الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(البيان والمبين)
(قال: البيان والمبين: يطلق البيان على فعل المبين وعلى الدليل وعلى المدلول فلذلك قال الصيرفى: إخراج الشئ من حيز الإشكال إلى حيز التجلى والوضوح وأورد البيان ابتداء والتجوّز بالحيز وتكرير الوضوح، وقال القاضى: والأكثر الدليل وقال البصرى العلم عن الدليل والمبين نقيض الجمل، وقد يكون فى مفرد وفى مركب وفى فعل وإن لم يسبق إجمال).
أقول: البيان يطلق على فعل المبين وهو التبيين كالسلام والكلام للتسليم والتكليم، واشتقاقه من بان إذا ظهر أو انفصل وعلى ما حصل به التبيين وهو الدليل وعلى متعلق التبيين ومحله وهو المدلول، وبالنظر إلى المعانى الثلاثة اختلف تفسير العلماء له فقال الصيرفى بالنظر إلى الأول وهو الإخراج من حيز الإشكال إلى حيز التجلى والوضوح وأورد عليه ثلاثة إشكالات: أحدها: البيان ابتداء من غير تقرر إشكال بيان وليس ثمة إخراج من حيز الإشكال، ثانيها: أن لفظ الحيز فى الموضعين مجاز والتجوز فى الحد لا يجوز، ثالثها: أن الوضوح هو التجلى بعينه فيكون مكررًا، ولا يخفى أنها مناقشات واهية، وقال القاضى والأكثرون نظرًا إلى الثانى أنه هو الدليل، وقال أبو عبد اللَّه البصرى نظرًا إلى الثالث وهو العلم عن الدليل والمبين نقيض المجمل فهو المتضح الدلالة وكما انقسم المجمل إلى المفرد والمركب فكذلك مقابله المبين قد يكون فى مفرد وفى مركب وقد يكون فى فعل وقد يكون فيما يسبق له إجمال، وهو ظاهر، وقد يكون ولم يسبق إجمال، كمن يقول ابتداءً:"اللَّه بكل شئ عليم".
قوله: (وقد يكون فيما يسبق له إجمال) إشارة إلى أن قوله وإن لم يسبق إجمال ليس مختصًا بالفعل على ما وقع فى بعض الشروح.
قال: (مسألة: الجمهور: الفعل يكون بيانًا لنا أنه عليه الصلاة والسلام بيَّنَ الصلاة والحج بالفعل، وقوله: "خذوا عنى .. "، و"وصلوا كما .. " يدل عليه وأيضًا فإن المشاهدة أدل إذ "ليس الخبر كالمعاينة"، قالوا: يطول فيتأخر البيان، قلنا: وقد يطول بالقول، ولو سلم فما تأخر للشروع فيه ولو سلم فلسلوك أقوى البيانين ولو سلم فما تأخر عن وقت الحاجة).
أقول: الفعل هل يكون بيانًا؟ الجمهور على أنه يكون بيانًا خلافًا لشرذمة.
لنا: أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن الصلاة والحج بالفعل.
فإن قيل: إنما البيان بقوله: "صلوا كما رأيتمونى أصلى"، و"خذوا عنى مناسككم" لا بالفعل.
قلنا: البيان بالفعل وذلك دليل كون الفعل بيانًا لا أنه هو البيان.
ولنا أيضًا: أن مشاهدة الفعل أدل فى بيانه من الإخبار عنه، ولذلك قيل فى المثل السائر "ليس الخبر كالمعاينة"، فلا بعد فى العدول إليه رومًا لزيادة الدلالة.
قالوا: الفعل يطول فلو بين به لزم تأخير البيان مع إمكان تعجيله، وأنه غير جائز.
الجواب: أوّلًا: لا نسلم أن الفعل أطول من القول، إذ قد يطول البيان بالقول أكثر مما يطول بالفعل، فإن ما فى ركعتين من الهيئات لو بين بالقول ربما استدعى زمانًا أكثر مما يصلى فيه الركعتان بكثير.
وثانيًا: لا نسلم لزوم تأخير البيان، إذ تأخير البيان أن لا يشرع فيه عقيب الإمكان، ولا يشتغل به وهذا قد شرع فيه واشتغل به وإنما الفعل هو الذى يستدعى زمانًا ومثله لا يعدُّ تأخيرًا كمن قال لغلامه ادخل البصرة فسار فى الحال فبقى فى مسيره عشرة أيام حتى دخلها فإنه لا يعدُّ بذلك مؤخرًا بل مبادرًا ممتثلًا بالفور.
وثالثًا: بأنك ما تعنى بقولك لا يجوز التأخير مع إمكان التعجيل، إذا لم يكن فيه غرض أو إذا كان ممنوعًا، بيانه أنه وإن كان تأخر البيان فقد فعله لسلوك أقوى البيانين وهو الفعل لكونه أدل كما مر.
ورابعًا: أن تأخير البيان لا يمتنع مطلقًا إنما يمتنع عن وقت الحاجة وهذا لم يتأخر عنه فيجوز.
قوله: (ليس الخبر كالمعاينة) مروي فى الحديث ولا ينافى كونه مثلًا سائرًا.
قوله: (لا نسلم أن الفعل أطول) إشارة إلى أن قولهم الفعل يطول معناه أنه أطول من القول ليصح أنه مستلزم للتأخر دون القول.
الشارح: (كمن قال لغلامه ادخل البصرة. . . إلخ) اعترض هذا التمثيل بأنه يعد مؤخرًا حيث توانى فى سفره فالأولى أن يمثل بقوله لغلامه سر حتى تدخل البصرة فشرع فى السير وبقى فى سيره مدة طويلة حتى دخل فإنه يعد ممتثلًا.
الشارح: (ما تعنى بقولك. . . إلخ) مبتدأ خبره قوله ممنوع أى بل إذا كان لفرض جاز.
