن الحكم بثبوت النقيضين وعدم العمل بهما هو عدم الحكم
بهما لا الحكم بعدمهما، وإنما يلزم التناقض لو حكم فى الأوّل بثبوتهما، وفى الرابع بنفيهما غاية الأمر أن له بعد قيام الدليلين سواء أعيلهما أو أهملهما أن يحكم بثبوت أحد النقيضين لا بعينه، وهذا ليس من التناقض فى شئ فما أوجبه الدليل وهو عدم العمل بالدليلين المتعارضين ليس بمحال وما هو المحال أعنى اعتقاد نفى الأمرين لم يدل عليه الدليل ولا يخفى أن المراد بالاعتقاد ههنا ما يعم الظن وبالدليل ما يعم الأمارة بل نفسها.
قال: (مسألة: لا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان فى وقت واحد بخلاف وقتين أو شخصين على القول بالتخيير فإن ترتبا فالظاهر رجوع وكذلك المتناظرتان ولم يظهر فرق فقول الشافعى فى سبع عشرة مسألة فيها قولان إما للعلماء وإما فيها ما يقتضى للعلماء قولين لتعادل الدليلين عنده، وإما لى قولان على التخيير عند التعادل وإما ما تقدَّم لى فيها قولان)
أقول: لا يجوز أن يكون لمجتهد فى مسألة قولان متناقضان فى وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد لأن دليلهما إن تعادلا توقف، وإن ترجح أحدهما فهو قوله ويتعين وأما فى وقتين فجائز لجواز تغير الاجتهاد وأما فى وقت واحد بالنسبة إلى شخصين فيجوز على القول بالتخيير عند تعادل الأمارتين ولا يجوز على القول بالوقف فإذا كان لمجتهد قولان مرتبان أى فى وقت بعد وقت فالظاهر أن الأخير رجوع عن الأول أوجبه تغير اجتهاده، وكذلك إذا كان القولان فى مسألتين متناظرتين إذا لم يظهر بينهما فرق وإن ظهر فرق حمل عليه ولم ينقل الحكم منها إلى نظيرها، مثاله إذا قال فى اشتباه طعامين أحدهما متنجس يجتهد وفى ثوبين لا يجتهد ولا فارق بينهما فيحمل على الرجوع أما لو قال فى ماء وبول لا يجتهد فالفارق ظاهر، وهو كون البول نجس الأصل لم نحمله عليه وقلنا حكمه فيما له أصل فى الطهارة الاجتهاد وفى خلافه خلاف وإذا تقرر هذا فقد قال الشافعى فى سبع عشرة مسألة فيها قولان، وقد علمت أنه لا يجوز أن يكونا قولين له فيحمل على أحد وجوه:
الأول: للعلماء فيه قولان فقال بعضهم بهذا وبعضهم بذاك، فيحكى قولهم.
الثانى: يحتمل قولين فإن فيهما ما يقتضى أن يكون للعلماء فيه قولان وذلك لتعادل الدليلين عنده.
الثالث: لى فيها قولان، وذلك على القول بالتخيير عند تعادل الدليلين.
الرابع: تقدَّم لى فيها قولان فيحكى قوليه.
قوله: (لا يستقيم لمجتهد) قيد بذلك لأنه كثيرًا ما تتناقض أقوال المجتهدين وأما التقييد بمسألة فاتفاقى إذ لا تناقض عند تعدد المسائل وكذا التقييد بشخص واحد لأنه لا ينافى فى الحل لزيد وفى عدم الحل لعمرو على ما سبق من أنه يجوز
لمجتهد أن يفتى بالحل لزيد والحرمة لعمرو عند تعادل الأمارتين وأما التقييد بوقت واحد فلا بد منه للقطع بجواز تغير الاجتهادين بأن يفتى اليوم بالحل لزيد وغدًا بالحرمة له فإن قيل أليس من شرط التناقض اتحاد الزمان قلنا ذاك زمان نسبة القضيتين وهذا وقت القول والتكلم بالقضيتين مثلًا لو قلنا اليوم هذا حلال دائمًا أبدًا وغدًا هذا ليس بحلال كان تناقضًا فليتأمل فإن هذا مما يقع فيه الغلط ثم المعتبر فى اتحاد الوقت وتعدده هو العرف وإلا فزمان التكلم بالإيجاب غير زمان التكلم بالسلب فلا يتصور قولان فى وقت واحد اللهم إلا أن يصرح بأن فيه قولين، فإن قيل فما معنى جواز المتناقضين فى وقتين لا فى وقت قلنا معناه أن مثل ذلك فى وقت يعد لغوًا باطلًا من الكلام لا مجرد خطأ فى الاجتهاد بخلافه فى وقتين.
قوله: (فى مسألتين متناظرتين) يعنى إذا كان إحدى المسألتين نظير الأخرى وحكم فى أحدهما بالثبوت وفى الأخرى بالانتفاء مع عدم ظهور الفرق لم يصح ذلك إلا فى وقتين وكان القول الثانى رجوعًا عن الأول كما إذا اشتبه طعام طاهر بطعام متنجس فجوز الاجتهاد فى أخذ أحدهما ولم يجوز ذلك فيما إذا اشتبه ثوب طاهر بثوب نجس بخلاف ما إذا ظهر الفرق كما لو لم يجوز الاجتهاد عند اشتباه ماء ببول ونحو ذلك فما ليس الأصل فى كليهما، هو الطهارة فإنه لا يكون رجوعًا فقوله لم نحمله أى القول فى المسألة الثانية عليه أى على الرجوع عن القول فى المسألة الأولى، وقلنا حكمه أى المجتهد فيما له أصل فى الطهارة كالماء والطعام أن يجتهد من يشتبه عليه الأمر وفى خلافه أى فيما ليس له أصل فى الطهارة كالبول خلافه أى خلاف الحكم الأول وهو أن لا يجتهد بل يجتنبهما جميعًا.
