الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مباحث مسالك العلة)
قال: (مسالك العلة: الأول: الإجماع).
أقول: كون الوصف الجامع علة حكم خبرى غير ضرورى فلا بد فى إثباته من الدليل وله مسالك صحيحة ومسالك تتوهم صحتها فلا بد من التعرض لها ولما يتعلق بكل منها فالمسلك الأول: الإجماع فى عصر من الأعصار وعلى كونه علة والظن كاف كما تقدَّم، وإنما يتصور الاختلاف فى مثله بأن يكون الإجماع ظنيًا كالثابت بالآحاد والسكوتى أو يكون ثبوت الوصف فى الأصل أو فى الفرع ظنيًا أو يدعى الخصم معارضًا فى الفرع، مثاله الصغر فى ولاية المال فإنه علة لها بالإجماع ثم يقاس عليه النكاح.
قوله: (حكم خبرى غير ضرورى) قيد بذلك لأن الإنشائى لا يتصور إثباته والضرورى يستغنى عن إثباته بدليل فإن قيل أليست الأحكام الشرعية تثبت بالدليل مع أن عامتها طلب قلنا المثبت بالدليل هو أن فعل كذا قد تعلق به خطاب كذا وهذا خبرى.
قوله: (لأن الأصل مجمع عليه) أى لأن الإجماع على العلة يقتضى الإجماع على الحكم فى الأصل.
قال: (الثانى النص وهو مراتب: صريح مثل لعلة كذا أو لسبب كذا أو لأجل أو من أجل أو كي أو إذا ومثل لكذا وإن كان كذا أو بكذا أو مثل "فإنهم يحشرون"، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ومثل قول الراوى: "سها فسجد"، "وزنى ماعز فرجم"، سواء الفقيه وغيره لأن الظاهر أنه لو لم يفهمه لم يقله).
أقول: المسلك الثانى: هو النص، وهو مراتب صريح: وهو ما دل بوضعه، ومراتب تنبيه وإيماء، وهو ما لزم مدلول اللفظ.
أما مراتب الصريح: فمنها: وهو أقواها ما صرح فيه بالعلية مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، أو كى يكون كذا، أو إذا يكون كذا.
ومنها: ما قد ورد فيه حرف ظاهر فى التعليل، مثل: لكذا، أو إن كان كذا أو بكذا، وهذا دون ما قبله لأن هذه الحروف قد تجئ لغير العلة فاللام للعاقبة، لدوا للموت وابنوا للخراب، والباء للمصاحبة والتعدية والزيادة، وإن للشرطية ومجرد الاستصحاب.
ومنها: ما دخل فيه الفاء فى لفظ الرسول، أما فى الوصف مثل:"زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دمًا" وأما فى الحكم نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والحكمة فيه أن الفاء للترتيب، والباعث مقدم فى العقل متأخر فى الخارج فجوز ملاحظة الأمرين دخول الفاء على كل منهما، وهذا دون ما قبله لأن دلالة الفاء على الترتيب ودلالتها على العلية استدلالية.
ومنها: ما دخل فيه الفاء ولكن لا فى لفظ الرسول بل فى لفظ الراوى، مثل:"سها فسجد"، "وزنى ماعز فرجم"، وهذا يقبل سواء فيه الفقيه وغيره لأنه لو لم يفهم ترتب الحكم على الوصف لم يقله، وهذا دون ما قبله لاحتمال الغلط إلا أنه لا ينفى الظهور.
قوله: (وإنما يتصور الاختلاف) قد يتوهم أن الإجماع على العلة بمنزلة الإجماع على الفرع فلا يتصور فيه اختلاف وإثبات بالقياس فنفاه بما ذكر من الاحتمالات وخص احتمال المعارض بالفرع لأن الأصل مجمع عليه فلا معارض له.
قوله: (وهو مراتب صريح) بمعنى أن النص صريح وإيماء ولكل منهما مراتب أشار المصنِّفُ إلى تفصيلها بإعادة لفظ مثل وبين الشارح جهة كون كل مرتبة دون
ما قبلها ولا يبعد أن يكون بين آحاد كل مرتبة أيضًا تفاوت ثم كلام الآمدى أن المقرون باللام والباء فى المرتبة الثانية هو إنَّ المشددة المسكورة وفى المنتهى والشروح أنْ المخففة المفتوحة وجعلها الشارح المحقق المخففة المكسورة أعنى إنْ الشرطية الموضوعة لسببية الشرط وذلك لأن كون إنَّ المشددة المكسورة موضوعة للعلية بعيد جدًا، والدال على العلية فى المخففة المفتوحة هى اللام المذكورة أو المحذوفة.
قوله: (وإن للشرطية) أى اللزوم من غير سببية ومجرد الاستصحاب أى ثبوت أمر على تقدير أمر بطريق الاتفاق.
قوله: (والحكم فيه) أى فى دخول الباء تارة فى الوصف وتارة فى الحكم.
قوله: (فجوز ملاحظة الأمرين) أى تقدم الباعث فى العقل وتأخره فى الخارج دخول الفاء على كل منهما أى الحكم والعلة ولا خفاء فى أن هذا الحكم ليس لكل إذ كثيرًا ما يكون الباعث متقدمًا فى الخارج أيضًا منه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقول الراوى: سها فسجد، وزني ماعز فرجم.
قوله: (ودلالتها) يعنى أن الفاء بحسب الوضع إنما تدل على الترتيب ودلالتها على العلية إنما تستفاد بطريق النظر والاستدلال من الكلام على أن هذا ترتب حكم على الباعث المتقدم عليه عقلًا أو ترتب الباعث على حكمه الذى يتقدمه فى الوجود فمن جهة كونها للترتيب بالوضع جعل من أقسام ما يدل بوضعه ومن جهة احتياج ثبوت العلة إلى النظر جعل استدلالية لا وضعية صرفة.
قوله: (فى لفظ الراوى) فإن قيل الفاء فى هذا القسم داخل فى الحكم دون الوصف مع أن الراوى يحكى ما كان فى الوجود قلنا الباعث قد يكون متقدمًا فى الوجود كما فى: قعدت عن الحرب جبنًا.
المصنف: (ومثل لكذا وإن كان كذا) إعادة لفظ مثل للإشارة إلى أنه نوع آخر فمراتب الصريح أربعة:
الأول: ما صرح فيه بالعلية كلعلة كذا.
الثانى: ما دل على العلية وكان ظاهرًا فيها لكونه حرفًا من الحروف الموضوعة له وقد تستعمل فى غيرها وهو لكذا وإن كان كذا وبكذا.
الثالث: ما دخل فيه لفظ الفاء من قول الرسول عليه الصلاة والسلام سواء دخلت على الوصف أو الحكم.
الرابع: ما دخل فيه الفاء على الحكم من قول الراوى.
الشارح: (وهو ما لزم مدلول اللفظ) أى من المنطوق غير الصريح وقوله: أو إذا يكون كذا حقه: أو إذن يكون كذا.
قوله: (مع أن الراوى يحكى ما كان فى الخارج) أى فحقه أن تدخل الفاء فى كلامه على الوصف لأنه علة باعثة وهى متأخرة وجودًا.
قال: (وتنبيه وإيماء وهو الاقتران بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل كان بعيدًا مثل: "واقعت أهلى فى نهار رمضان"، فقال: "أعتق رقبة" كأنه قيل: (إذا واقعت فكفر) فإن حذف بعض الأوصاف فتنقيح، ومثل:"أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم. فقال: "فلا إذن").
أقول: وأما مراتب التنبيه والإيماء فضابطه كل اقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدًا فيحمل على التعليل دفعًا للاستبعاد، مثال: كون العين للتعليل ما قال الأعرابى: هلكتُ وأهلكتُ، فقال صلى الله عليه وسلم:"ماذا صنعت؟ "، قال: واقعت أهلى فى نهار رمضان، فقال:"أعتق رقبة" فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق، وذلك لأن عرض الأعرابى واقعته عليه صلى الله عليه وسلم لبيان حكمها وذكر الحكم جواب له لتحصيل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون السؤال مقدرًا فى الجواب، كأنه قال:"واقعت فكَفِّر"، وقد عرفت أن ذلك للتعليل فكذا هذا لكنه دونه فى الظهور؛ لأن الفاء ههنا مقدرة وثمة محققة ولاحتمال عدم قصد الجواب كما يقول العبد: طلعت الشمس فيقول السيد: اسقنى ماء، كل ذلك وإن بعد فليس بممتنع، واعلم أن مثل ذلك إذا حذف عنه بعض الأوصاف وعلل بالباقى يسمى تنقيح المناط، مثاله فى قصة الأعرابى أن يقال: كونه أعرابيًا لا مدخل له فى العلة إذ الهندى والأعرابى حكمهما فى الشرع واحد وكذا كون المحل أهلًا فإن الزنا أجدر به أو يكتال كونه وقاعًا لا مدخل له فينفى كونه إفسادًا للصوم، مثال آخر لكون العين للتعليل: أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر، فقال:"أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم. فقال: "فلا إذن" فنبه أن النقصان علة منع البيع، وكونه مفهومًا من الفاء، وإذًا لا ينافى ذلك إذ لو قدرنا انتفاءهما لبقى فهم التعليل، ولعل ذكر هذا المثال لهذا الغرض وإلا فأوضح منه قوله لابن مسعود وقد توضأ بماء نبذت فيه تميرات لتجتذب ملوحته:"ثمرة طيبة وماء طهور" فنبه على تعليل الطهورية ببقاء اسم الماء عليه.
قوله: (كل اقتران) لما كان هذا ضابطًا لا تعريفًا أتى بلفظ كل ليكون كليًا وفسر الحكم بالوصف لأن المراد به العلة بقرينة قوله: لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل، قال الشارح العلامة: معناه اقتران نص الشارع كقوله: أعتق رقبة بحكم كقول
الأعرابى: واقعت أهلى فى نهار رمضان لو لم يكن ذلك الحكم أو نظيره كما فى قصة الخثعمية للتعليل أى علة لقول الشارع وحكمه كان بعيدًا من الشارع الإتيان بمثله ويحتمل أن يكون معناه أنه اقتران الوصف المدعى كونه علة بحكم من الشارع لو لم يكن ذلك الوصف أو نظيره علة لحكم الشارع كان بعيدًا من الشارع الإتيان بذلك الحكم وبعضهم جعل الإيماء مسلكًا مستقلًا قسيمًا للنص نظرًا إلى أن دلالته ليست بحسب الوضع.
قوله: (كل ذلك) إشارة إلى الإخلاء والتأخر والاحتمال لا إلى تقدير الفاء ليكون جوابًا وعدم قصد الجواب لئلا تقدر الفاء فلا تكون علة على ما توهم.
قوله: (أو يقال) ما سبق كان تنقيح المناط على الاتفاق وهذا على قول الحنفية.
قوله: (وكونه مفهومًا من الفاء) يشير إلى أنه لا تنافى فى مسلك النص بين مراتب الصريح ومراتب الإيماء فقد تجتمعان كما فى هذا المثال.
المصنف: (ومثل أينقص الرطب إذا جف. . . إلخ) إشارة إلى النوع الثانى من مراتب الإيماء الأربعة الأول: أن يرفع إلى رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام واقعة مشتملة على وصف ليبين عليه السلام حكمها فيذكر الرسول عليه الصلاة والسلام حكم تلك الواقعة عقيبه كما ذكره المصنف بقوله: مثل واقعت أهلى فى نهار رمضان الثانى: أن يقدر الشارع وصفًا لو لم يكن تقديره للتعليل لكان ذلك التقدير بعيدًا سواء كان التقدير فى محل السؤال أو فى نظيره وهو ما ذكره المصنف بقوله: مثل أينقص الرطب الثالث: أن يفرق بين حكمين بصفة أو غاية أو استثناء أو غيرها وهو ما ذكره بقوله ومثل أن يفرق. . . إلخ. الرابع أن يقيد الشارع الحكم بوصف مناسب للحكم وهو ما ذكره بقوله: ومثل ذكر وصف إلخ.
قوله: (قال الشارح العلامة: معناه اقتران نص الشارع. . . إلخ) استدلال على ما ذكره من حمل الحكم على الوصف.
قوله: (ويحتمل أن يكون معناه أنه اقتران الوصف. . . إلخ) وعليه فالحكم فى عبارة المصنف على حاله وليس مرادًا به الوصف.