قال: (مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفعل فإن اتفقا وعرف المتقدم فهو البيان والثانى تأكيد وإن جهل فأحدهما وقيل يتعين غير الأرجح للتقديم لأن المرجوح لا يكون تأكيدًا، وأجيب بأن المستقل لا يلزم فيه ذلك وإن لم يتفقا كما لو طاف بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد فالمختار القول وفعله ندب أو واجب متقدمًا أو متأخرًا لأن الجمع أولى، أبو الحسين: المتقدم بيان ويلزمه نسخ الفعل متقدمًا مع إمكان الجمع).
أقول: إذا ورد مجمل وورد عقيبه قول وفعل كل واحد منهما صالح أن يكون بيانًا له فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا كما لو طاف بعد نزول آية الحج طوافًا واحدًا، وأمر بطواف واحد فإما أن يعرف المتقدم منهما أو لا فإن عرف المتقدم فهو البيان لحصوله به والثانى تأكيد وإن جهل، فالبيان أحدهما من غير تعيين، وقيل إن كان أحدهما أرجح تعين هو للتأخر والآخر للتقدم لأن المتأخر تأكيد والمرجوح لا يكون تأكيدًا.
الجواب: أن ذلك إنما يلزم فى المفردات نحو جاءنى القوم كلهم، وأما المؤكد المستقل فلا يلزم فيه ذلك كالجمل التى يذكر بعضها بعد بعض للتأكيد فإن الثانية وإن كانت أضعف من الأولى لو استقلت فإنها بانضمامها إليها تفيدها تأكيدًا، وتقرر مضمونها فى النفس زيادة تقرير هذا إذا اتفقا وأما إن اختلفا كما لو طاف طوافين وأمر بطواف واحد فالمختار أن القول هو البيان والفعل ندب له أو واجب عليه مما اختص به ولا فرق فيه بين أن يكون القول متقدمًا أو متأخرًا، وذلك لأن فيه جمعًا بين الدليلين وهو أولى من إبطال أحدهما كما سنذكره، وقال أبو الحسين المتقدم منهما هو البيان أيًا كان وهو باطل إذ يلزمه نسخ الفعل إذا كان هو المتقدم مع إمكان الجمع وإنه باطل، بيانه إذا تقدَّم الفعل وهو طوافان وجب علينا طوافان فإذا أمر بطواف واحد فقد نسخ أحد الطوافين عنا.
قوله: (والمرجوح لا يكون تأكيدًا) مقتضى ظاهر الكلام أنهما إذا تساويا كان البيان أحدهما من غير تعيين.
قال: (مسألة: المختار أن البيان أقوى والكرخى يلزم المساواة، أبو الحسين بجواز الأدنى، لنا لو كان مرجوحًا ألغى الأقوى فى العام إذا خصص، وفى المطلق إذا قُيِّدَ، وفى التساوى التحكم).
أقول: قد اختلف فى وجوب زيادة قوة البيان على قوة المبين والأكثر على وجوب كونه أقوى، وقال الكرخى يلزم المساواة أقل ما يكون وقال أبو الحسين بجواز الأدنى، لنا إما أنه لا يجوز بالرجوح فلأنه يلزم إلغاء الراجح بالمرجوح، وإنه باطل، بيانه العام إذا بين والمطلق إذا قيِّد بما ليس دلالته على المخرج منهما كدلالة العام والمطلق فى القوة فقد ألغى دلالة العام عليها، وهو أقوى بدلالة المخرج عنه، وهو أضعف وذلك ما ادعيناه، وإما أنه لا يجوز بالمساوى فلأنه يلزم التحكم إذ ليس أحدهما مع تساويهما أولى بالإبطال من الآخر هذا كله فى الظاهر، وأما المجمل فيكفى فى بيانه أدنى دلالة، ولو مرجوحًا إذ لا تعارض.
قوله: (أقل ما يكون) إشارة إلى أنه لا يريد بلزوم المساواة امتناع كون البيان أقوى على ما فهمه الشارحون بل امتناع كونه أدنى.
قوله: (على المخرج) على لفظ اسم المفعول بمعنى البعض الذى أخرج من العام ومن المطلق كالكافر من قولنا الرقبات المؤمنات أو رقبة مؤمنة وفى دلالة المطلق عليه نوع تمحل وقوله قيد النفى دلالة العام يعنى العام والمطلق عليه أى على المخرج وهو أى العام وقوله بدلالة المخرج متعلق بالنفى وهو على لفظ اسم الفاعل، يعنى اللفظ الذى يفيد التخصيص أو التقييد وضمير عنه للعام وهو للمخرج.
قوله: (هذا كله) يعنى ما ذكرناه من أن البيان يجب أن يكون أقوى إنما هو فى غير بيان المجمل ولذا خصص الدليل بتخصيص العام وتقييد المطلق وأما بيان المجمل فيجوز أن يكون بالمرجوح لأنه لا تعارض بين المجمل والبيان ليلزم إلغاء الأقوى بالأضعف، وهذا معنى ما قال فى المنتهى، وأما المجمل فواضح فإن قيل: بل معناه ما ذكر فى العلامة وهو أن كون بيان المجمل أقوى دلالة منه واضح لأن المجمل لما كان غير متضح الدلالة كان بيانه وهو ما يعين أحدهما لأنه أقوى منه بالضرورة ولا يتصور كونه مرجوحًا على ما ذهب إليه المحقق قلنا عدم اتضاح
دلالة المجمل على المعنى المعين المراد منه لا ينافى قوة دلالته على معناه الإجمالى أعنى أحد الاحتمالين كما فى قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه قوى الدلالة على ثلاثة أقراد من الطهر أو الحيض، فيجوز تعيين أحدهما بلفظ تكون دلالته أضعف من ذلك بأن لا يكون قطعيًا فى مدلوله وهذا ما قال الآمدى أن المبين إن كان مجملًا كفى فى تعيين أحد احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عامًا أو مطلقًا لا بد أن يكون المخصص أو المقيد أقوى.
الشارح: (أقل ما يكون حال من المساواة) أى حال كونها أقل أكوان البيان.