قال: (مسألة: لا ينقض الحكم فى الاجتهاديات منه ولا من غيره لاتفاق للتسلسل فتفوت مصلحة نصب الحاكم وينقض إذا خالف قاطعًا ولو حكم على خلاف اجتهاده كان باطلًا وإن قلد غيره اتفاقًا فلو تزوج امرأة بغير ولى ثم تغير اجتهاده فالمختار التحريم وقيل إن لم يتصل به حكم وكذلك المقلد يتغير اجتهاد مقلده فلو حكم مقلد بخلاف إمامه جرى على جواز تقليد غيره).
أقول: لا يجوز للمجتهد نقض الحكم فى السائل الاجتهادية لا حكم نفسه إذا تغير اجتهاده ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده اجتهاده بالاتفاق لأنه يؤدى إلى نقض النقض من مجتهد آخر يخالفه ويتسلسل ويفوت مصلحة نصب الحاكم وهو فصل الخصومات، هذا ما لم يكن مخالفًا لقاطع وإذا خالف قاطعًا نقضه اتفاقًا ولو حكم مجتهد بخلاف اجتهاده كان حكمه باطلًا وإن قلد فيه مجتهدًا آخر وذلك لأنه يجب عليه العمل بظنه ولا يجوز له التقليد مع اجتهاده إجماعًا إنما النزاع عند عدم الاجتهاد.
(فرع) لو تزوج امرأة بغير ولى عند ظنه صحته ثم تغير اجتهاده فرآه غير جائز فقد اختلف فيه والمختار تحريمه مطلقًا لأنه مستديم لما يعتقده حرامًا وقيل إنما يحرم إذا لم يتصل به حكم حاكم فإذا اتصل به لم يحرم وإلا لزم نقض الحكم بالاجتهاد فإن تعاطاه مقلد ثم علم تغير اجتهاد مقلده فالمختار أنه كذلك كما لو تغير اجتهاد المجتهد فى أثناء صلاته بالنسبة إليه وإلى مقلده فإن حكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فمبنى على جواز تقليد غير إمامه وسيجئ.
قوله: (فى المسائل الاجتهادية) يعنى الأحكام الشرعية التى أدلتها ظنية.
قوله: (ويتسلسل) إذ يجوز بعض الحكم الذى هو النقض هكذا لا إلى نهاية.
قوله: (وإذا خالف قاطعًا) يعنى نصًا قطعيًا أو إجماعًا أو قياسًا جليًا.
قوله: (إنما النزاع) فى أنه هل يجوز للَّه للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر فى المسألة عند عدم اجتهاده فيها فيحكم أو ينفى أو يعمل على وفق اجتهاد مجتهد آخر من غير أن يجتهد بنفسه.
قوله: (لأنه مستديم) أى لو لم يحكم بتحريمه كان ذلك المجتهد مستديمًا لما يعتقد تحريمه وهو باطل.
قوله: (وإلا) أى لو حرم بعد اتصال حكم حاكم بصحته كان ذلك نقضًا لحكم ذلك الحاكم باجتهاد هذا المجتهد، ومن قواعدهم أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد فإن قيل أليس الحكم بالتحريم عند عدم اتصال حكم الحاكم به نقضًا للاجتهاد السابق قلنا لا بل هو عمل بالاجتهاد الثانى وإنما يكون نقضًا لو حكم بأنه كان حرامًا من أوّل الأمر ثم لا يخفى أن فى تفريع مسألة الزواج على ما قبلها تكلفًا وغايته أنها على تقدير اتصال حكم الحاكم يتفرع على عدم جواز بعض الحكم بالاجتهاد والأولى تقرير الآمدى حيث قال بعد ما فرغ من المباحث المذكورة وأما المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم فى حق نفسه كتجويز نكاح المرأة بلا ولى ثم تغير اجتهاده إلى آخر المبحث.
قوله: (فإذا تعاطاه) أى أخذ هذا الحكم الذى ذكرنا فى المجتهد مقلد بأن يزوج امرأة بغير ولى عند ظن إمامه صحة ذلك ثم علم بتغير اجتهاد إمامه فالمختار التحريم مطلقًا وقيل إذا لم يتصل به حكم حاكم وذلك كما لو تغير اجتهاد من اجتهد فى القبلة ثم تغير اجتهاده فى إثبات الصلاة إلى جهة أخرى فإنه يلزمه ومقلديه التحول إليها لكن تكون الركعة الأولى صحيحة وهذا بخلاف ما إذا تغير الاجتهاد فى الإناءين وهما باقيان فإنه يتيمم ويصلى.
قوله: (فيتفرع على عدم جواز نقض الحكم بالاجتهاد) أى عدم التحريم يتفرع على عدم جواز نقض الحكم بالاجتهاد.
قال: (مسألة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد وقيل فيما لا يخصه وقيل فيما لا يفوت وقته، وقيل: إلا أن يكون أعلم منه وقال الشافعى إلا أن يكون صحابيًا وقيل أرجح فإن استووا تخير وقيل أو تابعيًا وقيل غير ممنوع وبعد الاجتهاد اتفاق لنا حكم شرعى فلا بد من دليل والأصل عدمه بخلاف النفى فإنه يكفى فيه انتفاء دليل الثبوت وأيضًا متمكن من الأصل فلا يجوز البدل كغيره واستدل لو جاز قبله لجاز بعده، وأجيب بأنه بعده حصل الظن الأقوى المجوز: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43]، قلنا للمقلدين بدليل: {إِنْ كُنْتُمْ} [النحل: 43]، ولأن المجتهد من أهل الذكر الصحابة، "أصحابى كالنجوم. . "، وقد سبق، قالوا: المعتبر الظن وهو حاصل، أجيب بأن ظن اجتهاده أقوى).
