الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب
، أبو حنيفة والقاضى والإمام رحمهم الله إن كان الخاص متأخرًا وإلا فالعام ناسخ وإن جهل تساقطا لنا:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4]، مخصص لقوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، وكذلك:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ. . .} [المائدة: 5]، مخصص لقوله:{وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 220]، وأيضًا لا يبطل القاطع بالمحتمل، قالوا: إذا قال اقتل زيدًا ثم قال لا تقتل المشركين فكأنه قال لا تقتل زيدًا فالثانى ناسخ، قلنا النخصيص أولى لأنه أغلب ولا رفع فيه كما لو تأخر الخاص، قالوا: على خلاف قوله لتبين، قلنا تبيانًا لكل شئ والحق أنه المبين بالكتاب والسنة، قالوا: البيان يستدعى التأخير، قلنا: استبعاد، قالوا: قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: (كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث)، قلنا يحمل على غير المخصص جمعًا بين الأدلة).
أقول: تخصيص الكتاب بالكتاب جائز إن علم تقدُّم العام أو تقدُّم الخاص أو جهل التاريخ ومنعه بعض مطلقًا وفصل أبو حنيفة والقاضى وإمام الحرمين رحمهم الله فقالوا: إن عُلِمَ التاريخ فالخاص إن كان متأخرًا خصص العام وإن كان متقدمًا فلا بل كان العام ناسخًا للخاص وإن جُهِلَ التاريخ تساقطا لاحتمال بطلان حكم الخاص لتأخر العام وثبوت حكمه لتقدمه فيتوقف فى مورد الخاص ويطلب فيه دليل آخر لنا لو لم يجز لم يقع وقد وقع كثيرًا، منه قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، مخصص لقوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر} [البقرة: 234]، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، مخصص لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، فإن الذمية مشركة للتثليث وغيره، ولنا أيضًا أنه لو لم يخصص لبطل القاطع واللازم منتف، أما الملازمة فلأن دلالة الخاص على مدلوله قاطع ودلالة العام على العموم محتمل، لجواز أن يراد به الخاص فلو لم يخصص العام متأخرًا بل أبطلنا به الخاص، قلنا أبطلنا القاطع بالمحتمل، وأما بطلان اللازم فالعقل يقضى به قضاء أوليًا.
قالوا: أولًا: إذا قال: اقتل زيدًا ثم قال لا تقتل المشركين فهو بمثابة أن يقوله لا تقتل زيدًا ولا عمرًا إلى أن يأتى على الإفراد واحدًا بعد واحد وهذا اختصار لذلك المطوّل وإجمال لذلك المفصل ولا شك أنه لو قال لا تقتل زيدًا لكان ناسخًا لقوله
اقتل زيدًا فكذا ما هو بمثابته.
الجواب: أن خصوصية زيد فى الإثبات إذا كان مذكورًا بنصوصيته لم يمكن التخصيص فيصار إلى النسخ بخلاف ما لو كان مذكورًا بعموم المشركين فإن تخصيصه ممكن فلا يصار إلى النسخ لأن التخصيص أولى من النسخ، أما أولًا فلأنه أغلب وأكثر والإلحاق بالأغلب أغلب على الظن كمن دخل على مدينة أغلبها المسلمون، فإن من يراه يظنه مسلمًا وإن جاز خلافه، وأما ثانيًا فلأن النسخ رفع والتخصيص لا رفع فيه وإنما هو دفع والدفع أهون من الرفع وكلاهما لو تأخر الخاص فإنه يحمل على التخصيص وإن كان النسخ محتملًا بأن تقرر حكم العام ثم يرفع ولا يصار إليه بل يجزم بالتخصيص للوجهين المذكورين.
قالوا: ثانيًا: لو كان الكتاب مخصصًا للكتاب لكان مخالفًا لقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، إذ التخصيص تبيين فيكون المبين هو الكتاب لا الرسول فيلزم وقوع نقيض ما نطق به القرآن، وأنه محال.
الجواب: أنه معارض بقوله فى صافة القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، والكتاب شئ فيجب أن يكون تبيانًا له، والحق أن الكل ورد على لسانه فكان هو المبين تارة بالقرآن وتارة بالسنة فلا مخالفة ولا تعارض.
قالوا: قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث" وهو ظاهر فى أخذ الجماعة بذلك فكان إجماعًا ثم إن العام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به وترك الخاص المتقدم، وهو المطلوب.
الجواب: أنه محمول على ما لا يقبل التخصيص جمعًا بين دليلنا وهذا الدليل فإن الجمع بين الأدلة ولو بإعمالها من وجه أولى من إبطال البعض.
قوله: (فالخاص إن كان متأخرًا خصص العام) ليس على إطلاقه بل إذا كان موصولًا وأما إذا كان متراخيًا فبنسخه فى قدر ما تناولاه حتى يكون العام قطعيًا فيما بقى لا ظنيًا كالعام الذى خُص منه البعض ثم أنه لم يبين حكم ما إذا علم المقارنة وذكر فى المحصول أنه يجب أن يكون الخاص مخصصًا للعام وفى أصول الحنفية أن حكم المقارنة والجهل والتاريخ واحد وهو ثبوت حكم التعارض فى قدر ما تناولاه لكن لا يخفى أن المقارنة بمعنى المعية إنما تتصوّر فى فعل خاص للنبى
عليه السلام مع قول عام.
قوله: (وقد وقع كثيرًا) ههنا أبحاث، أى الاحتجاج بالآيتين، إما على المانعين مطلقًا فظاهر وإما على القائلين بالتفصيل فإنما يتم لو كان آية الحمل بعد آية المتوفى فى النزول وكذا الكلام فى الآيتين الأخريين وأما أن التخصيص إنما هو بالآية لا بدليل آخر فمعلوم قطعًا مع أن الأصل عدم التغيير أنه إن أريد بالتخصيص أن وجوب العدة بالأشهر مقصور على الحامل فهذا مما لا نزاع فيه وإن أريد أنه ليس بطريق النسخ فلا دلالة عليه ولهذا احتج الحنفية بالآيتين على أن المتأخر ناسخ للمتقدم فى حق ما تناوله لكن أى ذلك إنما يظهر عندهم لأن العام بعد التخصيص يصير ظنيًا فيما يبقى وبعد النسخ يكون قطعيًا كما كان وعندنا العام ظنى سواء لحقه نسخ أو تخصيص أو لم يلحق أن مقتضى تفصيل الحنفية وبعض أدلة الشافعية أن المخصص يكون خاصًا البتة وليس بلازم فإن أولات الأحمال أيضًا عام نعم يكون خاصًا بمعنى كونه متناولًا لبعض ما تناوله العام لكن مثل هذا الخاص لا يلزم أن يكون قطعيًا عند الشافعية فلا يتم استدلالهم الثانى.
قوله: (قالوا: أوّلًا) اعلم أن الوجه الثانى دليل على أن الكتاب لا يصلح مخصصًا للكتاب والنافية على أن العام بعد الخاص ناسخ له لا مخصص به، ولا تعرض فى الشرح للثالث وهو أن المخصص للعام بيان له فيكف يكون متقدمًا عليه، والجواب أنه استبعاد إذ لا يمتنع أن يرد كلام ليكون بيانًا للمراد بكلام آخر يرد بعده وتحقيقه ما سبق من أنه تتقدم ذاته ويتأخر وصف كونه بيانًا له.
قوله: (لو كان آية الحمل بعد آية المتوفى فى النزول) صوابه أن يقول لو كان آية الحمل قبل آية المتوفى فيصير ظنيًا فى الباقى لاحتمال هذا المخصص أن يكون معللا فيقاس عليه كل ما وجد فيه العلة فلا يعرف الباقى من العام بعد التخصيص أو لاحتمال كل بعض من الباقى أن يكون هو المراد.
