الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (و
القياس جلى وخفى
، فالجلى ما قطع بنفى الفارق فيه كالأمة والعبد فى العتق وينقسم إلى قياس علة وقياس دلالة، وقياس فى معنى الأصل، فالأول ما صرح فيه بالعلة، والثانى ما يجمع فيه بما يلازمها كما لو جمع بأحد موجبى العلة فى الأصل لملازمة الآخر له كقياس قطع الجماعة بالواحد على قتلها بالواحد بواسطة الاشتراك فى وجوب الدية عليهم، والثالث الجمع بنفى الفارق).
أقول: القياس تلحقه القسمة باعتبارين: باعتبار القوة وباعتبار العلة.
الأول: باعتبار القوة وهو إما جلى أو خفى، فالجلى ما علم فيه نفى الفارق بين الأصل والفرع قطعًا، مثله: قياس الأمة على العبد فى أحكام العتق كالتقويم على معتق الشقص فإنا نعلم قطعًا أن المذكورة والأنوثة فيها مما لم يعتبره الشارع وأن لا فارق إلا ذلك، والخفى بخلافه وهو ما يكون نفى الفارق فيه مظنونًا كقياس النبيذ على الخمر فى الحرمة إذ لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة ولذلك اختلف فيه.
الثانى: باعتبار العلة وهو قياس علة، وقياس دلالة، وقياس فى معنى الأصل، فالأول وهو قياس العلة ما صرح فيه بالعلة كما يقال فى النبيذ: مسكر فيحرم كالخمر، الثانى وهو قياس الدلالة أن لا يذكر فيه العلة بل وصف ملازم لها كما لو علل فى قياس النبيذ على الخمر برائحته المشتدة، وحاصله إثبات حكم فى الفرع هو وحكم آخر وهو الرائحة توجبها علة واحدة فى الأصل فيقال: يثبت هذا الحكم فى الفرع لثبوت الآخر فيه، وهو ملازم له، فيكون قد جمع بأحد موجبى العلة فى الأصل لوجوده فى الفرع بين الأصل والفرع فى الموجب الآخر لملازمة الآخر له ويرجع إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلة وبالعلة على الموجب الآخر لكن يكتفى بذكر موجب العلة عن التصريح بها، مثاله أن يقال يقطع الجماعة بالواحد إذا اشتركوا فى قطع يده كما يقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا فى قتله، والجامع وجوب الدية عليهما فى الصورتين وذلك أن الدية والقصاص موجبان للجناية لحكمة الزجر فى الأصل وقد وجد فى القطع أحدهما وهو الدية فيوجب الآخر وهو القصاص عليهم لأنهما متلازمان نظرًا إلى اتحاد علتهما وحكمتهما.
الثالث: وهو القياس فى معنى الأصل أن يجمع بنفى الفارق ويسمى تنقيح
المناط، مثاله قصة الأعرابى بنفى كونه أعرابيًا فيلحق به الزنجى والهندى، وبنفى كون المحل أهلًا فيوجب الكفارة فى الزنى وبنفى كونه رمضان تلك السنة فيلحق به الرمضانات الآخر، وكذلك إذا نفى الحنفى كون الإفساد بالوقاع فيلحق به المفسد بالأكل عمدًا.
قوله: (حاصله إثبات حكم) هو التحريم فى النبيذ هو أى ذلك الحكم وحكم آخر هو الرائحة بعضهما علة واحدة هى الإسكار فى الخمر فيقال ثبت التحريم فى النبيذ لثبوت الرائحة فيه وهو أى الحكم الآخر الذى هو الرائحة ملازم للأول الذى هو التحريم فيكون القائس قد جمع أو فيكون الشأن قد جمع على لفظ المبنى للمفعول بالرائحة التى يوجبها الإسكار فى الخمر لوجود فى النبيذ بين الخمر والنبيذ فى التحريم الذى هو حكم آخر يوجبه الإسكار لملازمة التحريم للرائحة أو بالعكس ومرجع هذا القياس إلى الاستدلال بالرائحة التى يوجبها الإسكار على الإسكار وبالإسكار على التحريم الذى هو أيضًا مما يوجب الإسكار لكن قد اكتفى بذكر الرائحة عن التصريح بالإسكار.
قوله: (لأنهما) أى الدية والقصاص متلازمان نظرًا إلى اتحاد علتهما بحسب الجنس بمعنى أن الجناية توجب الدية فى الخطأ والقصاص فى العمد وليس تتحقق الدية فى الخطأ ولا يتحقق القصاص فى العمد وبالعكس.
قوله: (أن يجمع) أى بين الأصل والفرع بمجرد عدم الفارق من غير تعرض لوصف هو العلة وإذا تعرض للعلة وكان عدم الفارق قطعيًا كان قياسًا جليًا كما إذا كان ظنيًا كان خفيًا.
المصنف: (فالجلى ما قطع فيه بنفى الفارق. . . إلخ) يطلق الجلى والخفى على غير ذلك فالمجى قياس الأولى والخفى الأدون كما أن الواضح هو المساوى.
قوله: (من غير تعرض لوصف هو العلة. . . إلخ) أراد أن يفرق بين القياس الذى فى معنى الأصل والقياس الجلى مع أن كلًا منهما جمع فيه بنفى الفارق وحاصل الفرق أن القياس الجلى صرح فيه بالعلة مع ذلك بخلاف القياس الذى فى معنى الأصل فلم يتعرض فيه لوصف هو العلة.
قال: (مسألة يجوز التعبد بالقياس خلافًا للشيعة والنظام وبعض المعتزلة، وقال القفال وأبو الحسين: يجب عقلًا. لنا القطع بالجواز وأنه لو لم يجز لما وقع وسيأتى، قالوا: العقل يمنع مما لا يؤمن فيه الخطأ، ورد بأن منعه هنا ليس إحالة ولو سلم فإذا ظن الصواب لا يمنع، قالوا: قد علم الأمر بمخالفة الظن كالشاهد الواحد والعبيد ورضيعة فى عشر أجنبيات، قلنا بل قد علم خلافه كخبر الواحد وظاهر الكتاب والشهادات وغيرها وإنما منع لمانع خاص).
أقول: التعبد بالقياس هو أن يوجب الشارع العمل بموجبه وهو أن يكون ممتنعًا عقلًا أو جائزًا أو واجبًا، وقد قال بكل واحد منها قائل فعندنا يجوز وعند الشيعة والنظام وبعض المعتزلة يمتنع، وعند القفال وأبى الحسين يجب، لنا القطع بالجواز لأنه لو فرض أن يقول الشارع إذا وجدت مشاركة فرع الأصل فى علة حكمه فأثبت فيه حكمه واعمل به أيها المجتهد لم يلزم منه محال لا لنفسه، ولا لغيره، وأيضًا لو لم يجز لم يقع وقد وقع كما سيأتى.
قالوا: أولًا: القياس طريق لا يؤمن فيه الخطأ وهو بين ولا شك أن العقل مانع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ ولا نعنى بعدم جوازه عقلًا إلا ذلك.
الجواب: لا نسلم أن منع العقل مما لا يؤمن فيه الغلط إحالة له وإيجاب لنفيه بل معناه أنه مرجح للترك عليه والمدعى هو الإحالة فهو نصب دليل لا فى محل النزاع ثم إن مثله لا يمتنع التعبد به شرعًا ولو سلم أن منعه عنه إحالة لذلك فى الجملة فلا نسلم أن منعه ثابت فى جميع الصور فإنه مختص بما لا يغلب فيه جانب الصواب، وأما إذا ظن الصواب، وكان الخطأ مرجوحًا فلا يمنع فإن المظان الأكثرية لا تترك بالاحتمالات الأقلية وإلا لتعطلت الأسباب الدنيوية والأخروية إذ ما من سبب من الأسباب إلا ويجرى فيه ذلك ويجوز تخلف الأثر عنه والتضرر به فإن الثانى لا يزرع بيقين أن يأخذ الربع والتاجر لا يسافر وهو جازم بأن يربح والمتعلم لا يتعب فى تعلمه وهو يقطع بأنه يعلم ويثمر علمه ما يتعلم له إلى غير ذلك، بل العقل يوجب العمل عند ظن الصواب، وإن أمكن الخطأ تحصيلًا لمصالح لا تحصل إلا به على ما لا يخفى فى تتبع موارد الشرع، ومن طلب الجزم فى التكاليف عطل أكثرها.
قالوا: ثانيًا: لا يجوز العقل ورود الشرع بالعمل بالظن لما قد علم منه أنه ورد
بمخالفة الظن وكيف الجمع بين إيجاب الموافقة والمخالفة، ويبين ذلك ثلاثة أمثلة:
الأول: الحكم بالشاهد الواحد وإن أفاد الظن القوى لكونه صديقًا أو للقرائن.
الثانى: شهادة العبيد وإن كثروا وعلم أنهم دينون عدول فى الغاية من التقوى حتى يقوى الظن بشهادتهم.
الثالث: رضيعة فى عشر أجنبيات فإن كل واحدة على التعيين يظن كونها غير الرضيعة لتحققه على تسعة تقادير ولا يتحقق خلافه إلا على تقدير واحد ومع ذلك فأمرنا بمخالفة الظن فحرم التزوج بها.
الجواب: لا نسلم أنه علم وروده بمخالفة الظن بل المعلوم خلافه، وهو وروده بمتابعة الظن كما فى خبر الواحد وفى ظاهر الكتاب وفى الشهادات المختلفة المراتب من شهادة أربعة ورجلين ورجل وامرأتين ورجل وغيرها كظاهر السنة واعتبار القيم وإخبار النساء فى الحيض والطهر فى غشيانهن، وما ذكرتموه إنما منع فيه عن اتباع الظن لمانع خاص وتحقيقه أن مراتب الظنون وحصولها بأسبابها بحسب الوقائع وما يمكن تحصيله من مراتبه فى القضايا وما لا يمكن واعتباره بحسبا إمكان الأقوى وعدمه أو غير ذلك مما يختلف اختلافًا عظيمًا وكان خفية غير منضبطة بنفسها فنيطت بمظان ظاهرة منضبطة فكان ما ذكره نقضًا لمجرد الحكمة الذى سميناه كسرًا وقد علمت أنه لا يضر.