قال: (ومثال النظير لما سألته الخثعمية أن أبى أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه؟ فقال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه؟ " فقالت: نعم (*). فنظيره فى المسئول كذلك وفيه تنبيه على الأصل والفرع والعلة، وقيل إن قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله عمر عن قبلة الصائم:"أرأيت لو تمضمضت ثم مججته أكان ذلك مفسدًا؟ "، فقال: لا (**). من ذلك وقيل إنما هو نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد لا تعليل لمنع الإفساد إذ ليس فيه ما يتخيل مانعًا بل غايته أن لا يفسد).
أقول: مثال كون النظير للتعليل قوله عليه الصلاة والسلام وقد سألته الخثعمية: إن أبى أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان ينفعه ذلك؟ " فقالت: نعم، قال:"فدين اللَّه أحق أن يقضى" سألته الخثعمية عن دين اللَّه فذكر نظيره وهو دين الآدمى فنبه على التعليل به أى كونه علة للنفع وإلا لزم العبث ففهم أن نظيره فى المسئول عنه وهو دين اللَّه كذلك علة لمثل ذلك الحكم وهو النفع، واعلم أن مثل هذا يسميه الأصوليون تنبيهًا على أصل القياس وفيه كما ترى تنبيه على أصل القياس وعلى علة الحكم فيه وعلى صحة إلحاق الفرع به.
مثال آخر لذلك مع خلاف فيه: روى أن عمر رضى اللَّه عنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم؟ فقال: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان ذلك يفسد الصوم؟ " فقال: لا وقد اختلف فيه فقيل: إنه من ذلك القبيل، فنبه على أن عدم ترتب المقصود على المقدمة علة لعدم إعطائها حكم المقصود فذكر حكم المضمضة ونبه على علته ليثبت مثله فى المسئول عنه وهو القبلة وقيل: ليس من ذلك بل قد توهم عمر أن كل مقدمة للمفسدة فإنه مفسد فنقض صلى الله عليه وسلم عليه
(*) أخرجه ابن حبان (19/ 302، 303)(ح 3990)، والدارمى (2/ 62)(ح 1836)، والبيهقى فى الكبرى (4/ 329)(ح 8417)، وابن ماجه (2/ 971)(ح 2909)، والربيع فى مسنده (1/ 159)(ح 392)، وابن أبى شيبة فى مصنفه (3/ 380)(ح 15120).
(**) عزاه الحافظ ابن كثير لأبى داود والنسائى من حديث الليث بن سعد عن بكير بن عبد اللَّه عن عبد الملك بن سعيد عن جابر بن عبد اللَّه به، وقال النسائى هذا حديث منكر. انظر: تحفة الطالب (1/ 424).
ذلك بالمضمضة وليس ذلك تعليلًا لمنع الإفساد بكون المضمضة مقدمة للإفساد لم تفض إليه إذ ليس فى ذلك ما يصلح علة لعدم الإفساد وإنما يصلح له ما يكون مانعًا من الإفساد وكونه مقدمة للفساد لم تفض إليه لا يصلح لذلك غايته عدم ما يوجب الفساد ولا يلزم منه وجود ما يوجب عدم الفساد فوجوده كعدمه.
قوله: (فذكر حكم المضمضمة) وهو عدم الإفساد ونبه على علته وهى عدم ترتب المقصود أعنى الشرب عليها ليعلم أن القبلة أيضًا لا تفسد لعدم ترتب الوقاع عليها.
المصنف: (ومثال النظير لما سألته الخثعمية. . . إلخ) قال فى التحرير وشرحه: إن المثال غير مطابق للمثل له لأن النظير دين العباد وليس هو العلة لأنه نفس الأصل ودين اللَّه الفرع والعلة كون المقضى دينًا وذكر الشارع دين العباد ليظهر أن المشترك بينهما وهو كونه دينًا هو العلة ولكون العلة فى السقوط كون المقضى دينًا يسمى مثله تنبيهًا على أصل القياس فتسميتهم إياه به دليل على أن دين العباد أصل القياس لا علته. اهـ. ورد صاحب مسلم الثبوت وشرحه بأن العلة فى بادئ الرأى هو النظير وهذا القدر يكفى لكونه إيماء كما أن العلة فى ظاهر الأمر الوقاع وبعد التنقيح للمناط بحيث لا يرد النقض بالصلاة فإنه لا يجزى صلاة الرجل عن غيره يعلم علية الجنس وهو كونه دينًا كما فى قصة الأعرابى ظهر بعد التنقيح أن العلة الجناية على الصوم ولذلك يسمى مثله تنبيهًا على أصل القياس لا نصًا صريحًا. اهـ.
المصنف: (إذ ليس فيه ما يتخيل مانعًا من الإفساد حتى يكون علة لعدمه) إذ المانع من الشئ يكون علة لعدمه.
قال: (ومثل أن يفرق بين حكمين بصفة مع ذكرهما مثل: "للراجل سهم وللفارس سهمان" أو مع ذكر أحدهما مثل: "القاتل لا يرث" أو بغاية أو استثناء مثل: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]).
أقول: ومن مراتب الإيماء أن يفرق بين حكمين بوصفين إما بصيغة صفة أو غاية أو استثناء أو غيرها أما بالصفة فإما مع ذكر الوصفين مثل: "للراجل سهم وللفارس سهمان" وإما مع ذكر أحدهما فقط مثل: "القاتل لا يرث" فإنه لم يتعرض لغير القاتل وإرثه، وأما بالغاية فمثل:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فقد فرق فى الحكم بين الحيض والطهر، وأما بالاستثناء:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، وأما بغيرها فكالشرط مثل:"فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم"، وكالاستدراك، مثل:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
قال: (ومثل ذكر وصف مناسب مع الحكم مثل: "لا يقضى القاضى وهو غضبان" فإن ذكر الوصف صريحًا والحكم مستنبط مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، أو بالعكس، فثالثها، الأول إيماء لا الثانى، فالأول على أن الإيماء اقتران الوصف بالحكم، وإن قدر أحدهما، والثانى على أنه لا بد من ذكرهما، والثالث على أن ذكر المستلزم له كذكره والحل يستلزم الصحة).
أقول: ومن مراتب الإيماء أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا مناسبًا له مثل قوله: "لا يقضى القاضى وهو غضبان"، فإن فيه تنبيهًا على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مشوش للنظر وموجب للاضطراب ومثل: أكرم العلماء، وأهن الجهال، وذلك لما ألف الشارع اعتباره للمناسبات فيغلب من المقارنة مع المناسبة ظن الاعتبار وجعله علة هذا إذا ذكر الوصف والحكم كلاهما فإنه إيماء بالاتفاق فإن ذكر أحدهما فقط مثل أن يذكر الوصف صريحًا والحكم مستنبط نحو:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فإن حل البيع وصف له قد ذكر فعلم منه حكمه وهو الصحة أو نحو أن يذكر الحكم والوصف مستنبط وذلك كثير منه أكثر العلل المستنبطة، نحو:"حرمت الخمر"، فقد اختلف فى أنه هل يكون إيماء يقدم عند التعارض على المستنبطة بلا إيماء، وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: كلاهما إيماء، ثانيها: ليس شئ منهما بإيماء، ثالثها: الأول وهو ذكر الوصف إيماء دون الثانى
وهو ذكر الحكم والنزاع لفظى مبنى على تفسير الإيماء، فالأول: مبنى على أن الإيماء اقتران الحكم والوصف سواء كانا مذكورين أو أحدهما مذكورًا والآخر مقدرًا، والثانى: مبنى على أنه لا بد من ذكرهما إذ به يتحقق الاقتران، والثالث: مبنى على أن إثبات مستلزم الشئ يقتضى إثباته والعلة كالحل تستلزم المعلول كالصحة فتكون بمثابة المذكور فيتحقق الاقتران واللازم حيث ليس إثباته إثباتًا لملزومه بخلاف ذلك.
قوله: (بخلاف ذلك) أى لا يقتضى إثبات الملزوم فلا يكون الملزوم فى حكم المذكور فلا يتحقق الاقتران.
قال: (وفى اشتراط المناسبة فى صحة علل الإيماء، ثالتها المختار إن كان التعليل فهم من المناسبة اشترطت).
أقول: قد اختلف فى مناسبة الوصف المومى إليه فى كون علل الإيماء صحيحة على مذاهب: أولها: يشترط، ثانيها: لا يشترط، ثالثها: وهو المختار إن كان للتعليل فهم من المناسبة كما فى مثال: "لا يقضى القاضى وهو غضبان" اشترطت لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه تناقض وأما سواه من الأقسام فلا فإن التعليل يفهم من غيرها وقد وجد وهذا إنما يصح لو أراد بالمناسبة ظهورها وأما نفس المناسبة فلا بد منها فى العلة الباعثة ولا تجب فى الأمارة المجردة.
قوله: (تناقض) لوجود المناسبة بناء على أن وجود المشروط يستلزم وجود الشرط وعدمها بناء على العرض.
قوله: (وأما ما سواه) أى ما سوى القسم الذى هو المناسبة من أقسام الإيماء فلا تشترط فيه المناسبة لأن التعليل يفهم من غير المناسبة وقد وجد فلا حاجة إليها ولا يخفى ضعف هذا فإن وجود ما يفهم منه العلية لا يقتضى عدم اشتراط آخر لصحة العلية واعتبارها فى باب القياس.
قوله: (وهذا إنما يصح) يعنى أن كلامنا فى العلة الباعثة لا فى مجرد الأمارة وافتقارها إلى المناسبة ظاهر وإن لم تكن ظاهرة.
الشارح: (وهذا إنما يصح. . . إلخ) رده فى التحرير بأن الفرض أنها علمت من إيماء النص فكيف يفصل بين أن تعلم بالمناسبة يعنى فقط فتشترط المناسبة أو تعلم إلا بها فلا تشترط. اهـ.
قال: (الثالث: السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف فى الأصل وإبطال بعضها بدليله فيتعين الباقى ويكفى بحثت فلم أجد والأصل عدم ما سواها فإن بين المعترض وصفًا آخر لزم إبطاله لا انقطاعه والمجتهد يرجع إلى ظنه ومتى كان الحصر والإبطال قطعيًا فقطعى وإلا فظنى).
أقول: الثالث من مسالك العلية: هو: السبر والتقسيم، وهو: حصر الأوصاف الموجودة فى الأصل الصالحة للعلية فى عدد ثم إبطال بعضها وهو ما سوى الذى يدعى أنه العلة واحدًا كان أو أكثر، مثاله: أن يقول فى قياس الذرة على البر فى الربوية: بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح علة للربوية فى بادئ الرأى إلا الطعم أو القوت أو الكيل لكن الطعم والقوت لا يصلح لذلك عند التأمل فتعين الكيل، وههنا بحثان:
الأول: أنه يكفى فى بيان الحصر إذا منع أن يقول: بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف، ويصدق فيه لعدالته وتدينه وذلك مما يغلب الظن عدم غيره لأن الأوصاف العقلية والشرعية مما لو كانت لا خفيت على الباحث عنها، أو يقول: لأن الأصل عدم غيرها فإن بذلك يحصل الظن المقصود.
الثانى: أن المعترض له أن يبين وصفًا آخر، مثل أن يقول: ههنا وصف آخر وهو كونه خير قوت فإذا بين لزم المستدل إبطاله إذ لا يثبت الحصر الذى قد ادعاه بدونه ولا يلزم انقطاعه إذ غايته منع مقدمة من مقدمات دليله ومقتضاه لزوم الدلالة عليها دون الانقطاع وإلا كان كل منع قطعًا والاتفاق على خلافه، وقيل إنه ينقطع لأنه ادعى حصرًا ظهر بطلانه، والحق أنه إذا أبطله فقد سلم حصره وكان له أن يقول: هذا مما علمت أنه لا يصلح فلم أدخله فى حصرى، وأيضًا فإنه لم يدع الحصر قطعًا بل إنى ما وجدت أو أظن العدم وهو فيه صادق فيكون كالمجتهد إذا ظهر له ما كان خافيًا عليه وأنه غير مستنكر.
قوله: (وهو) أى هذا المسلك الذى يسمى السبر والتقسيم حصر الأوصاف ثم إبطال البعض وعند التحقيق الحصر راجع إلى التقسيم والسبر إلى الإبطال فإن قيل المفروض أن الأوصاف كلها صالحة لعلية ذلك الحكم والإبطال نفى لذلك لأن معناه بيان عدم صلوح البعض فتناقض قلنا: قد أشار إلى الجواب بأن صلوح الكل
إنما هو فى بادئ الرأى وعدم صلوح البعض إنما هو بعد النظر والتأمل.
قوله: (فتعين الكيل) بطريق التمثيل وإلا فعند الشافعى العلة الطعم.