قال: (مسألة يجوز تخصيص السنة بالسنة لنا: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" مخصص لقوله: "فيما سقت السماء العشر" وهى كالتى قبلها فى الخلاف).
أقول: الجمهور على أنه يجوز تخصيص السنة بالسنة خلافًا لشرذمة لنا لو لم يجز لما وقع وقد وقع فإن قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" مخصص لقوله: "فيما سقت السماء العشر" فإن الثانى يتناول ما دون خمسة أوسق، وقد أخرج بالأول وهذه المسألة كالمسألة التى قبلها وهى تخصيص الكتاب بالكتاب، فيجئ فيه دليلها من إبطال الأقوى بالأضعف والاستدلال بقوله:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، والمذاهب والشبه والأجوبة.
قال: (مسألة: يجوز تخصيص السنة بالقرآن، لنا {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وأيضًا لا يبطل القاطع بالمحتمل، قالوا {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44]، وقد تقدَّم).
أقول: تخصيص السنة بالقرآن جائز عند الجمهور، لنا قوله تعالى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فدخلت السنة، ولنا أيضًا أنه لا يبطل القاطع وهو القرآن بخصوصه بالمحتمل وهو السنة، لعمومها كما تقدم، قالوا: قال اللَّه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44]، فيكون كلامه مبينًا للقرآن فلا يكون القرآن مبينًا لكلامه.
الجواب: ما تقدَّم أن الكل بلسانه فهو المبين بالقرآن.
قوله: (فيجئ فيه) أى فى هذه المسألة على تأويل البحث (دليلها) أى دليل المسألة التى قبلها وهو أنه لو لم يكن الخاص من السنة مخصصًا للعام ههنا لزم إبطال القاطع بالمحتمل وأما قوله والاستدلال بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ فإن أراد استدلال المذهب فلا دلالة كان أراد استدلال الخصم بأن يقال السنة شئ وكل شئ، فالقرآن تبيان له فلا تبيين بالسنة ثم يجاب بأنه لا استحالة فى اجتماع المبينات لأنها معرّفات لا مؤثرات أو بأن البيان بالسنة فى الحقيقة بيان بالقرآن كان ذلك من قبيل الشبه والأجوبة.
قال: (مسألة: يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، وقال به الأئمة الأربعة وبالمتواتر اتفاقًا، ابن أبان: إن كان خص بقطعى، الكرخى: إن كان خص بمنفصل، القاضى: بالوقف، لنا أنهم خصوا {وَأُحِلَّ لَكُمْ} [النساء: 24]، بقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تنكح المرأة على عمنها ولا على خالتها"، و {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11]، بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرث القاتل ولا الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر"، و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، وأورد إن كانوا أجمعوا فالمخصص الإجماع وإلا فلا دليل، قلنا أجمعوا على التخصيص بها، قالوا: رد عمر رضى اللَّه عنه حديث فاطمة بنت قيس أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصًا لقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6]، قلنا لتردده فى صدقها ولذلك قال: (كيف نترك كتاب ربنا يقول امرأة لا ندرى أصدقت أم كذبت)، قالوا: العام قطعى والخبر ظنى، وزاد ابن أبان والكرخى لم يضعف بالتجوّز، قلنا التخصيص فى الدلالة وهى ظنية فالجمع أولى، القاضى كلاهما قطعى من وجه فوجب التوقف، قلنا الجمع أولى).
أقول: يجوز تخصيص القرآن بالخبر المتواتر اتفاقًا وأما بخبر الواحد، فالحق: جوازه وبه قال الأئمة الأربعة، قال ابن أبان: إنما يجوز إن كان العام خاص من قبل بدليل قطعى متصلًا كان أو منفصلًا، وقال الكرخى: إنما يجوز إن كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل سواء كان قاطعًا أو ظنيًا، والقاضى أبو بكر يقول بالوقف بمعنى لا أدرى أيجوز أم لا، لنا أن الصحابة خصوا القرآن بخبر الواحد من غير نكير فكان إجماعًا، منه قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها، فخص بقوله عليه الصلاة والسلام:"ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"، ومنه قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، فإنه يوجب الميراث للولد عمومًا، وقد خص بقوله عليه الصلاة والسلام:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث" اعترض بأنهم إن أجمعوا على خروج ما ذكرتم من عموم النص فالمخصص هو الإجماع لا السنة، وإلا فلا نسلم التخصيص إذ لا دليل عليه فإنه لا يتصوّر فيه دليل سوى الإجماع والفرض عدمه.
الجواب: أنهم أجمعوا على التخصيص بأخبار الآحاد حيث لم ينكروه لما وقع فلا يكون التخصيص بالإجماع بل بخبر الواحد ودليله الإجماع.
قالوا: أولًا: رد عمر رضى اللَّه عنه خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصًا لقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6]، فقال:"كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا يقول امرأة"، ولو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يردها ولم يجعل كونها خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعًا من قبوله.
الجواب: أنه إنما رده لتردده فى صدقها وكذبها، ولذلك قال: بقول امرأة لا ندرى أصدقت أم كذبت. فعلل الرد بالتردد فى صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد.
قالوا: ثانيًا: العام وهو الكتاب قطعى والخاص وهو خبر الواحد ظنى فيلزم ترك القطعى بالظنى.
الجواب: إن التخصيص وقع فى الدلالة لأنه دفع للدلالة فى بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعى بالظنى بل هو ترك لظنى بظنى، ويقرر بعبارة أخرى، فيقال: الكتاب العام قطعى المتن ظنى الدلالة والخبر الخاص بالعكس فكان لكل قوة من وجه فوجب الجمع بينهما، والكرخى قال مثل ذلك إلا أنه زاد قيدًا فقال: الخاص ظنى والعام قطعى لم يضعف بصرفه عن حقيقته إلى المجاز لأن المخصص بالمنفصل مجاز عنده دون المتصل والقطعى يترك بالظنى إذا ضعف بالتجوز إذ لا يبقى قطعيًا إذ نسبته إلى جميع مراتب التجوز بالجواز سواء وإن كان ظاهرًا فى الباقى، فارتفع مانع القطع.
الجواب: ما تقدَّم، القاضى: كلاهما قطعى من وجه ظنى من وجه، كما قررناه فوقع التعارض فوجب التوقف، الجواب يرجح الخبر بأن اعتباره جمع بين الدليلين واعتبار الكتاب إبطال للخبر بالمرة، والجمع أولى من الإبطال.
قوله: (يجوز تخصيص القرآن) العام عند بعض الحنفية قطعى، فالخاص فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس إلا إذا خص منه البعض بقطعى فيصير ظنيًا فى الثانى، وعندهم أن قصر العام على البعض إنما يكون تخصيصًا إذا كان بمستقل متصل فالقصر بغير المستقل كالاستثناء والشرط والصفة والغاية لا يكون تخصيصًا كما لا يكون نسخًا والقصر بالمستقل المتراخى لا يكون تخصيصًا بل نسخًا ولا يصير ظنيًا فى الثانى فى الصورتين وإنما يصير ظنيًا إذا خص بمستقل غير متراخ كلامًا كان
أو عقلًا أو حسًا أو عادة أو نحو ذلك واستثنى بعضهم العقل وبالجملة المخصوص بالكلام عند الكرخى لا يبقى حجة أصلًا معلومًا كان المخصوص أو مجهولًا وعند الجمهور يبقى حجة فيه نوع شبهة فيجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس هذا هو المطابق لأصولهم والأحاديث المخصصة للكتاب فى باب الإرث والنكاح وغير ذلك ليست عندهم أخبارًا بل نوع آخر يسمونه المشهور ويجوّزون نسخ الكتاب والخبر المتواتر به لكونه فى قوّة القطعى، وعلى هذا ينبغى أن يحمل الظنى فيما نقل عن الكرخى أنه يجوز تخصيص العام بخبر الواحد إذا كان قد خص من قبل بمنفصل قطعى أو ظنى والمراد بالمنفصل والمتصل فى قوله لأن المخصص بالمنفصل مجاز عنده دون المتصل هو المستقل وغير المستقل لا المتراخى وغير المتراخى ومعنى ضعفه بالتجوّز أنه لما خص منه البعض بمستقل صار ظاهرًا فى الباقى بناء على أنه لم يتحقق الإخراج إلا لما عداه واحتمل خروج كل واحد من الباقى بناء على أن المستقل يحتمل التعليل فلا يعلم قطعًا أى قد يخرج بالتعليل وبالجملة فقد ارتفع القطع المانع عن التخصيص بخبر الواحد.