أقول: المجتهد إذا اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فهو ممنوع عن تقليد مجتهد آخر اتفاقًا، وأما قبل أن يجتهد فهل هو ممنوع عن التقليد المختار أنه ممنوع وقيل ممنوع فيما لا يخصه من الحكم بل يفتى به غير ممنوع فيما يخصه وقيل هذا فيما يفوت وقته باشتغاله بالاجتهاد والنظر وأما ما لا يفوته فإنه لا يقلد فيه أصلًا وقيل ممنوع إلا أن يكون صحابيًا فإنه إن كان أرجح من غيره من الصحابة قلده فإن استووا تخير فيقلد أيهم شاء وقيل إلا أن يكون صحابيًا أو تابعيًا، وقيل غير ممنوع، لنا جواز تقليده لغيره حكم شرعى فلا بد له من دليل والأصل عدمه، وقد يقال: هذا معارض بعدم الجواز لأن الانتفاء نفى يكفى فيه عدم دليل الثبوت وقد يقال: إن التحريم الشرعى ينفى الجواز الثابت بالأصل ولنا أيضًا أن التقليد بدل الاجتهاد جوز ضرورة ممن لا يمكنه الاجتهاد ولا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكن من المبدل كالوضوء والتيمم وكالقبلة مع جهة الاجتهاد وقد يقال ممنوع أنه بدل بل مخير فيهما عندنا واستدل لو جاز التقليد قبل الاجتهاد لجاز بعد الاجتهاد لأن المانع هو كونه مجتهدًا وأنه لا يعتبر.
الجواب: لا نسلم انحصار المانع فى كونه مجتهدًا بل هو أنه إذا اجتهد حصل له ظن الحكم باجتهاده وظن خلافه بفتوى الغير والحاصل بالاجتهاد أقوى الظنين فيكون العمل به عملًا بالأرجح فيجب دليل المجوز مطلقًا، وجوه:
قالوا: أولًا: قال اللَّه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهو قبل الاجتهاد لا يعلم والآخر من أهل الذكر فوجب عليه سؤاله للعمل به
وهو المطلوب.
الجواب: الخطاب مع المقلدين بدليل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهو صيغة عموم يفهم من سياقه أن من يعلم لا يجب عليه السؤال، وأن السؤال إنما هو لمن لا يقدر على العلم بنفسه، والمجتهد ليس كذلك ولأن المجتهد من أهل الذكر والأمر دل على رجوع غير أهل الذكر إلى أهل الذكر وفى دلالته على مراده تمحل لا يخفى.
قالوا: ثانيًا: قال عليه السلام: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
الجواب: ما سبق أنه للمقلد.
قالوا: ثالثًا: المعتبر الظن وهو حاصل بفتوى الغير فيجب العمل به.
الجواب: ما مر أن ظنه باجتهاده أقوى من ظنه بفتوى الغير فيجب العمل بالأقوى.
قوله: (ثم يقضى فيما يخصه) ليس المراد بذلك اختصاص الحكم به بحيث لا يعم غيره من المكلفين بل كون الغرض من الاجتهاد تحصيل رأى فيما اشتغل بعلمه لا فيما يفتى به بغيره كما فى المسائل الاجتهادية فى الصلاة حين يريد أن يصلى.
قوله: (وقيل هذا) أى عدم المنع فيما يخصه إنما هو فى العمل الذى يفوت عليه وقته لو اشتغل بالنظر والاجتهاد كما إذا كان آخر وقت الصلاة بحيث لو اشتغل بالاجتهاد فى مسائلها الاجتهادية فاتته الصلاة وفى هذا إشارة إلى أن هذا تفصيل لمذهب القائلين بالمنع فيما لا يخصه وليس المراد أنه يجوز له التقليد فيما يفوت وقته سواء كان مما يخصه أو يفتى به.
قوله: (إلا أن يكون) أى الإمام الذى يقلده المجتهد أعلم منه فإنه حينئذٍ لا يكون ممنوعًا من تقليده.
قوله: (إلا أن يكون صحابيًا) مشعر بأن مذهب الشافعى رضى اللَّه عنه جواز تقليد الصحابى من غير اشتراط الترجيح والمذكور فى رسالته القديمة أنه يجوز له تقليد الواحد من الصحابة فى نظره على غيره ممن خالف وإن استووا فى نظره تخير فى تقليد من شاء ولا يجوز له تقليد من عداهم ولهذا وقع فى بعض النسخ وقال الشافعى إلا أن يكون صحابيًا أرجح فإن استووا تخير ولفظ المنتهى يوافق
هذا وعليه مبنى كلام الشارح.
قوله: (وقد يقال) اعتراض على جواب المعارضة بأن لنفى ههنا تحريم شرعى ورفع للجواز الأصلى فهو المحتاج إلى الدليل دون الجواز وكل منهما حكم شرعى يحتاج إلى دليل.
قوله: (وظن خلافه بفتوى الغير) دفع لما ذكره العلامة أن انتفاء الظن الأقوى قبل الاجتهاد إنما هو بانتفاء أصل الظن إذ ليس للمجتهد قبل الاجتهاد ظن بحكم معين فى المسألة فكان الأولى أن يقول وأجيب بأنه بعده حصل له الظن اعلم أن الجواب المذكور هو حاصل ما جعله العلامة اعتراضًا على بيان اللازمة حيث قال لو جاز قبله لجاز بعده لصدق عكس نقيضها وهو أنه لو لم يجز بعده لم يجز قبله لأن المانع لزوم المخالفة وهو مشترك لاحتمال أن يؤديه الاجتهاد إلى خلاف رأى من قلده لأن الغرض أنه مجتهد وإلى هذا أشار فى المنتهى بقوله لأن المانع كونه مجتهدًا لأجل المخالفة ثم قال ولقائل أن يمنع اتحاد الجامع لأنه فى الأصل وجود المخالفة وفى الفرع اححمالها ولا يلزم من الاحتراز من تحقق المخالفة الاحتراز عن احتمالها.