قوله: (التعبد بالقياس هو أن يوجب الشارع العمل بموجبه) هذا مخالف لصريح كلام الآمدى والشارحين ومضمون أدلة الفرق فإنهم يطبقون على أن معناه إيجاب الشارع القياس وإلحاق الفرع بالأصل وذلك على المجتهد خاصة وبالمعنى الذى ذكره الشارح عليه وعلى سائر المكلفين، وكان هذا أقرب إلى مقاصد الفن مثل ما سبق من كون الإجماع حجة يجب العمل بمقتضاه وكذا خبر الواحد ونحو ذلك.
قوله: (ولا يؤمن فيه الخطأ) لأن النزاع فى القياس الظنى.
قوله: (إحالة له) أى لما لا يؤمن فيه من الغلط وكذا ضمير نفيه وعليه وضمير معناه لمنع العقل وضمير أنه للعقل والحاصل أن المدعى إيجاب النفى وما ذكر إنما يدل على ترجيحه فإن قيل إنه يستلزم المدعى لأن ما يترجح تركه عقلًا يمنع التعبد به شرعًا قلنا ممنوع وهو مسألة الحسن والقبح.
قوله: (ولو سلم) لا خفاء فى أن الأنسب تقديم المنع الثانى.
قوله: (فإن الثانى) أى المزارع من ثنأ بالبلد أقام به ومنه ثناء البلد.
قوله: (رضيعة فى عشر أجنبيات) سوق كلامه أن واحدة من العشرة رضيعة لزيد مثلًا والعشر أجنبيات له بمعنى أن ليست منهن محرمًا له بنسب فكون كل واحدة منهن غير الرضيعة مظنون وقد منع الشارع اتباع هذا الظن والعمل به وتقرير الآمدى والشارحين أنه اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات ولم يجز نكاح واحدة منهن وإن غلب على الظن بعلامات أنها أجنبية.
قوله: (من شهادة أربعة) فى الزنا ورجلين خاصة فى العقوبات ورجل وامرأتين أيضًا فى الماليات ورجل فى هلال رمضان.
الشارح: (وتحقيقه أن مراتب الظنون. . . إلخ) أى ففى هذه الأمثلة التى لم يعمل بالظن فيها لمانع هو تخلف المظنة وإن وجدت الحكمة التى هى الظن كالمشقة التى هى الحكمة فى الترخص للمسافر لم تعتبر عند تخلف المظنة التى هى السفر وإن وجدت المشقة لصاحب الصنعة الشاقة فى الحضر.
قوله: (وبالمعنى الذى ذكره الشارح عليه وعلى سائر المكلفين) أى ويكون ساكنًا عن التحصيل والأولى ما قاله صاحب مسلم الثبوت التعبد بتحصيل القياس والعمل به جائز.
قوله: (لا خفاء فى أن الأنسب. . . إلخ) أى لأن المنع الثانى منع لمقدمة القياس أى المقدمة القائلة وما لا يؤمن فيه الخطأ العقل مانع منه وحاصل المنع أن العقل لا يمنع منه مطلقًا بل إذا لم يظن الصواب والمنع الثانى إبطال للدليل بأنه لا ينتج الإحالة التى هى المدعى بل ينتج المنع الاحتياطى وهو غير الإحالة.
قوله: (من تناء بالبلد أقام به) بالتاء المثناة من فوق وبالهمز آخره وقوله ومنه تناء البلد جمع التانى بوزن سكان ثم تفسير التانى بالمزارع لعله مأخوذ من قول صاحب القاموس إنه الدهقان وقد فسره بعظيم الفلاحين.
قوله: (بمعنى أن ليست واحدة منهن محرمًا بنسب) فالرضيعة من العشر الأجنبيات لأنها أجنبية بهذا المعنى وقوله وتقرير الآمدى. . . إلخ. وعليه فالرضيعة غير العشر لأنها ليست أجنبية على الإطلاق.
قال: (النظام إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات كإيجاب الغسل وغيره بالمنى دون البول وغسل بول الصبية ونضح بول الصبى وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير والجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر والقتل بشاهدين دون الزنا وكعدتى الموت والطلاق والجمع بين المختلفات كقتل الصيد عمدًا أو خطأ والردة والزنا والقاتل والواطئ فى الصوم والمظاهر فى الكفارة استحال تعبده بالقياس، ورد بأن ذلك لا يمنع الجواز لجواز انتفاء صلاحية ما توهم جامعًا أو وجود المعارض فى الأصل أو فى الفرع ولاشتراك المختلفات فى معنًى جامع أو لاختصاص كلٍّ بعلة لحكم خلافه. قالوا: يفضى إلى الاختلاف فيرد لقوله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} [النساء: 83]، ورد بالعمل بالظواهر بأن المراد التناقض أو ما يخل بالبلاغة فأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها، قالوا: إن كان قال مجتهد مصيبًا فيكون الشئ ونقيضه حقًا وهو محال وإن كان المصيب واحدًا فتصويب أحد الظنين مع الاستواء محال ورد بالظواهر وبأن النقيضين شرطهما الاتحاد وبأن تصويب أحد الظنين لا بعينه جائز، قالوا: إن كان القياس كالنفى الأصلى فمستغنًى عنه وإن كان مخالفًا فالظن لا يعارض باليقين، ورد بالظواهر وبجواز مخالفة النفى الأصلى بالظن، قالوا: حكم اللَّه يستلزم خبره عنه ويستحيل بغير التوقيف، قلنا القياس نوع من التوقيف قالوا: يتناقض عند تعارض علتين. ورد بالظواهر وبأنه إن كان واحدًا رجح فإن تعذر وقف على قول وتخير عند الشافعى وأحمد وإن تعذر فواضح الموجب النص لا يفي بالأحكام فقضى العقل بالوجوب، ورد بأن العمومات يجوز أن تنفى مثل: كل مسكر حرام).
أقول: قالوا: ثالثًا: وهو مما اختص النظام من الأدلة باختراعه قال قد ثبت من الشارع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، وإذا ثبت ذلك استحال تعبده بالقياس. أما الفرق بين المتماثلات، فمنه: إيجاب الغسل وغيره من منع قراءة القرآن ومسه ومكث المسجد بخروج المنى دون البول مع تماثلهما فى الاستقذار والفضلة. ومنه: إيجاب الغسل من بول الصبية دون الصبى إذ اكتفى فيه بالنضح. ومنه: قطع سارق القليل دون غاصب الكثير، ومنه إيجاب الجلد بنسبة الزنى إلى الشخص دون نسبة القتل والكفر إليه. ومنه: ثبوت القتل بشاهدين دون الزنى، ومنه الفرق بين عدتى الطلاق والوفاة، فالأولى ثلاثة أشهر والثانية أربعة أشهر
وعشر. وأما الجمع بين المختلفات، فمنه: التسوية بين قتل الصيد عمدًا أو خطأ فى الفداء فى الإحرام. ومنه: التسوية بين الزنا والردة فى القتل. ومنه تسوية القاتل خطأ والواطئ فى الصوم والمظاهر عن امرأته فى إيجاب الكفارة عليهم. وأما أنه إذا ثبت ذلك استحال تعبده بالقياس فلأن معنى القياس وحقيقته ضد ذلك وهو الجمع بين المتماثلات والفرق بين المختلفات.
الجواب: بمنع الثانية فإن ذلك لا يمنع جواز التعبد بالقياس أما الفرق بين المتماثلات فإن المتماثلات إنما يجب اشتراكها فى الحكم إذا كان ما به الاشتراك يصلح علة للحكم يصلح جامعًا ولا يكون له معارض فى الأصل هو المقتضى للحكم دون هذا ولا معارض فى الفرع أقوى يقتضى خلاف ذلك الحكم وشئ من ذلك غير معلوم، فيما ذكرتم من الصور لجواز عدم صلاحية ما توهمتموه جامعًا لكونه جامعًا أو وجود المعارض له، إما فى الأصل أو فى الفرع، وأما الجمع بين المختلفات فلجواز اشتراك المختلفات فى معنًى جامع هو العلة للحكم فى الكل فإن المختلفات لا يمتنع اشتراكها فى صفات ثبوتية وأحكام، وأيضًا فيجوز اختصاص كلٍّ بعلة تقتضى حكم المخالف الآخر فإن العلل المختلفة لا يمتنع أن توجب فى المحال المختلفة حكمًا واحدًا.
قالوا: رابعًا: القياس يفضى إلى الاختلاف وكل ما يفضى إلى الاختلاف مردود أما الأولى فلاختلاف الأصول، والقرائح والأنظار وكما هو الواقع فى الواقع، وأما الثانية فلقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فى معرض المدح بعدم الاختلاف الموجب للرد ودل على أن ما من عند اللَّه لا يوجد فيه اختلاف فما يوجد فيه اختلاف لا يكون من عند اللَّه، فحكم القياس للاختلاف الكثير فيه لا يكون من عند اللَّه وكل حكم لا يكون من عند اللَّه فهو مردود إجماعًا، وفى الآية أيضًا إشارة إلى المقدمة الأولى.
الجواب: أن الاختلاف المنفى فى الآية عما من عند اللَّه إنما هو التناقض والاضطراب فى النظم المخل بالبلاغة التى لأجلها وقع التحدى والإلزام بكونه من عند اللَّه لا الاختلاف فى الأحكام الشرعية فإنه واقع قطعًا ولا يمكن إنكاره.