قوله: (والجواب ما تقدَّم) وهو أن التخصيص وقع فى الدلالة وهى ظنية وإن كان المتن قطعيًا فإن قيل ما سبق أن عام الكتاب قطعى المتن ليس بصحيح بل هو قطعى السند لكونه متواترًا، قلنا قد عرفت أن المتن ما يتضمنه النص والإجماع من الأمر والنهى وغير ذلك وله إضافة إلى السند وإلى الدلالة فإن ذكر فى مقابلته السند دل على أنه اعتبر فيه الإضافة إلى الدلالة وبالعكس فحيث يقال قطعى السند ظنى المتن يراد أن دلالته ظنية وحيث يقال هذا قطعى الدلالة ظنى المتن يراد أن ثبوته ظنى أى ليس بمتواتر.
قوله: (وعندهم أن قصر العام. . . إلخ) فى التوضيح قصر العام على بعض ما تناوله لا يخلو إما أن يكون بغير مستقل وهو الاستثناء والشرط والصفة والغاية أو بمستقل وهو التخصيص وهو إما بالكلام أو غيره وهو إما العقل نحو {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، يعلم بالضرورة أن اللَّه مخصوص منه وتخصيص الصبى والمجنون من خطابات الشرع من هذا القبيل وإما الحس نحو {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، وأما العادة نحو لا جمل رأسًا يقع على المتعارف وأما كون بعض
الأفراد ناقصًا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر نحو: كل مملوك لى حر لا يقع على المكاتب وسمى مشككًا أو زائدًا كالفاكهة لا تقع على العنب ففى غير المستقل هو أى العام حقيقة فى الكل وهو حجة بلا شبهة فيه وفى المستقل مجاز كلامًا أو غيره بطريق إطلاق اسم الكل على البعض من حيث القصر حقيقة من حيث التناول وهو حجة فيه شبهة ولم يفرقوا بين كونه بالكلام أو غيره لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصوص بالعقل ينبغى أن يكون قطعيًا لأنه فى حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء اعتمادًا على العقل على أنه مفروغ منه حتى لا تقول: إن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، ونظائره دليل فيه شبهة وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخى لا يبقى حجة أصلًا معلومًا كان المخصوص كالمستأمن أو مجهولًا كالربا لأنه إن كان مجهولًا صار الباقى مجهولًا لأن التخصيص كالاستثناء إذ هو يبين أنه لم يدخل وإن كان معلومًا فالظاهر أن يكون معللًا لأنه كلام مستقل ولا يدرى كم يخرج بالتعليل فيبقى الباقى مجهولًا وعند البعض إن كان معلومًا بقى العام فيما وراء المخصوص كما كان لأنه كالاستثناء فلا يقبل التعليل وإن كان مجهولًا لا يبقى العام حجة لما قلنا وعند البعض إن كان معلومًا فكما ذكرنا وإن كان مجهولًا يسقط المخصص لأنه كلام مستقل بخلاف الاستثناء وعندنا يمكن فيه شبهة لأنه علم أنه غير محمول على ظاهره فيصير عندنا كالعام الذى لم يخص عند الشافعى رحمه الله حتى يخصصه خبر الواحد والقياس لكن لا يسقط الاحتجاج به لأن المخصص يشبه الناسخ بصورته والاستثناء بحكمه كما قلنا فإن كان مجهولًا سقط فى نفسه للشبه الأول ويوجب جهالة فى العام للشبه الثانى فيدخل الشك فى سقوط العام فلا يسقط به وإن كان معلومًا فللشبه الأول يصح تعليله كما هو عندنا فيوجب جهالة فيما بقى تحت العام وللشبه الثانى لا يصح تعليله كما هو عند البعض فدخل الشك فى سقوط العام فلا يسقط به قال على أن احتمال التعليل لا يخرجه من أن يكون حجة لأن ما يقتضى القياس تخصيصه يخص وما لا فلا فظهر الفرق بين التخصيص والنسخ فإن العام الذى نسخ بعض ما تناوله لا ينسخ بالقياس لأن القياس لا ينسخ النص إذ هو لا يعارضه لأنه دونه لكن يخصصه ولا يلزم به المعارضة لأنه يبين أنه لم يدخل. اهـ.
قوله: (وبالجملة المخصوص بالكلام. . . إلخ) يعنى أن ما نقله الشارح عن الكرخى خلف مذهبه من أنه ليس بحجة أصلًا.
قال: (مسألة: الإجماع يخصص القرآن والسنة كتنصيف آية القذف على العبد ولو عملوا بخلاف نص تضمن ناسخًا).
أقول: الإجماع يخصص الكتاب والسنة لما ثبت من تخصيص آية القذف فإنها توجب ثمانين جلدة للحر والعبد وأوجبوا عليه نصف الثمانين، والتخصيص بالتحقيق لتضمنه نصًا مخصصًا حتى لو عملوا بخلاف ما هو نص فى حكم يتناوله بنصوصيته لا بعمومه، فإنه يتضمن نصًا ناسخًا ومن ثمة قيل الإجماع لا ينسخ به والفرق بين التخصيص به والنسخ به لا يرجع إلى أمر معنوى.
قوله: (وأوجبوا عليه) أى على العبد نصف الثمانين بالإجماع لأن قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، إنما ورد فى حق الإماء وقياس العبد على الأمة لا يصلح ناسخًا غايته أنه يكون سندًا للإجماع.
قوله: (والتخصيص بالتحقيق) أى تخصيص الكتاب أو السنة بالإجماع عند التحقيق يكون لتضمن الإجماع نصًا مخصصًا فعمل أهل الإجماع على خلاف النص العام يكون مبنيًا على تضمنه النص المخصص حتى لو عملوا بخلاف ما هو نص فى حكم من غير عموم كان ذلك الإجماع متضمنًا لنص ناسخ لذلك النص الدال على الحكم بخصوصه لامتناع عمل أهل الإجماع على خلاف النص من غير الاطلاع على ناسخ له ومن أجل هذا حكم بأن الإجماع لا يكون ناسخًا وإنما الناسخ ما يتضمنه الإجماع من النص وإطلاقهم القول بأن الإجماع يصلح مخصصًا ولا يصلح ناسخًا مجرد اصطلاح مبنى على أن النسخ لا يكون إلا بخطاب الشرع والتخصيص قد يكون بغيره من العقل والحس وغيرهما وأما من جهة المعنى فلا فرق إذ كل من النسخ والتخصيص فى الظاهر بالإجماع وفى التحقيق بما يتضمنه من النص.
قوله: (لا يصلح أن يكون ناسخًا) الأولى مخصصًا وهو مبنى على أن القياس لا يخصص وقوله غايته أن يكون سند للإجماع لا يقال: إن سند الإجماع لا يكون ناسخًا لأنا نقول القياس يستند إلى النص فرجع الأمر إلى أن سند الإجماع هو النص.