قوله: (وهو) أى الخطاب الذى هو {فَاسْأَلُوا} [الأنبياء: 7]، للعموم يفهم منه بحكم مفهوم الشرط أن من يعلم لا يجب عليه السؤال وفى مقابلة {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، بأهل الذكر إشعار بأن المراد إن كنتم من أهل العلم والمراد القدرة على تحصيله ويفهم منه أن من تكون له القدرة على تحصيله كالمجتهد لا يكون له السؤال وقوله ولأن المجتهد عطف على قوله بدليل يعنى أن المجتهد قبل الاجتهاد من أهل الذكر والمفهوم من الأمر أنه يجب على غير أهل الذكر الرجوع إلى أهل الذكر إذ المساويان فى العلم لا يؤخر أحدهما بالسؤال عن الآخر للقطع بأن الغرض حصول العلم للسائل فدل ذلك على أن الخطاب للمقلدين خاصة ولما احتاج بيان كون الخطاب للمقلدين إلى هذه المقدمات قال وفى دلالته على مراده تمحل لا يخفى.
قوله: (أى الإمام الذى يقلده المجتهد أعلم منه) هذا الشرح موافق لنسخة المصنف التى معنا التى نصها: إلا أن يكون أعلم منه، وقال الشافعى: إلا أن
يكون صحابيًا وقيل أرجح لكن الشارح لم يشرح على تلك النسخة بل على نسخة: إلا أن يكون صحابيًا أرجح.
قوله: (لأنه فى الأصل هو ما بعد الاجتهاد) وقوله: وفى الشرع هو ما قبل الاجتهاد.
قوله: (أى الخطاب الذى هو فاسألوا) الظاهر أن المراد بقوله وهو صيغة عموم الفعل فى قوله: لا تعلمون.
قال: (مسألة: المختار يجوز أن يقال للمجتهد احكم بما شئت فهو صواب وتردد الشافعى، ثم المختار لم يقع. لنا لو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه، قالوا: يؤدى إلى انتفاء المصالح لجهل العبد، وأجيب بأن الكلام فى الجواز ولو سلم لزمت المصالح أو أن جهلها الوقوع قالوا: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، وأجيب بأنه يجوز أن يكون بدليل ظنى، قالوا: ". . . لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها"، فقال العباس: إلا الإذخر، فقال: "إلا الإذخر" (*)، وأجيب بأن الإذْخَر ليس من الخلا فدليله الاستصحاب أو منه ولم يرده وصح استثناؤه بتقدير تكريره لفهم ذلك أو منه وأريد ونسخ بتقدير تكريره بوحى سريع، قالوا:"لولا أن أشق. . "، أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟ فقال:"للأبد، ولو قلت: نعم لوجب"، ولما قتل النضر بن الحارث ثم أنشدته ابنته:
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال عليه السلام: "لو سمعته ما قتلته"(**). وأجيب يجوز أن يكون خير فيه معينًا ويجوز أن يكون بوحى).
أقول: هذه تعرف بمسألة التفويض وهو أنه يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له احكم بما شئت فإنه صواب وفى جوازه خلاف، والمختار جوازه وتردد الشافعى فيه والمجوزون اختلفوا فى وقوعه، والمختار أنه لم يقع لنا فى الجواز ليس ممتنعًا لذاته قطعًا، فلو كان ممتنعًا لكان ممتنعًا لغيره واللازم منتف إذ الأصل عدم المانع.
قالوا: أولًا: التفويض إلى العبد مع جهله بما فى الأحكام من المصالح يؤدى إلى انتفاء المصالح لجواز أن يختار ما المصلحة فى خلافه فيكون باطلًا.
الجواب: الكلام فى الجواز لا فى الوقوع وغايته أنه يؤدى إلى جواز انتفاء المصالح لا إلى انتفائها وذلك مذهبنا الذى نقول به ولئن سلم فلا نسلم أن جهله بالمصالح مستلزم لانتفاء المصالح، وذلك لأنه إنما أمر بذلك حيث علم أنه يختار ما فيه المصلحة فيكون المصلحة لازمة لما يختاره وإن جهل المصلحة.
القائلون بالوقوع قالوا: أولًا: قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا
(*) أخرجه البخارى (1/ 53)(ح 112)، ومسلم (2/ 986)(ح 1353).
(**) أورده ابن كثير فى تحفة الطالب (1/ 465).
حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، ولا يتصور تحريمه على نفسه إلا بتفويض التحريم إليه وإلا كان المحرم هو اللَّه.
الجواب: لا نسلم أنه لا يتصور إلا بالتفويض بل قد يحرم على نفسه بدليل ظنى.
قالوا: ثانيًا: قال صلى الله عليه وسلم فى مكة عظمها اللَّه: "لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها"، فقال العباس: إلا الإذخر، فقال صلى الله عليه وسلم:"إلا الإذْخر" دل على تفويض الحكم إلى رأيه حتى يطلق ابتداء ويستثنى بالتماس العباس مع ظهور أنه لم ينزل الوحى فى تلك اللحظة الخفيفة إذ لم تظهر علاماته.