قال: (مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق وإلى وقت الحاجة يجوز والصيرفى والحنابلة ممتنع والكرخى ممتنع فى غير المجمل وأبو الحسين مثله فى الإجمالى لا التفصيلى، مثل هذا العموم مخصوص والمطلق مقيد، والحكم سينسخ والجبائى ممتنع فى غير النسخ لنا: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .} [الأنفال: 41]، إلى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن السلب للقاتل، إما عمومًا، وإما برأى الإمام، وأن ذوى القربى بنو هاشم دون بنى أمية، وبنى نوفل ولم ينقل اقتران إجمالى مع أن الأصل عدمه، وأيضًا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، ثم بين جبريل والرسول عليهما السلام وكذلك الزكاة، وكذلك السرقة، ثم بين على تدريج وأيضًا فإن جبريل عليه السلام قال: {اقْرأْ} قال عليه الصلاة والسلام: "وما أقرأ" وكرر ثلاثًا، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] واعترض بأنه متروك الظاهر، لأن الفور يمتنع تأخيره والتراخى يفيد جوازه فى الزمن الثانى، فيمتنع تأخيره، وأجيب بأن الأمر قبل البيان فلا يجب به شئ وذلك كثير).
أقول: قد اختلف فى جواز تأخير البيان فأما عن وقت الحاجة فلا يجوز اتفاقًا، إلا على قول من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق، وأما عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فالمختار أنه يجوز، وقال الصيرفى والحنابلة: ممتنع، وقال الكرخى: ممتنع فى غير المجمل، وهو الظاهر إذا أريد به غير ظاهره، وقال أبو الحسين بمثل ما قال به الكرخى، لكنه فى البيان الإجمالى، وأما التفصيلى فيجوز تأخيره فيجب أن يقول هذا العموم مخصوص، وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ ولا يجب تفصيل ما خص عنه وذكر الصفة التى قَيَّد بها وتعيين وقت النسخ والجبائى يوافق أَبا الحسين فى غير النسخ فلا يوجب بياد ذلك إجمالًا لنا قوله فى المغنم:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، إلى قوله:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، ثم بين أن السلب للقاتل، إما عمومًا على رأى، وإما إذا رآه الإمامُ على رأى، وبين أن ذوى القربى: بنو هاشم دون بنى أمية وبنى نوفل، فهذا عام تأخر عنه بيانه إذ ورد من غير بيان تفصيلى، وهو ظاهر ولا إجمالى إذ لو اقترن به لنقل ولأن الأصل عدمه، ولنا أيضًا أنه قال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، ثم بين جبريل ثم بين الرسول بتدريج وكذلك قال:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فأوجب الزكاة، ثم بين
تفاصيل الجنس والنصاب بتدريج وكذلك قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فأوجب حد السرقة ثم بين اشتراط الحرز والنصاب بتدريج، ولنا أيضًا أنه روى أن جبريل عليه السلام قال له صلى الله عليه وسلم: اقرأ، فقال:"ما أقرأ" ثم قال: اقرأ، فقال: ما أقرأ ثم قال: اقرأ، فقال:"ما أقرأ؟ " كررها ثلاث مرات ثم قال بعد الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، فبين المراد واعترض عليه بأن هذا استدلال بظاهر الخبر وإنما يصح فيما لم يعلم أنه متروك الظاهر، وهذا معلوم أنه متروك الظاهر لأن الأمر إن كان على الفور فلا يجوز تأخيره لأنه تأخير عن وقت الحاجة، وإن كان على التراخى فإن الوجوب يتراخى دون الجواز بل جواز الفعل يثبت بالفور، فإن أحدًا لم يقل بوجوب التأخير والجواز أيضًا حكم يحتاج إلى البيان كما يحتاج الوجوب إليه لا فرق بينهما فى ذلك فيمتنع تأخيره أيضًا لأنه تأخير عن وقت الحاجة.
الجواب: منع كونه قبل البيان على الفور أو على التراخى فإنه قبل البيان لا يجب به شئ أصلًا لا بالفور ولا بالتراخى إنما يجئ ذلك الترديد بعد الفهم ثم قال المصنِّفُ وذلك كثير أى الصور التى أخر فيها البيان كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا. . .} [النور: 2]، ثم بين أن المحصن يرجم وكما نهى عن بيع المزابنة ثم شكا الأنصار بعد ذلك فرخص فى العرايا ومن استقرأ علم ذلك قطعًا.
قوله: (وعن وقت الحاجة) أى وقت تنجيز التكليف.
قوله: (وهو الظاهر) أى من غير المجمل فما يحتاج إلى البيان هو الذى يكون ظاهرًا فى معنى وقد أريد به غير الظاهر كالعام أريد به الخاص والمطلق أريد به المقيد وكالمنسوخ، فذهب الكرخى أن ما افتقر إلى البيان إن كان مجملًا جاز تأخير بيانه عن وقت الحاجة وإن كان غير المجمل امتنع ومذهب أبى الحسين إن كان مجملًا جاز تأخير بيانه مطلقًا وإن كان غير المجمل جاز تأخير بيانه التفصيلى، وامتنع تأخير بيانه الإجمالى، مثل أن يقول هذا العموم مخصوص وقد أشار المحقق إلى أن هذا مثال للبيان الإجمالى دون التفصيلى على ما فهمه الشارح العلامة من ظاهر عبارة المتن فاعترض وإلى أن ما وقع فى نسخ المتن وفى الإجمالى بالواو وليس بمستقيم والصواب فى الإجمالى بدون الواو أى أبو الحسين يوافق
الكرخى فى امتناع تأخير بيان غير المجمل فى البيان الإجمالى ولا يوافقه فى البيان التفصيلى وغاية توجيه المتن أن أبا الحسين يوافق الكرخى فى بيان المجمل مطلقًا وفى البيان الإجمالى لغير المجمل ويخالفه فى التفصيلى ومذهب الجبائى وابنه والقاضى عبد الجبار أنه يجوز تأخير النسخ دون غيره صرح بذلك الآمدى وغيره ومقتضى كلام الشارح المحقق أن عبد الجبار يجوّز تأخير النسخ وبيان المجمل مطلقًا وفى غيرهما يجوز تأخير البيان التفصيلى دون الإجمالى.