قال: (مسألة: العام يخص بالمفهوم إن قيل به، ومثل فى الأنعام زكاة فى الغنم السائمة زكاة للجمع بين الدليلين، فإن قيل العام أقوى فلا معارضة قلنا الجمع أولى كغيره).
أقول: من قال بالعموم وبالمفهوم جوز تخصيص العام بالمفهوم، كما جوزه بالمنطوق سواء فيه مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة وذكر فى مثاله من مفهوم المخالفة لأنه أضعف أن يقول فى الأنعام زكاة عامًا للسائمة والمعلوفة ثم يقول فى الغنم السائمة زكاة فيدل بالمفهوم على أنه ليس فى المعلوفة زكاة فيخصص الأول بالسائمة ويخرج منه المعلوفة، مثاله من الأحكام تخصيص قوله:"خلق الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" بمفهوم قوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا"، لنا أنه دليل شرعى عارض مثله، فكان العمل به جمعًا بين الدليلين فوجب، فإن قيل لا نسلم المعارضة فإن المنطوق أقوى والأضعف ينمحى مع الأقوى فلا يعارضه، قلنا الجمع بين الدليلين أولى من إبطال أحدهما، وإن كان أضعف كغيره من المخصصات فإنا نعمل بها جمعًا بين الأدلة ولا نشترط التساوى فى القوة كما يخصص الكتاب والمتواتر بخبر الواحد.
قوله: (وذكره فى مثاله) إشارة إلى أن قوله فى المتن ومثل على لفظة الفعل لا، كما زعم العلامة من أن الواو فى ومثل مشعر بأن مثال مفهوم الموافقة كان فى الأصل فسقط عن قلم الناسخ هكذا مثل كل من دخل الدار فاضربه، إن دخل زيد فلا تقل له أف، ومثل فى الأنعام زكاة فى الغنم السائمة زكاة، وإنما اقتصر فى المتن على مثال مفهوم المخالفة؛ لأنه أضعف فإذا صلح ناسخًا فمفهوم الموافقة بطريق الأولى لأنه متفق عليه يسميه بعضهم دلالة النص وبعضهم القياس الجلى.
قوله: (مثاله من الأحكام) يعنى أن منطوق الحديث الأول هو أن عدم تنجس الماء بدون التغير يعم القليل والكثير ومفهوم الثانى خصصه بالكثير لدلالة الشرط على أنه إذا لم يبلغ قلتين يحمل الخبث سواء تغير أم لا وإنما لم يعكس ولم يجعل الأول مخصصًا لهذا المفهوم بحال التغير لأنه لا يبقى للشرط حينئذٍ فائدة.
الشارح: (مثاله من الأحكام. . . إلخ) يعنى أن المثال المتقدم مثال فرضى والمثال الواقعى هو هذا.
الشارح: (كما يخصص الكتاب والمتواتر بخبر الآحاد) أى فقد خصص الأضعف الأقوى لكن القوة والضعف فى هذا باعتبار السند وأما الذى الكلام فيه فباعتبار الدلالة.
قوله: (فإذا صلح ناسخًا) الأولى مخصصًا.
قال: (مسألة: فعله صلى الله عليه وسلم بخصوص العموم كما لو قال عليه الصلاة والسلام: الوصال أو الاستقبال للحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم ثم فعل فإن ثبت الاتباع بخاص فنسخ وإن ثبت بعام فالمختار تخصيصه بالأول وقيل العمل بموافق الفعل وقيل بالوقف لنا التخصيص أولى للجمع، قالوا الفعل أولى لخصوصه قلنا الكلام فى العمومين).
أقول: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف العموم مثل أن يقول: "الوصال فى الصوم"، أو "استقبال القبلة عند قضاء الحاجة" أو "كشف الفخذ حرام على كل مسلم" ثم يفعل ذلك فإنه يخصص العموم بناء على كونه حجة فيعلم أنه لم يدخل فى حكم العموم، فإن لم يثبت وجوب اتباع الأمة له فهو تخصيص له فقط وإن ثبت فإن كان ثبوته بدليل خاص فى ذلك الفعل فهو ناسخ لتحريمه، وإن كان بدليل عام فى جميع أفعاله فالمختار أن ذلك الدليل العام يصير مخصصًا بالأول، وهو العموم المتقدم ذكره فيلزم على الأمة موجب ذلك القول ولا يجب عليهم الاقتداء به فى الفعل وقيل لا يصير مخصصًا بل يجب عليهم العمل بموافق الفعل وهو دليل وجوب الاتباع فيتبع فى فعله وقيل بالوقف لنا اعتبار الأول تخصيص لدليل الاتباع وفيه جمع للدليلين، واعتبار دليل الاتباع إبطال الأول، والجمع أولى من الإبطال.
قالوا: الفعل خاص والقول عام، والعمل بالخاص أولى كغيره.
الجواب: أن الفعل لا دلالة له إنما الدليل هو القول الأول، ودليل الاتباع وهما عامان والأول أخص فالعمل به أولى، وقد يقال الدليل مجموع دليل الاتباع مع الفعل وهو أخص.
قوله: (فهو نسخ لتحريمه) إذ لم يبق التحريم لا فى حقه ولا فى حق الأمة.
قوله: (وإن كان بدليل عام) مثلًا لو قال الوصال فى الصوم حرام على كل مسلم ثم واصل، ووجب اتباعه بمثل قوله تعالى:{فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، يصير بواسطة قوله: الوصال فى الصوم حرام على كل مسلم، مخصصًا حتى يحرم على الأمة صوم الوصال، ولا يكون لهم اتباعه لأن فى هذا عملًا بالأول حيث حرم الوصال علينا، وبالثانى حيث وجب اتباعه فى غير ذلك بخلاف ما لو أبقى الثانى على عمومه وجوّز صوم الوصال لنا أيضًا فإن العام الأول يبطل بالكلية.
قوله: (وهما عامان) أما الأول ففى كل المكلفين وأما الثانى ففى كل المكلفين فى جميع الأفعال فلذا كان الأول أخص حيث لم يعم كل فعل فكان العمل به أولى وذكر الإمام فى المحصول أن المخصص هو ذلك الفعل مع ذلك الدليل ومجموعهما أخص من ذلك العام وضعفه الشارح العلامة بمنع أن للفعل دلالة على وجوب التأسى بل الموجب هو الدليل العام وحده وشبهه بما إذا قيل إن الدال على وجوب الزكاة هو: "أدّوا زكاة أموالكم" مع المال وجوابه ظاهر وهو أن مجرد إيجاب اتباع النبى عليه الصلاة والسلام لا يدل على وجوب ذلك الفعل ما لم يصدر عنه ذلك الفعل.
الشارح: (بناء على كونه حجة) أى بناء على كون العام المذكور حجة بالنسبة له صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أما الأول ففى كل المكلفين) أى وإن كان خاصًا لكونه فى فعل مخصوص هو الوصال وقوله ومجموعهما أخص وعليه فالنسبة العموم والخصوص الوجهى.
قال: (مسألة: الجمهور إذا علم صلى الله عليه وسلم بفعل مخالف لم ينكره كان مخصصًا للفاعل، فإن تبين معنى حمل عليه موافقة بالقياس أو بحكمى على الواحد، لنا أن سكوته دليل الجواز فإن لم يتبين فالمختار لا يتعدى لتعذر دليله).