قوله: (وتصدق فيه العدالة) فى هذا إشارة إلى دفع ما يقال لعله لم يبحث أو بحث ووجد ولم يذكره ترويجًا لكلامه وإن لم يجد فلم يدل على عدمه.
قوله: (ومقتضاه) أى مقتضى منع المقدمة لزوم أن يورد المستدل دليلًا على تلك المقدمة.
قوله: (هذا مما علمت) أى فى بادئ الرأى أنه لا يصلح للعلية فلم أدخله فى الحصر بخلاف ما يثبت بطلان صلوحه فإنه كان فى بادئ الرأى صالحًا وإنما تبين بطلانه بعد التأمل.
قوله: (فيكون كالمجتهد) يشبه أن يكون هذا شرحًا لقوله: والمجتهد يرجع إلى ظنه بمعنى أن المعترض إذا بين وصفًا آخر فالمستدل إن أبطله فقد سلم حصره وإلا لزم انقطاعه كما أن المجتهد إذا ظهر له وصف آخر ظهر بطلانه فذاك وإلا فيرجع عما حكم وبالجملة يجب عليه اتباع ظنه وفى الشروح أن معناه أن ما ذكر حكم المستدل وأما المجتهد فيرجع إلى ظنه ولا يكابر نفسه ويكون مؤاخذًا بما أوجبه ظنه.
قوله: (أى هذا المسلك) أول بهذا لصحة الأخبار وإلا فالسبر والتقسيم اثنان فكيف يقول: وهو حصر الأوصاف. . . إلخ.
قال: (وطرق الحذف منها الإلغاء، وهو: بيان ثبات الحكم بالمستبقى فقط ويشبه نفى العكس الذى لا يفيد وليس به لأنه لم يقصد لو كان المحذوف علة لانتفى عند انتفائه وإنما قصد لو كان المستبقى جزء علة لما استقل ولكن يقال لا بد من أصل لذلك فيستغنى عن الأول ومنها طرده مطلقًا كالطول والقصر أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة فى أحكام العتق، ومنها أن لا تظهر مناسبته ويكفى المناظر بحثت فإن ادعى أن المستبقى كذلك يرجح سبر المستدل بموافقته للتعدية).
أقول: قد عرفك أحد شقى السبر وهو حصر الأوصاف فطفق يعلمك الشق الآخر، وهو حذف بعض الأوصاف وإبطال كونه علة، ولا بد له من طريق وهو كل ما يفيد ظن عدم العلية، وللحذف طرق:
الطريق الأول: الإلغاء، وهو بيان أن الحكم فى الصورة الفلانية ثابت بالمستبقى فقط فعلم أن المحذوف لا أثر له وهذا من حيث يثبت به عدم علية الوصف بثبوت الحكم بدونه فى صورة تشبه نفى العكس الذى قد مر أنه لا يفيد عدم العلية فى مسألة أن العكس ليس شرطًا، والحق أنه ليس بنفى العكس وإنما يكون إياه لو أريد به أنه لو كان المحذوف علة لانتفى الحكم عند انتفائه وأنه غير مراد بل المراد أنه لو كان المحذوف جزء العلة فالمستبقى جزء العلة ولو كان كذلك لما كان المستبقى مستقلًا بالحكم فى تلك الصورة وقد استقل والفرق بين المعنيين فى غاية الظهور، ولكن هذا يشكل من وجه آخر، وهو أن يقال: لا بد من صورة يوجد فيها المستبقى بدون المحذوف حتى يثبت كون الحكم معللًا به وحده وحينئذٍ يستغنى به عن الأصل الأول وعن إبطال وصف فيه، مثاله إذا قال: القوت باطل لأن الملح ربوى وليس بقوت يقال له: فقس ابتداء على الملح يسقط عنك مؤنة التعليل بالقوت، وقد يقال: إن هذا لا يستمر إذ ربما كان فى الملح أوصاف ليست فى البر يحتاج فى إبطالها إلى مثل ما يحتاج إليه من المؤنة فى البر أو أكثر منه.
الطريق الثانى فى الحذف: أن يكون الوصف طرديًا أى من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه إما مطلقًا أى فى جميع أحكام الشرع كالاختلاف فى الطول والقصر، فإنه لم يعتبر فى القصاص ولا الكفارة ولا الإرث ولا العتق ولا غيرها فلا يعلل به حكم أصلًا وإما بالنسبة إلى ذلك الحكم وإن اعتبر فى غيره وذلك كالذكورة والأنوثة فى أحكام العتق فإن الشارع وإن اعتبره فى الشهادة والقضاء
وولاية النكاح والإرث، فقد علم أنه ألغاه فى أحكام العتق فلا يعلل به شئ من أحكامه.
الطريق الثالث فى الحذف: أن لا يظهر له وجه مناسبة ولا يجب ظهور عدم المناسبة بدليل ويكفى للمناظرات يقول: بحثت فلم أجد له مناسبة ويصدق فيه لأنه عدل يخبر عما لا طريق إلى معرفته إلا خبره، فإن قال المعترض المستبقى أيضًا كذلك فلو أوجبنا على المستدل بيان المناسبة خرج عن السبر وصار إخالة ولا طريق إلى التحكم فلزم القول بالتعارض والمصير إلى الترجيح ثم للمستدل أن يرجح سبره بموافقته لتعدية الحكم وموافقة سبر المعترض لعدمها والتعدية أولى ليعم الحكم وتكثر الفائدة.
قوله: (أحد شقى السبر) هذا المسلك كما يسمى السبر والتقسيم فقد يسمى السبر.
قوله: (فعلم أن المحذوف لا أثر له) يعنى حصل الظن بأن لا مدخل للوصف المحذوف فى العلية وأن الوصف المستبقى مستقل بها لثبوت الحكم عند ثبوته سواء وجد المحذوف أو لم يوجد وبهذا يندفع ما يقال: يجوز أن تكون العلة أخص فلا يلزم من انتفائها انتفاء المعلول أو يجوز أن يكون المحذوف جزءًا من العلة وأعم من المعلول وحينئذٍ لا يلزم من وجود الحكم دونه وعدم الحكم عنده أن يكون المستبقى علة مستقلة وإنما يتوجه ما ذكر لو وجد الحكم بدون المستبقى فى الجملة ثم إن بيان نفى العلية بالإلغاء نسبة نفى العلية بنفى العكس المبنى على اشتراط العكس مع أنه قد سبق بطلانه وبيان أنه ليس نفى العكس ففى غاية الظهور فإن قيل نعم إذا قصد نفى كون كل من المحذوف والمستبقى جزء العلة وأما إذا قصد نفى كون كل منهما مستقلًا بالعلية فلا إذ نفى استقلال الحذوف بناء على وجود الحكم بدونه يكون بعينه نفى العكس قلنا: لا حاجة للقائس إلى نفى استقلال كل لأن المعترض إذا سلم استقلال المستبقى فقد تم المطلوب والشارح العلامة إنما استصعب هذا المقام وطول فيه لأنه جعل قوله: لا ينفى عند انتفائه جيلة واقعة صفة علة على لفظ المضارع المنفى من البقاء وإنما هو خاص من الانتفاء واللام جواب "لو" وتوهم أن سوق هذا الكلام لبيان أن الإلغاء ليس من الطرق الصحيحة للحذف
لكنه لا يكون نفى العكس وإن أشبهه بل لأن ثبوت الشئ دون غيره فى بعض الصور لا يدل على أن الغير ليس علة له كالحدث بدون اللمس وقال إنما قلنا: أنه ليس نفى العكس لأنه إنما يكون إياه لو كان المحذوف علة لا يبقى الحكم عند انتفاء ذلك المحذوف حتى يتحقق العكس فيه ومع كون المحذوف كذلك قصد المستدل ببيان إثبات الحكم بالمستبقى فقط ليتحقق نفى العكس وليس كذلك.
قوله: (مثاله) يعنى فيما إذا قاس الذرة على البر بجامع الكيل مبينًا بأن العلة إما الطعم أو القوت الكيل والقوت باطل لا مدخل له فى العلية لجريان الربا فى الملح مع أنه ليس بقوت وللمعترض أن يقول: فعلى هذا ينبغى أن يقاس الذرة على الملح بجامع الكيل لئلا يحتاج إلى ذكر البر وإبطال علية وصف القوت فيه وهذا معنى سقوط مؤنة التعليل ويمكن أن يجاب بأنه ربما توقع فى مؤنة أكثر بأن تشتمل الصورة التى يوجد فيها المستبقى وحده كالملح مثلًا على أوصاف كثيرة يحتاج فى إبطالها إلى أكثر مما يحتاج إليه فى البر.
قوله: (فإن قال المعترض المستبقى أيضًا كذلك) أى بحثت فلم أجد له مناسبة وحينئذٍ إن اشتغل المستدل ببيان مناسبة المستبقى وقد خرج عن طريقه إلى طريق آخر هو الإخالة أعنى تعيين العلة بإبداء المناسبة وهذا انقطاع مما كان فيه من الطريق وإن حكمنا بعلية المستبقى وعدم علية المحذوف كان تحكمًا باطلًا فتعين القول بالتعارض ولزم المستدل ترجيح الوصف الحاصل من سبره على الحاصل من سبر المعترض وستجئ وجوه الترجيح فى بابه ومما لم يذكر ثمة ترجيح وصف المستدل لكونه موافقًا لتعدية الحكم أو كون وصف المعترض موافقًا لعدم التعدية لأن التعدية أولى لعموم حكمها وكثرة فائدتها وسيجئ فى باب الترجيح ترجيح الأكثر تعديًا على الأقل.
قوله: (وبهذا يندفع ما يقال) أى بكون المراد أنه لا دخل للوصف المحذوف وأن الوصف الباقى مستقل بكونه العلة لثبوت الحكم عنده وجد المحذوف أو لم يوجد يندفع ما يقال يجوز أن تكون العلة أخص فحينئذ وجود الحكم عند عدم المحذوف لا يقتضى أن المحذوف ليس علة وعبارة المحصول منها الإلغاء وهو بيان إثبات الحكم بالوصف المستبقى دون الوصف المحذوف فى صورة كما يقال: علة حرمة
الربا فى البر إما الطعم أو القوت والثانى باطل لتحقق حرمة الربا فى الملح بدون القوت فلو كان القوت معتبرًا فى العلية لما تحقق الحكم بدونه فيتحقق أن حرمة الربا لا تحصل إلا بالطعم ولقائل أن يقول: تحقق الحكم فى صورة بدون الوصف المحذوف لا يدل على أن الوصف المحذوف ليس بمعتبر فى العلة لجواز كون العلة أخص من المعلول فلا يلزم من انتفائها انتفاء المعلول ثم شرح قول المصنف ولكن يقال لا بد من أصل لذلك بقوله: قال المصنف مجرد إثبات الحكم بالوصف المستبقى بدون الوصف المحذوف فى صورة لا يلزم كون الوصف المستبقى علة إذ غاية الإلغاء أن يفيد أن الوصف المحذوف ليس بعلة للحكم على تقدير تحقق الحكم بدونه ولا يلزم من عدم علية الوصف المحذوف كون الوصف المستبقى علة علة بل لا بد لذلك أى لبيان علة كون الوصف المستبقى مستقلة من أصل آخر يفيد استقلال الوصف المستبقى وحينئذ يستغنى عن الإلغاء قال بعض الشارحين ولقائل أن يقول بعد ما تقرر إن الحكم لا بد له من علة وحصر الأوصاف وإلغاء غير واحد منها بوجود الحكم دونه وبعدم الحكم عند وجوده تعين أن يكون المستبقى علة ولا حاجة إلى طريق آخر وفيه نظر إذ يجوز أن يكون الوصف المحذوف جزءًا من العلة وأعم من المعلول وحينئذ لا يلزم من وجود الحكم دونه وعدم الحكم عند وجوده أن يكون المستبقى علة مستقلة. اهـ. فأراد الشارح بقوله: فعلم أن المحذوف لا أثر له الذى وضحه المحشى بما ذكره الرد على الأصفهانى فى الاعتراضين اللذين ذكرهما.
قال: (ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما أنه لا بد من علة لإجماع الفقهاء على ذلك ولقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، والظاهر التعميم ولو سلمنا فهو الغالب لأن التعقل أقرب إلى الانقياد فليحمل عليه وقد ثبت ظهورها فى المناسبة ولو سلم فقد ثبت ظهورها بالمناسبة فيجب اعتبارها فى الجميع للإجماع على وجوب العمل بالظن فى علل الأحكام).