قوله: (واعترض عليه) جمهور الشارحين أن هذا الاعتراض على الوجوه الثلاثة، وأن قوله وذلك كثير من تتمة الجواب على معنى أن عدم وجوب شئ بالأمر قبل البيان كثير كقول السيد لعبده افعل والشارح المحقق جرى على ما هو مقتضى الفكر الصائب من تخصيص الاعتراض بالتأمل وجعل ذلك إشارة إلى تأخير البيان عن وقت الخطاب وهو الموافق لكلام الآمدى.
الشارح: (ومن استقرى) قال الأبهرى: تكتب بالياء وتقرأ بالألف من القرو أو القرى، فيقال: قروت البلاد قروا إذا تتبعتها، وأما استقرأ بالهمز فمعناه: طلب القراءة. اهـ. والذى فى القاموس: القرو: القصد والتتبع، كالاقتراء والاستقراء.
قوله: (أى وقت تنجيز التكليف) أى مطلقًا موسعًا أو مضيقًا خلافًا لما فى التحرير لأنه لو تأخر عن وقت تعلق التكليف كان طلبًا للمجهول ولو موسعًا وطلب إتيان المجهول محال.
قوله: (على الوجوه الثلاثة) فيه أن الأول لا أمر فيه إلا أن يقال: إنه أمر معنى أى فأدوا الخمس مما غنمتم.
قال: (واستدل بقوله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وكانت معينة بدليل تعينها بسؤالهم مؤخرًا وبدليل أنه لا يؤمر بمتجدد وبدليل المطابقة لما ذبح، وأجيب بمنع التعيين فلم يتأخر بيان بدليل بقرة وهو ظاهر وبدليل قول ابن عباس رضى اللَّه عنهما: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم" وبدليل: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، واستدل بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]، فقال ابن الزبعرى فقد عبدت الملائكة والمسيح، فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، وأجيب بأن "ما" لما لا يعقل ونزول {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101]، زيادة بيان لجهل المعترض مع كونه خبرًا واستدل بأنه لو كان ممتنعًا لكان لذاته أو لغيره بضرورة أو نظر وهما منتفيان وعورض لو كان جائزًا إلخ).
أقول: هذه دلائل للمذهب المختار ضعيفة وهى ثلاثة قد استدل بقوله تعالى: {أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وجه الاستدلال أن البقرة المأمور بذبحها كانت بقرة معينة لا أى بقرة كانت كما هو الظاهر فقد أريد به خلاف الظاهر ثم تأخر البيان فانتهض دليلًا وإنما قلنا: إنها كانت معينة بدليل أنهم لما قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] أوّلًا، و {مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69]، ثانيًا عينها بسؤالهم فقال:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68]، {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69]، والضمير فى السؤال ضمير المأمور بها فكذا فى الجواب وبدليل أنهم لم يؤمروا بمتجدد ولو كانت بقرة ما لكان الأمر بالمعين أمر بالمتجدد لا بالأوّل وينفيه سياق الآية والاتفاق، وبدليل أنه لما ذبح ذلك المعين طابق الأمر لذبح المعين ويعلم قطعًا أنه لو ذبح غيره لما كان مطابقًا للأمر فعلم أن المأمور بها معينة.
الجواب: منع كونها بقرة معينة بل هى بقرة ما فلا تحتاج إلى بيان فيتأخر بدليل: {يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وهو ظاهر فى بقرة غير معينة فتحمل عليها وبدليل قول ابن عباس رضى اللَّه عنهما وهو رئيس المفسرين:"لو ذبحوا أى بقرة لأجزأتهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللَّه عليهم"، وبدليل قوله:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، دل على أنهم كانوا قادرين على الفعل وأن السؤال عن التعيين كان تعنتًا وتعللًا، واستدل أيضًا بقوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبباء: 98]، لما نزلت قال ابن الزبعرى أليس قد عبدت الملائكة والمسيح؟ فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]،
فتأخر البيان.
الجواب: أن "ما" لما لا يعقل، نقل أن الرسول عليه السلام قال له:"ما أجهلك بلغة قومك، ألم تعلم أن "ما" لما لا يعقل"، وأما نزول قوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، فلم يكن بيانًا لظهور خروج الملائكة والمسيح بل لزيادة توضيح وبيان احتيج إليه لجهل المعترض هذا مع أنه خبر وإنما النزاع به فى التكاليف التى يحتاج إلى معرفتها للعمل بها، ولذلك عقدنا المسألة فى التأخير إلى وقت الحاجة، واستدل أيضًا بأنه لو كان تأخير البيان ممتنعًا لكان ممتنعًا لذاته، أو لغيره، ولو كان أحدهما لعرف بالضرورة أو بالنظر وكلاهما منتفيان أما الضرورة فبالضرورة ولأنها لا تسمع دعواها فى محل الخلاف، وأما النظر فلأنه لو امتنع لامتنع لجهل مراد المتكلم من كلامه، لعلمنا أنه لا يحصل بالبيان إلا ارتفاع ذلك وأنه لا يصلح مانعًا كما فى النسخ.
الجواب: المعارضة بالمثل إذ يقال: لو كان جائزًا لعرف ضرورةً أو نظرًا، وكلاهما منتف فالضرورة للخلاف، والنظر لأنه لو جاز فلعدم المانع ولا جزم به غايته عدم الوجدان.
قوله: (طابق الآمر لذبح المعين) يعنى أنا قاطعون بأن حصول الامتثال إنما كان بذبحهم تلك البقرة المعينة لا من حيث أنها بقرة ما، وبهذا التقرير يندفع ما يقال أن المطلق ليس هو المأخوذ بشرط عدم التعيين حتى لا يطابق المعين بل لا بشرط التعيين.