الجواب: بأحد أمورٍ ثلاثة: إما بأن الإذخر ليس من الخلا فيكون دليل العباس أو دليل جواز الاختلاء هو الاستصحاب، فيكون الاستثناء منقطعًا وهو سائغ وشائع ولو مجازًا إذ المعنى لكن الإذخر يختلى وإما بأن الإذْخر من الخلا، لكن لم يرد بالعموم تخصيصًا وصرفًا له عن ظاهره وفهمه السائل أنه لم يرد فصرح بالمراد تحقيقًا، لما فهمه بانضمام التقرير إليه فقيل ذلك تقريرًا لما فهم السائل فإن قيل إذا لم يرد فكيف يصح استثناؤه من القول الأول مع عدم دخوله وقد علمت بطلان ذلك فى تقرير الاستثناء قلنا ليس استثناء منه بل يقدر تقريره لقوله لا يختلى خلاها كأنه قال: لا يختلى خلاها إلا الإذخر وسوغ له ذلك اتحاد معناهما وأما بأنه من الخلا وأريد بالأول ونسخ فإن قيل كيف النسخ والاستثناء يأبى ثبوت الحكم له قلنا ليس الاستثناء من الأول بل بتقدير التكرير فتقديره لا يختلى خلاها إلا الإذخر فأطلق أولًا لثبوت الحكم مطلقًا ثم استثنى لورود نسخه بوحى سريع كلمح البصر وإثبات عدمه بعدم علامته لا يصح لأن مثله لا يظهر فيه علامة إنما ذلك فيما يطول زمانه.
قالوا: ثالثًا: قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك". وهو صريح فى أن الأمر وعدمه إليه وأنه سئل فى حجة الوداع: أحجنا هذا لعامنا هذا أو للأبد؟ فقال: "بل للأبد، ولو قلت نعم لوجب". وهو صريح فى أن قوله المجرد من غير وحى يوجب وأنه لما قتل النضر بن الحارث ثم أنشدته ابنته:
أمحمد ولأنت نجل نجيبة
…
فى قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق
قال: "لو سمعت ما قتلته". فدل أن القتل وعدمه إليه.
الجواب: يجوز أن يكون قد خير فيها معينًا فقيل له لك أن تأمر وأن لا تأمر ونحوه ويجوز أن يكون بوحى نزل بأنه لو شفع فيه فأقبل ونحوه.
قوله: (احكم بما شئت) أى من غير اجتهاد وإلا فلا نزاع فى الجواز.
قوله: (لنا فى الجواز) بمثله يمكن الاستدلال على عدم الوقوع أو لا بد للوقوع من دليل والأصل عدمه فإن قيل أليس قد سبق فى مسألة تقليد المجتهد أنه لو جاز لكان الدليل والأصل عدمه وأن الامتناع نفى يكفيه عدم الدليل قلنا ذاك جراز وامتناع شرعى بمعنى الإذن فى التقليد وعدم الإذن وهذا عقلى بمعنى أنه هل يجوز التفويض أم لا.
قوله: (حتى يطلق ابتداء) تقرير البعض أنه لو لم يجز التفويض لما جاز له من تلقاء نفسه التحريم والاستثناء والأظهر ما أشعر به كلام المصنِّف وهو أن الذى من تلقاء نفسه هو الاستثناء لأن صدر الحديث وهو قوله: "إن اللَّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لا يختلى خلاها"، مشعر بأن التحريم كان من اللَّه وأما الأجوبة فحاصلها أنا لا نسلم لفظ الخلا متناول للإذخر ولو سلم فلا نسلم إرادته منه حتى يحتاج إلى الاستثناء ولو سلم فلا نسلم عدم دخوله تحت حكم التحريم ولما ورد على الأخيرين أنه لا يصلح الاستثناء حينئذٍ لأن المستثنى يجب أن يكون مرادًا بحسب دلالة اللفظ غير مراد بحسب الحكم أجاب أنه ليس مستثنى من الخلا المذكور بل يقدر ما هو تكرير اللفظ الأول ويقصد فيه دخول الإذخر بحسب دلالة اللفظ دون إرادة الحكم فقوله وإما بأن الإذخر من الخلا يعنى أن اللفظ صالح له لكنه ليس بمراد من عموم لفظ خلاها على تخصيصه عنه وصرف اللفظ عن ظاهره حيث أريد به بعض ما هو مدلوله والسائل أى السامع وهو العباس قد فهم أنه ليس بمراد فصرح بما هو المراد وهو قصر اللفظ على البعض ليتحقق ما فهمه بأن ينضم إليه تقرير النبى عليه السلام إياه فقال عليه السلام:"إلا الإذخر" ليتقرر ما فهمه لا ليخرج عن لفظ خلاها المذكور بعض ما هو داخل تحت الدلالة غير داخل تحت الحكم فاستثناء العباس رضى اللَّه عنه وتقرير النبى عليه السلام إياه ليس من لفظ خلاها المذكور بل من مقدر مكرر والذى جوز للعباس تقدير التكرير مع أن المذكور
غير متناول للإذخر بحسب الدلالة أيضًا هو اتحاد معنى قولنا لا يختلى خلاها بحسب اللغة سواء كان الإذخر مرادًا منه أو لم يكن وتقرير الثالث أنه عليه السلام حين قال لا يختلى خلاها اليوم كان الإذخر داخلًا بحسب حكم التحريم فنسخ تحريم الإذخر خاصة بوحى سريع فقال: إلا الإذخر بتقدير لا يختلى خلاها إلا الإذخر مرادًا بالخلا فى هذا القدر ما يتناول الإذخر دلالة لا حكمًا على ما هو قاعدة الاستثناء المتصل وفى بعض الشروح أن الاستثناء على الثانى أيضًا منقطع كما إذا قيل جاءنى القوم إلا زيدًا مرادًا بالقوم من عداه ويحتمل الاتصال بأن الإذخر مراد من حيث إن العباس فهم الإرادة وإن لم يرده النبى عليه السلام ولما ورد أن عدم الإرادة ينافى صحة الاستتناء أجاب بأنا لو قدرنا أن استثناءه عليه السلام تكرير لاستثناء العباس حتى يكون معناهما واحدًا ولا لكون أحدهما منقطعًا والآخر متصلًا صح حينئذٍ لفهم العباس إرادة الإذخر وتكون صحة الاستثناء لذلك الفهم لا للإرادة فى نفس الأمر وفى شرح العلامة سلمنا أن الإذخر من الخلا لكن لم يرده النبى عليه السلام بعموم خلاها ليحرم ثم يحل وكون المستثنى مرادًا بالمستثنى منه إنما يجب فيما إذا كان الاستثناء تحقيقًا وما هنا يجوز أن يكون استثناء النبى عليه السلام تقريرًا لما فهمه السائل وإذا لم يرده لا يكون لما ذكره تكريرًا للاستثناء وبتقدير تكريره إنما صح استثناؤه لأنه لما علم أن السائل فهم الدخول والإرادة ولهذا تابعه النبى عليه السلام فى تكرير الاستثناء بناء على ما فهمه لا أنه مستثنى عند النبى والظاهر أن غير المحقق لم يحم حول مقصود المصنِّف، قال فى المنتهى: وأجيب بأن الإذخر ليس من الخلا فيكون جائزًا بدليل الاستصحاب أو منه لكنه لم يرد بالعموم وصح استثناؤه تقريرًا لما فهمه السائل وقدر تكريره لأن المعنى واحد ومنه وأريد ونسخ بوحى أسرع من لمح البصر.