قالوا: خامسًا: لو جاز الاجتهاد بالقياس فإما أن يكون كل مجتهد مصيبًا أو يكون المصيب واحدًا لا جائز أن يكون كل مجتهد مصيبًا لأن حكم أحدهما نقيض
حكم الآخر فيلزم أن يكون الشئ ونقيضه حقًا معًا وأنه محال، ولا جائز أن يكون المصيب واحدًا لأن تصويب أحد الظنين مع استوائهما تحكم محض وأنه غير جائز شرعًا.
الجواب: أولًا: النقض بسائر الظواهر إذ الاجتهاد لا يختص بالقياس، وثانيًا: بأنا نختار أن كل مجتهد مصيب قولك فيكون الشئ ونقيضه حقًا معًا قلنا ممنوع فإن النقيضين شرطهما الاتحاد فى الأمور التى عدت فى موضعها ولم يوجد ههنا لأن كل مجتهد حكمه ثابت بالنسبة إليه وإلى مقلديه دون غيرهم، وثالثًا بأنا نختار أن المصيب واحد قولك إنه تحكم قلنا ممنوع وإنما يلزم لو صوبنا ظنًا معينًا وخطأنا ظنًا معينًا، وأما إذا قلنا أحد الظنين لا بعينه ولا ندرى أيهما هو كان جائزًا ولا تحكم فيه.
قالوا: سادسًا: حكم اللَّه فى الواقعة المعينة بالوجوب أو بالحرمة من الممكنات فلا يعلم بدليل العقل بل بدليل السمع ولا طريق إليه إلا بإخباره للمبلغ وذلك بغير التوقيف على خبره منه محال لأنه تكليف الغافل وإذا حصل التوقيف فلا معنى للقياس.
الجواب: إنما يكون ذلك إذا لم يكن القياس نوعًا من التوقيف بأن شرعه اللَّه ونصبه للحكم وتعبد المكلفين باتباعه وهو أول المسألة.
قالوا: سابعًا: القياس يفضى إلى التناقض الباطل فيكون باطلًا، بيانه: أنه لا بعد فى أن تتعارض علتان تقتضى كل نقيض حكم الآخر، وحينئذٍ يجب اعتبارهما وإثبات حكمهما لأنه المفروض فيلزم التناقض.
الجواب: هذا الفرض إما فى قائس واحد أو فى المتعدد، فإن كان القائس واحدًا رجح بطريق من طرق الترجيح، وسيأتى فإن لم يقدر فإما أن يتوقف فلا يعمل بهما كأن لا دليل لأن شرط ثبوت حكمه عدم المعارض المقاوم وبه قال كثير من الفقهاء، وإما أن يخير فيعمل بأيهما شاء، وهو قول الشافعى وأحمد، وإن تعدد فعدم التناقض واضح مما مراد يعمل كل بقياسه فلا يتحد متعلقاهما.
هذه دلائل المانع للقياس.
وأما الموجب عقلًا: فقال: الأحكام لا نهاية لها والنص لا يفي بها فيقضى العقل بوجوب التعبد بالقياس لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام.
الجواب: بعد تسليم وجوب أن يكون لكل واقعة حكم هو أن الذى لا يتناهى الجزئيات لا الأجناس ويجوز التنصيص على الأجناس كلها بعمومات تتناول جزئياتها، حتى تفى بالأحكام كلها مثل:"كل مسكر حرام"، و"كل مطعوم ربوى"، و"كل ذى ناب حرام"، إلى غير ذلك.
قوله: (النظام) ظاهر الكلام أنه قياس استثنائى تقريره أنه إذا ثبت الفرق والجمع استحال التعبد والمقدم حق فكذا التالى، والجواب منع الأول أعنى الملازمة لكن تصريح الشارح بأن الجواب منع الثانية يقتضى أن يكون القياس اقترانيًا منع فيه الكبرى وتقريره أن التنازع قد ثبت منه الفرق والجمع وكل من يثبت منه ذلك استحال منه التعبد بالقياس.
قوله: (هو المقتضى للحكم) وصف المعارض فى الأصل بهذا ليتحقق امتناع القياس إذ لو أريد به مجرد وجود وصف آخر للعلية لا يوجد فى الفرع احتمل أن يكون كل منهما علة ولا يمنع القياس إذ لا يتعين كون العلة هو المجموع على ما ذكر فى بعض الشروح وأما المعارض فى النرع فلا معنى له سوى المقتضى بخلاف حكم الأصل فصرح به وقيده بالأقوى ليصح إثبات حكم مخالف لحكم المماثل الآخر فيتحقق الفرق إذ لو كان مساويًا أو مرجوحًا لم يكن ذلك.
قوله: (بعدم الاختلاف الموجب للرد) يعنى أن قوله إشعار بأن الاختلاف موجب للرد لأن قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} [النساء: 82]، وكلمة لو بحسب اللغة لانتفاء الثانى لانتفاء الأول فيفيدان عدم الاختلاف فيه بسبب أنه من عند اللَّه فتحصل أن ما يكون من عند اللَّه لا يوجد فيه الاختلاف وينعكس بعكس النقيض إلى أن ما يوجد فيه الاختلاف لا يكون من عند اللَّه بجعله كبرى لقولنا حكم القياس يوجد فيه الاختلاف فينتج أن حكم القياس لا يكون من عند اللَّه لضمه إلى قولنا كل حكم لا يكون من اللَّه فهو مردود وينتج أن حكم القياس مردود وهو المطلوب.
قوله: (وفى الآية) يعنى أن الآية مستقلة بإفادة المطلوب لدالالتها على المقدمة الأولى أيضًا حيث دلت على أن ما ليس من عند اللَّه مفض الاختلاف بل مستلزم له ومعلوم أن القياس من عند اللَّه وأنت خبير بأنه لو كان هذا معلومًا لما
احتيج فى إثبات المطلوب إلى التمسك بالآية أصلًا لأنا نضمه إلى قولنا وكل ما ليس من عند اللَّه فهو مردود فيتم وحاصل الجواب منع الكبرى أى لا نسلم أن ما فيه اختلاف بمعنى الاختلاف فى الأحكام فهو مردود ولا دلالة فى الآية على ذلك لأن الاختلاف المنفى فى الآية عما من عند اللَّه هو التناقض واختلاف النظم بأن يكون بعضه بالغًا حد الإعجاز وبعضه قاصرًا عنه.
قوله: (لأن حكم أحدهما نقيض حكم الآخر) لأن الاختلاف إن كان فى طرفى الإثبات والنفى فظاهر وإن كان فى مثل الوجوب والندب مثلًا فكل يستلزم نقيض الآخر.
قوله: (قلنا ممنوع) يعنى أن اللزوم ممنوع إذ الحكمان ليسا نقيضين إذ المعنى أن هذا واجب على زيد مثلًا ليس بواجب على عمرو وقد يتوهم أن المراد منع انتفاء اللازم أى لا نسلم أن حقية النقيضين عند اختلاف الأشخاص والجهات محال وليس كذلك بل مآله إلى منع اللزوم وكان الشبه المذكورة فى المتن أن حكم القياس إما موافق للنفى الأصل أو مخالف ولا تعرض لها فى الشرح.
قوله: (وأما الموجب) أى القائل بأنه يجب على الشارع إيجاب العمل بالقياس فينبنى على وجوب شئ على اللَّه تعالى وعلى امتناع خلو لواقعة عن الحكم ونحن لا نقول بذلك ولو سلم فيكفى التنصيص بالعمومات المندرجة تحت كل منها مما لا يتناهى من الجزئيات فإن قيل نحن ندعى أن النصوص الواردة لما لم تف بجميع أحكام الوقائع وجب التعبد بالقياس لئلا يلزم الخلو وجواز التنصيص بالعمومات لا يدفع ذلك لأنا نقول جواز العمومات يستلزم جواز ترك القياس وهو معنى عدم الوجوب.
الشارح: (وأما الثانية) هى وما يفضى إلى الاختلاف مردود وإنما احتاجت إلى الإثبات بالآية لأن رد ما يفضى إلى الاختلاف ليس بظاهر إلا ببيان أن ما يفضى إلى الاختلاف ليس من عند اللَّه حتى يكون مردودًا.
الشارح: (وفى الآية أيضًا إشارة إلى المقدمة الأولى) وهى حكم القياس المعلوم كونه ليس من عند اللَّه مفض إلى الاختلاف وهى الصغرى.
قوله: (وأنت خبير بأنه لو كان هذا معلومًا لما احتيج فى إثبات المطلوب إلى
الآية) أى لأنه إنما احتجنا لها لإثبات أن ما يوجد فيه الاختلاف ليس من عند اللَّه حتى يرد ومتى كان معلومًا أن القياس ليس من عند اللَّه فلا حاجة إلى الاحتجاج بالآية على ذلك لأنه متى كان ليس من عند اللَّه كان مردودًا وفى مسلم الثبوت أن المراد بالمقدمة الأولى هى ما يوجد فيه الاختلاف لا يكون من عند اللَّه ومراده أنها مأخوذة صراحة لا من حيث كونها عكس نقيض ورد ما ذكره المحشى من قوله وأنت خبير. . . إلخ. بأنه لا بد من الرجوع للآية على ما ذكره المحشى والظاهر ما قرره المحشى على ما وضحناه.
قوله: (إما موافق للنفى الأصلى) أى المبرأة الأصلية وقوله وإما مخالف ولا تعرض لها فى الشرح وحاصله أنه إن كان الأول يكون القياس مستغنًى عنه لأن مقتضاه ثابت بالبراءة الأصلية وإن كان الثانى يكون القياس باطلًا لأن النفى الأصلى متيقن والقياس مظنون والظن لا يعارض القطع وحاصل الجواب النقض بالعمل بالظاهر وبجواز ترك النفى الأصلى لأجل العمل بالظن.