قوله: (الجواب منع كونها بقرة معينة) فإن قيل لا توجيه لمنع الدعوى من غير قدح فى الدليل ولا للاستدلال على نفى ما منع قلنا المراد المنع بالمعنى اللغوى والاستدلالات معارضات وهو ظاهر فى بقرة غير معينة هذا هو الموافق لما قال فى المنتهى وهو ظاهر فى أى بقرة كانت لا مقيل من أن كون بقرة نكرة غير معينة ظاهر.
قوله: (وهو رئيس المفسرين) إشارة إلى أن الاستدلال بقول ابن عباس ليس من حيث أنه خبر واحد فى مقابلة الكتاب حتى يدفع بل من حيث أنه تفسير للكتاب فلا يدفع.
قوله: (دل على أنهم كانوا قادرين) علم أن الاشتغال بالسؤال كان تفننًا وتعللًا ومنع ذلك تعنت.
قوله: (احتيج إليه لجهل المعترض) نفى لما توهمه الشارحون من أنه زيادة بيان لجهل المعترض هذا مع أنه خبر وإنما النزاع فى التكاليف ليسقط به ما ذهب إليه الشارحون من أن المراد أنه خبر واحد والمسألة علمية لا يجوز إثباتها به واتفاق المفسرين على كونه سبب نزول الآية لا يخرجه عن كونه من باب الآحاد لما مر فى الإجماع من أن تلقى الأمة: "لا تجتمع أمتى على ضلالة"، لا يخرجه عن الآحاد.
قوله: (كما فى النسخ) فإن المخاطب جاهل بانتهاء الحكم وعدم تكريره مع أنه تبين آخرًا.
قوله: (ولا جزم به) أى بعدم المانع عن تأخير البيان لأن غايته عدم الوجدان وهو لا يدل على عدم الوجود وإن استدل بأن الأصل عدم المانع كان ظنًا لا جزمًا نعم يتجه أن يمنع استنادًا لجواز عدم المانع بل إلى وجود الدليل كما مر ومع ذلك فتقرير هذا الاستدلال والمعارضة مما لم يحم حوله الشارحون.
الشارح: (لا تصلح مانعًا كما فى النسخ) فيه أن المكلف به هنا غير ظاهر بخلاف النسخ فإن الظاهر فيه انتهاء زمن التكليف لا المكلف به.
قوله: (نفى لما توهمه الشارحون) أى تقدير احتيج إليه نفى. . . إلخ. قوله: فى بيان المجمل مطلقًا؛ أى سواء كان البيان الإجمالى أو التفصيلى فيقول بجواز تأخيره، وقوله: وفى البيان الإجمالى لغير المجمل؛ أى فيقول يمنع تأخيره، وقوله: ويخالفه فى التفصيلى؛ أى فيقول بجواز تأخيره خلافًا له فى منعه.
(قال: المانع بيان الظاهر لو جاز لكان إلى مدة معينة وهو تحكم، ولم يقل به أو إلى الأبد، فيلزم المحذور وأجيب إلى معينة عند اللَّه وهو وقت التكليف، قالوا: لو جاز لكان مفهمًا لأنه مخاطب فيستلزمه وظاهره جهالة والباطن متعذر، وأجيب بجريه فى النسخ لظهوره فى الدوام وبأنه يفهم الظاهر مع تجويزه التخصيص عند الحاجة فلا جهالة ولا إحالة).
أقول: هذه شبهة المخالفين فالمانعون من جواز تأخير البيان فى الظاهر قالوا: أولًا: لو جاز ذلك فإما إلى مدة معينة أو إلى الأبد، وكلاهما باطل، أما إلى مدة معينة فلأنه تحكم ولأنه لم يقل به قائل، وأما إلى الأبد فلأنه يلزم المحذور وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم.
الجواب: نختار جوازه إلى مدة معينة عند اللَّه، وهو الوقت الذى يعلم أنه مكلف به فيه ولا تحكم، ونحن نقول به.
قالوا: ثانيًا: لو جاز تأخير البيان لكان المتكلم بالعام غير مبين قاصدًا به التفهيم، واللازم باطل، أما اللازمة فلأنه مخاطب والخطاب يستلزم التفهيم لأن حقيقته توجيه الكلام إلى المخاطب لأجل التفهيم ولذلك لا يصح خطاب الجماد وخطاب الزنجى بالعربى، وأما بطلان اللازم فلأنه لو قصد التفهيم فإما لظاهره وهو غير مراد فيكون فهمه جهالة لا تصح مقصودًا للشارع، وإما لباطنه وأنه متعذر ويلزم القصد إلى ما يمتنع حصوله وأنه سفه.
الجواب: أوّلًا: النقض بالنسخ لأنه ظاهر فى الدوام مع أنه غير مراد فيجئ فيه ما ذكرتم بعينه، وثانيًا: لحل وهو أنه يقصد تفهيم الظاهر مع تجويز التخصيص عند الحاجة، فلا يلزم جهالة إذ لم يعتقد عدم التخصيص لتجويزه ولا إحالة إذ لم يرد منه فهم التخصيص تفصيلًا.
قوله: (ويلزم المحذور) قالوا فى المنتهى هو المخالفة للمراد وما ذكره الشارح ناظرًا إلى ما ذكره الآمدى وهو أنه يلزم بقاء المكلف أبدًا عاملًا بعموم أريد به الخصوص ونحوه وهو فى غاية التجهيل.
قوله: (فلأنه) أى المتكلم بالعام مخاطب على لفظ اسم الفاعل وحقيقة الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب أى إلى ذات من قصد خطابه لا من حيث هذا المفهوم
ليلزم الدور.
قوله: (وإنه) أى التفهيم لناطق الخطاب متعذر لأنه لم يبين بعد.
قوله: (النقض بالنسخ) مشعر بأن الشبهة إنما هى من قبل من يجوّز تأخير بيان النسخ عن وقت الخطاب إجمالًا وتفصيلًا.
قوله: (هو المخالفة للمراد) وهو انتهاء المدة بتغير الحكم الأول.