أقول: قد جره الكلام فى السبر إلى إقامة الدليل على اعتبار السبر فى الشرع وكونه دليلًا على العلية، فذكر معه غيره من المسالك كتخريج المناط وهو المناسبة وغيرها كالنسبة المشتركة فى الحكم والدليل، وتقريره أن يقال: لا بد للحكم من علة لوجهين أحدهما: إجماع الفقهاء على ذلك إما وجوبًا كالمعتزلة أو تفضلًا كغيرهم، ثانيهما: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وظاهر الآية التعميم أى يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلها إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالًا لغير الرحمة، لأنه تكليف بلا فائدة فخالف ظاهر العموم، ولو سلمنا انتفاء قولنا: لا بد للحكم من علة فالتعليل هو الغالب على أحكام الشرع وذلك لأن تعقل المعنى ومعرفة أنه مفض إلى مصلحة أقرب إلى الانقياد من التعبد المحض فيكون أفضى إلى غرض الحكيم، فالغلبة والحكمة قد تظاهرتا على حمل ما نحن فيه على كونه معللًا بمعنى معقول لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب واختيار الحكيم الأفضى إلى مقصوده هو الغالب على الظن ثم يقال: وإذ قد بأن أن هذا الحكم معلل فقد ثبت ظهور العلة أى وقد حصل ظن العلية بما ذكرته من المسلك، ويقال فى المناسبة خاصة ولو سلم عدم العلية والحكمة المذكورتين فقد ثبت ظهور هذه العلة بالمناسبة لأنها بمجردها يغلب ظن العلية كما سيأتى ثم يقال فى الجميع أى فى المناسبة وغيرها وإذ قد ثبت ظهورها وحصل ظن عليتها فيجب اعتبارها والعمل بها للإجماع على وجوب العمل بالظن فى علل الأحكام.
قوله: (فالعلية والحكمة قد تظاهرتا) يعنى أن يكون التعليل هو الغالب على أحكام الشرع والاشتمال على الحكمة والمصلحة هو الأقرب إلى الانقياد قد تعاونا على حمل الحكم الذى يريد إثبات علة مناسبة له على كونه معللًا بمعنى يصلح
باعثًا على شرعيته ثم إذا ثبت ظهور علية وصف شئ من المسالك وجب اعتبارها والحكم بها إلا أن ذلك فى المناسبة لا يتوقف على كون الحكم الذى نحن فيه معللًا بل مجرد المناسبة كاف فى ظن العلية بخلاف مثل السبر وتخريج المناط وقد أشار المصنِّفُ إلى ذلك بعبارة فى غاية التعقيد حتى ذكر فى بعض الشروح أن قوله: ولو سلم فقد ثبت ظهورها بالمناسبة مبتدأ خبره قوله: فى المناسبة ثم قال: وإن لم يكن كذلك فحله إلى غيرى بعبارته الآتية وإشارته القاصية وبالجملة لما كان الناظر فى الشروح لا يحصل فى هذا المقام على طائل حاول الشارح المحقق شكر اللَّه سعيه على ما هو دأبه فى تحقيق المقام وتفسير الكلام على وجه ليس للناظر فيه سوى أن يستفيد وحاشاه أن ينقص ويزيد فقوله ثم يقال وإذ قد شروع فى شرح قوله: وقد ثبت ظهورها أى وإذ قد ظهر بالدليلين المذكورين أو بالإلحاق بالأغلب كون هذا الحكم معللًا فقد احتيج إلى إئبات ظهور العلة والحال أنه قد ثبت ظهورها أى قد حصل ظن العلية بما ذكرته من المسلك، كالسبر وتخريج المناط وغيره، فقوله: أى وقد حصل ليس تفسيرًا لقوله فى الشرح: فقد ثبت إذ لا وجه للواو حينئذٍ بل لقوله: فى الشرح: فقد ثبت فى المتن وقد ثبت ظهورها ثم قوله: وقد يقال فى المناسبة شرح لقوله: وفى المناسبة ولو سلم أى فى مطلق المسالك يقال: ما ذكرنا وفى المناسبة خاصة يقال: ولو سلم عدم العلية وعدم الحكمية اللتين ذكرنا لزومهما أو عليتهما فى أحكام الشرع فقد تثبت هذه العلة فى الحكم الذى نحن بصدده بالمناسبة فإنها بمجردها تفيد ظن العلية من غير أن تتوقف على ثبوت أن هذا الحكم معلل ومشتمل على حكمة ومصلحة بخلاف المسالك الأخر من السبر والتخريج ونحوه وقوله: ثم قال فى الجميع. شروع فى شرح قوله: فيجب اعتبارها فى الجميع يعنى إذا حصل ظن علية الوصف إما بمعونة العلية والحكمة كما فى غير المناسبة وإما بدونها كما فى المناسبة وجب اعتبارها عملًا بموجب الإجماع والتقييد بعلل الأحكام لأنه المقصود بالنظر وإلا فالظن واجب الاتباع فى غير العلل أيضًا.
المصنف: (ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما) يعنى أن الدليل على ثبوت العلة بمسلك من المسالك غير الإجماع والنص أن الحكم الذى يقاس على أصله لا بد له من علة وقد حصل ظن العلية بالسبر أو غيره من الطرق فيجب
اعتبارها والعمل بها للإجماع على وجوب العمل بالظن فى علل الأحكام أما كون الحكم المذكور لا بد له من علة فلإجماع الفقهاء الذين يقولون بالقياس على أن جميع الأحكام معللة وجوبًا أو تفضلًا ولقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107]، والرحمة برعاية المصالح الدنيوية والأخروية وشرع الأحكام بحسبها أو لأنه الغالب وعلى وفق الحكمة وأما حصول الظن بالسبر وما معه فظاهر فقول المصنف وقد ثبت ظهورها عطف على قوله: أنه لا بد من علة وهذا الدليل جار فى جميع الطرق المذكورة ويقال فى طريق المناسبة التى هى الإخالة خاصة لو سلم أنه ليس لا بد من العلة لكل حكم ولا أن الغالب التعليل فظهور المناسبة يقتضى أن يكون الوصف المناسب علة للحكم الذى نريد القياس عليه.
الشارح: (كالنسبة) سيأتى أنه ما اعتبره الشارع والتفت إليه فى بعض الأحيان وقوله: المشتركة فى الحكم والدليل نعت للمسالك.
قال: (الرابع: المناسبة والإخالة وتسمى تخريج المناط وهو تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته لا بنص ولا غيره كالإسكار فى التحريم والقتل العمد العدوان فى القصاص والمناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلًا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودًا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة فإن كان خفيًا أو غير منضبط اعتبر ملازمه، وهو المظنة لأن الغيب لا يعرف الغيب كالسفر للمشقة والفعل المقضى عليه عرفًا بالعمد فى العمدية، وقال أبو زيد المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول).
أقول: المسلك الرابع للعلية: المناسبة وتسمى إخالة لأنه بالنظر إليه يقال أنه علة أى يظن، وتسمى تخريج المناط لأنه إبداء مناط الحكم، وحاصله تعيين العلة فى الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص ولا بغيره، كالإسكار للتحريم، فإن النظر فى المسكر وحكمه ووصفه يعلم منه كون الإسكار مناسبًا لشرع التحريم وكالقتل العمد العدوان فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص، واعلم أن المناسب فى الاصطلاح وصف ظاهر منضبط يحصل عقلًا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودًا للعقلاء والمقصود إما حصول مصلحة أو دفع مفسدة والمصلحة اللذة ووسيلتها والمفسدة الألم ووسيلته، وكلاهما نفسى وبدنى ودنيوى وأخروى لأن العاقل إذا خير اختار المصلحة ودفع المفسدة وما هو كذلك فإنه يصلح مقصودًا قطعًا فإن كان الوصف الذى يحصل من ترتيب الحكم عليه المقصود خفيًا أو غير منضبط لم يعتبر لأنه لا يعلم فكيف يعلم به الحكم، وهذا معنى قوله: لأن الغيب لا يعرف الغيب فالطريق أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه، سواء كانت الملازمة عقلية أم لا فيجعل معرفًا للحكم، مثله المشقة فإنها مناسبة لترتيب الترخص عليها تحصيلًا لمقصود التخفيف ولا يمكن اعتبارها بنفسها لأنها غير منضبطة لأنها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يناط الترخيص بالكل ولا يمتاز البعض بنفسه فنيط الترخيص بما يلازمه وهو السفر مثال آخر: القتل العمد العدوان مناسب لشرع القصاص لكن وصف العمدية خفى لأن القصد وعدمه أمر نفسى لا يدرك شئ منه فنيط القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة تقضى فى العرف عليها بكونها عمدًا كاستعمال الجارح فى القتل هذا،
وقد قال أبو زيد: المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول وهو قريب من الأول إلا أنه لا يمكن إثباته فى المناظرة إذ يقول الخصم لا يتلقاه عقلى بالقبول وتلقى عقلك له بالقبول لا يصير حجة علىّ وبه يقول أبو زيد بخلاف ما ذكرنا فإنه يمكن إثباته.
قوله: (من ذات الأصل) جمهور الشارحين على أن المراد من ذات الوصف حتى قيل: إن ما وقع فى الشرح إنما هو من سهو القلم أو مراده بالأصل هو الوصف على ما قيل إن العلة فرع فى الأصل أصل فى الفرع وظاهر قوله: فإن النظر فى المسكر مشعر بأنه أراد بالأصل ما هو المتعارف وقصد أن النظر فى ذاته باعتبار ما له من الوصف والحكم يفضى إلى تعيين العلة.
قوله: (واعلم) يعنى أن المناسب بمقتضى ما ذكرنا هو الوصف الذى تتعين عليته بمجرد إبداء المناسبة لا بنص ولا بغيره ويقال فى الاصطلاح على ما هو أعم من ذلك واحترز بالظاهر والمنضبط عن الخفى والمضطرب وبقوله: عقلًا عن الشبه وفسر المقصود بما يكون مقصودًا للعقلاء من حصول مصلحة أو اندفاع مفسدة لئلا يتوهم أن المراد به ما يكون مقصودًا من شرعية الحكم فيلزم الدور لأن ذلك إنما يعرف بكونه مناسبًا فلو عرف كونه مناسبًا بذلك كان دورًا.
قوله: (لأن العاقل) تعليل كون هذه الأمور مقصودة للعقلاء.
قوله: (وإن كان الوصف) يعنى أن العلة لا بد أن تكون معرفًا للحكم وما يصلح أن يكون معرفًا لا بد أن يكون ظاهرًا منضبطًا فالوصف الذى يلزم من ترتيب الحكم عليه المقصود إن كان ظاهرًا منضبطًا اعتبر علة وإلا لم يعتبر بل اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذى يحصل المقصود من ترتيب الحكم عليه ملازمة عقلية أو عرفية وعادية بمعنى أن ذلك الوصف يوجد بوجود الوصف الظاهر المنضبط ويعدم بعدمه كما اعتبر فى الترخيص ما يلازم المشقة وهو السفر وفى شرع القصاص ما يلازم العمدية كاستعمال الجارح بالقتل ولا خفاء فى أنه لا دخل للعدم بالعدم فى الملازمة فالأولى الاقتصار على الوجود بالوجود وكأنه حاول اللزوم من الجانبين وليس بلازم وقد تبين بما ذكرناه أن الحكمة إن كانت ظاهرة منضبطة فالعلة نفسها وإلا فملازمها ويعبر عنه بالظنة وذلك لأنه يصدق
على الحكمة الظاهرة المنضبطة أنها وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودًا للعقلاء وهو الحكمة نفسها.
قوله: (وهو قريب من الأول) لأن تلقى العقول بالقبول فى قوة حصول ما يصلح مقصودًا للعقلاء من ترتيب الحكم عليه إلا أنه لم يصرح بالظهور والانضباط.
قوله: (وبه يقول أبو زيد) يعنى أنه قال بامتناع التمسك بالمناسبة فى مقام المناظرة وإن لم يمتنع فى مقام النظر لأن العاقل لا يكابر نفسه فيما يقضى به عقله.
قوله: (ويقال فى الاصطلاح على ما هو أعم من ذلك) أى فيشمل ما ثبتت عليته بالنص والإجماع وهو بهذا المعنى الأعم ينقسم إلى: مؤثر وملائم وغريب ومرسل كما يأتى واعلم أن المراد بالوصف الوصف الذى هو علة فى القياس وكذا المراد بالحكم الحكم الذى فى القياس لا مطلق وصف ولا مطلق حكم.
قوله: (لأن ذلك) أى كونه مقصودًا من شرعية الحكم لا يعرف إلا بمعرفة كون الوصف مناسبًا فأخذه فى تعريفه دور وأما اعتبار المقصود للعقلاء فلا يتوقف معرفته على معرفة كون الوصف مناسبًا حتى يجئ الدور.