قال: (مسألة: القائلون بالجواز قائلون بالوقوع إلا داود وابنه والقاشانى والنهروانى، والأكثر بدليل السمع والأكثر قطعى خلافًا لأبى الحسين، لنا ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل به عند عدم النص وإن كانت التفاصيل آحادًا أو العادة تقضى تارة بأن مثل ذلك لا يكون إلا بقاطع وأيضًا تكرر وشاع ولم ينكر والعادة تقضى بأن المسكوت فى مثله، وفإن فمن ذلك رجوعهم إلى أبى بكر فى قتال بنى حنيفة على الزكاة ومن ذلك قول بعض الأنصار فى أم الأب تركت التى لو كانت هى الميتة ورث الجميع فشرك بينهما وتوريث عمر المبتوتة بالرأى، وقول على لعمر لما شك فى قتل الجماعة بالواحد أرأيت لو اشترك نفر فى سرقة، ومن ذلك إلحاق بعضهم الجد بالأخ وبعضهم بالأب وذلك كثير فإن قيل أخبار آحاد فى قطعى سلمنا لكن يجوز أن يكون عملهم بغير ما سلمنا لكنهم بعض الصحابة سلمنا أن ذلك من غير نكير دليل ولا نسلم نفى الإنكار سلمنا لكنه لا يدل على الموافقة سلمنا لكنها أقيسة مخصوصة، والجواب عن الأول أنها متواترة فى المعنى كشجاعة على رضى اللَّه عنه، وعن الثانى القطع من سياقها بأن العمل بها وعن الثالث شياعه وتكريره قاطع عادة بالموافقة وعن الرابع أن العادة تقضى بنقل مثله، وعن الخامس ما سبق فى الثالث، وعن السادس القطع بأن العمل لظهورها لا لخصوصها كالظواهر).
أقول: القائلون بجواز التعبد بالقياس كلهم قائلون بوقوع التعبد به إلا داود الظاهرى، والقاشانى والنهروانى والقائلون بالوقوع اختلفوا فى ثبوته بدليل السمع أو بدليل العقل، فالأكثر على أنه بدليل السمع، ثم اختلف هؤلاء فى أن دليله من السمع قطعى أو ظنى فالأكثر على أنه قطعى خلافًا لأبى الحسين فإنه عنده ظنى، لنا أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة أنهم عملوا بالقياس عند عدم النص والعادة تقضى أن إجماع مثلهم فى مثله لا يكون إلا عن قاطع فيوجد قاطع على حجيته قطعًا، وما كان كذلك فهو حجة قطعًا فالقياس حجة قطعًا، فإن قيل لا نسلم التواتر فى عملهم لأن جميع ما يدكرونه أخبار آحاد قلنا القدر المشترك وهو أن الصحابة كانوا يعملون بالقياس قد تواتر وإن كانت التفاصيل آحاد وبذلك يتم مقصودنا، ولنا أيضًا أن عملهم بالقياس تكرر وشاع ولم ينكره عليهم أحد والعادة تقضى بأن المسكوت فى مثله من الأصول العامة الدائمة الأثر وفاق ووفاقهم حجة
قاطعة ولنعد تفصيلًا لما أجملناه فى الدليلين عدة صور مما عمل الصحابة فيه بالقياس فمن ذلك رجوع الصحابة إلى أبى بكر رضى اللَّه عنه فى قتال بنى حنيفة على أخذ الزكاة ماذا يرى فيه بالاجتهاد وكانوا مختلفين فيه فمنهم من يرى المسالمة لقرب موت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانكسار فى المسلمين حصل بسببه ومنهم من يرى القتال كعلى ترك الصلاة لئلا يحس منهم بالضعف والانكسار فيطمع فيهم وكان ممن يرى القتال أبو بكر فتبعوا اجتهاده قال الآمدى فقاسوا خليفة رسول اللَّه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى وجوب أخذ الزكاة لأرباب المصارف، ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار تركت التى لو كانت هى الميتة ورث جميع ما تركت لأن ابن الابن عصبة، وابن البنت لا يرث، وحاصله أن هذه أقرب، فهى أحق بالإرث فرجع إلى التشريك بينهما فى السدس، ومن ذلك أن عمر ورث المبتوتة بالرأى، وهى المطلقة ثلاثًا فى مرض الموت، ومن ذلك أن عمر شك فى قتل الجماعة بالواحد فقال له على رضى اللَّه عنه أرأيت لو اشترك نفر فى سرقة أكنت تقطعهم؟ فقال: نعم. فقال: فكذا ههنا. فرجع إلى قول علىٍّ وحكم بالقتل.
ومن ذلك: ميراث الجدة فبعضهم يلحقه بالأخ، فيشركهما فى الإرث، وبعضهم يلحقه بالأب فيحجب الأخ به، وذلك كثير لا يحصى كثرة ولسنا ههنا لإحصائها بل للتفهيم والتعليم ويكفينا هذا القدر والأمر إلى المطولات وكتب السير، فإن قيل الدليل فاسد الوضع فإن هذه المسألة قطعية فلا بد فيها من دليل قطعى، وما ذكرتموه أخبار آحاد لو صحت فغايتها الظن، سلمنا صحة وضعها لكن لا نسلم دلالتها، فإنها لا تدل على العمل بالقياسات المذكورة، ولعل العمل فيما ذكرتم من الصور بغيرها وكان الاجتهاد فى دلالات النصوص لخفائها كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص وإثبات المفهوم ودلالة الإيماء وتنقيح المناط، ونحوها مما يتعلق بالأدلة النصية، سلمنا دلالتها على عملهم لكن لا نسلم دلالة عملهم على وجوب العمل، لأن العاملين به بعض الصحابة فلا يكون فعلهم دليلًا سلمنا أن فعلهم دليل ولكن ذلك إذا لم يكن نكير ولا نسلم نفى الإنكار غايته عدم الوجدان ولا يدل على عدم الوجود سلمنا عدم الإنكار ظاهرًا لكنه لا يدل على الموافقة إذ لعلهم أنكروا باطنًا ولم يظهروا لما مر فى الإجماع السكوتى من
الأسباب الداعية إلى المسكوت، سلمنا دلالة عملهم بها على كونها حجة لكنها أقيسة مخصوصة فمن أين يلزم مدعاكم وهو وجوب العمل بكل قياس ولا سبيل إلى التعميم إلا القياس وفيه المصادرة على المطلوب.
الجواب عن الأول: وهو قولهم آحاد فى قطعى، أنها وإن كانت آحادًا فبينها قدر مشترك وهو العمل بالقياس وذلك متواتر وأنه يكفينا ولا يضر عدم تواتر كل واحد كما فى شجاعة على وكأنما خصه بالذكر إلزامًا للشيعة ولو ذكر سخاوة حاتم وشجاعة عنترة فربما منعوه عنادًا ولجاجًا.
وعن الثانى: وهو قولهم لعل عملهم بغيرها أنا نعلم من سياقها قطعًا أن العمل بها كما فى سائر التجربيات.
وعن الثالث: وهو قولهم هم بعض الصحابة أن ذلك لا يقدح فى الاتفاق فإنه إذا تكرر وشاع ولم ينكر عليهم أحد فالعادة تقضى بالموافقة فليس استدلالًا بعملهم ولكن بعملهم وسكوت الآخرين مع التكرر والشيوع فى قضية معينة يدل بطريق عادى على الاتفاق.
وعن الرابع: وهو منع عدم الإنكار أنه لو أنكر لنقل عادة لأنه مما تتوفر الدواعى على نقله لكونه أصلًا مما تعم به البلوى فإن قيل فقد نقل ذم الرأى عن عثمان وعلى رضى اللَّه عنهما، وابن عمر وابن مسعود، قلنا ذلك للرأى فى مقابلة النص، أو الذى يعدم فيه شرط فإن عدم الذم فى الصور غير المحصورة مقطوع به.
وعن الخامس: وهو قولهم عدم الإنكار لا يدل على الوفاق ما سبق فى الجواب عن الثالث: وهو أن استدلالنا بعدم الإنكار مع الشيوع والتكرار وأنه يدل.
وعن السادس: وهو قولهم إنه أقيسة مخصوصة: أن العلم القطعى حاصل بأن العمل بها كان لظهورها لا لخصوصها كسائر الظواهر التى عملوا بها من الكتاب والسنة، فإنه وإن كان الاحتمال منقدحًا فى عملهم بخصوصياتها فإنا نعلم قطعًا أن العمل بها لظهورها ولأنهم كانوا يوجبون العمل بكل ظاهر وما كانوا يجتهدون إلا لتحصيل الظن.
قوله: (فإنه) أى الدليل السمعى الدال على وقوع القياس عند أبى الحسين ظنى
وهذا لا ينافى وجوب التعبد به عنده عقلًا إذ الشئ يجب أولًا ثم يقع.
قوله: (لنا أنه ثبت) تمسك أولًا بدليل قاطع يدل على ثبوته الإجماع القاطع وثانيًا بنفس الإجماع ولما كان إجماعًا سكوتيًا وهو ظنى لا قطعى دفعه بأن مثل هذا السكوتى قطعى لا ظنى لقضاء العادة قطعًا بأن المسكوت على مثل هذا الأصل الكلى الدائمى لا يكون إلا عن وفاق فإن قيل الوجهان إنما يفيدان القطع بوقوع العمل بالقياس والمطلوب القطع بوجوب العمل به لما سبق من أن معنى التعبد بالقياس إيجاب الشارع العمل بموجبه قلنا لما ثبت القطع بأن القياس حجة ثبت المطلوب لأن العمل بما حصل القطع بحجيته واجب قطعًا.