أقول: ذهب الجمهور إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا علم بفعل للمكلف مخالف للعموم فلم ينكره كان مخصصًا للفاعل فلو تبين معنى هو العلة لتقريره حمل عليه من يوافقه فى ذلك المعنى إما بالقياس وإما بقوله: "حكمى على الواحد حكمى على الجماعة"، لنا أن سكوته دليل جواز الفعل إذ علم من عادته أنه لو لم يكن جائرًا لما سكت على إنكاره، وإذا ثبت أنه دليل الجواز وجب التخصيص به جمعًا بين الدليلين كغيره، هذا إذا تبين معنى هو العلة وأما إذا لم يتبين فالمختار أنه لا يتعدى إلى غيره لتعذر دليله، أما القياس فظاهر، وأما "حكمى على الواحد حكمى على الجماعة" فلتخصيصه إجماعًا، بما علم فيه عدم الفارق للاختلاف فى الأحكام قطعًا وههنا لم يعلم.
قال: (مسألة: الجمهور أن مذهب الصحابى ليس بمخصص ولو كان الراوى، خلافًا للحنفية والحنابلة لنا ليس بحجة، قالوا: يستلزم دليلًا وإلا كان فاسقًا فيجب الجمع، قلنا يستلزم دليلًا فى ظنه فلا يجوز لغيره اتباعًا، قالوا: لو كان ظنيًا لبينه، قلنا: ولو كان قطعيًا لبينه، وأيضًا لم يخف على غيره، وأيضًا لم يجز لصحابى مخالفته وهو اتفاق).
أقول: ذهب الجمهور إلى أن مذهب الصحابى على خلف العام لا يكون مخصصًا، وإن كان هو الراوى للعام خلافًا للحنفية والحنابلة إذ قال بعضهم يخصص مطلقًا وبعضهم إن كان هو الراوى، لنا أن العموم حجة ومذهب الصحابى ليس بحجة فلا يجوز تخصيصه به وإلا ترك الدليل لا لدليل وأنه غير جائز، قالوا: مخالفة الصحابى تستدعى دليلًا وإلا وجب تفسيقه وهو خلاف الإجماع فيعتبر ذلك الدليل وإن لم يعرف بعينه ويخصص به جمعًا بين الدليلين.
الجواب: أنه إنما يستدعى دليلًا فى ظنه وما ظنه المجتهد دليلًا لا يكون دليلًا على غيره ما لم يعلمه بعينه مع وجه دلالته فلا يجوز لغيره اتباعه فى اعتباره والتخصيص به لأنه تقييد من مجتهد وأنه لا يجوز.
قالوا دفعًا لهذا الجواب: دليله قطعى إذ لو كان ظنيًا لبينه دفعًا للتهمة.
الجواب من وجوه ثلاثة: فأولًا لأنه معارض بمثله فنقول دليله ظنى إذ لو كان قطعيًا لبينه دفعًا للتهمة، وأيضًا: لو كان قطعيًا لم يخف على غيره عادة، وأيضًا: لو كان قطعيًا لم يجز مخالفة صحابى آخر له وأنه جائز اتفاقًا.
قوله: (حكمى على الواحد) يعنى جعل الواحد متعلق الخطاب سواء كان فيما له أو فيما عليه.
قوله: (للاختلاف فى الأحكام) يعنى قد يجب فعل أو يحرم الفعل على الرجل دون المرأة وبالعكس وعلى الطاهر دون الحائض وعلى المقيم دون المسافر إلى غير ذلك.
قوله: (دفعًا لهذا الجواب) رد لما ذكره الشارحون من أن هذا دليل آخر للخصم على ما هو دأب المصنِّف حيث يقول: قالوا.
قوله: (معارض بمثله) يعنى أن الأجوبة الثلاثة معارضات لدليل المقدمة إلا أن أولاها بالمثل دون الأخيرتين.
قال: (مسألة: الجمهور أن العادة فى تناول بعض خاص ليس بمخصص خلافًا للحنفية مثل حرمت الربا فى الطعام، وعادتهم تناول البر، لنا أن اللفظ عام لغة وعرفًا ولا مخصص، قالوا: يتخصص به كتخصيص الدابة بالعرف، والنقد بالغالب، قلنا: إن غلب الاسم عليه كالدابة اختص به بخلاف غلبة تناوله والفرض فيه، قالوا: لو قال اشتر لى لحمًا، والعادة تناول الضأن لم يفهم سواه، قلنا تلك قرينة فى المطلق والكلام فى العموم).
أقول: إذا ورد عام يتناول أنواعًا من المتناولات والمعتاد ممن يخاطبون به إنما هو نوع تناول مما يتناوله اللفظ بعمومه فهذه العادة لا تخصص العام بذلك النوع مثاله: أن تقول حرمت الربا فى الطعام وأنه يتناول البر وغيره ونفرض أن عادتهم تناولهم البر فهل تعم حرمة الربا كل مطعوم أو تخص البر؟ الحق أنه تعم، والمعتبر تناول اللفظ لا تناولهم عادة، لنا أن اللفظ عام لغة وهو ظاهر وعرفًا إذا لم يطرأ عليه عرف نقله إذ المفروض أن المعتاد أكلهم البر والطعام باق على عمومه، وإذا كان كذلك وجب العمل به حتى يثبت تخصيصه بدليل ولا دليل بالأصل لغة لأنه لم يوجد سوى عادتهم فرضًا، وليس بدليل.
قالوا: أولًا: يتخصص بالعادة عرفًا، كما يتخصص الدابة بذوات الأربع بعد كونه فى اللغة لكل ما يدب، وكما يتخصص النقد بالنقد الغالب فى البلد بعد كونه فى اللغة لكل نقد.
الجواب: أن ذلك لتخصيص الاسم بذلك المسمى عرفًا بخلاف ما نحن فيه فإن العادة فى تناوله لا فى غلبة الاسم عليه إذ المفروض ذلك ولو فرضنا غلبة الاسم كما فى الدابة لاختص به وكان المخصص غلبة الاسم لا غلبة العادة والفرض إنما وقع فى غلبة العادة فقط.
قالوا: ثانيًا: لو قال اشتر لحمًا والمعتاد فى البلد تناول لحم الضأن لم يفهم سواه فعلم أن غلبة العادة تستلزم غلبة الاسم، وهو يقتضى تخصيص الحكم بالغالب واعتبار خصوص العادة دون عموم العبارة.
الجواب: أن ذلك غير محل النزاع لأن لحمًا مطلق نزل على المقيد بقرينة ميلهم إلى المعتاد وليس فيه ترك للمطلق وإنما الكلام فى العموم هل ينزل على الخصوص فيترك به الظاهر بمجرد العادة؟ وأين أحدهما من الآخر؟
قوله: (ولا دليل بالأصل) أى بحكم أن الأصل فى الشئ هو العدم حتى يثبت وجوده وإنما قلنا أنه لا دليل لأن الفرض أنه لم يوجد ما يتوهم كونه دليلًا للتخصيص سوى عادتهم وهى ليس بدليل وتذكير الضمير فى ليس باعتبار الخبر والظاهر أنه ليس لقوله لغة كثير فائدة ثم الحق أن هذا الكلام إنما يصلح فى مقام المنع دون الاستدلال لأن النزاع لم يقع إلا فى أن مثل هذا العرف والعادة هل يدل على أن المراد بهذا العموم هو الخصوص.
قوله: (وأين أحدهما من الآخر) الحق أن هذا الاستبعاد بعيد جدًا لأن المراد كما يفهم من المطلق فى مثل اشتر اللحم المقيد الذى هو المعتاد كذلك يفهم من العام فى مثل لا تشتر لحمًا أو لا آكل لحمًا، الخاص الذى هو المعتاد، وكما أن فى هذا تركًا لظاهر العموم كذا فى الأول حيث لا يعدّ ممتثلًا باشتراء لحم غير الضأن، على ما هو مقتضى ظاهر الإطلاق وأما ما تكلف بعضهم، من أن دلالة المطلق على كل مقيد دلالة الجزء على الكل ودلالة العام على كل فرد دلالة الكل على الجزء وهذه أقوى فلا يلزم من صرف الأولى بمثل هذه القرينة صرف الثانية فلا يقدح فيما ذكرنا من التقرير.