قال: (عبد الجبار: تأخير بيان المجمل يخل بفعل العبادة فى وقتها للجهل بصفتها بخلاف النسخ، وأجيب بأن وقتها وقت بيانها قالوا: لو جاز تأخير بيان الجمل لجاز الخطاب بالمهمل ثم بين مراده، وأجيب بأنه يفيد أنه مخاطب بأحد مدلولاته فيطيع ويعصى بالعزم بخلاف الآخر، وقال الجبائى: تأخير بيان التخصيص يوجب الشك فى كل شخص بخلاف النسخ، وأجيب بأن ذلك على البدل، وفى النسخ يوجب الشك فى الجميع فكان أجدر).
أقول: كان عبد الجبار ومتابعوه ممن يقول بامتناع تأخير بيان المجمل، والظاهر سوى النسخ وإن لم يذكره فى أول المسألة ولهم مقامان الأول منع تأخير بيان المجمل، ولهم فيه وجهان.
قالوا: أولًا: تأخير بيان المجمل يوجب الجهل بصفة العبادة والجهل بصفة الشئ يخل بفعله فى وقتها فامتنع بخلاف النسخ فإنه لا يخل بذلك فجاز.
الجواب: أن وقت العبادة وقت بيان صفتها لا قبله فلا يخل بفعلها فى وقتها.
قالوا: ثانيًا: لو جاز تأخير بيان المجمل لجاز الخطاب بالمهمل واللازم باطل بالاتفاق، بيان الملازمة أنه لو امتنع لامتنع لأنه غير مفهم والمفروض أن عدم الإفهام لا يصلح مانعًا وإلا لم يجز الخطاب بالمجمل لا يقال المجمل له معنى فيبينه آخرًا والمهمل لا معنى له فافترقا لأنا نقول الكلام فيما وضعه من المهملات مع نفسه من غير اصطلاح مع المخاطب مخاطبه به مريدًا به ما وضعه له ثم بين مراده آخرًا.
الجواب: منع الملازمة والفرق بأن فى المجمل يعلم أن المراد أحد مدلولاته فيطيع ويعصى بالعزم على فعله وتركه إذا بين بخلاف المهمل فإنه لا يفهم منه شئ، الثانى منع تأخير بيان الظاهر سوى النسخ وفرض الكلام فى التخصيص فقال: تأخير بيان التخصيص يوجب الشك فى كل واحد واحد من أفراد العام، هل هو مراد للمتكلم أو لا فلا يعلم منه تكليف أحد بعينه فينتفى التكليف الذى هو غرض الخطاب بخلاف النسخ فإن الكل داخلون إلى أن ينسخ.
الجواب: أن ذلك التخصيص يوجب الشك فى كل واحد على البدل وفى النسخ يوجب الشك فى الجميع إذ يجوز فى كل زمان النسخ عن الجميع وعدم بقاء التكليف فكان النسخ أجدر بأن يمنع من التخصيص فيكون تجويزه فى التخصيص دون النسخ قولًا باطلًا.
قوله: (كان عبد الجبار) لم يلاحظ الشارح المحقق فى هذا المقام كلام الآمدى ففسر مذهب الجبائى على خلاف ما هو المشهور عنه وظن أن للقاضى عبد الجبار مذهبًا آخر والحق أن مذهبه مذهب الجبائى إلا أن ما ذكر فى هذا المقام كلامه خاصة يتضح جميع ذلك بإيراد ملخص كلام الآمدى فى هذا المقام قال ذهب الجبائى وابنه القاضى عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره ويرد عليهم أنه لو امتنع تأخير البيان فإما لذاته وهو باطل وإما لغيره وليس سوى جهل المكلف بالمراد إذ لا يحصل من البيان إلا العلم به فيلزم أن يمتنع تأخير بيان النسخ لما فيه من الجهل بمراد الكلام الدال على التكرار ثم قال واعترض القاضى عبد الجبار قائلًا الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل هو أن الأول مما لا يخل بالتمكن من الفعل فى وقته بخلاف تأخير بيان صفة العبادة، فإنه لا يتأتى منه فعل العبادة فى وقتها للجهل بصفتها والفرق بين تأخير بيان تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين الأول: إن الطلب المطلق الذى أريد نسخه معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف ولا كذلك المخصوص الثانى أن تأخير بيان تخصيص العموم مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين يوجب الشك فى كل من المكلفين هل هو لمراد أم لا بخلاف تأخير بيان النسخ ثم أجاب الآمدى عن الأول والثالث بما فى المتن وعن الثانى بأن العلم بالارتفاع والانقطاع مما يعم التخصيص والنسخ، ثم قال ومن السنة الخاصة بالمجمل أنه لا فرق بين الخطاب بالمجمل والخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان وهذا ما بينه المحقق بطريق السؤال والجواب ونبه عليه المصنِّفُ بقوله ثم يبين مراده ثم أجاب عنه بما فى الكتاب، ومعنى يطيع ويعصى بالعزم أى على الفعل والترك وقد سقط لفظة وتركه من بعض نسخ الشرح فيحتمل أن يكون المراد بفعله أعم من الإتيان بالمأمور به والكف عنه أو المراد أنه بالعزم على فعله يطيع فى الواجب ويعصى فى المحرم وقد ظهر بما ذكرنا وجه ما وقع فى المتن أوّلًا لفظ قالوا، وثانيًا لفظ قال، وأن ما ذكره المحقق من قالوا أوّلًا، وقالوا ثانيًا، ليس على ما ينبغى وأن ما ذكره العلامة من أن المصنِّف لو لم يوسط شبهة ما نفى تأخير بيان المجمل بين قولى عبد الجبار لكان أحسن حسن.
قوله: (فكان النسخ أجدر) أى أحق من التخصيص بأن يمنع تأخيره فيكون منع التأخير فى التخصيص وتجويزه فى النسخ قولًا باطلًا وما وقع فى الشارح من قوله فيكون تجويزه فى التخصيص دون النسخ قولًا باطلًا قول باطل وجعل ضمير تجويزه للمنع تمادٍ فى الباطل.