قوله: (قال الآمدى) كان الشارح يستضعف هذا الكلام ويرى أنهم قاسوا الزكاة على الصلاة لما ثبت عندهم من أن الاجتماع والاجتراء على تركها موجب حل القتال.
قوله: (الدليل فاسد الوضع) لأنه على تقدير صحته يفيد نقيض المطلوب أعنى الظن دون القطع لأن ما ذكر أخبار آحاد وهى ظنية ولو سلم صحة وضعها بأن تكون الأخبار متواترة فلا نسلم الدلالة وتأنيث الضمير فى وضعها بالنظر إلى أن الدليل وهو الإخبار.
قوله: (لعلهم أنكروا باطنًا) فإن قيل فتكون العبارة بالقلب دون اللسان فلا يبقى الإجماع القطعى أيضًا قاطعًا قلنا لا خفاء فى أن المعتبر عمل القلب لكن عمل اللسان دليل عليه بلا نزاع فيكون مناطًا للحكم بخلاف المسكوت عن الإنكار فإن كونه دليل الموافقة محل النزاع.
قوله: (قد نقل ذم الرأى عن عثمان وعلى رضى اللَّه عنهما) قالا: لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه قال: السنة ما سنه الرسول عليه السلام، لا تجعلوا الرأى سنة للمسلمين وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه أنه قال: إذا قلتم فى دينكم بالقياس أحللتم كثيرًا مما حرمه اللَّه وحرمتم كثيرًا مما أحل اللَّه وأيضًا عن أبى بكر رضى اللَّه عنه لما سئل عن الكلالة قال: أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب اللَّه برأيى. وعن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وقالوا بالرأى فضلوا وأضلوا.
الشارح: (ومن ذلك ميراث الجد) أى فقد ورد أن عمر شاور عليًا وزيد بن ثابت فى الجد مع الإخوة فقال على أرأيت يا أمير المؤمنين لو أن شجرة انشعب منها غصن ثم انشعب من الغصن غصن أيهما أقرب إلى أحد الغصنين أصاحبه الذى خرج منه أم الشجرة وقال زيد لو أن جدولًا انبعث من ساقية ثم انبعث من الساقية ساقيتان أيهما أقرب إحدى الساقيتين إلى صاحبتها أم الجدول.
قوله: (إذ الشئ يجب أولًا ثم يقع) رد بأن معنى وجوب التعبد عنده أنه يجب على الشارع أو منه نظرًا إلى الحكمة الأزلية الثابتة له وما يجب على الشارع يقطع قطعًا فقطعية الوجوب ملزوم لقطعية الوقوع ومنافى اللازم مناف للملزوم فلزم التنافى فالأوجه أن القطع عنده أى عند أبى الحسين بالعقل فلم يقل بظنية الوقوع بل بظنية الدليل السمعى الدال عليه فقط ويجوز أن يكون مقطوعًا بالدليل العقلى.
قال: (واستدل بما تواتر معناه من ذكر العلل ليبتنى عليها مثل: "أرأيت لو كان على أبيك دين. . "، "أينقص الرطب إذا جف. . " وليس بالبين واستدل بإلحاق كل زان بماعز، ورد بأن ذلك لقوله حكمى على الواحد أو للإجماع. واستدل بمثل: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2]، وهو ظاهر فى الاتعاظ وفى الأمور العقلية مع أن صيغة افعل محتملة واستدل بحديث معاذ وغايته الظن).
أقول: ما ذكرناه هو الدليل الصحيح على التعبد بالقياس، وللقوم فيه دلائل أخر استدل عليه بما تواتر معناه وإن كان التفاصيل آحادًا من ذكر النبى صلى الله عليه وسلم العلل فى الأحكام ليبتنى عليها فى غير تلك الحال وذلك معنى القياس ولولا التعبد به لما فعل ذلك فمنه:"أرأيت لو كان على أبيك دين"، "أينقص الرطب. . "، "فإنهم يحشرون. . "، "إنها من الطوافين. . "، ". . فإنه لا يدرى أين باتت يده"، وفى الصيد وقع فى الماء:"لا تأكل سنه فلعل الماء أعان على قتله" وهذا الاستدلال ليس ببين فى الدلالة على المقصود فإنه يمنع أن المقصود من ذكرها أن يقاس عليها لأنه أمر خفى ولعله ليعلم حكمتها، ولذلك جاز النص بالعلل القاصرة وكأنه بالنسبة إلى من يمنع القياس المنصوص العلة مصادرة على المطلوب وبالقياس إلى غيرهم نصب للدليل فى غير محل النزاع، واستدل بمثل قوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، والاعتبار هو قياس الأمر بالأمر، وإثبات مثل حكم محل فى محل آخر، ومنه الاعتبار بمعنى الاتعاظ فإنه فرض لما ينزل بالغير فى حق نفسه، والحق أنه ظاهر فى الاتعاظ لوضعه له، أو لغلبته فيه، فإذا قال: اعتبر بهذا الرجل فهم منه اتعظ به، ومنه العبرة لما يتعظ به المتعظ. قال:
ما مر يوم على حى ولا ابتكرا
…
إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
سلمناه لكنه ظاهر فى القياس فى الأمور العقلية كما يقال فى إثبات الصانع تعالى، اعتبر بالدار هل يمكن حدوثها من غير صانع فما ظنك بالعالم، وأما القياس الشرعى فلا يسمى اعتبارًا فإنه إذا قيل اعتبر لم يفهم قياس الذرة على البر لا بخصوصه ولا بعموم هذا مع أن اعتبروا أمر والأمر أعنى صيغة: افعل لا لفظه، أمر محتملة للوجوب، ولغيره من المعانى وللمرة والتكرار ولعموم المفعولات وللإطلاق وللخطاب مع الحاضرين فقط أو معهم ومع غيرهم وكثر الخلاف فى كل واحد منها مع جواز التجوز اتفاقًا وإن خالف الأصل فظن وجوب العمل للكل
بكل قياس فى كل زمان لو حصل به ففى غاية الضعف فلا يصح إثبات مثل هذا الأصل به، واستدل بحديث معاذ، وهو أنه عليه السلام قال له:"فإن لم تجد؟ " أى سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أقيس الأمر بالأمر. فقال: "الحمد للَّه الذى وفق رسولَ رسولِه لما يرضاه رسوله". ودلالته واضحة إلا أن المتن ظنى لأنه خبر واحد، والمسألة أصولية فتبنى على الاكتفاء بالظن فيها، فإن قيل وفيه شئ آخر وهو أنه لا يلزم من صحة القياس لمعاذ صحة القياس لغيره إلا أن يقاس عليه فيدور وقلنا يستدل عليه بقوله:"حكمى على الواحد كحكمى على الجماعة".
قوله: (وكأنه بالنسبة) يعنى أن المانعين وقوع التعبد بالقياس منهم من عمم الحكم فمنع القياس المنصوص العلة أيضًا ومنهم من اقتصر على منع القياس غير المنصوص العلة وجوز المنصوص العلة فالاستدلال بما تواتر من تنصيصه على علل الأحكام لأجل القياس بالنسبة إلى الأولين مصادرة على المطلوب لأن كون هذا العلل لأجل القياس موقوف على جواز القياس وإلا لجاز أن يكون لمجرد العلم بالحكمة وبالنسبة إلى الآخرين نصيب الدليل فى غير محل النزاع لأنهم إنما ينازعون فى غير منصوص العلة وهذه الأقيسة منصوصة العلة ولا نزاع لهم فى صحتها.
قوله: (إلا أن المتن ظنى) قد ذكرنا أن المتن إذا ذكر فى مقابلة الدلالة يراد بكونه ظنيًا أن ثبوته ظنى.
قوله: (فتنبنى) أى صحة الاستدلال بهذا الحديث على جواز الاكتفاء بالظنى فى المسألة الأصولية والحق أنه لا يجوز.
قال: (مسألة: النص على العلة لا يكفى فى التعدى دون التعبد بالقياس، وقال أحمد والقاشانى وأبو بكر الرازى والكرخى يكفى، وقال البصرى: يكفى فى علة التحريم لا غيرها، لنا القطع بأن من قال: أعتقت غانمًا لحسن خلقه لا يقتضى عتق غيره من حسنى الخلق، قالوا: "حرمت الخمر" لإسكاره، مثل: "حرمت كل مسكر"، ورد بأنه لو كان مثله عتق من تقدَّم. قالوا: لم يعتق لأنه غير صريح والحق لآدمى، قلنا يعتق بالصريح وبالظاهر، قالوا: لو قال الأب لا تأكل هذا لأنه مسموم فهم عرفًا المنع من كل مسموم، قلنا لقرينة شفقة الأب بخلاف الأحكام فإنه قد يخص لأمر لا يدرك. قالوا: لو لم يكن للتعميم لعرى عن الفائدة، وأجيب بتعقل المعنى فيه ولا يكون التعميم إلا بدليل. قالوا: لو كان الإسكار علة التحريم لعم فكذلك هذا. قلنا: حكم بالعلة على كل إسكار فالخمر والنبيذ سواء. البصرى: من ترك أكل شئ لأذاه، دل على تركه كل مؤذ بخلاف من تصدق على فقير. قلنا: إن سلم فلقرينة التأذي بخلاف الأحكام).
أقول: إذا نص الشارع على علة الحكم فهل يكفى ذلك فى تعدية الحكم بها دون ورود الشرع بالتعبد بالقياس أم لا تعدى حتى يرد به وقد اختلف فيه، والمختار أنه لا يكفى وعليه الجمهور، وقال أحمد، والنظام، والقاشانى وأبو بكر الرازى، والكرخى: إنه يكفى، وقال أبو عبد اللَّه البصرى: يكفى فى التحريم دون غيره كالوجوب والندب لنا لو قال أعتقت غانمًا لحسن خلقه، فلو كان تناوله لكل من هو حسن الخلق باللفظ لا بالقياس لكان بمثابة قوله أعتقت كل حسن الخلق فكان يقتضى عتق غيره من حسنى الخلق، وانتفاء ذلك مقطوع به، وقد يجاب عنه بمنع الملازمة فإن الخصم لا يقول بأن ذلك يثبت بالصيغة بل بأن ذلك من الشارع، تعبد بالقياس فى تلك الصورة وإن لم يعلم تعبده بالقياس كليًا فأين أحدهما من الآخر.