قوله: (وهو الحكمة نفسها) أى الوصف المذكور الحكمة نفسها وهى غير الحكمة التى هى المصلحة المترتبة على ترتيب الحكم على الوصف.
قال: (وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقينًا وظنًا كالبيع والقصاص وقد يكون الحصول ونفيه متساويين كحد الخمر، وقد يكون نفيه أرجح كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد وقد ينكر الثانى والثالث. لنا أن البيع مظنة الحاجة إلى التعاوض، وقد اعتبر وإن انتفى الظن فى بعض الصور والسفر مظنة المشقة وقد اعتبر وإن انتفى الظن فى الملك المترفه أما لو كان فائتًا قطعًا كلحوق نسب المشرقى بتزوج مغربية، وكاستبراء جارية يشتريها بائعها فى المجلس فلا يعتبر خلافًا للحنفية).
أقول: للمناسب تقسيمات باعتبار إفضائه إلى المقصود وباعتبار نفس المقصود وباعتبار اعتبار الشارع وهذا هو الأول منها وحصول المقصود من شرع الحكم خمسة أقسام:
الأول: أن يحصل المقصود منه يقينًا كالبيع للحل.
الثانى: أن يحصل ظنًا كالقصاص للانزجار فإن الممتنعين أكثر من المقدمين، وهذان مما لا ينكرهما أحد.
الثالث: أن يكون حصوله وعدم حصوله متساويين كحد الخمر للزجر فإن عدد الممتنع والمقدم متقاربان.
الرابع: أن يكون نفى الحصول أرجح من الحصول كنكاح الآيسة لتحصيل غرض التناسل لأن عدد من لا تنسل منهن أكثر من عدد من تنسل، وهذان قد أنكرا والمختار الجواز، لنا البيع مظنة الحاجة إلى التعاوض وقد اعتبر وإن انتفى الظن فى بعض الصور بل شك فيها أو ظن عدم الحاجة فإن بيع الشئ مع عدم ظن الحاجة إلى عوضه لا يوجب بطلانه إجماعًا وكذلك السفر مظنة للمشقة، وقد اعتبر وإن ظن عدم المشقة كما فى الملك المترفه الذى يسار به على المحفة فى اليوم نصف فرسخ لا يصيبه نصب ولا ظمأ ولا مخمصة.
الخامس: أن يكون المقصود فائتًا بالكلية، مثاله: جعل النكاح مظنة لحصول النطفة فى الرحم فرتب عليه إلحاق الولد بالأب فإذا تزوج مشرقى بمغربية وقد علم قطعًا عدم تلاقيهما فهل يلحق به وهو بالمشرق ولد تلده وهى بالمغرب مع العلم بعدم حصول النطفة فى رحمها قطعًا.
مثال آخر: جعل الاستبراء مظنة لبراءة الرحم من النطفة فرتب عليه منع الوطء دونه، فلو اشترى أحد جارية ثم باعها من البائع الأول فى المجلس واشتراها هو
وهما بمجلس العقد لم يغيبا فقد علم عدم وطء المشترى الأول للجارية فهل يجب على المشترى الثانى وهو البائع أن يستبرئها، فمثل هذين أتفق الجمهور على أنه لا يعتبر ووجهه ظاهر وخالف فى ذلك الحنفية نظرًا إلى ظاهر العلة.
قوله: (وهذان قد أنكرا) إشارة إلى كما يكون الحصول مشكوكًا أو موهومًا وعبر عنهما فى المتن بالثانى والثالث لأنه اعتبر الأقسام أربعة: الأول: أن يحصل المقصود يقينًا أو ظنًا، الثانى: أن يكون الحصول ونفيه متساويين، الثالث: أن يكون نفى الحصول أرجح، الرابع: أن يكون نفى الحصول يقينًا والشارح جعل الأول قسمين نظرًا إلى اليقين والظن فصارت الأقسام خمسة، لأن الحصول وإن كان متيقنًا فالأول وإلا فإن كان راجحًا فالثانى أو مساويًا فالثالث أو مرجوحًا فالرابع وإن لم يكن محتملًا أصلًا فالخامس.
قوله: (لنا البيع) أورد مثالين أحدهما الحصول ونفيه فيه متساويان وثانيهما نفى الحصول أرجح ومع ذلك فقد اعتبرت المظنة فعلم أنه لا عبرة بالحصول فى كل جزئى وإنما المعتبر الحصول فى جنس الوصف.
قوله: (فمثل هذين المثالين) يعنى أمثلة القسم الخامس لا يعتبر عند الجمهور لأنه لا عبرة بالظنة فى معارضة المئنة ومن اعتبره نظر إلى ظاهر العلة من غير التفات إلى ما يتضمنه من الحكمة.
المصنف: (كالبيع والقصاص) أى كالمقصود من شرع البيع للحاجة إلى العوض والمقصود من شرع القصاص للقتل العمد العدوان وذلك المقصود هو ملك العوض حلال الانتفاع به فى البيع والانزجار حتى يحصل حفظ النفس فى القصاص وقوله: وقد ينكر الثانى والثالث أى لأنه لا فائدة فى شرع حكم لا يفضى إلى ما هو مقصود منه كما قال شارح مسلم الثبوت ورد بأن المدار فى ترتب الحكمة على الجنس الكلى وإن لم توجد فى بعض الجزئيات على أن الحكمة لم تنحصر فى التناسل بل قد يكون المقصود من النكاح الألفة والسكون إلى الزوجة كما قال تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، قال ابن السبكى فى جمع الجوامع: والأصح جواز التعليل بالثالث والرابع يعنى بالمقصود المساوى والمرجوح وهو يفيد أن الكلام
فى جواز التعليل بالحكمة المقصودة إلا أن يؤول بأن المراد جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها وقوله: كلحوق نسب المشرقى أى كحكم لحوق نسب المشرقى والحكم الذى ترتب عليه ذلك هو حل النكاح المعلل بالحاجة إليه والمقصود منه هو حصول نطفة الزوج فى الرحم ليحصل العلوق فيحصل النسب وهو منفى قطعًا فالحنفية يقدرون حصوله أى حصول النطفة فى الرحم فيثبت فيه الحكم وما يترتب عليه من لحوق نسب ولد المرأة المغربية بالرجل المشرقى وغيرهم يقولون لا عبرة بالحكمة المذكورة حيث علم عدم ملاقاة الزوجين وإن ثبت النكاح دون ما يترتب عليه من لحوق الولد فالحكمة المنتفية فى هذا المثال هى ما كان النكاح مظنة له من حصول نطفة الزوج فى الرحم ليحصل العلوق فيحصل النسب وقد علمت أن الحكم فى هذا المثال ثابت وإن لم يثبت ذلك الحصول وقوله: وكاستبراء جارية أى وجوب استبراء الجارية فالمقصود من ترتب وجوب الاستبراء على علته من انتقال الملك الذى هو أى المقصود براءة الرحم المسبوقة بالجهل منتف لعدم جهل صاحبها المذكور بشأن رحمها فالحنفية قالوا: تعتبر الحكمة المذكورة فيقدرون وجودها فيثبت الحكم وما يترتب عليه من حل وطئها وتزوجها مثلًا وغيرهم يقول: لا عبرة بالحكمة للقطع بانتفائها والحكم المترتب تعبدى لا معلل.
قال: (والمقاصد ضربان: ضرورى فى أصله وهى أعلى المراتب كالخمسة التى روعيت فى كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، كقتل الكفار والقصاص وحد المسكر وحد الزنا وحد المحارب والسارق، ومكمل للضرورى كحد قليل المسكر، وغير ضرورى حاجى كالبيع، والإجارة والقراض والمساقاة وبعضها آكد من بعض وقد يكون ضروريًا كالإجارة فى تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره ومكمل له كرعاية الكفاءة ومهر المثل فى الصغيرة فإنه أفضى إلى دوام النكاح، وغير حاجى ولكنه تحسينى كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب الشريفة جريًا على ما ألف من محاسن العادات).
أقول: هذا ثانى تقسيمى المناسب وهو بحسب المقاصد منه والمقاصد التى يشرع لها الأحكام ضربان ضرورى وغير ضرورى.
الضرب الأول: الضرورى:
وهو قسمان: ضرورى فى أصله، ومكمل للضرورى.
القسم الأول: الضرورى فى أصله: وهو أعلى المراتب فى إفادة ظن الاعتبار كالخمسة الضرورية التى روعيت فى كل ملة، وهى: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فالدين بقتل الكفار، والنفس بالقصاص، والعقل بحد المسكر، والنسل بحد الزنا، والمال بحد السارق، والمحارب، أى قاطع الطريق نظرًا إلى قوله تعالى فيهم:{الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33].
القسم الثانى: المكمل للضرورى: وذلك كحد قليل السكر وهو لا يزيل العقل، وحفظ العقل حاصل بتحريم السكر، فإنما حرم القليل للتتميم والتكميل لأن قليله يدعو إلى كثيره بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه إلى أن يسكر ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
الضرب الثانى: غير الضرورى:
وهو ينقسم إلى: حاجى وغير حاجى.
القسم الأول: الحاجى: وهو أيضًا ينقسم إلى قسمين: حاجى فى نفسه ومكمل للحاجى، مثال الحاجى فى نفسه: البيع والإجارة والقراض والمساقاة، فإن المعاوضة وإن ظنت أنها ضرورية فكل واحد من هذه العقود ليس بحيث لو لم يشرع لأدى إلى فوات شئ من الضروريات الخمس، واعلم أن هذه ليست فى
مرتبة واحدة، فإن الحاجة تشد وتضعف وبعضها آكد من بعض، وقد يكون بعضها ضروريًا فى بعض الصور، كالإجارة فى تربية الطفل الذى لا أم له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس، فإنه ضرورى من قبيل حفظ النفس، ولذلك لم تخل عنه شريعة، وإنما أطلقنا الحاجى عليها باعتبار الأغلب، مثال المكمل للحاجى: كوجوب رعاية الكفاءة ومهر المثل فى الولى إذا زوج الصغيرة فإن أصل المقصود من شرع النكاح وإن كان حاصلًا بدونها لكنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح وهو من مكملات مقصود النكاح.
القسم الثانى: غير الحاجى: وهو ما لا حاجة إليه لكن فيه تحسين وتزيين وسلوك منهج أحسن من منهج كسلب العبد أهلية الشهادة وإن كان ذا دين وعدالة يغلبان ظن صدقه ولو جعل له أهلية الشهادة لحصل مصلحة مثل ما يحصل فى الحر ولم تكن له مفسدة أصلًا لكنه سلب ذلك لنقصه عن المناصب الشريفة ليكون الجرى على ما ألف من محاسن العادات أن يعتبر فى المناصب المناسبة فإن السيد إذا كان له عبد ذو فضائل وآخر دونه فيها استحسن عرفًا أن يفوض العمل إليهما بحسب فضيلتهما فيجعل الأفضل للأفضل وإن كان كل منهما يمكنه القيام بما يقوم به الآخر.
قوله: (وإن ظنت أنها ضرورية) دفع لما قيل إن جنس الإجارة والبيع من الضرورية إذ تشتد حاجة الناس إليهما فى الغاية ولهذا لم تخل عنه الملل وبالجملة التعاون فى المطالب ضرورى أو مكمل له لا أقل.
قال: (مسألة: المختار انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية، لنا أن العقل قاض بأن لا مصلحة مع مفسدة مثلها، قالوا: الصلاة فى الدار المغصوبة يلزم مصلحة ومفسدة تساويها، أو تزيد وقد صحت، قلنا: مفسدة الغصب ليست عن الصلاة وبالعكس، ولو نشأ معًا عن الصلاة لم تصح والترجيح يختلف باختلاف المسائل، ويرجح بطريق إجمالى وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة لزم التعبد بالحكم).
أقول: قد اختلف فى الحكم إذا ثبت لوصف مصلحى على وجه يلزم منه وجود مفسدة مساوية لمصلحة أو راجحة عليها هل تنخرم المناسبة أم لا؟ والمختار انخرامها، لنا أن العقل قاضى بأنه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تزيد عليها، ومن قال لعاقل: بع هذا بربح مثل ما تخسر أو أقل منه لم يقبل وعلل بأنه لا ربح حينئذٍ ولو فعل لعد خارجًا عن تصرفات العقلاء.
قالوا: الصلاة فى الدار المغصوبة تقتضى صحتها مصلحة فيها وتحريمها مفسدة فيها والمصلحة لا تزيد على المفسدة وإلا لما حرمت فيجب كون المفسدة تساويها أو تزيد عليها فلو انخرمت المناسبة بذلك لا صحت الصلاة، وقد صحت.