قوله: (ففسر مذهب الجبائى على خلاف ما هو المشهور عنه) تقدم عن الشارح ما يفيد أن مذهب الجبائى جواز تأخير النسخ وبيان المجمل مطلقًا وغيرهما يجوز تأخير البيان التفصيلى دون الإجمالى وهو خلاف ما صرح به الآمدى من أن الجبائى كالقاضى عبد الجبار وأنه يجوز تأخير النسخ دون غيره مطلقًا.
قوله: (معلوم أن حكمه مرتفع. . . إلخ) لا معنى لذلك قبل النسخ إذ لا علم وبعده العلم حاصل وكذا التخصيص ويظهر أن مراده الارتفاع والعلم بالانقطاع بعد ورود الناسخ وأما التخصيص بعد التعميم فإنما علم به الدفع لا الرفع، ويدفع بما أجاب به الآمدى بعد بأنه لا فرق بينهما فى المعنى وقوله ثم قال: ومن الشبه الخاصة بالمجمل القائل هو الآمدى والشبهة من الجبائى وابنه وعبد الجبار وقوله: وقد ظهر بما ذكرنا وجه ما وقع فى المتن أولًا لفظ قالوا أى لأنه من الشبه الواردة من الجميع وقوله وثانيًا لفظ قال أى لأن ذلك اعتراض القاضى عبد الجبار وقوله: وإن ما ذكره المحقق. . . إلخ. أجيب عنه بأنه نسبه إلى الجميع لأن قول رئيس قوم يصح أن ينسب له ولهم ولذا قال: كان عبد الجبار ومتابعوه وقوله لو لم يوسط شبهة مانعى تأخير بيان الحل أى التى ذكرها المصنف بقوله قالوا لو جاز. . . إلخ.
وقوله حسن رد بأن الشبه الثلاث يصح نسبتها لعبد الجبار فلا توسط بشئ ليس له وفيه أنه حينئذ كان حق المصنف أن يقول عبد الجبار ومتابعوه ولا يفرده بالقول فى الأول والأخير.
قال: (مسألة: المختار على المنع جوازًا تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة للقطع بأنه لا يلزم منه محال ولعل فيه مصلحة. قالوا: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]، وأجيب بعد كونه للوجوب والفور أنه للقرآن).
أقول: إذا قلنا بجواز تأخير البيان بعد تبليغ الحكم إلى المكلف مجملًا فتأخير تبليغ الرسول عليه الصلاة والسلام الحكم إلى وقت الحاجة أجدر بالجواز إذ لا يلزم منه شئ مما كان يلزم فى تأخير البيان من المفاسد، وأما على تقدير منعنا لتأخير البيان فقد اختلف فيه، والمختار جوازه، لنا القطع بأنه لا يلزم منه محال لذاته ولو صرح به لم يمتنع ولعله أوجب عليه المصلحة فى التأخير.
قالوا: قال اللَّه تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ، والأمر للوجوب، وهو للفور وإلا لم يفد فائدة جديدة لأن وجوب التبليغ فى الجملة ضرورى يقضى به العقل.
الجواب: بعد تسليم أن الأمر للوجوب، بانتفاء التجوّز وأنه على الفور، لأنه خلاف المختار وما ذكرتموه ضعيف لجواز تقوية ما علم بالعقل بالنقل أن هذا الأمر ظاهر فى تبليغ لفظ القرآن لا فى كل الأحكام.
قوله: (وهو للفور) أى هذا الأمر الذى هو بلغ للفور لتظهر له فائدة وإن لم يكن مطلق الأمر للفور وأشار فى الجواب بقوله بانتفاء التجوز إلا أنا لا نمنع كون الأمر للوجوب على ما فى شرح العلامة بل نمنع كون هذا الأمر على حقيقته التى هى الوجوب ونمنع كونه للفور بما ذكرتم من الدليل لجواز أن لا يكون للفور ويفيد تأيد الفعل بالنقل وبهذا يظهر أن قوله لأنه خلاف المختار ليس على ما ينبغى لأن ذلك فى مطلق الأمر.
قال: (مسألة: المختار على المنع جواز تأخير إسماع المخصص الموجود لنا أنه أقرب من تأخيره مع العدم وأيضًا فإن فاطمة رضى اللَّه عنها سمعت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، [النساء: 11]، ولم تسمع: "نحن معاشر الأنبياء. . "، وسمعوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولم يسمع الأكثر: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" إلا بعد حين).
أقول: إذا جوّزنا تأخير البيان وعدمه إلى وقت الحاجة فجواز إسماع العام للداخل تحت العموم مع عدم إسماع المخصص له، إلى وقت الحاجة أجدر بالجواز لأن عدم الإسماع أسهل من العدم وأما بناء على المنع من تأخير البيان فقد اختلف فيه والمختار جوازه.
لنا: أن تأخير إسماعه مع وجوده أقرب من تأخيره مع عدمه وقد بينا جواز ذلك وأنت تعلم أن ذلك لا يستقيم على المنع فليحمل كلامه على النزاع إنما هو المانع وقد أثبتنا معه الأبعد فالأقرب أجدر.
ولنا أيضًا: أن ذلك لو لم يجز لم يقع وقد وقع، فمنه: أن فاطمة رضى اللَّه عنها سمعت قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وهو عام ولم تسمع مخصصه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"(*) إلا بعد حين.
ومنه: أن الصحابة سمعوا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وهو عام ولم يسمعوا مخصصه وهو قوله صلى الله عليه وسلم فى المجوس:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"(**) إلا بعد حين.
قوله: (وعدمه) أى عدم البيان وقوله للداخل مفعول ثان للإسماع والمراد به المكلف الذى شمله العام وضمير له للداخل وضمير فيه لجواز الإسماع وضمير إسماعه ووجوده للمخصص وضمير تأخيره لإسماعه.
(*) أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (5/ 472)(ح 9774)، وانظر: فتح البارى (12/ 8).