قالوا: أولًا: لا فرق فى قضية العقل بين أن يقول الشارع: "حرمت الخمر لإسكاره"، وقوله:"حرمت كل مسكر"، والثانى: يفيد عموم الحرمة لكل مسكر، فكذا الأول وهو المطلوب.
الجواب: منع عدم الفرق وإلا لزم عتق من تقدَّم وهو كل حسنى الخلق، إذا قال: أعتقت غانمًا لحسن خلقه كما مر وفيه ما مر أنه يقتضى إيجاب إعتاق غيره
على نفسه ولو صرح به فقال: وذلك يقتضى إن أعتق كل حسن الخلق لما أعتقوا وقد قالوا عليه لا نسلم لزوم العتق لأن الحق حق آدمى ولا يثبت إلا بصريح، وهذا غير صريح بخلاف حق اللَّه، فإنه يثبت بالتصريح والإيماء لاطلاعه على السرائر، قلنا ذلك فى غير العتق والعتق يحصل بالصريح، والظاهر إما لتشوق الشارع إليه وإما لأن فيه حقًا للَّه لأنه عبادة.
قالوا: ثانيًا: ذكر العلة يفيد التعميم عرفًا، وذلك أنه لو قال الأب لابنه لا تأكل هذا الطعام لأنه مسموم يفهم منه المنع من أكل كل مسموم.
الجواب: إن فهم التعميم لقرينة شفقة الأب وما علم منها أنها تقتضى عادة النهى عن كل مضر بخلاف أحكام اللَّه تعالى، فإنها قد تختص ببعض الحال دون بعض لأمر لا يدرك، وقد يقال نفرض الكلام فى طبيب يقول لا تأكل هذا لبرودته أو لحموضته، أو لأنه كثير الغذاء ثم الاحتمال لا يدفع العموم كما لو عم النص والتخصيص محتمل.
قالوا: ثالثًا: لو لم يكن ذكر العلة لتعميم الحكم فى محال ثبوتها لعرى عن الفائدة إذ لا فائدة فى ذكر العلة وتعريفها إلا اتباعها بإثبات الحكم أينما تثبت واللازم منتف لأن فعل الآحاد لا يخلو عن فائدة فكيف الشارع.
الجواب: منع الملازمة وإنما يلزم لو انحصرت الفائدة فى التعميم ولم لا يجوز أن يكون فائدته أن يتعقل المعنى المقصود من شرع الحكم فى ذلك المحل ولا يكون التعميم إلا بدليل يدل عليه.
قالوا: رابعًا: اتفقنا على أنه لو قال علة الحرمة الإسكار لكان عامًا فى كل مسكر، وقوله:"حرمت الخمر لإسكاره"، بمعناه لأن اللام للتعليل ولا فرق بين أن يذكر التعليل باسمه أو بحرف يدل عليه فيجب أن يكون عامًا.
الجواب: لا نسلم أن العبارتين معناهما واحد، فإن قولك: الإسكار علة الحرمة قد ذكرت فيه الإسكار معرفًا باللام، وهو للعموم، كما مر فمعناه كل إسكار علة، فيكون الخمر والنبيذ فيه سواء وقولك حرمت الخمر لإسكاره، قد عللت فيه حرمة الخمر بالإسكار المنسوب إليه فإن حرمة الخمر لا تعلل بكل إسكار، قال البصرى: الدليل على تعميم علة النهى دون غيره أن من ترك أكل شئ لأذاه دل على تركه
كل مؤذ بخلاف من تصدق على فقير لفقره أو للمثوبة فإنه لا يدل على تصدقه على كل فقير أو تحصيل كل مثوبة.
الجواب: مثل ما سبق فى نهى الأب عن المسموم، وهو أن ذلك لقرينة التأذى به وكون ترك المؤذى مطلقًا مركوزًا فى الطباع وخصوصية ذلك المؤذى ملغاة عقلًا بخلاف الأحكام فإنها قد تختص بمحالها لأمور لا تدرك.
قوله: (فهل يكفى ذلك) حاصله أنه هل يكون ذلك إذنًا من الشارع فى هذا القياس المخصوص وإعلانًا بحجيته وإيجابًا للعمل بموجبه وإن فرضنا عدم شرعية القياس فى نفسه.
قوله: (وقد يجاب) يعنى أن الخصم لا يقول بثبوت الحكم بنفس اللفظ حتى يلزم بها ذكرتم بل يقول بأن اللفظ دال على جواز القياس فى هذه الصورة وعلى كونه حجة شرعية يجب العمل بموجبها فحقيقة الجواب أن ما ذكرتم نصب الدليل فى غير محل النزاع لا منع الملازمة يظهر بالتأمل.
قوله: (وفيه ما مر) أى يرد على هذا الجواب ما ذكرنا على أصل احتجاجنا وهو أن هذا القول يقتضى ويدل ضمنًا على أن القائل قد أثبت على نفسه إعتاق غير غانم ومعلوم أنه لو صرح بهذا الاقتضاء وقال كل هذا يقتضى أن عتق إلا كل عبدى حسن الخلق لم يعتق عبده ممن عدا غانمًا فكيف على تقدير عدم التصريح والحاصل أن مجرد إيجاب الإعتاق لا يفيد العتق وأنت خبير بأن هذا الاعتراف الذى أشير إليه فى المتن بقوله قالوا لم يعتق لأنه غير صريح كلاهما كلام على السند ومناقشة فى المثال.
قوله: (وقد يقال) يعنى يفرض الكلام فيما يخلو عن مثل هذه القرينة ومع ذلك يفهم العموم وما ذكر من احتمال اختصاص الأحكام ببعض المحال لا يدفع ظهور العموم كاحتمال التخصيص فى كل عام.
قوله: (فإن حرمة الخمر لا تعلل لكل إسكار) فإن قيل فلا يصح حمل الإسكار على العموم فى قولنا الإسكار علة الحرمة لأن المراد حرمة الخمر قلنا مبنى الكلام على أن المراد علة الحرمة مطلقًا وأما إذا أريد علة حرمة الخمر فلا نسلم الاتفاق على عمومه بل هو بمنزلة حرمت الخمر لإسكارها من غير فرق.
الشارح: (وقد يجاب عنه بمنع الملازمة) هذا المنع مبنى على تحقيق مذهبهم من أن التنصيص مع العلة أمر بالقياس وتعبد به وعليه تكون صورة الدليل هكذا لو كان التنصيص على العلة تعبدًا بالقياس لكان قول القائل أعتقت غانمًا لحسن خلقه بمنزلة أعتقت كل عبد لى حسن الخلق فحينئذٍ تمنع الملازمة لأنها إنما تصح لو كان مذهبهم أن النص على العلة يكفى فى تعدى الحكم من غير قياس وليس ذلك مذهبهم وحقيقة الجواب أن ما ذكرتم نصب للدليل فى غير موضع النزاع.
الشارح: (وفيه ما مر أنه يقتضى. . . إلخ) أى أن هذا الدليل وهو أنه لا فرق بين حرمت الخمر لإسكارها وبين كل مسكر حرام فيه ما مر أنه نصب للدليل فى غير محل النزاع لأن النزاع فى أن التنصيص على العلة تعبد بالقياس يعنى أنه موجب لإلحاق الفرع بالأصل لا أنه تصريح بثبوت الحكم فى الفرع فعلى أن التنصيص على العلة موجب للتعبد بالقياس يكون قول القائل أعتقت غانمًا لحسن خلقه مقتضيًا لإيجابه العتق عليه لمن يكون من عبيده حسن الخلق بطريق الإلحاق والقياس لا تصريح بثبوت العتق كيف ولو صرح بهذا الاقتضاء وقال هذا يقتضى أن أعتق كل عبد لى حسن الخلق لم يعتق من عبيده من كان كذلك بمجرده والحاصل أن الدليل بعدم الفرق بين حرمت الخمر لإسكارها وحرمت كل مسكر مردود بوجهين: الأول: منع عدم الفرق، الثانى: أنه نصب للدليل فى غير محل النزاع هذا ومقتضى كلام المحشى أن قول الشارح وفيه ما مر معناه وفى قوله لزم عتق من تقدم ما مر أنه يقتضى إيجاب العتق. . . إلخ. والمراد بما مر فى احتجاجه هو قوله لنا القطع بأن من قال أعتقت غانمًا لحسن خلقه لا يقتضى عتق غيره فهو كلام على سند المنع كما أن قول المصنف قالوا لم يعتق لأنه غير صريح جواب عن الاعتراض على السند الذى هو قوله وإلا لزم عتق من تقدم بأنه لا عتق فيه فكيف هذا اللزوم.
قال: (القياس يجرى فى الحدود والكفارات خلافًا للحنفية لنا أن الدليل غير مختص وقد حد فى الخمر بالقياس، وأيضًا الحكم للظن وهو حاصل كغيره، قالوا: فيه تقدير لا يعقل، كأعداد الركعات، قلنا: إذا فهمت العلة وجب كالقتل بالمثقل وقطع النباش، قالوا: قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، ورد بخبر الواحد والشهادة).