الجواب: الكلام فى مصلحة ومفسدة لشئ واحد ومفسدة الغصب لم تنشأ من الصلاة فإنه لو شغل المكان من غير أن يصلى لأثم وكذلك مصلحة الصلاة لم تنشأ من الغصب فإنه لو أدى فى غير المغصوب لصحت، والدليل على أنهما لم ينشآ معًا من شئ واحد أنا لو فرضناهما ناشئين من نفس الصلاة لوجب أن لا تصح قطعًا كما فى صوم يوم العيد وذلك لتعارض الداعى إلى الأمر بها والصارف عنه مع المساواة أو رجحان الصارف والأمر عند ذلك محال انخرمت المناسبة أم لا إذ لا نزاع فى بطلان حكمها وإذ قد عرفت أن لا بد من رجحان المصلحة على المفسدة عند تعارضهما فللترجيح طرق فمنها تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وتنشأ من خصوصياتها، ومنها طريق إجمالى شامل لجميع المسائل، وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة على المفسدة فى محل النزاع لزم أن يكون الحكم قد ثبت فيه لا لمصلحة وهو التعبد وقد أبطلناه.
قوله: (قد اختلف) فإن قيل كيف وقع الاتفاق على الاعتبارين عند رجحان
المصلحة ولم يقع على الإلغاء عند رجحان المفسدة قلنا: لشدة اهتمام الشارع برعاية المصالح وابتناء الأحكام على ذلك وذهب البعض إلى أنه لا يهمل المصلحة ولو مرجوحة.
قوله: (وإلا لما حرمت) للقطع أو الإجماع على أن ما يشتمل على مصلحة راجحة لا يحرم بل ربما يجب كما فى كثير من الصور ولا تعارض بأن المفسدة لا تزيد على المصلحة وإلا لما صحت لأن الخصم ربما يمنع منافاة المفسدة الراجحة للصحة.
قوله: (والدليل) لا خفاء فى تمام الجواب بمجرد منع كون المصلحة والمفسدة ناشئتين من نفس الصلاة إلا أن المصنِّف تبرع بإقامة الدليل على ذلك وتقريره أنهما لو نشأتا من الصلاة لما صحت واللازم منتف بالاتفاق بيننا بيان اللزوم أن الصحة موافقة أمر الشرع أو دفع وجوب القضاء فمبناها على ورود الأمر أو صحته لا أقل وعند تعارض المصلحة الباعثة على الأمر بالصلاة، والمفسدة الصارفة عنه مساوية كانت أو راجحة فالأمر محال سواء انخرمت المناسبة أم لا وذلك لأنهم وإن اختلفوا فى انخرام المناسبة وبطلانها عند المعارض المساوى أو الراجح بأن لا تبقى المصلحة مصلحة لكن اتفقوا على بطلان مقتضاها وعدم ترتب الحكم عليها.
قوله: (ذهب البعض إلى أنه لا يهمل المصلحة ولو مرجوحة) ومعنى عدم إهمالها أن تكون معتبرة ومقتضية للحكم وإن منع منه مانع فتخلف الحكم يكون للمانع لا لعدم المقتضى.
قوله: (لكن اتفقوا على بطلان مقتضاها) أى غاية الأمر أنه على انخرام المناسبة يكون نفى الحكم لعدم المقتضى وعلى عدم انخرامها يكون لوجود المانع.
قال: (والمناسب مؤثر وملائم وغريب ومرسل لأنه إما معتبرًا أو لا، والمعتبر بنص أو إجماع هو المؤثر، والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط إن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه فى جنس الحكم أو بالعكس أو جنسه فى جنس الحكم فهو الملائم وإلا فهو الغريب وغير المعتبر هو المرسل فإن كان غريبًا أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقًا، وإن كان ملائمًا فقد صرح الإمام والغزالى بقبوله وذكر عن مالك والشافعى والمختار رده وشرط الغزالى فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية).
أقول: هذا هو التقسيم الثالث وهو بحسب اعتبار الشارع، والمناسب بهذا الاعتبار أربعة أقسام: مؤثر وملائم وغريب ومرسل.
وذلك لأنه إما معتبر شرعًا أو لا أما المعتبر فإما أن يثبت اعتباره بنص أو بإجماع أو لا بل بترتيب الحكم على وفقه وهو ثبوت الحكم معه فى المحل، فإن ثبت بنص أو إجماع فهو المؤثر وإن ثبت لا بهما بل بترتيب الحكم على وفقه فقط فذلك لا يخلو، إما أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه فى جنس الحكم أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه فى جنس الحكم أو لا فإن ثبت فهو الملائم وإن لم يثبت فهو الغريب، وأما غير المعتبر لا بنص وإجماع، ولا بترتيب الحكم على وفقه فهو المرسل.
وينقسم إلى ما علم إلغاؤه، وإلى ما لم يعلم إلغاؤه، والثانى ينقسم إلى ملائم وقد علم اعتبار عينه فى جنس الحكم أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه فى جنس الحكم وإلى ما لا يعلم منه ذلك وهو الغريب، فإن كان غريبًا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقًا، وإن كان ملائمًا فقد صرح الإمام والغزالى بقبوله وقد ذكر أنه مروى عن الشافعى ومالك، والمختار أنه مردود.
وقد شرط الغزالى فى قبوله شروطًا ثلاثة: أن تكون ضرورية لا حاجية، وقطعية لا ظنية، وكلية لا جزئية، أى مختصة بشخص، مثاله: أن يتترس الكفار الصائلون بأسارى المسلمين، إذا علم أنهم إن لم يرموهم استأصلوا المسلمين المتترس بهم وغيرهم وإن رموا اندفعوا قطعًا بخلاف أهل قلعة تترسوا بمسلمين فإن فتحها ليس محل الضرورة، وكذا رمى بعض المسلمين من السفينة فى البحر لنجاة بعض وكذا إذا خيف الاستئصال توهمًا لا يقينًا.
قوله: (والمناسب بهذا الاعتبار أربعة أقسام) اعلم أن تفاصيل الأقسام فى كل من كلام الإمام الغزالى والإمام الرازى والآمدى على طريق آخر فى أصول الحنفية على خلاف الجميع ثم اعتبار العين فى العين أو فى الجنس أو اعتبار الجنس فى العين أو فى الجنس بحسب أفراده أو تركيبه الثنائى أو الثلاثى أو الرباعى والنظر فى أن الجنس قريب أو بعيد أو متوسط وأن ثبوت ذلك بالنص أو بالإجماع أو بمجرد ترتيب الحكم على وفقه يفضى إلى أقسام متكثرة ويقتضى إيراد أمثلة متعددة وتفاصيل ذلك تحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الكتاب، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك فى شرح التنقيح فلنقتصر ههنا على ما هو مقتضى المقام فقوله: إما معتبر شرعًا يعنى اعتبار عين الوصف فى عين الحكم كتعليل الحدث بالمس الثابت بالنص وتعليل ولاية المال بالصغر الثابت بالإجماع وقوله: وهو أى ترتيب الحكم على وفق المناسب هو ثبوت الحكم معه فى محل الوصف وقوله: فقط أى من غير ثبوت ذلك بنص أو إجماع وقوله: فذلك لا يخلو على سبيل منع الخلو دون الجمع فكون أقسام الملائم ثلاثة إنما هو عند قطع النظر عن التركيب وجمع البعض مع البعض وقوله: وينقسم أى المرسل وقوله: والثانى أى ما لا يعلم إلغاؤه إلى ملائم وغريب وكل منهما له معنيان هو بأحدهما من الأقسام الأولية للمناسب وبالآخر من أقسام المرسل فصار أقسام المناسب أربعة: مؤثرًا وملائمًا وغريبًا ومرسلًا وأقسام المرسل ثلاثة معلومًا: الإلغاء وملائمًا وغريبًا فالمؤثر: ما ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه فى عين الحكم والملائم: ما ثبت ذلك بمجرد ترتيب الحكم على وفقه لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه فى جنس الحكم أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه فى جنس الحكم والغريب: ما ثبت اعتبار عينه فى عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه لكن لم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه فى جنس الحكم أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه فى جنس الحكم والمرسل ما لم يثبت اعتبار عينه فى عين الحكم أصلًا والملائم من المرسل: ما لم يثبت اعتبار عينه فى عين الحكم أصلًا لكن علم اعتبار عينه فى جنس الحكم أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه فى جنس الحكم والغريب من المرسل ما لم يثبت ذلك ولم يعلم هذا وحكم الأقسام الثلاثة للمرسل أى: الغريب ومعلوم الإلغاء مردودان بالاتفاق، وفى الملائم خلاف.
قوله: (وفى أصول الحنفية على خلاف الجميع) أى أن تقسيمهم للوصف الذى هو علة باعتبار الاعتبار وعدمه مخالف لتقسيم جميع من ذكر.
قوله: (كتعليل الحدث بالمس الثابت بالنص) أى فى قوله صلى الله عليه وسلم: "من مس ذكره فليتوضأ" فقد اعتبر عين المس فى عين الحكم وهو نقض الوضوء فيقاس عليه مس ذكر غيره وقوله: هو ثبوت الحكم معه أى فى صورة الأصل بأن توجد تلك الصورة المشتملة على وصف وحكم من غير نص على العلية أو إجماع وقوله: ما لم يثبت ذلك ولم يعلم هذا أى لم يثبت اعتبار عينه فى عين الحكم ولم يعلم اعتبار العين فى الجنس ولا الجنس فى العين ولا الجنس فى الجنس وقوله: قد أشرنا إلى نبذ من ذلك حاصل ما أشار إليه أن الأقسام الإفرادية أربعة وهى: اعتبار العين فى العين، اعتبار العين فى الجنس، اعتبار الجنس فى العين، اعتبار الجنس فى الجنس وأقسام الثنائى من غير تكرار ستة لأن اعتبار العين فى العين إما أن يكون معه اعتبار العين فى الجنس أو الجنس فى العين أو الجنس فى الجنس فهذه ثلاثة واعتبار العين فى الجنس إما أن يكون معه اعتبار الجنس فى العين والجنس فى الجنس وهذان اثنان واعتبار الجنس فى العين يكون مع اعتبار الجنس فى الجنس وذلك واحد فالأقسام ستة والثلاثى أربعة لأن الاعتبارات الأربعة إذا اعتبرت اجتماع ثلاثة منها وأسقطت واحدًا تكون الأقسام أربعة للثلاثى وأما الرباعى فهو واحد لا غير إذ هو مجموع الاعتبارات الأربعة ولنقتصر على مثال المركب من أربعة فنقول: مثاله السكر فإنه مؤثر فى الحرمة من تأثير العين فى العين ووصفه الذى هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر فى عين الحكم الذى هو الحرمة ثم السكر يؤثر فى ثبوت الزاجر سواء كان أخرويًا كالحرمة أو دنيويًا كالحد فقد اعتبر عين الوصف فى جنس الحكم الشامل للحرمة ووجوب الحد ثم السكر من حيث كونه مظنة للقذف صار المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة مؤثرًا فى وجوب الزاجر فقد أثر الجنس فى الجنس.
قال: (فالأول كالتعليل بالصغر فى حمل النكاح على المال فى الولاية فإن عين الصغر معتبر فى جنس حكم الولاية بالإجماع، والثانى كالتعليل بعذر الحرج فى حمل الحضر بالمطر على السفر فى الجمع فإن جنس الحرج معتبر فى عين رخصة الجمع، والثالث كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان فى حمل المثقل على المحدد فى القصاص فإن جنس الجناية معتبر فى جنس القصاص كالأطراف وغيرها، والغريب كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد فى حمل البات فى المرض على القاتل فى الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل وكالتعليل بالإسكار فى حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص بالتعليل به والمرسل، الذى ثبت إلغاؤه كإيجاب شهرين ابتداء فى الظهار).
أقول: هذه أمثلة أقسام المناسب، أما أقسام الملائم الثلاثة:
فمثال الأول: وهو تأثير عين الوصف الملائم فى جنس الحكم ما يقال: يثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر فالوصف الصغر وهو أمر واحد والحكم الولاية وهو جنس يجمع ولاية النكاح وولاية المال، وهما نوعان من التصرف وعين الصغر معتبر فى جنس الولاية بالإجماع.