قوله: (وإثبات عدمه) دفع لما ذكره المستدك من أنه لم ينزل الوحى فى تلك اللحظة الحقيقية لعدم ظهور علامته يعنى أن ظهور العلامات إنما يكون فى الوحى المتدرج لا فيما هو كلمح البصر.
قوله: (لما قتل النضر بن الحارث) كان رسول اللَّه عليه السلام تأذى به قتله صبرًا وكان من جملة أذاه أنه كان يقرأ الكتب فى أخبار العجم على العرب ويقول: محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود وأنا منبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك
القدح فى نبوته فجاءت ابنته قتيلة إلى حضرة النبى عليه السلام وأنشدته أبياتًا هى هذه:
يا راكبًا إن الأثيل مظنة
…
من صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتًا فإن نجية
…
ما إن تزال بها الركائب تخفق
منى إليه وعبرة مسفوحة
…
جادت لمائحها وأخرى تحنق
فليسمعن النضر إن ناديته
…
إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه
…
للَّه أرحام هناك تشقق
أمحمد ولأنت نجل نجيبة
…
فى قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلة
…
وأحقهم إن كان عتق يعتق
نونت المنادى ضرورة والمعنى أنت كريم الطرفين يقال: هذا عريق فى الكرم إذا كان متناهيًا فيه أو استفهامية والمعنى أى شئ كان يضرك لو عفوت والفتى وإن كان مغضبًا مضجرًا منطويًا على حنق وحقد وعداوة قد يمن ويعفو وفى هذا اعتراف بالذنب، فرق لها النبى عليه السلام وبكى، وقال:"لو جئتنى قبل لعفوت عنه"، ثم قال:"لا يقتل قرشى بعد هذا صبرًا".
قوله: (ويجوز أن يكون قد خير فيها) أى فى هذه الصورة على التعيين بأن قيل له لك أن تأمر بالسواك وأن لا تأمر وأن تجعل الحجة للعام وللأبد وأن تقتل النضر وأن تعفو ولا يلزم من هذا جواز التفويض مطلقًا.
المصنف: (أن يقال للمجتهد) أى يقال من قبل اللَّه تعالى للمجتهد سواء كان نبيًا أو عالمًا.
المصنف: (قالوا يؤدى إلى انتفاء المصالح) مردود بأنه إذا قيل له من قبل اللَّه تعالى احكم بما ثبت فهو صواب لا يكون إلا لمصلحة إذا حكم.
الشارح: (لو قلت نعم لوجب) أجيب بأن مدلوله الوجوب على تقدير قوله نعم وهذا صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقولها إلا إذا كان الحكم كذلك ولكل من أين أن الحكم يكون كذلك فقد يكون ممتنعًا وقوله نعم لا يدل على جواز أن يقول نعم لأن الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذى فيها قاله الإسنوى.
قوله: (أقول أليس قد سبق. . . إلخ) أى فمقتضاه أن التفويض لا يجوز.
قوله: (يا راكبًا إن الأثيل مظنة) الأثيل بضم الهمزة وفتح الثاء الثلثة موضع فيه قبر النضر بالصفراء والمظنة المنزل العلم ومن صبح خامسة أى ليلة خامسة لليلة التى يبتدأ منها المسير إلى الأثيل، ومن كلامهم إذا خرجت من هذا المكان فموضع كذا مظنة من عشية يوم كذا ومفعول بلغ الثانى محذوف أى تحيتى لدلالة ما بعده وهو قوله: فإن تحية عليه منى تخفق تضطرب ومنى متعلق بمضمر دل عليه قوله: أبلغ أى أوصل، وعبرة معطوف على المفعول المحذوف، ومسفوحة أى مصبوبة، وجادت لمائحها أى أجابت داعيها وساعدت مستقيها وأصل المائح المستقى، وأخرى عطف على عبرة وتخنق أى وأبلغ إليه عبرة أخرى قد خنقتنى، وقوله وظلت سيوف بنى أبيه هو تحسر منها لما جرى على أبيها تريد: صارت سيوف إخوته تتناوله بعد أن كانت تذب عنه ثم قالت كالمستعطفة: للَّه أرحام وقرابات فى ذلك المكان قطعت واللام فى للَّه للتعجب وكانت عادتهم إذا استعظموا أمرًا نسبوه للَّه تفخيمًا لأمره والمغيظ اسم مفعول كالمحنق والمعرق اسم مفعول من أعرق مبنى للمجهول أى له عرق فى الكرم وبالبناء للفاعل بمعنى المنتجع والمعنى أنت كريم الطرفين.