قوله: (ثم الحق أن هذا الكلام إنما يصلح. . . إلخ) أى لا كلام فى أنه عام لغة وعرفًا وإنما الكلام فى كون العادة والتعرف فى التناول يخصص أو لا فكان المعنى على منع أنها تخصص.
قوله: (الحق أن هذا الاستبعاد بعيد جدًا) قيل: إنه قد تقدم للمصنف أن الأمر بالمطلق أمر بجزئى فحينئذ يحمل المطلق على الجزئى المعين بالقرينة بخلاف العام.
قال: (مسألة: الجمهور إذا وافق الخاص حكم العام فلا يخصص خلافًا لأبى ثور مثل: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وقوله عليه الصلاة والسلام فى شاة ميمونة "دباغها طهورها" لنا لا تعارض فلنعمل بهما، قالوا: المفهوم يخصص العموم قلنا مفهوم اللقب مردود).
أقول: إذا وافق الخاص العام فى الحكم فإن كان بمفهومه ينفى الحكم عن غيره فقد سبق أنه يخصص وأما إذا لم يكن له مفهوم فالجمهور على أنه لا يكون مخصصًا له خلافًا لأبى ثور، مثاله: قوله عليه الصلاة والسلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"(*)، مع قوله فى مماة ميمونة:"دباغها طهورها"(**)، فتعم الطهارة كل إهاب ولا تختص بالشاة، لنا أنه لا تعارض بينهما لعدم المنافاة بين العام والخاص وكان هو الموجب للتخصيص لأنه إذا تعارضا تعذر العمل بهما من كل وجه فنصير إلى العمل بهما من وجه وإذا لم يتعارضا فيجب العمل بهما من كل وجه من غير تخصيص عملًا بالمقتضى السالم عن المعارض.
قالوا: قد ذكرتم أن المفهوم يخصص العموم ومفهوم الخاص نفى الحكم عن سائر صور العام فوجب أن يخصصه.
الجواب: أن هذا من قبيل مفهوم اللقب وأنه مردود والحاصل أن هذا فرع الخلاف فى مفهوم اللقب فمن أثبته خص به وإلا فلا.
قوله: (إذا وافق الخاص العام فى الحكم) بأن حكم على الخاص بما حكم به على العام بشرط أن لا يكون للخاص مفهوم مخالفة يقتضى نفى الحكم عن غيره من أفراد العام، كما إذا قيل:"فى الغنم زكاة"، "فى الغنم السائمة زكاة"، والمصنف ترك هذا التقييد اعتمادًا على ما سبق من أن العام يخص بالمفهوم.
(*) أخرجه مسلم (336) وابن الجارود فى المنتقى (1/ 27)(ح 61)، وابن حبان (4/ 96)(ح 1279) وعبد الرزاق (190)، وأبو داود (4123)، والترمذى (1728)، والنسائى (7/ 173)، وابن ماجه (3609)، والإمام أحمد فى مسنده برقم (1895، 2435، 2522، 3198).
(**) أخرجه الدارمى (2/ 117)(ح 1986)، والبيهقى فى الكبرى (1/ 17)(ح 53)، والدارقطنى فى سننه (1/ 44)(ح 10)، وأبو داود (4/ 66)(ح 4125)، والنسائى فى الكبرى (3/ 84)(ح 4570)، وابن أبى شيبة فى مصنفه (5/ 162)(ح 24776)، والإمام أحمد فى مسنده (1/ 279)(ح 2522).
قال: (مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص الإمام وأبو الحسين تخصيص وقيل بالوقف مثل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة: 228]، مع {بُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228]، لنا لفظان فلا يلزم من مجاز أحدهما مجاز الآخر، قالوا: يلزم مخالفة الضمير وأجيب بأنه كإعادة الظاهر الوقف لعدم الترجيح، وأجيب: بظهور العموم فيهما فلو خصصنا الأول خصصناهما ولو سلم فالظاهر أقوى).
أقول: إذا ذكر عام وبعده ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله لم يكن تخصيصًا له، وقال إمام الحرمين وأبو الحسين البصرى: إنه تخصيص وقيل بالوقف، مثاله قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228]، ثم قال:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، والضمير فى بردّهن للرجعيات فلا يوجب تخصيص التربص بالرجعيات، بل يعم الرجعيات، والبائنات لنا أنهما لفظان فلا يلزم من خروج أحدهما عن ظاهره وصيرورته مجازًا، خروج الآخر وصيرورته مجازًا فغايته أن ظاهر الضمير أن يكون عامًا وقد خص فلم يلزم مثله فى المرجوع إليه.
قالوا: يلزم من خصوص الضمير مع بقاء عموم ما له الضمير مخالفة الضمير للمرجوع إليه وأنه باطل.
الجواب: أن الضمير كإعادة الظاهر ولا شك أنه لو أعاد الظاهر وأراد به ثانيًا الخصوص لم يلزم منه خصوص الأول ولم يحكم بكونه غير الأول ومخالفًا له فكذا ههنا القائل بالوقف، قال يلزم تخصيص الظاهر أو المضمر دفعًا للمخالفة وكلاهما تحكم لعدم المرجح فوجب التوقف.
الجواب: أولًا: أنهما ظاهران فى العموم فإذا خصصنا الأول لزم تخصيص الثانى، وإذا خصصنا الثانى لم يلزم تخصيص الأول، وما فيه مخالفة للظاهر أولى مما فيه مخالفتان ولو سلم فالظاهر أقوى دلالة من المضمر ورفع الأضعف أسهل.
قوله: (الإمام وأبو الحسين تخصيص) قال الآمدى ذهب بعض أصحابنا وبعض المعتزلة كالقاضى عبد الجبار وغيره إلى امتناع التخصيص بذلك ومنهم من جوّزه ومنهم من توقف كإمام الحرمين وأبى الحسين البصرى.
قوله: (إن الضمير كإعادة الظاهر) قد يمنع ذلك والأولى المعارضة بأنه لو خصص الأول يلزم مخالفة ظاهره أيضًا فيتعارضان والترجيح مغيًا كما سيجئ.
قوله: (يلزم تخصيص الظاهر أو المضمر دفعًا للمخالفة) يعنى لا بد من تخصيص المظهر كالمطلقات دفعًا لما يلزم فى المضمر من مخالفة الظاهر حيث رجع إلى الكل وأريد منه البعض أو تخصيص المضمر وذلك بأن يجعل كناية عن الكل لم يقتصر على الرجعى دفعًا لما يلزم من مخالفة الظاهر فى المطلقات لو أريد بها الرجعيات ليكون الضمير على ظاهره، والحاصل أن لا بد من تخصيص أحدهما لتندفع مخالفة الظاهر فى الآخر والتعيين تحكم فوجب التوقف هذا ولكن الظاهر السابق إلى الفهم هو أن المراد دفع المخالفة بين المضمر والظاهر الذى هو مرجعه فيرد الاعتراض بأن دفع تلك المخالفة إنما يكون بتخصيص أو تعميم المضمر لا تخصيصه والجواب بأن المراد تخصيص مرجع الضمير بأن يراد بالمطلقات البوائن والرجعيات جميعًا ويعود الضمير إلى الرجعيات خاصة ظاهر الفساد ويمكن الجواب بأن المراد أنه لا بد فى دفع المخالفة بين الظاهر والمضمر من تخصيص الظاهر بالرجعيات أو تخصيص المضمر بها بأن يرجع إلى جميع المطلقات ثم يجعل بحسب الحكم مقصورًا على الرجعيات وحاصل جواب الاستدلال أن تخصيص المظهر يستلزم من غير عكس فتخصيص المضمر لقلة المخالفة فيه يكون أرجح ولما كان هذا ضعيفًا بناء على أن الضمير إنما يعود إلى اللفظ باعتبار مدلوله فإذا أريد بالمطلقات الرجعيات لم يكن الضمير عامًا ليلزم تخصيصه قال ولو سلم فالظاهر أقوى فيكون الضمير الأضعف أولى بالتخصيص والصرف عن الظاهر.