أقول: القياس هل يجرى فى الحدود والكفارات، قد اختلف فيه فمنعه الحنفية والمختار خلافه، لنا أن الدليل الدال على حجية القياس ليس مختصًا بغير الحدود، والكفارات بل هو متناول لهما جميعًا لعمومه فوجب العمل به فيهما ومن صور اتفاق الصحابة رضوان اللَّه عليهم على العمل بالقياس أنهم حدوا فى الخمر بالقياس، حين تشاوروا فيه، فقال على رضى اللَّه عنه: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد الافتراء، فأقام مظنة الشئ مقامه، كتحريم مقدمات الزنا، حيث كانت مظانة له فقام دليلًا فى المتنازع فيه بخصوصه كما دل عليه بعمومه، ولنا أيضًا أن الحكم إنما يثبت فى غيره أى فى سائر الأقيسة أو فى سائر الاجتهادات لإفضائه إلى الظن وهو حاصل ههنا فوجب العمل به، لا يقال هذا قياس فى الحدود والكفارات فيلزم الدور، لأنا نقول المتنازع فيه إثبات الحدود والكفارات قياسًا لبعضها على بعض، وهذا إثبات وجوب العمل بالقياس فيها كالقياس فى غيرها، وإن سلمنا فنحن لا نثبته بالقياس بل باستقراء أو إجماع، مفيد للقطع، بأن الظن يجب العمل به وقد حصل ههنا.
قالوا: أولًا: فى شرع الحدود والكفارات تقدير لا يعقل معناه كأعداد الركعات وأعداد الجلد، وتعيين ستين مسكينًا مما لا سبيل إلى إدراك معناه.
الجواب: هذا إنما ينفعكم لو عم جميع أحكام الحدود والكفارات وليس كذلك فإن منها ما يعقل معناه، ثم نحن لا نوجب القياس فى كل حكم حد أو كفارة بل لا نوجب القياس فيها وفى غيرها إلا فيما علم معناه، ونقول إنه إذا علم المعنى فيه وجب القياس كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد، وقطع النباش على قطع السارق، فإن العلة والحكمة فيهما معلولتان، وأما ما لا يعلم فيه المعنى فلا خلاف فيه كما فى غير الحدود والكفارات ولا مدخل لخصوصيتهما فى امتناع القياس.
قالوا: ثانيًا: قال صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات" واحتمال الخطأ فى القياس شبهة فيجب أن يدرأ به الحد وهو بأن لا يثبت به.
الجواب: النقض بخبر الواحد والشهادة، فإن احتمال الخلاف فيهما قائم لأنهما لا يفيدان القطع فكان يجب أن يدرأ بهما ولم يدرأ.
قوله: (فأقام مظنة الشئ مقامه) ظاهر هذا الكلام أنه قاس السكر على القذف فى ترتيب وجوب ثمانين جلدًا عليه بجامع كونه مظنة للافتراء وقاس نسبة السكر إلى القذف على نسبة اللمس والتقبيل إلى الزنا فى ترتيب حكم المنسوب إليه على المنسوب بجامع كون النسوب مظنة المنسوب إليه وكلام الشارحين أنه قاس شارب الخمر على القاذف بجامع الافتراء ولا خفاء فى أن الافتراء ليس بمتحقق فى الشارب وإنما هو مظنة له.
قوله: (فقام دليلًا) يعنى أن اتفاقهم على هذا الخمر بالقياس قام دليلًا فى المتنازع وهو جريان القياس فى الحدود بخصوصه كما أن قولنا الدليل غير مختص قام دليلًا عليه بعمومه أى من حيث إنه من أحكام الشرع، فقوله كما دل ينبغى أن يكون على لفظ المبنى للمفعول وإن على لفظ المبنى للفاعل فمعناه كما دل اتفاقهم على المتنازع فيه بعمومه حيث دل على حجية القياس من غير تفرقة ويحتمل أن يريد أن ما ذكرنا من مجموع الدليل قام فى المتنازع بخصوصه حيث تعرضنا للصورة الجزئية كما قام فيه بعمومه حيث ذكرنا أن الدليل غير مختص والغرض من هذا الكلام بيان الفائدة فى ذكر قوله وقد حد فى الخمر بالقياس والإشارة إلى أنه لو اكتفى بالعموم لربما توهم تخصيصه بغير المتنازع.
قوله: (فيلزم الدور) لتوقفه على صحة القياس فى الحدود والكفارات وحاصل الجواب أن المتنازع صحة قياس بعض منها على البعض وهذا قياس للقياس فيها على القياس فى غيرها.
قوله: (والجواب النقض) أى لو صح ما ذكرتم أن كل ما يحتمل الخلاف شبهة وأن الشبهات فى الحديث على عمومها توجب درء الحدود أى عدم إثباتها بأخبار الآحاد وشهادة الشهود ولا فرق بين الحدود وبين الكفارات بل المراد بالحدود ما يتناولهما جميعًا.
قوله: (بجامع كونه مظنة للافتراء) غير ظاهر فإن القذف ليس مظنة للافتراء بل هو الافتراء المقصود ههنا.
قوله: (أى من حيث إنه من أحكام الشرع) أى مما تعبدنا بسببه الشارع والأوضح أن يقول من حيث العمل بالقياس.
قوله: (من مجموع الدليل) أى الذى هو مجموع قوله لنا أن الدليل غير مختص وقد حد فى الخمر وقوله والعجب أنه قد صرح بأن الاختلاف فى جواز إجزاء القياس فى جميع الأحكام أى وحينئذ فلا يصح دليله المذكور لأنه مبنى على وجوب الإجزاء وقوله أيضًا أى كما هو نام على تقدير الوجوب وإن كان على كل هو فى غاية السقوط لأنه خروج عن محل النزاع.
قال: (مسألة: لا يصح القياس فى الأسباب لنا أنه مرسل لأن الفرض تغاير الوصفين فلا أصل لوصف الفرع وأيضًا علة الأصل منتفية عن الفرع فلا جمع، وأيضًا إن كان الجامع بين وصفين حكمة على القول بصحتها أو ضابطًا لها اتحد السبب والحكم وإن لم يكن جامع ففاسد. قالوا: ثبت المثقل على المحدد واللواط على الزنا، قلنا: ليس محل النزاع لأنه سبب واحد ثبت لهما بعلة واحدة وهو القتل العمد العدوان وإيلاج فرج فى فرج).
أقول: هل يجرى القياس فى الأسباب بأن يجعل الشارع وصفًا سببًا لحكم فيقاس عليه وصف آخر فيحكم بكونه سببًا قد اختلف فيه فأكثر أصحاب الشافعى على جوازه ومنعه القاضى أبو زيد الدبوسى وأصحاب أبى حنيفة. وهو المختار لنا أنه مناسب مرسل فلا يعتبر.
أما الأول: فلأن حاصله أنه يجعل سببًا للحكم لتحصيل الحكمة المقصودة فى الفرع كما ثبت فى الأصل ولا يشهد له أصل بالاعتبار أى لم يثبت محل فيه يتحقق سببية هذا الوصف معللًا باشتماله على الحكمة لأنا إنما نثبته باعتبار الشارع وصفًا آخر مغايرًا له لتحصيل الحكمة إذ المفروض تغاير الوصفين ولا معنى للمناسب المرسل إلا ذلك.
وأما الثانى: فلما علمت من أنه لا يعتبر اتفاقًا أو مع خلاف فيه لما مر من الدليل ولنا أيضًا أن علة سببية المقيس عليه وهى قدر من الحكمة يتضمنها الوصف الأول منتفية فى المقيس وهو الوصف الآخر أى لم يعلم ثبوتها فيه لعدم انضباط الحكمة وتغاير الوصفين فيجوز اختلاف قدر الحكمة الحاصلة بهما، وإذا كان كذلك امتنع الجمع بينهما فى الحكم وهو السببية لأن معنى القياس الاشتراك فى العلة وبه يمكن التشريك فى الحكم ولنا أيضًا أن الحكمة المشتركة إما أن تكون ظاهرة منضبطة، وقلنا بأنه يمكن جعلها مناطًا للحكم إذ فيه خلاف أو لا تكون فإن كان فقد استغنى عن الالتفات إلى الوصفين وصار القياس فى الحكم المرتب على الحكمة وهى الجامع بينهما فاتحد الحكم والسبب، وهو خلاف المفروض، وإن لم يكن بأن لا تكون ظاهرة منضبطة أو يقال لا يمكن جعلها مناطًا للحكم فإما أن تكون لها مظنة أى وصف ظاهر منضبط تضبط هى بها أو لا فإن كان صار القياس فى الحكم المرتب على ذلك الوصف واتحد الحكم والسبب أيضًا وإن لم
يكن فلا جامع بينهما من حكمة أو مظنة فيكون قياسًا خاليًا عن الجامع وأنه لا يجوز، قالوا: ثبت القياس فى الأسباب فكيف تنكرونه وذلك أنهم قاسوا المثقل على المحدد فى كونه سببًا للقصاص، واللواط على الزنا فى كونه سببًا للجلد، وللحنفية فى المثالين مناقشة وإنما يرد على المصنِّف.
الجواب: أنه ليس من محل النزاع لأن النزاع فيما تغاير السبب فى الأصل والفرع أى الوصف المتضمن للحكمة وكذا العلة وهى الحكمة وههنا السبب سبب واحد ثبت لهما أى لمحلى الحكم وهما الأصل والفرع بعلة واحد ففى مثال المحدد والمثقل السبب القتل العمد العدوان والعلة الزجر لحفظ النفس والحكم القصاص، وفى مثال الزنا واللواط السبب إيلاج فرج فى فرج محرم شرعًا، مشتهًى طبعًا، والعلة الزجر لحفظ النسب والحكم وجوب الحد.
قوله: (حاصله) أى حاصل القياس فى الأسباب أنه فعل وصف ما كما فى اللواطة مثلًا سببًا للحكم الذى هو وجوب الجلد لتحصل الحكمة التى هى الزجر عن تضييع الماء فى اللواطة كما يحصل فى الزنا.