قال: (مسألة: المختار أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ فى اجتهاده وقيل بنفى الخطأ لنا لو امتع لكان لمانع والأصل عدمه وأيضًا: {لِمَ أَذِنْتَ} [التوبة: 43]، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ. . .} [الأنفال: 67]، حتى قال: "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر" لأنه أشار بقتلهم، وأيضًا: "إنكم تختصمون إلىَّ ولعل أحدكم ألحن بحجته، فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار". وقال: "أنا أحكم بالظاهر"، وأجيب بأن الكلام فى الأحكام لا فى فصل الخصومات، ورد بأنه مستلزم للحكم الشرعى المحتمل، قالوا: لو جاز لجاز أمرنا بالخطأ وأجيب بثبوته للعوام، قالوا: الإجماع معصوم فالرسول أولى، قلنا اختصاصه بالرتبة واتباع الإجماع له يدفع الأولوية فيتبع الدليل، قالوا: الشك فى حكمه مخل بمقصود البعثة وأجيب بأن الاحتمال فى الاجتهاد لا يخل بخلاف الرسالة والوحى).
أقول: بناء على أن النبى صلى الله عليه وسلم يجوز له الاجتهاد فهل يجوز عليه الخطأ فيه؟ فيه خلاف، وعلي تقدير جوازه فإذا وقع هل يقرر عليه أو ينبه على الخطأ؟ المختار أنه لا يقرر لنا من المعقول أنه لو امتنع عليه الخطأ لكان لمانع لأنه ممكن لذاته والأصل عدم المانع ولنا أيضًا من الكتاب قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، فدل أن أذنهم كان خطأ، وقوله تعالى فى المفاداة يوم بدر:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية، حتى قال صلى الله عليه وسلم:"لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر"(*)، وذلك لأنه أشار بقتلهم وغيره أشار بالفداء، فدل أن المفاداة سنه خطأ ولنا أيضًا من السنة قوله صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلىَّ ولعل أحدكم ألحن بحجته، فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار"(**)، وقوله:"أنا أحكم بالظاهر"(***)، فدل أنه قد يقضى بما لا يكون حقًا، وأنه قد يخفى عليه الباطن وقد أجيب عن هذا بأنه إنما يدل على خطئه فى فصل الخصومات وهو غير محل النزاع فإن الكلام فى الأحكام لا فى فصل الخصومات، وجوابه أن فصل
(*) لم أجده.
(**) أخرجه البخارى (2/ 952)(ح 2534).
(***) قال الهروى: جزم العراقى وغيره بأنه لا أصل له. انظر: المصنوع (1/ 58)، كشف الخفاء (1/ 221).
الخصومات مستلزم للحكم الشرعى بأن المال حلال لزيد حرام لعمرو وأنه يحتمل الصواب والخطأ فيكون خطؤه فى الحكم الشرعى جائزًا، وقد يجاب عنه بأن الخطأ فى الحكم الشرعى لمعين للخطأ فى اندراجه تحت عموم قد أصيب فى حكمه لا يكون خطأ فى الاجتهاد مثل هذا حرام لاعتقاده خمرًا ولا يكون خمرًا.
قالوا: لو جاز لجاز كوننا مأمورين بالخطأ واللازم ظاهر البطلان بيان الملازمة، أنا مأمورون باتباعه فلو كان ما أفتى به خطأ لكنا مأمورين بالخطأ.
الجواب: منع بطلان اللازم لثبوته فى حق العوام حيث أمروا باتباع المجتهد ولو كان خطأ.
قالوا: ثانيًا: الإجماع معصوم عن الخطأ لكون أهله أمة الرسول فخصوا بهذا الشرف لكونهم أمة الرسول فالرسول نفسه أولى أن يحصل له كهذا الشرف.
الجواب: أن اختصاصه بالرتبة المعينة، وهى رتبة النبوة التى هى أعلى مراتب المخلوقين وكون أهل الإجماع الذين لهم رتبة العصمة متبعين له يدفع أولويته برتبة العصمة وذلك كرتبة القضاء لا تكون للإمام ورتبة الإمارة لا تكون للسلطان، ثم لا يعود عليهما ذلك بضير ولا نقص فكذا ههنا، وإذا جاز أن يكون وأن لا يكون فالدليل هو المتبع، وقد دل على جواز الخطأ.
قالوا: ثالثًا: تجويز الخطأ عليه يوجب الشك فى قوله أصواب هو أم خطأ، وذلك مخل بمقصود البعثة، وهو الوثوق بما يقول أنه حكم اللَّه تعالى.
الجواب: أن جواز الخطأ فى الاجتهاد لا يوجب ذلك، وإنما يخل بالبعثة جواز الخطأ فى الرسالة وما يبلغه من الوحى بأن يغير ويبدل وانتفاؤه معلوم بدلالة تصديق المعجزة.
قوله: (وإذا وقع هل يقرر) كلامه مشعر بأن ههنا خلافًا فى جواز الخطأ وعدمه وعلى تقدير الوقوع فى التقرير وعدمه وأن المختار عدم التقرير إلا أن أدلة الطرفين إنما هى على جواز الخطأ وعدمه والمذكور فى شرح العلامة أن عدم التقرير على الخطأ اتفاق لا مختار وإنما الخلاف فى أنه هل يجوز أن يقع بشرط عدم التقرير عليه أم لا يجوز أصلًا.
قوله: (والأصل عدم المانع) اعترض بأن علو رتبته وكمال عقله وقوة حدسه
وفهمه مانع.