المصنف: (فلا يلزم من مجاز أحدهما مجاز الآخر) هذا يدل على أن الضمير راجع للعام لكن أريد به بعض أفراده وقوله: أولًا رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص يدل على أن الضمير ليس راجعًا للعام بل إلى بعض أفراده كما عاد فى قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، لبعض المذكور فيتناقضان إلا أن يراد من عود الضمير إلى البعض أنه عائد إلى العام مرادًا منه البعض أو يقال مراده بمجازية الضمير كونه على خلاف الظاهر وإنما عبر عنه بالمجاز مشاكلة لأن العام إذا أريد به الخصوص كان مجازًا فكذا هذا، واعلم أنه قد قيل: إن الضمير وضع لأن يراد به ما كان المرجع حقيقة فيه لا أن يراد به ما أريد بالمرجع ولو مجازًا فلو أريد بالظاهر معناه المجازى وبالضمير المعنى الحقيقى كان الضمير حقيقة والظاهر مجازًا
وإن أريد بالظاهر معناه الحقيقى وبالضمير معنى الظاهر المجازى كان الأمر بالعكس وقيل: إن الضمير وضع لأن يراد به ما أريد بمرجعه فعلى الأول يقال: إن تخصيص المظهر يستلزمه تخصيص المضمر دفعًا لمخالفة الضمير للظاهر، وعلى الثانى ليس فى الضمير عموم حتى يخص تبعًا لتخصيص الظاهر بل معناه هو ما أريد بمرجعه وقول المحشى يعنى لا بد من تخصيص المظهر. . . إلخ. مبنى على الأول ولذلك قال بأن يجعل الضمير كناية عن الكل ثم يقتصر على الرجعيات وقوله: ولكن الظاهر السابق إلى الفهم. . . إلخ. مبنى على الثانى وقوله بتخصيص أو تعميم فيه تحريف وأصله بتخصيص الظاهر أو تعميم المضمر.
قوله: (ظاهر الفساد) أى لأن المرجع عام لم يتخصص فلا تندفع المخالفة بين الضمير ومرجعه وقوله بأن يرجع إلى جميع المطلقات هذا جار على الوجه الأول فى وضع الضمير.
قال: (مسألة: الأئمة الأربعة والأشعرى وأبو هاشم وأبو الحسين رحمهم الله جواز تخصيص العموم بالقياس، ابن سريج إن كان جليًا، ابن أبان إن كان العام مخصصًا، وقيل إن كان الأصل مخرجًا، الجبائى يقدم العام مطلقًا، والإمام والقاضى بالوقف، المختار إن ثبتت العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصًا خص به وإلا فالمعتبر القرائن فى الوقائع فإن ظهر ترجيح خاص فالقياس وإلا فعموم الخبر لنا أنها كذلك كالنص الخاص فيخصص بها للجمع بين الدليلين، واستدل بأن المستنبطة إما راجحة أو مرجوحة أو مساوية والمرجوح والمساوى لا يخصص ووقوع احتمال من اثنين أقرب من واحد معين، وأجيب بجريه فيكل تخصيص وقد رجح بالجمع الجبائى لو خص به لزم تقديم الأضعف بما تقدَّم فى خبر الواحد من أن الخبر مجتهد فيه فى أمرين. . . إلخ، وأجيب بما تقدَّم وبأن ذلك عند إبطال أحدهما، وهذا إعمال لهما، وبالتزام تخصيص الكتاب بالسنة، والمفهوم لهما، واستدل بتأخيره فى حديث معاذ وتصويبه، وأجيب بأنه أخر السنة عن الكتاب ولم يمنع الجمع واستدل بأن دليل القياس الإجماع ولا إجماع عند مخالفة العموم، وأجيب بأن المؤثرة ومحل التخصيص يرجعان إلى النص، كقوله عليه الصلاة والسلام: "حكمى على الواحد. . " وما سواهما أن ترجح الخاص وجب اعتباره لأنه المعتبر كما ذكر فى الإجماع الظنى، وهذه ونحوها قطعية عند القاضى، لما ثبت من القطع بالعمل بالراجح من الإمارات الظنية عند قوم لأن الدليل الخاص بها ظنى).
أقول: هل يجوز تخصيص العموم بالقياس مثل أن يعم قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، المديون وغيره فيخص المديون منه قياسًا على الفقير؟ المنقول عن الأئمة الأربعة وأبى هاشم وأبى الحسين جوازه، وقال ابن سريج: إن كان القياس جليًا جاز وإلا فلا، وقال ابن أبان: إن كان العام مخصصًا قبل بنص جاز وإلا فلا، وقيل: إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من ذلك العموم بنص جاز وإلا فلا، وقال الجبائى: لا يجوز بل يقدم العام مطلقًا جليًا كان القياس أو لا، ومخصوصًا كان العام أو لا، وقال الإمام والقاضى بالوقف، والمختار أنه إن ثبتت علية العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصًا للعام، أى مخرجًا عنه خص به العام وإلا فالمعتبر القرائن فى آحاد الوقائع مما يظهر بها ترجيح أحدهما فإن ظهر
ترجيح خاص بالقياس عمل به وإلا عمل بعموم الخبر، لنا أن القياسات إذا كانت كذلك أى ثبتت علتها بنص أو إجماع أو كان الأصل مخرجًا بنص نزلت منزلة نص خاص فى إفادة الظن فكانت مخصصة جمعًا بين الدليلين، وقد استدل على أن غيرها لا يخصص بأن العلة إن كانت مستنبطة فإما أن تكون راجحة على العام أو مرجوحة أو مساوية وإنما تخصص إذا كانت راجحة إذ لا يعمل بالمرجوح وفى المساوى يتوقف وإذا ثبت ذلك فالتخصيص يثبت باحتمال بعينه وينتفى بأحد احتمالين مبهما ولا شك أن وقوع احتمال من اثنين أقرب من وقوع واحد معين، فيكون عدم التخصيص أقرب فى النفس وأرجح فى الظن فوجب العمل به وهو المطلوب.
الجواب: أن هذا بعينه يجرى فى كل تخصيص وقد رجحتم الاحتمال الواحد فيها على الاحتمالين بأن فيه جمعًا للدليلين فما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا ههنا احتج الجبائى بأنه لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى وأنه باطل وبين الملازمة بما تقدَّم فى خبر الواحد أن الخبر يجتهد فيه فى أمرين السند والدلالة والقياس يجتهد فيه فى ستة أمور حكم الأصل وعلته ووجودها فيه وخلوها عن العارض فيه ووجودها فى الفرع وخلوها عن المعارض فيه مع الأمرين إن كان الأصل الخبر.
الجواب: أولًا بما تقدَّم من أن ما ذكرنا من الصور بمثابة نص خاص، وثانيًا بأن الإلزام بما ذكرتم لا يرد علينا لأن ذلك إنما لا يجوز عند إبطال أحدهما فإن الأقوى يبطل الأضعف، والأضعف لا يبطل الأقوى، وههنا ليس كذلك فإنه إعمال لهما ولا إبطال لشئ منهما، وثالثًا بإلزامه بما جوزتم من تخصيص الكتاب بالسنة وتخصيص المفهوم بمنطوق الكتاب والسنة مع أنه أضعف، وقد استدل على مذهب الجبائى وهو تقديم الخبر على القياس مطلقًا بحديث معاذ رضى اللَّه عنه حيث قال له عند بعثه إلى اليمن:"بم تعمل؟ "، فقال: بكتاب اللَّه. فقال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسوله. قال: "فإن لم تجد". قال: أقيس الأمر بالأمر. فقال: "الحمد للَّه الذى وفق رسول رسوله لما يرضاه رسوله". فتقديم معاذ الخبر على القياس وتصويب الرسول له فيه يدلان على وجوب تقديم الخبر على القياس وأنه لا عبرة بالقياس مع وجود الخبر خالفه أو وافقه.