(**) أخرجه البيهقى فى الكبرى (9/ 189) والشافعى فى مسنده (1/ 209)، والإمام مالك فى الموطأ (1/ 278)(ح 616)، وابن أبى شيبة فى مصنفه (2/ 435)(ح 10765)، وعبد الرزاق فى مصنفه (6/ 69)(ح 25/ 100)، والشاشى فى مسنده (1/ 288)(ح 257)، والبزار فى مسنده (3/ 265)(ح 1056).
قوله: (وأنت تعلم) يعنى إذا بنى الكلام على منع تأخير البيان وجعل النزاع فيما بين المانعين منه لم يستقم هذا الاستدلال أصلًا لأنهم لا يقولون بجواز تأخير البيان مع عدمه فيجب أن يحمل كلام المصنِّف على أنه نزاع مع من يمنع تأخير البيان بمعنى نحن نقول بجواز إسماع العام دون المخصص ونثبت ذلك بأنا أثبتنا على المانعين جواز تأخير إسماع المخصص مع عدمه فمع وجوده أولى لأنه مما يمكن أن يسمع فى الجملة.
قال: (مسألة: المختار على التجويز جواز بعض دون بعض، لنا أن المشركين بين فيه الذمى ثم العبد ثم المرأة بتدريج وآية الميراث بين عليه الصلاة والسلام الكافر والقاتل بتدريج. قالوا: يوهم الوجوب فى الباقى وهو تخييل قلنا إذا جاز إيهام الجميع فبعضه أولى).
أقول: إذا منعنا تأخير المخصصى مثلًا فلا يجوز ذكر بعض المخصصات دون بعض ضرورة، وأما إذا جوّزناه فهل يجوز ذلك أو يجب إذا ذكر بعض أن يذكر الجميع فيه خلاف والمختار الجواز لنا أن قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، بين فيه إخراج أهل الذمة ثم العبد ثم المرأة بالتدريج وكذا فى آية السرقة والميراث وغيرهما، قالوا: تخصيص البعض يوهم وجوب الاستعمال فى الباقى وأنه تخييل فيمتنع من الشارع.
الجواب: لا نسلم امتناعه منه وأن العموم مع تأخير البيان يوهم وجوب الاستعمال فى جميع ما أخرج وهذا يوهم وجوب استعماله فى بعضه وإذا جاز إيهام الجميع فإيهام البعض أولى بالجواز.
قال: (مسألة: يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص إجماعًا، والأكثر يكفى بحيث يغلب انتفاؤه، القاضى: لا بد من القطع بانتفائه وكذلك كل دليل مع معارضه، لنا لو اشترط القطع لبطل العلم بالأكثر، قالوا: ما كثر البحث فيه تفيد العادة القطع وإلا فبحث المجتهد يفيده لأنه لو أريد لاطلع عليه ومنعًا وأسند بأنه قد يجد ما يرجع إليه).
أقول: نقل المصنِّفُ أن العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص ممتنع إجماعًا ثم اختلفوا فى مبلغ البحث فقال الأكثر يكفى بحث يغلب على النفس ظن انتفاء المخصص، وقال القاضى: لا يكفى ذلك بل لا بد من القطع بانتفائه، وهذا الخلاف لا يختص بهذه المسألة بل كل دليل مع معارضه كذلك لنا لو اشترط القطع لبطل العمل بأكثر العمومات المعمول بها، اتفاقًا إذ القطع لا سبيل إليه والغاية عدم الوجدان.
قالوا: إن كانت المسألة مما كثر فيها البحث قطعًا ولم يطلع على تخصيص فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه إذ لو كان لوجد مع كثرة البحث قطعًا وإن لم يكن مما كثر فيه البحث فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه لأنه لو أريد بالعام الخاص
لاطلع عليه إذ الحكم مع عدم اطلاعه على المخصص هو العموم قطعًا.
الجواب: منع المقدمتين وهو العلم عادة عند كثرة البحث والعلم بالدليل عند بحث المجتهد وأسند بأنه كثيرًا ما يبحث أو يبحث فيحكم ثم يجد ما يرجع به عن حكمه وهو ظاهر.
قوله: (نقل المصنِّف) يشير إلى أن الصيرفى مخالف فلا إجماع لكن ذكر الشارح العلامة أن مراده أنه قبل وقت العمل وقبل ظهور المخصص يجب اعتقاد عمومه جزمًا ثم إن لم يبين الخصوص فذاك وإلا تغير الاعتقاد صرح بذلك إمام الحرمين، ثم قال: وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء وإنما هو قول صدر عن غباوة واستمرار فى عناد، وقال الإمام الغزالى لا خلاف فى أنه لا تجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن المخصص لأن شرط دلالة العام انتفاء المخصص وكذا كل دليل يمكن أن يكون له معارض فهو إنما يكون دليلًا بشرط السلامة عن المعارضة فلا بد من معرفة الشرط وبهذا يظهر أن معنى فوله وكذلك كل دليل مع معارضه أنه يمتنع العمل به قبل البحث عن المعارض وأنه يكفى غلبة الظن عندنا ويشترط القطع عند القاضى.
قوله: (لاطلع عليه) أى لكان من المتكلم إطلاع للمخاطب على أنه أريد بالعام الخاص لأن حكم العام مع عدم إطلاعه المخاطب على المخصص عموم قطعًا بحيث لا يحتمل الخصوص إذ لا معنى للتخصيص سوى نصب دليل يفيد الإطلاع على قصر العام على البعض.
قوله: (كثيرًا ما يبحث) على لفظ المبنى للمفعول أى تكون المسألة مما كثر فيها البحث أو يبحث على لفظ المبنى للفاعل أى المجتهد.
قوله: (إن مراده) أى الصيرفى وقوله قبل وقت العمل. . . إلخ. أى وهذا لا ينافى أنه فى وقت العمل يجب البحث قبل المخصص.
قوله: (وهذا غير معدود. . . إلخ) أى لأن الاعتقاد المذكور لا نزاع فيه.