مثال الثانى: وهو اعتبار جنس الوصف فى عين الحكم أن يقال: الجمع جائز فى الحضر مع المطر قياسًا على السفر بجامع الحرج فالحكم رخصة الجمع وهو واحد والوصف الحرج وهو جنس يجمع الحاصل بالسفر وهو خلاف الضلال والانقطاع وبالمطر وهو التأذي به وهما نوعان مختلفان، وقد اعتبر جنس الحرج فى عين رخصة الجمع.
مثال الثالث: وهو اعتبار جنس الوصف فى جنس الحكم أن يقال: يجب القصاص فى القتل بالمثقل قياسًا على القتل بالمحدد بجامع كونهما جناية عمد عدوان، فالحكم مطلق القصاص وهو جنس يجمع القصاص فى النفس وفى الأطراف وغيرهما من القوى والوصف جناية العمد العدوان وأنه جنس يجمع الجناية فى النفس وفى الأطراف وفى المال وقد اعتبر جنس الجناية فى جنس القصاص فهذه أمثلة المناسب الملائم، وأما المناسب الغريب فمثاله أن يقال: فى البات فى المرض وهو من يطلق امرأته طلاقًا بائنًا فى مرض موته لئلا ترثه يعارض
بنقيض مقصوده فيحكم بإرثها قياسًا على القاتل حيث عورض بنقيض مقصوده، وهو أن يرث، فحكم بعدم إرثه والجامع بينهما كونهما فعلًا محرمًا لغرض فاسد فهذا له وجه مناسبة وفى ترتب الحكم عليه تحصيل مصلحة وهو نهيهما عن الفعل الحرام لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع، مثال آخر تقديرى وذلك لأن المثال لا يراد بنفسه ولكن للتفهيم أن يقال: يحرم النبيذ قياسًا على الخمر بجامع الإسكار على تقدير عدم النص بالتعليل فيه لأن الإسكار مناسب للتحريم حفظًا للعقل، وعلم أن الشارع لم يعتبر عينه فى جنس التحريم ولا جنسه فى عين التحريم ولا جنسه فى جنس التحريم، فلو لم يدل النص، وهو قوله:"كل مسكر حرام" بالإيماء على اعتبار عينه فى عينه لكان غريبًا، وأما الذى ثبت إلغاؤه فكإيجاب صيام شهرين متتابعين ابتداء قبل العجز عن الإعتاق فى كفارة الظهار بالنسبة إلى من يسهل عليه الإعتاق دون الصيام فإنه مناسب تحصيلًا لمقصود الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له فلا يجوز وقد روى أن بعض العلماء قال لبعض الملوك وقد جامع فى نهار رمضان: صم شهرين متتابعين فأُنكر عليه فقال: لو أمرته بإعتاق رقبة لسهل عليه بذل ماله فى شهوة فرجه فلم يرتدع واعلم أن المؤثر إذا لم يعتبر جنسه فى جنس الحكم كالإسكار فى الحرمة فقد شذ أبو زيد منفردًا بعدم اعتباره ويفنده أنَّا إذا علمنا من أحد أنه إذا شُتِم شَتَم ثم شتمه زيد غلب على ظننا أنه يشتمه ولو لم نعلم أنه يقابل الإساءة بالإساءة فى موضع آخر، حتى لو ضرب لضرب ولا شك أنَّا إذا علمنا ذلك فى صور أخر من جنسه كان الظن أقوى لكنه ليس شرطًا فى حصول أصل الظن.
قوله: (هذه أمثلة أقسام المناسب) ترك مثال المؤثر لوضوحه وكثرته وذكر ثلاثة أمثلة للمناسب الملائم بأقسامه الثلاثة ومثالين للمناسب الغريب أحدهما تحقيقى والآخر تقديرى ومثالًا لما علم إلغاؤه ولم يصرح عند ذكره بالموصوف أعنى المناسب أو المرسل ليعين أنه مرسل وإن كان مناسبًا بخلاف الملائم والغريب فإن كلًا منهما بحسب الذات قد يكون صفة للمناسب وقد يكون صفة للمرسل وعدم التعرض لمثال المرسل الملائم والمرسل الغريب ربما يوهم نفى ما أشرنا إليه من تغاير الملائمين وتغاير الغريبين نظرًا إلى ظاهر التقسيم فإن قيل قد ترك مثالهما لكونهما مردودين
مع سبق مثال الملائم وهو تترس الكفار بالمسلمين قلنا فكيف مثل لمعلوم الإلغاء مع أنه أدخل فى الرد والشارحون جعلوا مثال الهاب فى المرض للغريب المرسل ومثال إسكار النبيذ على تقدير عدم النص للغريب غير المرسل فمع مثال التترس تصير أمثلة غير المؤثر كلها مستوفاة.
قوله: (وعين الصغر معتبر فى جنس الولاية بالإجماع) لأن الإجماع على اعتباره فى ولاية المال إجماع على اعتباره فى جنس الولاية بخلاف اعتباره فى عين ولاية النكاح فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه حيث تثبت الولاية معه فى الجملة وإن وقع الاختلاف فى أنه للصغر أو للبكارة أو بهما جميعًا وفى قوله: وهو أى الصغر أمر واحد أى ليس جنسًا تحته نوعان إشارة إلى أنه ليس من اعتبار الجنس.
قوله: (وقد اعتبر جنس الحرج فى عين رخصة الجمع) للنص والإجماع على اعتبار حرج السفر ولو فى الحج فيها وأما اعتبار عين الحرج فليس إلا بمجرد ترتيب الحكم على وفقه إذ لا نص ولا إجماع عليه يعين حرج السفر.
قوله: (وقد اعتبر جنس الجناية فى جنس بالقصاص) بالنص والإجماع وهو ظاهر وإنما الخفاء فى أن اعتبار عين القتل العمد العدوان فى عين القصاص فى النفس ليس بالنص والإجماع بل بترتب الحكم على وفقه ليكون من الملائم دون المؤثر ووجهه أن لا نص ولا إجماع على أن العلة ذلك وحده أو مع قيد كونه بالمحدود فى ترتيب الحكم عليه أى على هذا الجامع تحصيل مصلحة إشارة إلى أن هذا ليس مثالًا للغريب المرسل على ما توهمه الشارحون يعنى ثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه فى الجملة لكن لم يعلم بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف أو جنسه فى عين الحكم أو جنسه.
قوله: (فلو لم يدل النص) يعنى على تقدير ثبوت النص كان هذا من قبيل المؤثر وأما على تقدير عدمه فقد ثبت اعتبار الإسكار فى التحريم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه فلا يكون مرسلًا لكنه غريب من جهة عدم نص أو إجماع على اعتبار عينه أو جنسه فى عين التحريم أو جنسه.
قوله: (فى كفارة الظهار) خصه بالذكر وكان كفارة الصوم أيضًا كذلك على ما أشار إليه فى الشرح لأن ثبوت الإلغاء فى الظهار أظهر لأن الصوم قبل العجز عن
الإعتاق ليس بمشروع فى حقه أصلًا لكونها مترتبة بالنص القاطع والإجماع بخلاف كفارة الصوم فإنها على التخيير عند مالك وبالجملة فإيجاب الصوم ابتداء على التعيين مناسب لكن لم يثبت اعتباره لا بنص ولا بإجماع ولا ترتيب الحكم على وفقه فهو مرسل ومع ذلك فقد علم أن الشارع لم يعتبره أصلًا ولم يوجب الصوم على التعيين ابتداء فى حق أحد هذا ونحن على أن نورد ملخص كلام الآمدى فى هذا المقام، قال: المناسب إن كان معتبرًا بنص أو إجماع فهو المؤثر وإلا فإن كان معتبرًا بترتيب الحكم على وفقه فتسعة أقسام لأنه إما أن يعتبر خصوص الوصف أو عمومه أو خصوصه وعمومه معًا فى عين الحكم أو فى جنسه أو فى عينه وجنسه جميعًا وإن لم يكن معتبرًا فإن ما يظهر إلغاؤه أولًا فهذه جملة الأقسام إلا أن الواقع منها فى الشرع لا يزيد على خمسة الأول: ما اعتبر خصوص الوصف فى خصوص الحكم وعمومه فى عمومه فى محل آخر ويسمى هذا بالملائم ثم مثاله قياس القتل بالثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان وقد ظهر تأثير عينه فى عين الحكم وهو وجوب القتل فى المحدد وتأثير جنسه وهو الجناية على المحل المعصوم بالقود فى جنس القتل، من حيث القصاص فى الأيدى الثانى: ما اعتبر الخصوص فى الخصوص فقط لكن لا بنص ولا بإجماع ويسمى بالمناسب الغريب كاعتبار الإسكار فى تحريم الخمر على تقدير عدم النص ولم يظهر اعتبار عينه فى جنس الحكم ولا جنسه فى عينه ولا جنسه فى جنسه، الثالث: ما اعتبر جنسه فى جنسه فقط ولا نص ولا إجماع وهذا أيضًا من جنس المناسب الغريب إلا أنه دون ما سبق وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر فى جنس التخفيف المتناول لإسقاط الصلاة وإسقاط الركعتين فقط، الرابع: ما لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه ويسمى المناسب المرسل كما فى تترس الكفار بالمسلمين، الخامس: المناسب الذى لم يثبت اعتباره وثبت إلغاؤه كما فى إيجاب صوم شهرين متتابعين على الملك فى كفارة الصوم.
المصنف: (فالأول كالتعليل بالصغر فى حمل النكاح على المال) رده فى التحرير بما حاصله أن الأول هو الوصف الثابت عينه فى عين الحكم فى الأصل بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عينه فى جنس الحكم وهذا المثال لم
يعتبر فيه أولًا عين الوصف فى عين الحكم بل ابتدأ جعل عين الوصف مؤثرًا فى جنس الحكم وقد أسقط منه الأصل فلا يتم كونه مثالًا له وصواب المثال على رأى الحنفية: الثيب الصغيرة تقاس على البكر الصغيرة فى ثبوت ولاية النكاح بالصغر وعين الصغر قد اعتبر فى جنس الولاية فإن عين الصغر. . . إلخ. وقوله: والثانى كالتعليل بعذر الحرج اعترضه أيضًا صاحب التحرير بأن دلالة ثبوت الجنس فى العين على صحة اعتبار العين الموجودة إنما يكون بعد ثبوت العين فى العين بثبوت الحكم معه فى أصل وليس المطر فى الأصل الذى هو السفر وإنما هو فى الفرع فقط فلا يفيد علية المطر لجواز الجمع وقوله: والثالث كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان فى حمل المثقل. . . إلخ. رده أيضًا فى التحرير بأن هذا من باب المؤثر لا الملائم لأن الوصف الذى هو القتل العمد العدوان فى حكم الأصل الذى هو القصاص به ثابت بالنص والإجماع ورد توجيه التفتازانى لذلك بأنه لا نص ولا إجماع على أن العلة القتل وحده أو مع قيد كونه بالمحدد بأنه لو صح هذا الكلام لزم انتفاء المؤثر لتأتيه فى كل وصف منصوص بالنسبة إلى قيد يفرض فإن قيل: إنما قلنا ذلك إذا قال بالقيد مجتهد وليس ذلك متأتيًا فى كل أسئلة المؤثر قلنا: إن سلم فمنتف فى المثال فإن أبا حنيفة لم يعتبر فى كون القتل علة للقصاص سوى كونه عمدًا عدوانًا غير أنه يقول: انتفت العلة فى القتل بالمثقل لانتفاء دليل العمدية وهو القتل بما لا يلبث أن يفرق الأجزاء لأن العمدية أمر باطن واستعمال الآلة المفرقة للأجزاء دليل ظاهر على ذلك القصد فأقيم مقام الوقوف على حقيقة القصد بخلاف غيرها. اهـ.
قوله: (ولو فى الحج) أتى بذلك ليصح دعوى ثبوت علة السفر لرخصة الجمع بالإجماع.
قوله: (المعصوم بالقود) أى الذى له العصمة بالقود من القاتل له وقوله: فى جنس القتل من حيث القصاص فى الأيدى أى أن التأثير فى القتل الذى هو الحكم من حيث إن القصاص فى الأيدى قصاص والقتل قصاص فالقصاص جنس يجمعهما.
قال: (وتثبت علية الشبه بجميع المسالك وفى إثباته بتخريج المناط نظر ومن ثم قيل هو الذى لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل ومنهم من قال ما يوهم المناسبة ويتميز عن الطردى بأن وجوده كالعدم وعن المناسب الذاتى لأن مناسبته عقلية وإن لم يرد شرع كالإسكار فى التحريم، مثاله طهارة تراد للصلاة فيتعين الماء كطهارة الحدث فالمناسبة غير ظاهرة واعتبارها فى مس المصحف والصلاة يوهم، قول المراد له إما أن يكون مناسبًا أو لا والأول مجمع عليه فليس به والثانى طرد فيلغى، أجيب مناسب والمجمع عليه المناسب لذاته أو لا واحد منهما).