قوله: (وأما الثانى) وهو أن المناسب المرسل لا يعتبر فلأنه إما غريب أو معلوم الإلغاء ولا نزاع فى عدم اعتبارهما وإما ملائم وقد سبق أن المختار رده حيث قال المرسل إن كان غريبًا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقًا وإن كان ملائمًا فقد صرح الإمام الغزالى بقوله والمختار أنه مردود ولم يذكر وكأنه الذى سيذكر فى المصالح المرسلة فقوله لما مر من الدليل محل نظر.
قوله: (أى لم يعلم) يعنى أن المراد بعدم ثبوت العلة فى المقيس عليه عدم العلم بثبوتها فيه لا العلم بعدم ثبوتها إذ لا طريق إلى إثبات ذلك ولا حاجة بنا إليه فى امتناع القياس لأنه لا بد من العلم بثبوت العلة فى الفرع ونعنى بالعلم ههنا ما يعم بالظن أيضًا وإذا كانت العلة منتفية امتنع الجمع بين الوصفين فى السببية.
قوله: (فإن كان) أى فإن ثبت ما ذكر من كون الحكمة المشتركة ظاهرة منضبطة والقول بإمكان جعلها مناطًا فقد استغنى عن النظر فى الوصفين وإثبات سببية أحدهما قياسًا على الآخر للقطع بأن المقصود من إثبات الأسباب إثبات ما يترتب عليها من الأحكام مثلًا إذا ثبت أن إيلاج فرج فى فرج مشتهًى طبعًا محرمًا شرعًا
يصلح للملك أو يوجد له مظنة صالحة لذلك صار القياس فى وجود الجلد فى إيلاج اللواطة كما فى إيلاج الزنا بجامع ذلك الوصف أو المظنة، وكان هناك حكم واحد وهو وجوب الجلد وسبب واحد وهو ذلك الوصف أو المظنة لا تعدد فى الحكم ولا فى السبب وقد كان المفروض أن هناك حكمين الجلد والسببية وسببين الزنا واللواطة هذا خلف فظهر أن ما فى الشروح من أنه اتحد الحكم والسبب فى كونهما معلولى الحكمة أو المظنة ليس له كثير معنًى.
قوله: (وإنما يرد على المصنف) يعنى أن أبا حنيفة لا يقول بالقصاص فى القتل بالمثقل ولا بالحد فى اللواطة فلا يرد اعتراضًا على الحنفية وإنما يرد على المصنِّف حيث يقول بذلك على ما هو مذهب الشافعى ومالك رحمهما اللَّه فيحتاج إلى الجواب بأنه ليس محل النزاع والحق أن دفع النزاع بمثل ذلك ممكن فى كل صورة فإن القائلين بصحة القياس فى الأسباب لا يعتدون إلا بثبوت الحكم بالوصفين لما بينهما من الجامع ويعود إلى ما ذكرتم من اتحاد الحكم والسبب.
قال: (مسألة: لا يجرى القياس فى جميع الأحكام، لنا ثبت ما لا يعقل معناه كالدية والقياس فرع المعنى، وأيضًا قد تبين امتناعه فى الأسباب والشروط، قالوا: متماثلة فيجب تساويها فى الجائز، قلنا قد يمتنع أو يجوز فى بعض النوع لأمر بخلاف المشترك بينهما).
أقول: قد اختلف فى جريان القياس فى جميع الأحكام الشرعية، فإثباته شذوذ والمختار نفيه، لنا أنه ثبت فى الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة وإجراء القياس فى مثله متعذر لما علم أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم فى الأصل، قال فى المحصول: النزاع فى أنه هل فى الشرع جمل من الأحكام لا يجرى فيها القياس أو ينظر فى كل مسألة مسألة، هل يجرى فيها القياس، أم لا؟ ولو كان المراد ذلك لم ينفه هذا الدليل والظاهر أنه المراد فإن ما نفاه مما ينبغى أن لا يختلف فيه اثنان، ولنا أيضًا أنه قد تبين امتناع القياس فى الأسباب والشروط، وقد علمت أن كون الشئ سببًا وشرطًا من الأحكام الشرعية، فهذه جملة من أحكام الشرع لا يجرى فيها القياس.
قالوا: الأحكام الشرعية متماثلة إذ يشملها حد واحد وهو حد الحكم الشرعى والمتماثلات يجب اشتراكها فيما يجوز عليها لأن حكم الشئ حكم مثله وقد جاز جريان القياس على بعضها فليجر على الكل.
الجواب: أن هذا القدر لا يوجب التماثل وهو الاشتراك فى الجنس فإن الأجناس المتخالفة قد تندرج تحت نوع واحد فيعمها حد واحد وهو حد ذلك النوع ولا يلزم من ذلك تماثلها بل تشترك فى النوع ويمتاز كل جنس بأمر يميزه وحينئذ فما كان يلحاقها باعتبار القدر المشترك بين الجواز والامتناع يكون عامًا وأما ما يلحقه باعتبار ذلك الأمر المخصص فلا واعلم أن اصطلاح الأصوليين فى الجنس والنوع يخالف اصطلاح المنطقيين فالمندرج جنس والآخر نوع وعند المنطقى بالعكس وهذا التقرير على الاصطلاح الأصولى وهو طبق فى المعنى لما قاله فى المنتهى يجوز لبعض الأنواع، ما يمتنع لبعضها وإن جرى على الاصطلاح المنطقى فيه ولو جريت ههنا على الاصطلاح المنطقى كان معناه أنه قد تختلف الأمثال بخصوصيات صنفية أو شخصية يجوز على بعضها ما يمتنع على الأخرى، وذلك أيضًا صحيح، واللَّه أعلم.
قوله: (قد اختلف) ظاهر العبارة أن الخلاف فى جريان القياس فى كل واحد واحد من الأحكام فأشبه الشذوذ ونفاه الجمهور ولما كان هذا مستبعدًا جدًا إذ من الأحكام ما لا يعقل معناه أصلًا فكيف يصح الخلاف فى عدم جريان القياس فيه فنقل الخلاف على الوجه الذى فى المحصول وحاصله أنه ذهب الجمهور إلى أن فى الشرع جملًا من الأحكام يمتنع فيها القياس بالدلائل العامة كما فى الأسباب والشروط مثلًا من غير احتياج إلى تفصيل آحادها وبيان امتناع القياس فيها وما سواها يحتاج إلى النظر فى تفاصيله وذهب الشذوذ إلى أن ليس فى الشرع جمل كذلك بل كل مسألة مسألة فهى بحيث تحتاج إلى النظر فى أنها هل يجرى فيها القياس أم لا ثمة قال والظاهر أن ما ذكر فى المحصول هو مراد القوم فى هذا المقام لكن لو حمل كلام المصنِّف عليه لم يكن الدليل الأول من الدليلين المذكورين نفيًا لما ذهب إليه المخالف من أن كل مسألة تحتاج إلى النظر فى أنها هل يجرى فيها القياس أم لا ولا يجوز القطع بنفى القياس من غير نظر فيها بخصوصها وذلك لأنه إنما يدل على أن بعض المسائل مما اقتضى النظر فيها بخصوصها امتناع القياس فيها ولم يدل على ثبوت جيل كذلك لا تفتقر إلى النظر فى تفاصيلها بخلاف الدليل الثانى فإنه يدل على أن فى الشرع جملًا من الأحكام لا يجرى القياس فيها وامتناع القياس فى الشروط وإن لم يصرح به فيما سبق لكنه يعلم دليل الأسباب ومما هو فى غاية السقوط ما ذكره الآمدى أنه لو كان كل حكم يثبت بقياس على أصل فإن انتهى إلى أصل لا يتوقف على قياس فهو خلاف المفروض وإن لم ينته لزم التسلسل فإن هذا مشعر بأن مذهب المخالف توقف كل حكم على القياس والعجب أنه قد صرح بأن الاختلاف فى جواز إجراء القياس فى جميع الأحكام فإن قيل الدليل تام على تقدير الجواز أيضًا على ما قال فى المنتهى لو جرى فى كل حكم يجرى فى الأصل ويتسلسل وتحقيقه أن جوازه يستلزم جواز التسلسل وجواز المحال محال قلنا اللزوم ممنوع لجواز أن يقاس كل أصل على أصل آخر ولكون الأصول متناهية ولا يلزم الدور لعدم التوقف فإن من الأصول التى يجرى فيها القياس ما قد ثبت بأدلة أخرى.
قوله: (فالمندرج) كالإنسان جنس والآخر أى المندرج فيه كالحيوان نوع على
عكس ما فى المنطق ومن ههنا يقال للاتفاق فى الحقيقة تجانس وللاختلاف فيها تنوع فقوله فى بعض النوع معناه فى بعض ما يندرج تحت النوع من الاجناس وقوله لأمر أى يمتنع أو يجوز بسبب أمر يختص به ذلك الجنس بخلاف ما يكون بسبب الأمر المشترك بين الأجناس فإنه يعم الكل وهذا التقرير موافق فى المعنى لما قال فى المنتهى قد يجوز لبعض الأنواع ما يمتنع على بعضها بخصائصها بخلاف ما كان للمشترك بينها إلا أنه أراد فى المنتهى بالنوع المخصوص المتميز كما فى المنطق، وههنا العام المشترك يحتمل أن يريد بالنوع ههنا الأنواع أو يكون على حذف المضاف أى بعض أفراد النوع وأصنافه وهو ظاهر.
قوله: (وتكون الأصول منتهية) أى فلا يلزم التعليل التسلسل وقوله ولا يلزم الدور لعدم التوقف دفع لما يقال إذا كانت الأصول متناهية يلزم الدور وحاصل الدفع أن كل حكم وإن جاز قياسه على أصل آخر لكن لما لم يجب لم يتوقف فلا دور.