الجواب: أولًا: أنه أخر السنة عن الكتاب مع جواز تخصيص السنة للكتاب اتفاقًا، وثانيًا: أنه ليس فى خبره ما يدل على امتناع تخصيص الخبر بالقياس غايته أنه لا يبطل الخبر بالقياس وأما العمل بهما جمعًا للدليلين فلم يمنعه، وقد استدل عليه أيضًا بأن الدليل على وجوب العمل بالقياس به إنما هو الإجماع ولا إجماع على وجوب العمل به عند مخالفة العموم للخلاف فيه فامتنع العمل به إذ لا يثبت حكم بلا دليل.
الجواب: أن العلة المؤثرة وهى المعتبرة بالنص أو الإجماع ومحل التخصيص وهو الذى خص بالأصل فيه بنص وهى التى ذكرنا أنها يقدم فيها القياس على النص يرجعان إلى النص وهو قوله: "حكمى على الواحد حكمى على الجماعة" فإذا ثبت العلية أو الحكم فى حق واحد ثبت فى حق الجماعة بهذا النص ولزم تخصيص العام به وكان بالحقيقة تخصيصًا بالنص لا بالقياس وأما ما سواهما مما اعتبرنا فيه الترجيح بالقرائن فلا شك أنه إذا ترجح الخاص صار مظنونًا فوجب اعتباره للقطع بأن الظن هو المعتبر كما ذكرنا فى الإجماع الظنى، ثم إنه نبه على نكتة فقال: هذه القضية وأمثالها قطعية عند القاضى، لما تقرر من وجوب العمل بالراجح من الأمارات قطعًا فيحصل قياس هكذا هذا مظنونى مجتهدًا، وكل ما هو مظنونى مجتهدًا يجب على العمل به فهذا يجب على العمل به والصغرى وجدانية والكبرى ضرورية من الدين، وقال قوم: إنها ظنية لأن الدليل الخاص به ظنى والمأخوذ من الظنى ظنى وسيأتيك فى باب الاجتهاد لهذا تتمة وتحقيق.
قوله: (لنا أنها كذلك) إشارة إلى أن ضمير أنها لما يشعر به الكلام من القياسات لا للعلة وإلى أن كذلك حال لا خبر لأن وإنما الخبر قوله: كالنص، ولم يجعل الضمير للعلة على ما هو الظاهر وذهب إليه الشارحون لأن الكلام فى تخصيص العموم بالقياس لا بالعلة وليندرج تحت اسم الإشارة كون الأصل مخرجًا بنص فينطبق الدليل على المدعى ثم لا يخفى أن المراد أنها كالنص إذا ثبت علتها بالنص وكالإجماع إذا ثبت بالإجماع لكنه سكت عنه لما سبق من أن التخصيص بالإجماع إنما هو لتضمنه نصًا مخصصًا، وأما القياسات التى كذلك فلا تخصص العموم لعدم الدليل على جواز التخصيص بها لا لما ذكر من الاستدلال لأنه ضعيف وقد نبه
الشارح بقوله قد استدل بزيادة لفظ قد على أنه مخالف لما جرت به عادة المصنِّف من كون استدل دليلًا مزيفًا على المذهب المختار وكذا فى مذهب الجبائى.
قوله: (فى ستة أمور) جعل فيما تقدَّم الأمر الثانى والثالث تعيين حكم الأصل فى الجملة ووصف التعليل أى تعيين الوصف الذى به التعامل وههنا العلة ووجودها فى الأصل والمقصود واحد.
قوله: (وههنا ليس كذلك) هذا ما ذكر شى خبر الواحد والقياس أنه إذا تعارضا من وجه دون وجه فالجمع ما أمكن كما سيأتى ولهذا كان الاستدلال يكون القياس أضعف وبحديث معاذ ههنا مردودًا وفيما سبق مقبولًا حيث كان الكلام فيما إذا لم يمكن الجمع وكان أحدهما مبطلًا للآخر بالكلية.
قوله: (وهى) يعنى الصور المذكورة وهى ما إذا كانت العلة معتبرة بنص أو إجماع أو كان الأصل قد خص فيه بنص هى التى حكمنا فيها بتقديم القياس.
قوله: (والكبرى ضرورية من الدين) عدل عما هو المشهور فى ذلك من التمسك بالإجماع والمعقول وهو أنه لو لم يعمل بالراجح فإما أن يعمل بالطرفين فيجتمع النقيضان أو لا يعمل بشئ منها فيرتفع النقيضان أو يعمل بالمرجوح وهو خلاف المعقول لما عليه من الاعتراضات لكن الاعتراض على ما ذكره أظهر للقطع بأنه لا يكفر جاحد وجوب العمل بالظنيات، وإنما الكلام فى الجواز وبحث آخر وهو أنه إن أريد بوجوب العمل قطعًا أنه لا يجوز الترك أصلًا فهو معنى الوجوب سواء قيد بالقطع أو لم يقيد والقطعى بهذا المعنى لا يقابل الظنى وإن أريد أنه معلوم قطعًا بحيث لا يحتمل النقيض فلا دليل عليه بل ربما يستدل على بطلانه بأن الدليل الخاص بذلك الحكم الجزئى كوجوب النية فى الطهارة ظنى، والمأخوذ من الظنى ظنى، وسيأتى زيادة تحقيق لذلك فى مسألة أن فى الاجتهاديات المصيب واحد أو كل مجتهد حيث تبين كيفية تعلق الظن والقطع بحكم واحد.
الشارح: (أن هذا بعينه يجرى فى كل تخصيص) بأن يقال الخاص إما راجح أو مساو أو مرجوح. . . إلخ.
الشارح: (عند إبطال أحدهما) أى بالكلية وإلا ففى الجمع إبطال فى الجملة.
قوله: (لنا أنها كذلك إشارة إلى أن ضمير. . . إلخ) هذه الكتابة على قول الشارح
لنا أن القياسات كذلك لا على قول المصنف.
قوله: (وأما القياسات التى كذلك) فيه تحريف وصوابه: وأما القياسات التى ليست كذلك وقوله: لعدم الدليل على جواز التخصيص لها رد بأن عدم الدليل لا يقتضى عدم المدلول وقوله: لا لما ذكر من الاستدلال أى يقوله واستدلال. . . إلخ.
قوله: (على أنه مخالف. . . إلخ) أى فهو دليل مزيف على جزء المذهب المختار لا على المذهب المختار.
قوله: (لما عليه من الاعتراضات) منها أن ارتفاع النقيضين إنما يكون محالًا باعتبار الصدق على معنى أن الذات الماصدق يستحيل أن يرتفع النقيضان عنها وأما ارتفاعهما بمعنى أنه لم يوجد فى الخارج شئ منهما فليس محالًا.
قوله: (وإنما الكلام فى الجواز) يعنى أن الذى يظهر إنما هو جواز العمل بالظنيات وعدم جوازه وأما وجوب العمل بها قطعًا حتى يكفر جاحده فغير ظاهر، ويجاب بأن الوجوب بالنسبة للمجتهدين وهو قطعي معلوم ضرورة عندهم فيكفر جاحده وقوله وإن أريد أنه معلوم. . . إلخ. نختار هذا الثانى ويراد من وجوب العمل وجوب اعتقاد الحكم الذى أدى الاجتهاد إليه بناء على الإجماع بوجوب العمل بظن المجتهد.