قوله: (وقد يجاب) جواب عن الاعتراض على جواب دليل السنة يعنى أن الخلاف إنما هو فى الخطأ فى استنباط الحكم الشرعى عن أماراتها لا فى الخطأ فى ثبوت الحكم الشرعى بمعين بناء على الخطأ فى أنه هل يندرج تحت العموم الذى أثبت له حكم صواب كما إذا جزم بأن الخمر حرام ثم زعم أن هذا المائع خمر فجزم بحرمته فإن الاندراج وعدمه ليس من الأحكام الشرعية.
قوله: (لثبوته فى حق العوام) قد يتكلم على هذا السند بأنهم مأمورون بالاتباع وهو ليس بخطأ وإنما الخطأ الحكم الذى أدى إليه الاجتهاد وأنت خبير بأنه لا معنى للأمر بالاتباع سوى الأمر بالفعل على الوجه الذى أفتوا به.
قال: (مسألة المختار أن النافى مطالب بدليل وقيل فى العقلى لا الشرعى لنا لو لم يكن لكان ضروريًا نظريًا وهو محال وأيضًا الإجماع على ذلك فى دعوى الوحدانية والقدم، وهو نفى الشريك ونفى الحدوث النافى لو لزم لزم منكر مدعى النبوة وصلاة سادسة ومنكر الدعوى، وأجيب بأن الدليل يكون استصحابًا مع عدم الدافع وقد يكون انتفاء لازم ويستدل بالقياس الشرعى بالمانع وانتفاء الشرط على النفى بخلاف من لا يخصص العلة).
أقول: النافى للحكم هل عليه أن يقيم الدليل على انتفائه أم لا؟ المختار أنه مطالب بالدليل، وقيل يطالب فى الحكم العقلى دون الشرعى لنا أنه إذا ادعى علمًا بنفى أمر غير ضرورى وجودًا وعدمًا فإن لم يحتج إلى طريق يفضى إليه لكان ضروريًا والمفروض خلافه فيكون ضروريًا نظريًا هذا خلف، ولنا أيضًا الإجماع على ذلك فى دعوى وحدانية اللَّه وهى نفى الشريك وفى دعوى قدمه وهو نفى الأول والحدوث عنه فيبطل السلب الكلى، ثم نقول فثبت الإيجاب الكلى إذ لا قائل بالفصل، دليل النافى للمطالبة بالدليل لو لزم كل مدع لنفى أن يقيم الدليل عليه للزم منكر دعوى الرسالة أن يقيم الدليل على عدم رسالته وكذلك منكر وجوب صلاة سادسة، وكذلك المدعى عليه المنكر لما يدعى عليه على عدم لزومه له واللوازم الثلاثة ظاهرة البطلان.
الجواب: أن الدليل قد يكون هو استصحاب الأصل مع عدم الرافع وذلك محقق فى منكر الدعوى ولذلك لا يطالب بذكره وقد يكون انتفاء لازم وهو متحقق فى الصلاة السادسة إذ الاشتهار من لوازمها عادة، وقد انتفى وكذا فى دعوى الرسالة إذ لازمها وجود المعجز عادة، وقد انتفى والحاصل منع بطلان اللوازم فإن الثلاثة مطالبون بالدليل لكنه مقرر معلوم عند الجمهور فلا حاجة إلى التصريح به وإذا قلنا النافى مطالب بالدليل فالنافى للحكم الشرعى هل يجوز له الاستدلال بالقياس قد اختلف فيه؟ والحق أنه إنما يستدل به إذا كان الجامع عدم شرط أو وجود مانع لا باعثًا فإن عدم الحكم لا يكون لباعث بل يكفى فيه عدم الباعث على الحكم وذلك إنما يصح عند من يجوز تخلف الحكم عن علته ولا يجعله قادحًا فى العلية إذا كان لمانع أو عدم شرط كما مر فهو فرع تخصيص العلة فجوزناه لجوازه عندنا ومن لا يجوزه لا يجوز.
قوله: (وجودًا وعدمًا) قيد بذلك لأنه لو كان ضروريًا وجودًا كان نفيه بديهى الاستحالة فلا تسمع دعواه أو كان ضروريًا عدمًا كان نفيه غنيًا عن الدليل.
قوله: (فيكون ضروريًا نظريًا) لا حاجة إليه لأن لزوم كونه ضروريًا على تقدير كونه غير ضرورى كاف فى الاستحالة.
قوله: (إذ لا قائل بالفصل) محل نظر لأنا قائلون بافتقار ما هو فى صورة الإثبات كالوحدانية والقدم ونحو ذلك إلى الدليل بخلاف ما هو نفى محض كيف وقد سبق مرارًا أن النفى يكفيه عدم دليل الثبوت وأن جعل مثل هذا دليل النفى بأن يقال هذا منفى لعدم دليل ثبوته فلا نزاع فى أنه لا بد منه لكن لا معنى للمطالبة ولا يصلح أن يكون مثله مسألة خلافية.
قوله: (وذلك محقق فى منكر الدعوى) أى ما يدعى عليه فإن الأصل براءة الذمة فلا يحتاج إلى إقامة دليل آخر ولا يخفى أن هذا جاز فى منكر الرسالة ووجوب الصلاة السادسة للقطع بأن الأصل عدم ذلك إلا أنه حاول التنبيه على تحقق دليل آخر هو انتفاء لازم الثبوت.
قوله: (كما مر) فى بحث النقض جواز تخلف الحكم عن المقتضى لتحقق مانع أو انتفاء شرط ويسمى تخصيص العلة فمن جوزه جوز الاستدلال بالقياس فى نفى الحكم الشرعى بأن يقاس على صورة أثبت فيها نفى الحكم لوجود المانع أو انتفاء الشرط ومن لم يجوزه لم يجوز الاستدلال بالقياس لأن تحقق العلة يستلزم تحقق الحكم البتة لامتناع التخلف فحيث ينتفى الحكم لا يكون ذلك إلا لانتفاء العلة ومثله ليس من القياس فى شئ.