أقول: قد عد من مسالك العلية الشبه وحقيقة الشبه أن الوصف إما أن يعلم مناسبته بالنظر إليه أو لا والأول المناسب، والثانى إما أن يكون مما اعتبره الشارع فى بعض الأحكام والتفت إليه أو لا والأول الشبه والثانى الطرد، وعلية الشبه تثبت بجميع المسالك من الإجماع والنص والسبر وهل تثبت بمجرد المناسبة وهو تخريج المناط فيه نظر إذ يخرجه إلى المناسبة، ومن أجل أنه لا تثبت بمجرد المناسبة قيل فى تعريف الشبه تارة هو الذى لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل وقيل تارة هو ما يوهم المناسبة وليس بمناسب وهو يشبه الطردى من حيث إنه غير مناسب ويشبه المناسب من حيث التفات الشرع إليه ويتميز عن الطردى بأن الطردى وجوده كالعدم كما يقال الخل لا يبنى عليه القنطرة أو لا يصاد منه السمك فلا يزيل الخبث كالمرق فإن ذلك مما ألغاه الشارع قطعًا بخلاف المذكورة والأنوثة، فإنه اعتبر فى بعض الأحكام ويتميز عن المناسب الذاتى بأن المناسب مناسبة عقلية وإن لم يرد الشرع كالإسكار للتحريم فإن كونه مزيلًا للعقل الضرورى للإنسان وكونه مناسبًا لمنع منه مما لا يحتاج فى العلم به إلى ورود الشرع، مثال الشبه: أن يقال فى إزالة الخبث هى طهارة تراد للصلاة فيتعين الماء كطهارة الحدث فإن المناسبة بين كونها طهارة تراد للصلاة وبين تعين الماء غير ظاهرة، لكن إذا اجتمعت أوصاف منها ما اعتبره الشارع ومنها ما لم يعتبره كان إلغاء ما لم يعتبره وخلوه عن المصلحة بخلاف ما اعتبره أقرب فيتوهم أنه مناسب وأن ثم مصلحة وقد اعتبرها حيث اعتبرها لذلك فاعتبار الشارع للطهارة بالماء وهو الوضوء فى مس المصحف وفى الصلاة وفى الطواف يوهم مناسبته فيصدق عليه حد الشبه هذا، وقد احتج المراد للشبه بأنه إما أن يكون مناسبًا أو لا يكون والأول مجمع على قوله، والثانى هو الوصف
الطردى، وهو مجمع على رده فشئ منهما لا يكون شبهًا لأن الشبه مختلف فيه إجماعًا.
الجواب: نختار أنه مناسب، قولك: فيكون مجمعًا على قبوله قلنا متى إذا كان مناسبًا لذاته أو أعم، والأول مسلم والثانى ممنوع فإن الإجماع ما انعقد إلا فى المناسب بالذات فإنه الذى يعنى بالمناسب عند إطلاقه سلمنا أنه ليس بمناسب قولك فيكون طردًا، قلنا لا نسلم بل لا يكون مناسبًا ولا طردًا بل واسطة بينهما يتميز عن كلٍّ بما ذكرنا، واعلم أن الشبه يقال لمعنًى آخر وهو الوصف المجامع لآخر إذا تردد به الفرع بين أصلين، فالأشبه منهما هو الشبه كالنفسية والمالية فى العبد المقتول، فإنه تردد بهما بين الحر والفرس وهو بالحر أشبه إذ مشاركته له فى الأوصاف والأحكام أكثر، وحاصله تعارض مناسبين رجح أحدهما وليس من الشبه المقصود فى شئ أوردناه لتأمن من الغلط الناشئ من الاشتراك.
قوله: (قد عد من مسالك العلية الشبه) صرح به الآمدى وغيره وتعرض المصنِّف أيضًا له فى هذا المقام مبنى على ذلك إلا أنه لم يقل الخامس الشبه إشارة إلى أن المسالك المعتبرة التى لا كلام فيها هى الأربعة السابقة وحقيقة الشبه ما يحصل من التقسيم الذى أورده الشارح وتحقيق كونه من المسالك أن الوصف كما أنه قد يكون مناسبًا فيظن بذلك كونه علة كذلك قد يكون شبهيًا فيفيد ظنًا ما بالعلية وقد تنازع فى إفادته الظن فيحتاج إلى إثباته بشئ من مسالك العلية إلا أنه لا يثبت بمجرد المناسبة وإلا لخرج عن كونه شبهيًا إلى كونه مناسبًا مع ما بينهما من التقابل وإنما لم يجزم بامتناع ذلك لاحتمال أن يكون الوصف شبهيًا فى بادئ الرأى ثم تثبت عليته لتخريج المناط بأن يتأمل فتبين له مناسبة.
قوله: (ومن أجل) يريد أن تعريف الشبه بما لا يثبت مناسبته إلا بدليل ربما يوهم المناسبة مبنى على أنه لا يثبت بمجرد المناسبة بل لا بد فى مناسبته للحكم من دليل زائد عليه إذ لو ثبت بالنظر إلى ذاته لما كان شبهيًا بل مناسبًا وفى هذا نفى لما ذكره العلامة أن أقرب ما قيل فى تعريف الشبه هو أنه الذى لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل وإذا كان كذلك فلا يمكن إثباته بتخريج المناط فعلم أن النظر مبنى على التفسير لا التفسير على النظر على ما هو ظاهر العبارة ثم قال ومنهم من فسره بما
يوهم المناسبة يعنى من غير تحقيقق وحذف لأن لفظ يوهم مشعر به فجعل التفسير الثانى ابتداء كلام لا تفريعًا على النظر على ما ذكره المحقق وفى بعض الشروح أن إثباته تخريج المناط مبنى على تفسيره فمن فسره بما يوهم المناسبة منعه لأن تخريج المناط يوجب المناسبة ومن فسره بالمناسب الذى ليست مناسبته لذاته جوزه لجواز أن يكون الوصف الشبهى مناسبًا يتبع المناسب بالذات وهذا أيضًا فاسد لأن تخريج المناط يقتضى كون الوصف مناسبًا بالنظر إلى ذاته.
قوله: (مثال) يعنى إذا حاولنا إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث بجامع كونها طهارة تراد للصلاة كان الجامع وصفًا شبهيًا إذ لا تظهر مناسبته للحكم المذكور لكنه يوهم المناسبة من جهة أنه قد اجتمع فيها أعنى فى إزالة الخبث كونها طهارة للصلاة وكونها عن الخبث والشارع قد اعتبر الأول حيث رتب عليه حكم تعيين الماء فى الصلاة والطواف ومس المصحف ولم يعتبر الثانى فى شئ من الصور فظهر لنا أن إلغاء ما لم يعتبره أصلًا والحكم بخلوه عن المصلحة دون إلغاء ما اعتبره والحكم بخلوه أقرب يعنى أن الحكم بإلغاء غير المعتبر أقرب وأنسب من الحكم بإلغاء المعتبر فتوهمنا من ذلك أن الوصف الذى اعتبره كالطهارة للصلاة مناسب للحكم الذى هو تعيين الماء وأن فيه مصلحة وأن الشارع حيث اعتبر تلك الصفة إنما اعتبرها للاشتمال على تلك المصلحة وهذا معنى شبهية الوصف وضمير اعتبرها للوصف الذى اعتبره الشارع بتأويل الصفة لا للطهارة ولا للأوصاف المجتمعة ولا للمصلحة على ما يتوهم وضمير هو ومناسبته وعليته للطهارة بالماء لكونها عبارة عن الوضوء وقد يقال المراد أنه فى الطهارة بالماء فى الصلاة والطواف ومس المصحف قد اجتمع وصف كونها طهارة وكونها من الخارج من السبيلين والثانى مما لم يعتبره الشارع فإلغاؤه أقرب فيتوهم أن فى نفس الطهارة مناسبة ومصلحة والشارع إنما اعتبرها فى صورة الاجتماع لتلك المناسبة والمصلحة.
قوله: (واعلم) قد اختلف عباراتهم فى تفسير الشبه حتى قال إمام الحرمين لا يتحرر فى الشبه عبارة مستمرة فى صناعة الحدود فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين يشاركهما فى الجامع إلا أنه يشارك أحدهما فى أوصاف أكثر فسمى إلحاقه به شبهًا كإلحاق العبد المقتول بالحر ومنهم من فسره بما يعرف به المناط قطعًا إلا أنه يفتقر فى آحاد الصور إلى تحقيقه كما فى طلب المثل فى جزاء الصيد بعد
العلم بوجوب المثل ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان لحكمين لا على سبيل الكمال لكن أحدهما أغلب فالحكم به حكم بالأشبه كالحكم فى اللعان بأنه يمين لا شهادة وإن وجدا فيه، وقال القاضى هو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم لكن يستلزم المناسب وهو قياس الدلالة فنبه الشارح المحقق على بعض هذه المعانى وعلى اشتراك اللفظ وعلى أن ما بعد من مسالك العلة غير ذلك.
الشارح: (قد عد من مسالك العلية الشبه) عبارة مسلم الثبوت وشرحه (الشبه وهو ما ليس بمناسب لذاته) بل يوهم المناسبة وذلك التوهم بالتفات الشارع إليه فى بعض الأحكام فيتوهم منه المناسبة كقولك إزالة الخبث طهارة تراد للصلاة فيتعين فيها الماء ولا يجوز مائع آخر كإزالة الحدث يتعين فيها الماء فكونها طهارة مرادة للصلاة ليس مناسبًا لوجوب الماء بل إنما يناسبه إزالة ما هو نجس وليس بعلة ولا مسلك لعلة عندنا وعليه الباقلانى والصيرفى وأبو الحسين إسحاق الشيرازى وأما سائر الشافعية فبعضهم أنه علة وليس بمسلك وعليه ابن الحاجب.
الشارح: (إذ مشاركته له فى الأوصاف والأحكام أكثر) أما الأوصاف فمثل كونه إنسانًا وعاقلًا وذكرًا والأحكام كوجوب الصلاة والصيام.
قوله: (جوزه لجواز أن يكون الوصف الشبهى مناسبًا يتبع المناسبات بالذات) أى جوز إثبات الشبه بتخريج المناط لجواز أن يكون الوصف الشبهى مناسبًا يتبع المناسب بالذات فإذا ثبت الوصف بتخريج المناط ثبت الشبه حيث كان مناسبًا بالتبع وقوله وهذا أيضًا فاسد لأن تخريج المناط. . . إلخ. أى فكيف يكون شبهيًا ومناسبًا بالذات.
قوله: (قد اجتمع فيها. . . إلخ) يعنى أن كونها طهارة مرادة للصلاة قد اعتبرها الشارع فى تعين الماء للصلاة ومس المصحف والطواف وتحقق فى تلك الصور الطهارة ولم يتحقق كونها عن خبث وتعين الماء فى تلك الصور فكونها عن خبث ملغًى غير معتبر بخلاف كونها طهارة فيتوهم أن كونها طهارة مناسب لتعين الماء.
قوله: (والثانى مما لم يعتبره الشارع) أى لتحقق تعين الماء فى صور تحقق فيها الكون طهارة للصلاة ونحوها دون الخروج من السبيلين كأن الكون عن غيرهما مما يقتضى الطهارة كالنوم فيتوهم أن الكون طهارة وصف مناسب والحاصل أن إلغاء
البعض واعتبار البعض فى الصور يتوهم منه أن الذى لم يلغ وصف مناسب.
قوله: (كما فى طلب المثل. . . إلخ) أى لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فعلم أن المطلوب هو المثل وليس فى النعم ما يماثل الصيد من كل وجه فعلم أن المراد به الأشبه الأمثل فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وكفاية المثل فذلك مما عرف فيه مناط الحكم قطعًا وافتقر إلى تخريج المناط فى الجزئيات وقوله لحكمين لا على سبيل الكمال. . . إلخ. أى لم يوجد فى كل مناط على الكمال لكن تركيب الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالأغلب مثاله اللعان مركب من الشهادة واليمين وليس بيمين محضر لأن يمين المدعى لا تقبل والملاعن مدع وليس بشهادة محضة لأن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وفى اللعان لفظ اليمين ولفظ الشهادة فإذا كان العبد من أهل اليمين لا من أهل الشهادة وتردد فى أنه هل هو من أهل اللعان وبان لنا علية إحدى الشائبتين ألحق به وقوله لا يناسب الحكم أى كالرائحة المشتدة فى قياس النبيذ على الخمر.